الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: عرض أخبار الآحاد على كتاب الله وعز وجل
…
الفصل الأول: عرض أخبار الآحاد على كتاب الله عز وجل
596-
يقول أبو حنيفة، رضي الله عنه، مبينًا أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعارض مع كتاب الله عز وجل: "إذا قال الرجل أنا مؤمن بكل شيء تكلم به النبي، صلى الله عليه وسلم، غير أن النبي، صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بالجور، ولم يخالف القرآن، فإن هذا القول منه هو التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف على القرآن. ولو خالف النبي القرآن. وتقول على الله غير الحق لم يدعه الله حتى يأخذه باليمين، ويقطع منه الوتين، كما قال الله عز وجل:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1، ونبي الله لا يخالف كتاب الله تعالى، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله
…
فرد كل رجل يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف القرآن ليس ردًّا على النبي عليه السلام ولا تكذيبًا له ولكن رد على من يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل والتهمة دخلت عليه، ليس على نبي الله عليه السلام. وكذلك كل شيء تكلم به النبي، صلى الله عليه وسلم سمعنا به أو لم نسمعه فعلى الرأس والعين قد آمنا به ونشهد أنه كما قال نبي الله عليه السلام، ونشهد أيضًا على النبي عليه السلام أنه لم يأمر بشيء نهى الله عنه ولم يقطع شيئًا وصله الله ولا وصف أمرًا وصف الله ذلك الأمر الذي بغير ما وصف به النبي، ونشهد أنه كان موافقًا لله في جميع الأمور، لم يبتدع، ولم يتقول على الله غير ما قال الله عز وجل ولا كان من المتكلفين، ولذلك قال الله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} 2.
كان هذا هو أساس مقياس عرض الأخبار على القرآن الكريم وعدم الثقة فيما يخالفه.
597-
ويرى الأحناف أن خبر الواحد لا يكون صحيحًا إذا خالف ظاهر كتاب الله عز وجل، فإذا ورد مخالفًا له كان هذا دليلًا على عدم
1 الحاقة: 44 - 47.
2 العالم والمتعلم للإمام أبي حنيفة تحقيق محمد رواس قلعه جي، وعبد الوهاب الهندي الندوي، مكتبة الهدى، حلب - الطبعة الأولى 392هـ - 1972ص 100 - 102.
صحته وعلى الزيافة فيه -كما يعبر السرخسي1- ويمضي ما جاء في الكتاب على ظاهره، ولا يجوز تخصيص عامه أو صرفه عن الظاهر إلى المجاز بهذا الخبر المخالف ولا نسخه.
598-
وعد الأحناف هذه المخالفة من الانقطاع الباطن، أي أن هذا الحديث المخالف ليس وثيق الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان كذلك ما خالف كتاب الله عز وجل؛ لأن كتاب الله تعالى نقل نقلًا متواترًا وورد ورودًا قطعيًّا، وخبر الآحاد ظني، ولا تعارض بين القطعي والظني بوجه؛ بل الظني بمقابلة القطعي.
599-
ويبين فخر الإسلام البزدوي وجهة نظر الأحناف في حكم الحديث المخالف للكتاب، فيقول بعد أن ذكر أنه منقطع انقطاعات باطنية:"إن الكتاب ثابت بيقين، فلا يترك بما فيه شبهة -يعني بخبر الآحاد- ويستوي في ذلك الخاص والعام، والنص والظاهر، حتى إن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا خلافًا للشافعي، رحمه الله، ولا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا، ولا يترك الظاهر له من الكتاب، ولا ينسخ بخبر الواحد وإن كان نصًّا؛ لأن المتن أصل والمعنى فرع له، والمتن من الكتاب فوق المتن من السنة، لثبوته ثبوتًا بلا شبهة فيه، فوجب الترجيح به قبل المصير إلى المعنى"3.
600-
وقد رد الأحناف كثيرًا من الأخبار تطبيقًا لهذا المقياس، ومنها:
حديث: "الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدم" لا يخصص العام في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} 4.. وحديث: "الطواف بالبيت صلاة وشرطه شرط الصلاة" لا يترك به ظاهر قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 5..
1 أصول السرخسي 1/ 365.
2 كشف الأسرار 3/ 729.
3 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 728.
4 سورة آل عمران: 97.
5 سورة الحج: 29.
وحديث: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" لا يترك به ظاهر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} 1 الآية الكريمة..
601-
وقال الأحناف: إذا ترك التسمية على الذبيحة عامدًا لا تحل، لقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2 الآية الكريمة.. فمطلق النهي يقتضي التحريم، وأكد ذلك بحرف "من"، لأنه في موضع النفي للمبالغة، فيقتضي حرمة كل جزء منه، والهاء في قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِسْق} إن كانت كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام، وإن كانت كناية عن المذبوح، فالمذبوح الذي يسمى فسقًا في الشرع يكون حرامًا، كما قال تعالى:{أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 3.
602-
وتركوا من أجل هذا -حديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم يسم"، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت:"قالوا: يا رسول الله، إن هنا أقوامًا حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا يدرى، يذكرون اسم الله عليها أم لا، قال: "اذكروا أنتم اسم الله، وكلوا" 4.
603-
ومن الأحاديث التي ردوها هنا خبر "الوضوء من مس الذكر" لأنه من وجهة نظرهم -مخالف للكتاب؛ فإن الله عز وجل يقول: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} 5 -يعني الاستنجاء بالماء، فقد مدحهم بذلك وسمى فعليهم تطهرًا، ومعلوم أن الاستنجاء بالماء لا يكون إلا بمس الذكر، فالحديث الذي يجعل مسه حدثًا بمنزلة البول يكون مخالفًا لما في الكتاب6.
1 سوء المائدة: 6.
2 سورة الأنعام: 121.
3 سورة الأنعام: 145.
4 كشف الأسرار 1/ 294 - 295.
5 سورة التوبة: 108.
6 أصول السرخسي 1/ 365 - كشف الأسرار 3/ 730 - 731.
604-
وكذلك لم يقبلوا حديث الشاهد واليمين الذي يقول: "إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد"؛ لأنه مخالف لكتاب الله عز وجل من وجوه وسنفيض في شرح هذه الوجوه؛ لأننا سنتخذ هذا الحديث كمثال لرد الشافعي هذا المقياس:
أحدهما:
605-
أنه سبحانه وتعالى قال: {اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 1
…
أمر سبحانه وتعالى بالاستشهاد لإحياء الحق، وهو مجمل في حق كل ما هو شهادة.
ثم فسر ذلك بنوعين: برجلين، بقوله تعالى:{مِنْ رِجَالِكُم} ، وبرجل وامرأتين لقوله عز وجل:{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، إما على المساواة أو الترتيب.. ومثل هذا إنما يذكر لقصر الحكم عليه، وعلى هذا فالشاهد واليمين زائد على النص، والزيادة على النص كالنسخ عند الحنفية، ولا ينسخ الكتاب بخبر الآحاد2.
606-
ويقتضي ذلك اقتصار الاستشهاد المطلوب بالأمر على النوعين؛ لأن المجمل إذا كان ذلك بيانًا لجمع ما يتناوله اللفظ، كقول الرجل: كل طعام كذا أو طعام كذا. أو أذنت لك أن تعامل فلانًا، فإن لم يكن ففلانًا، يكون ذلك بيانًا لجميع ما هو المراد بالإذن والأمر، وكذا لو قال:"تفقه من فلان أو فلان" كان التفسر الملحق به قصرًا بالتفقه عليهما، حتى لا يكون التفقه على غيرهما من موجبات الأمر، وكذا لو قال: استشهد زيدًا على صفقتك أو خالدًا لم يكن استشهاد غيرهما من المأمور، بل يكون زيادة عليه، فكذلك ههنا يصير المذكور في الآية الكريمة بيانًا للكل3.
607-
وقد أثار صاحب كشف الأسرار، وهو من الحنيفة، اعتراضًا على هذا الوجه ولم يجب عليه فقال: إن للخصم أن يقول: إنكم ادعيتم القصر
1 سورة البقرة: 283.
2 أصول السرخسي 1/ 366.
3 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 731، 732.
في الآية الكريمة، مع أن القصر له طرق أربعة معروفة ولم يوجد شيء منها في الآية الكريمة، فكيف تستقيم دعوى القصر من غير دليله؟ ولئن سلمنا القصر كما زعمتم، فهو ثابت بطريق المفهوم، وهو ليس بحجة عندكم عندي. على أن من يعتبره حجة يقيده بعدم وجود دليل آخر يعارضه، فإذا عارضه سقط الاحتجاج به. وهنا دليل معارض، هو هذا الحديث، فلا يكون العمل به مخالفًا للكتاب1.
ثانيهما:
608-
نص الله تعالى على أن أدنى ما تنتفي به الريبة شهادة شاهدين، قال تعالى:{وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} ، وليس دون الأدنى شيء آخر نتنفي به الريبة، فلو كان الشاهد مع اليمين حجة للزم منه انتفاء كون المذكور في الكتاب أدنى في انتقاء الريبة وذلك لا يجوز، فكان في جعله حجة إبطال موجب الكتاب2.
609-
وقد أثار البخاري هنا اعتراضًا كما فعل في الوجه السابق، فقال: إن الآية التي ذكرتموها لا دلالة فيها من هذا الوجه على ما ذكرتم، فهي تقول:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} واسم الإشارة راجع إلى {أَنْ تَكْتُبُوه} في قوله عز اسمه: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} والأدنى بمعنى الأقرب لا بمعنى الأقل، أي ذلكم الكتب أقسط عند الله وأقوم للشهادة، أي أعدل على أدائها. وأدنى ألا ترتابوا، أي: أقرب من انتفاء الريب.
كذا في الكشاف وغيره ولا يجوز أن تصرف الإشارة إلى قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وأن يجعل الأدنى بمعنى الأقل؛ لأن قوله تعالى: {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} لا تنقاد له، وإذا كان الأمر كذلك لا يكون الحديث مخالفًا للكتاب من هذا الوجه أيضًا.
1 كشف الأسرار 3/ 732.
2 أصول السرخسي 1/ 366.
3 كشف الأسرار 3/ 732.
ثالثها:
610-
أنه سبحانه وتعالى نقل الحكم في استشهاد الرجل الثاني بعد شهادة الرجل الواحد إلى استشهاد امرأتين مبالغة في البيان، مع أن حضور النساء مجالس القضاء لأداء الشهادة خلاف العادة، بقوله عز ذكره:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُن} 1، فلو كان يمين المدعي مع الشاهد الواحد حجة، وأمكن للمدعي الوصول إلى حقه بها لما استقام السكوت عنها في الحكمة، ولما نقل الحكم إلى استشهاد امرأتين، مع كل هذا الاستقصاء في البيان، بل كان الابتداء باليمين والشاهد أولى؛ لأنه أعم وأيسر وجودًا من الشهيدين، وبعبارة أخرى كان ذكر الشاهد واليمين بعد ذكر الرجلين أولى، ولم تتحقق الضرورة المبيحة لحضور النساء في محفل الرجال، كما لو وجد الرجلان "فكان النص دليلًا من هذا الوجه بطريق الإشارة على أن الشاهد واليمين ليس بحجة"2.
رابعها:
611-
أنه تعالى نقل الحكم من استشهاد مسلمين على وصية المسلم إلى استشهاد كافرين حين كانت شهادة الكفار جائزة وحجة لقلة المسلمين، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} 3 أي: عدد الشهود فيها بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية اثنان عدلان من أهل دينكم أو آخران من غير أهل دينكم إن لم يجدوا مسلمين "أو" للترتيب كما فسرها ابن عباس وابن جبير وغيرهما، فلو كان اليمين مع الشاهد حجة لنقل الحكم إليه، لا إلى شهادة الكفار؛ لأن تجويز شهادتهم على المسلمين كان باعتبار الضرورة، وقد كان يمكن دفعها بالشاهد واليمين الذي هو أقرب إلى الحق
1 سورة الأحزاب: 34.
2 أصول السرخسي 1/ 366 - كشف الأسرار 3/ 732.
3 سورة المائدة: 106.
من شهادة الكفار وأيسر وجودًا منها
…
فلهذا علم أن خبر الشاهد مع اليمين ليس بحجة1.
خامسها:
612-
أن الله سبحانه وتعالى نقل الحكم عند وقوع الارتياب والشك في صدق الشاهد إلى تحليفه بقوله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 2 الآية الكريمة، وتحليف الشاهد حينئذ كان مشروعًا ثم نسخ، فلو كان المتنازع فيه وهو الشاهد مع اليمين حجة لكان النقل إليه أولى؛ لأنه أقرب إلى اليمين المشروعة إذا اليمين المشروعة على المدعى عليه وأنه أحد الخصمين، والمدعي يشبهه من حيث أنه خصم، وتحليفه في الجملة مشروع أيضًا، كما في القسامة3 على مذهب البعض، أما يمين الشاهد فلا أصل له في الشرع؛ لأنه أمين، ولا يمين على الأمين في موضع، فكان النقل إلى يمين الشاهد في غاية البيان أن يمين المدعي ليست بمشروعة، وبالتالي فحديث اليمين مع الشاهد غير صحيح4.
613-
وقد أيد الأحناف وجهة نظرهم في اتخاذ هذا المقياس بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وكتاب الله أحق"5. ويقول السرخسي "المراد كل
1 أصول السرخسي 1/ 366.
2 المائدة: 106.
3 القسامة بفتح القاف مأخوذ من القسم وهو اليمين، وقال الأزهري: القسامة اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول. وقيل مأخوذ من القسمة لقسمة الأيمان على الورثة، واليمين فيها من جانب المدعي. وكانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت عليه.
4 كشف الأسرار 3/ 723.
5 قال البخاري "3/ 198 طبعة بولاق 1311هـ" وقال ابن عمر -أو عمر-: كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل وإن اشترط مائة شرط. ثم أورد هذا الحديث بمناسبته التي قيل فيها وهو: "عن عاشة رضي الله عنها قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها، فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ابتاعيها، فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، فليس له، وإن اشترط مائة شرط"، وزاد في رواية "في ص192": قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن اعتق.
شرط هو مخالف لكتاب الله تعالى لا أن يكون المراد ما لا يوجدد عينه في كتاب الله تعالى؛ فإن عين هذا الحديث لا يوجد في كتاب الله تعالى
…
فعرفنا أن المراد ما يكون مخالفًا لكتاب الله تعالى، وذلك تنصيص على أن كل حديث مخالف لكتاب الله تعالى فهو مردود"1.
614-
واستدلوا أيضًا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكثر الأحاديث لكم بعدي، فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافقه فاقبلوه، واعلموا أنه مني، وما خالفه فردوه، واعلموا أني منه بريء"2.
615-
وقد استدل أبو يوسف بهذا الحديث أو قريبًا منه في معرض رده على سير الأوزاعي ومما قاله: "فعليك من الحديث بما تعرف العامة وإياك والشاذ منه؛ فإنه حدثنا ابن أبي كريمة، عن أبي جعفر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا اليهود فسألهم، فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه الصلاة والسلام، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، فخطب الناس، فقال: "إن الحديث سيفشو عني فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن، فليس مني" 3.
616-
ويؤيد الأحناف وجهة نظرهم بما روي عن أبي بكر وعمر وعائشة وأسامة رضوان الله عليهم أنهم ردوا خبر فاطمة بنت قيس في ألا نفقة للمبتوتة ولم يخصوا به قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ولا خلاف في أن المراد: وأنفقوا عليهن من وجدكم، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت
حفظت أم نسيت".
وجمع أبو بكر الصحابة وأمرهم أن يردوا كل حديث مخالف للكتاب:
1 أصول السرخسي 1/ 364 - 365.
2 الأم 7/ 307 - 308.
3 الأم 7/ 307 - 308.
وردت عائشة رضي الله عنها حديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وتلت قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.
الإمام مالك وعرض الحديث على الكتاب:
617-
وإذا تركنا الأحناف إلى الإمام مالك رحمة الله عليهم جميعًا -فإننا نجده يلتقي في كثير من الأحيان معهم في هذا المقياس، فيرد بعض الأحاديث؛ لأنها تتعارض مع ظاهر القرآن الكريم أو كما يقول أستاذنا الدكتور عبد المجيد محمود: ذهب مذهبهم مع اختلاف يسير، وقاربهم في عرض أخبار الآحاد على الكتاب2.
فقد رد حديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي مخلب من الطير" إذ مشهور مذهبه إباحة أكل الطيور ولو كانت ذات مخلب، وأخذ في ذلك بظاهر القرآن الكريم، وهو قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِير} 3، وترك الحديث لأنه يتعارض مع هذه الآية الكريمة4.
وترك بعض الأحاديث التي تحلل أكل لحوم الخيل؛ لأنها تتعارض مع قوله عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 5 ولم يذكر طعامها، فكان ظاهر القرآن تحريمها.
618-
وذكر بعض العلماء أن مالكًا رد حديث: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب"؛ لأنه يتعارض مع ظاهر
القرآن الكريم، وهو قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فإباحة ما يصطاده يدل على طهارته، فيرد ما يدل على نجاسته6.
619-
ونرجح أن مالكًا لم يرد هذا الحديث، كما سنبين -إن شاء الله تعالى- عندما
نتكلم على عرض خبر الواحد على القياس.
1 سبق أن تعرضنا لهذا في التمهيد لهذا البحث ص24، 32.
2 الاتجاهات الفقهية ص156.
3 الأنعام: 145.
4 مالك: حياته وعصره: ص288.
5 النحل: ص8.
6 مالك: حياته وعصره: ص289.
والإمام مالك لا يفعل ذلك في جميع الحالات -كما نجد هذا عند الأحناف، ففي بعضها يبقي على السنة بجانب القرآن الكريم؛ تخصص عمومه أو تقيد إطلاقه، وذلك عندما يكون هناك عاضد آخر كعمل أهل المدينة أو الإجماع، فقد أخذ بحديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، واعتبره مخصصًا لظاهر القرآن؛ لأنه -مع ثبوته- من عمل أهل المدينة، ولهذا قال بعد روايته في الموطأ من طريقين، عن أبي ثعلبة الخشني، وعن أبي هريرة قال:"وهو الأمر عندنا"1.
620-
وأخذ بحديث حرمة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، واعتبره مخصصًا لعموم الآية الكريمة:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} لأنه مع ثبوته يؤيده الإجماع2.
وبعد أن تعرفنا على اتجاه من اتجاهات نقد متن الحديث من أجل توثيقه أو عدمه بعيدًا عن الإسناد -وضح لنا بما لا يدع مجالًا للشك أن علماءنا لم يغفلوا هذه الناحية، وأن هذه الأحاديث القليلة التي ردوها لدليل على الكثرة الأخرى التي وثقوها وأخذوا بها، ولم يتكلموا عن مخالفتها لكتاب الله عز وجل؛ لأنها لم تكن كذلك بعد أن عرضوها بمقياسهم هذا، وهو عرض الآحاد على كتاب الله عز وجل.
621-
ويحسن بنا أن نتعرف على وجهة النظر المقابلة، تلك التي لا ترضى أن تترك حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا صحت نسبته إليه عليه السلام عن طريق اتصاله والثقة برواته من حيث عدالتهم وضبطهم وتوافر الشروط التيينبغي أن تتوافر في الراوي الذي يقبل خبره ويوثق به.
الإمام الشافعي وهذا المقياس:
622-
وقد رفض الإمام الشافعي هذا المقياس كعامل أساسي في توثيق السنة، وفي رفض بعض الأحاديث بناء عليه، ووصف العمل به بالجهل؛
1 الموطأ ص 306 - 307 "طبعة الشعب".
2 مالك: حياته وعصره ص 288 - 289.
لأن الله تعالى قد أحكم فرضه بكتابه، وبين كيفما فرض على لسان نبيه من تخصيص العام وغير ذلك؛ يقول:"إن قول من قال تعرض السنة على القرآن؛ فإن وافقت ظاهره، وإلا استعملنا ظاهر القرآن وتركنا الحديث جهل"1.
623-
وكان رد الإمام الشافعي على الأحناف ومن نهج نهجهم ذا شقين:
الشق الأول: تضعيف ما استدلوا به من أحاديث عرض السنة على القرآن.
والشق الثاني: إثبات توثيق ما ردوه من أحاديث تطبيقًا لمقياسهم.
624-
أما بالنسبة للشق الأول فقد ضعف أحاديث عرض السنة على القرآن من وجهين:
أحدهما: أن إسناد هذه الأحاديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحديث:"ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله" ما رواه أحد يثبت حديثه في شيء: صغير ولا كبير، فيقال لنا قد ثبتم من روى هذا في شيء"2.
وإسناده منقطع؛ لأنه عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية. ويبين البيهقي سند هذا الحديث، فيقول: كأنه أراد -يعني الشافعي- ما حدث به أبو يوسف عن خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه دعا اليهود فسألهم
…
إلى آخر ما ذكرناه عن أبي يوسف3.. ثم يقول: كأنه أراد بالمجهول خالد بن
1 اختلاف الحديث ص 44 - 45. وقد مر هذا النص في مطلع هذا القسم.
2 الرسالة ص224، 225.
3 ص 314 من هذا البحث.
أبي كريمة، ولم يعرف من حاله ما يثبت به خبره1، ويشير البيهقي إلى أن هذا الحديث قد روي من أوجه أخر كلها ضعيفة وأنه قد بين ضعف كل واحد منها في كتابه المدخل2.
615-
وعرض الشافعي لحديث آخر من هذه الحاديث بالنقد وهو حديث طاوس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال:"لا يمسكن الناس علي بشيء؛ فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله لهم، ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله". فقال: هذا منقطع، مخالف لما أمر النبي، صلى الله عليه وسلم3.
626-
وقد ذكر صاحب كشف الأسرار من الحنيفة نقدًا آخر لسند الحديث الأول ويبدو أنه على طريق آخر من طرقه غير الطريق الذي نقده منه الشافعي، فقال: أهل الحديث طعنوا فيه، وقالوا: روى هذا الحديث يزيد بن ربيعة، عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان.. ويزيد بن ربيعة مجهول، ولا يعرف له سماع عن أبي الأشعث عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان، فكان منقطعًا أيضًا فلا يصح الاحتجاج به، وحكى عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة، ثم عقب بقوله في ابن معين: وهو علم هذه الأمة في علم الحديث وتزكية الرواة4.
627-
ولم يجب على طعن المحدثين هذا بإجابة ذت بال، وإنما نقل عبارتهم محرفة؛ لأن إسناد الحديث كما ذكروه، وكما ذكره الخطابي: يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان5.. ويبدو أن الإسناد الصحيح هو هذا، لأنني جهدت أن أعثر عما يسمى بأبي أسماء الرحبي، فلم أجده،
1 خالد بن أبي كريمة الأصبهاني: روى عن معاوية بن قرة وأبي جعفر وعكرمة وهو الذي يقال له: خالد بن ميسرة، وثقه أحمد وأبو داود وابن حبان وابن عدي، وقال عنه: هو عندي صدوق فإني لم أر له حديثًا منكرًا. وقال النسائي والعجلي: لا بأس به، وضعفه ابن معين وأبو حاتم.
2 معرفة السنن والآثار 1/ 24 - 25.
3 المصدر السابق 1/ 25.
4 كشف الأسرار 3/ 730.
5 اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي "911هـ" المكتبة التجارية بالقاهرة 1/ 213.
والرحبي هو يزيد بن ربيعة، وهو الذي يروي عن أبي الأشعث عن ثوبان كما ذكره الذهبي في ميزان الإعتدال1. وقال الخطابي مبينًا العلة في هذا الإسناد: إن يزيد مجهول، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان2.
628-
ولو عرف صاحب كشف الأسرار هذا لأمكنه أن يدافع عن أئمة مذهبه في استدلالهم بهذا الحديث، فيزيد بن ربيعة ليس مجهولًا كما يقول الخطابي، فقد قال فيه ابن عدي: لا بأس به، وقال أبو مسهر الغساني: كان يزيد بن ربيعة فقيهًا غير متهم، ما ينكر عليه أنه أدرك أبا الأشعث. وأبو الأشعث روى عن ثوبان وقال: سمعت ثوبان3.
629-
ولكنه أتى بالعجيب من الجواب ردًّا على طعن المحدثين كما ذكره، فقال:"إن أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أورد هذا الحديث في كتابه، وهو الطود المنيع في هذا الفن، وإمام أهل الصنعة، فكفى بإيراده دليلًا على صحته، ولم يلتفت إلى طعن غيره بعد4".. ولكن أين ذكر البخاري هذا الحديث؟.. ليس في الجامع الصحيح قطعًا.. وقد يكون ذكره في التاريخ الكبير؛ ولكنه -إن ذكره هناك- فإنما ليبين ضعفه، فقد قال السيوطي: إن البخاري ذكر الحديث في تاريخه ونقده بقوله: "ذكر أبي هريرة فيه وهم"5.
630-
ثم أيد صاحب كشف الأسرار هذا الحديث أيضًا بقوله: إنه قد روي له متابع يتأيد به عن محمد بن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه
1 ميزان الاعتدال 4/ 422.
2 اللآلئ المصنوعة 1/ 213.
3 ميزان الاعتدال 4/ 422.
4 كشف الأسرار 3/ 730.
5 مفتاح الجنة ص14، وقد ذكر الإمام سعد الدين التفتازالني في التلويح أن مراد صاحب كشف الٍأسرار من ذكر البخاري له في كتابه أي في صحيحه ورد عليه الغري بأن أحاديث الصحيح قسمان: قسم تصدى لإثباته وهو الصحيح. وقسم أورده البخاري للاستشهاد والتأييد. وقد يكون غير صحيح أي أن إيراد البخاري لهذا الحديث إنما هو في القسم الثاني هذا. فلا يلزم من إيراده له أنه صحيح "حاشية الغري على التلويح 2/ 261".
وسلم قال: "ما حدثتم عني مما تعرفون فصدقوا به، وما حدثتم عني مما تنكرون فلا تصدقوا، فإني لا أقول المنكر وإنما يعرف ذلك بالعرض على الكتاب"1.
ولكن هذا الحديث للمحدثين فيه مقال أيضًا، فقد قال البيهقي فيه:"هذا منقطع"2.
الوجه الثاني في نقد هذه الأحاديث:
631-
وهو أن هذا الحديث يخالف النصوص الثابتة من الكتاب والسنة عندما يعرض عليها، أي: أن الشافعي نقد متن هذه الأحاديث بمقاييسهم هم وهو عرض الآحاد على القرآن والسنة المشهورة.
632-
قال الشافعي: ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين معنى ما أراد خاصًّا وعامًّا وناسخًا ومنسوخًا، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الله قبل؛ لأن الله تعالى أمر المؤمنين باتباع الرسول وفرض عليهم ذلك، قال عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 إلى غير ذلك من الآيات الكريمة فإذا جاءت أحاديث تجعل الناس يعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه فإنها تكون مخالفة للكتاب فترفض.
633-
وهذه الأحاديث تخالف ما هو معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة الصحيحة مثل حديث: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، ما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول ما ندري: ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"4.
1 كشف الأسرار 3/ 730.
2 مفتاح الجنة ص15 - كشف الخفاء 1/ 89.
3 الحشر: 7.
4 انظر ص 15 من هذا البحث.
634-
وعلى فرض صحة هذه الأحاديث فليس معناها الاكتفاء بكتاب الله وعرض السنة عليه، وإنما معناها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له خواص أبيح له فيها ما لم يبح للناس، وحرم عليه ما لم يحرم على الناس، فقال:"لا يمسكن الناس علي بشيء من الذي لي أو علي دونهم". أما قوله صلى الله عليه وسلم: "فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله"؛ فمعناه أنه لا يخرج عن حدود الله تعالى فيما يحرم أو يحلل، سواء أكان هذا التحليل أو التحريم تبليغًا عن الله بالقرآن أم بالسنة"1.
635-
ولم يسلم صاحب كشف الأسرار أن هذه الأحاديث فيها مخالفة للآية الكريمة: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُول} الآية: وإذا قال: إن وجوب القبول بالكتاب إنما يثبت فيما تحقق أنه من عند الرسول عليه السلام بالسماع منه أو بالتواتر، ووجوب العرض إنما يثبت فيما تردد ثبوته عن الرسول عليه السلام، إذ هو المراد من قوله:"إذا روي لكم عني حديث" فلا يكون فيه مخالفة للكتاب بوجه.. على أن المراد من الآية الكريمة -والله أعلم- ما أعطاكم الرسول من الغنيمة فاقبلوه، وما نهاكم عنه، أي عن أخذه، فانتهوا، وعن ابن عباس والحسن: وما نهاكم عنه من الغلول2.
636-
والحق أن الأحناف قد شقوا على أنفسهم حينما استدلوا على ما يذهبون إليه من عرض السنة الآحادية على الكتاب الكريم بمثل هذه الأحاديث، مما جعل خصومهم يضمونهم إلى منكري السنة ويردون عليهم بمثل ما ردوا به على هؤلاء، وكان يكفيهم القول بأن أخبار الآحاد ظنية وكتاب الله قطعي فلا يخصص القطعي بالظني ولا ينسخ به.
637-
ويلاحظ أن الإمام الشافعي لم يناقشهم في الحديث الآخر الذي ذكره السرخسي: "كل شرط ليس في كتاب الله"3 الحديث، ويبدو أن متأخريهم هم الذين استدلوا به.. على أنه يمكن أن يقال: إن الحديث
1 معرفة السنن والآثار 1/ 25 - 26.
2 كشف الأسرار 3/ 730.
3 ص 313 من هذا البحث.
يعني تلك الشروط التي ليس فيها نص من الكتاب ومن السنة أيضًا، لأن السنة من الكتاب، باعتبارها مبينة له، ومفروضة على المسلمين به، فهذا هو ما يفهم من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قوله:"الولاء لمن اعتق". ليس في القرآن الكريم، وهو ما كانت ستخالفه عائشة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عنه وعن مثله، مما جاءت به السنة أيضًا.
توثيق ما رده الأحناف تطبيقًا لمقياسهم:
638-
وهذا هو الشق الثاني من رد الإمام الشافعي على القائلين بعرض الآحاد على كتاب الله عز وجل، ونكتفي هنا بحديث: "يمين المدعي مع شاهد واحد، فقد أفاض الإمام الشافعي في توثيقه، ودفع جهة النظر التي ترده، وإزالة ما يظهر فيه من تعارض لكتاب الله عز وجل؛ لأنه -كما عرفنا من رأيه- إذا صح الحديث سندًا فإنه لا يتعارض مع الكتاب حتمًا.
639-
ومن هنا بدأ برواية الحديث -كما صح عنده- بطرقه المختلفة وبالآثار التي ورد فيها تطبيق له من علماء المسلمين وقضاتهم، ويحسن بنا أن نسجل هذا كله، كما أورده الشافعي في كتاب الأم "ج6 ص 273 - 275" قال:
1-
أخبرنا عبد الله بن الحارث المخزومي، عن سيف بن سليمان عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد"، قال عمر: وفي الأموال1.
2-
أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ربيعة عن عثمان، عن معاذ بن عبد الرحمن، عن ابن عباس، ورجل آخر سماه، ولا يحضرني ذكر اسمه،
1 قال الجصاص من الحنيفة: حديث سيف بن سيلمان غير ثابت لضعف هذا؛ ولأن عمرو بن دينار لا يصح له سماع من ابن عباس فلا يصح لمخالفنا الاحتجاج به. "أحكام القرآن 1/ 614" ولكن هذا الحديث أخرجه مسلم في باب الأقضية وأبو داود في باب القضاء باليمين، والشاهد، وابن ماجه في الشهادات - باب القضاء بالشاهد واليمين =
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى باليمين مع الشاهد".
3-
أخبرناعبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده، قال: وجدنا في كتب سعد بن عبادة يشهد سعد بن عبادة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد"
…
4-
وذكر عبد العزيز بن المطلب عن سعيد بن عمرو، عن أبيه، قال: وجدنا في كتب سعد بن عبادة يشهد سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمرو بن حزم أن يقضي باليمين مع الشاهد1.
5-
أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، "قضى باليمين مع الشاهد" قال عبد العزيز:
= والدارقطني في الأقضية، والبيهقي في السنن الكبرى. وقال النسائي: وقيس بن سعد ثقة، وسيف بن سليمان ثقة "ووثق البيهقي سيف بن سليمان نقلًا عن يحيى القطان، وأسند عن الشافعي أنه قال: حديث ابن عباس ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد أحد من أحد العلم مثله، لو لم يكن فيها غيره، مع أن غيره يشهد له.
وقد قال ابن المديني أن قيسًا سمع من عمرو بن دينار "نصب الراية 4/ 98" وقال أبو حاتم الرازي: إن عمرو بن دينار سمع من ابن عباس "الجرح والتعديل مج 3 ق1/ 1280".
1 قال الأحناف: سئل ربيعة عن شهادة الشاهد ويمين صاحب الحق فقال: وجدت في كتاب سعد، فلو كان حديث سهيل صحيحًا عند ربيعة لذكره ولم يعتمد على ما وجد في كتاب سعد، ومن ناحية أخرى فكون سهيل ينسى حديثه ولا يعرفه يجعل مثل هذا الحديث "لا تثبت به شريعة مع إنكار من روى عنه إياه وفقد معرفته به""أحكام القرآن للجصاص 1/ 614 - 615" ولابن أبي حاتم كلام طيب مع أبيه عن هذا الحديث، يقول ابن أبي حاتم:"قيل لأبي يصح حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد؟ فوقف وقفة، فقال: ترى الدراوردي ما يقول؟ -يعني قوله: قلت لسهيل، فلم يعرفه. قلت: ليس نسيان سهيل دافعًا لما حكى عنه ربيعة، وربيعة ثقة والرجل يحدث بالحديث وينسى. قال: أجل، هكذا هو، ولكن لم نر أن يتبعه متابع على روايته، وقد روى عن سهيل جماعة كثيرة، ليس عند أحد منهم هذا الحديث. قلت: إنه يقول بخبر الواحد. قال: أجل، غير أني لا أدري لهذا الحديث أصلًا عن أبي هريرة، اعتبر به وهذا أصل من الأصول لم يتابع عليه ربيعة "علل الحديث 1/ رقم 1392 ص 463 - 464".
فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني ربيعة عني، وهو ثقة: أني حدثته إياه، ولا أحفظه. قال عبد العزيز، وكان أصاب سهيلًا علة أذهبت بعض عقله، ونسي بعض حديثه، وكان سهيل يحدثه عن ربيعة عن أبيه.
6-
أخبرنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمر مولى المطلب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد".
7-
أخبرنا مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد"1.
8-
أخبرنا مسلم بن خالد قال: حدثني جعفر بن محمد قال: سمعت الحكم بن عتيبة يسأل أبي، وقد وضع يده على جدار القبر ليقوم: "أقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد؟
…
قال: نعم، وقضى بها بين أظهركم". قال مسلم، قال جعفر: في الدين.
9-
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريح، عن عمرو بن شعيب "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -في الشهادة: $"فإن جاء بشاهد أحلف مع شاهده".
638-
وعلى الرغم من أن الأحاديث من 6- 9 مراسيل إلا أنها من المراسيل المقبولة المحتج بها عند الشافعي؛ لوجود أحاديث مسندة في معناها، وهذه من الحالات التي يقبل فيها الشافعي المرسل، كما سبق أن عرفنا.
639-
ثم روى الشافعي بعد هذا أخبارًا عن التابعين وتابعيهم الذين قضوا أو أفتوا بجواز القضاء بشاهد ويمين صاحب الحق، وهم عمر بن
1 قال صاحب نصب الراية "4/ 100": أخرجه الدارقطني في سننه "ص 515" عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد، ويمين صاحب الحق، وقضى به علي رضى الله عنه بالعراق، انتهى.. وهذا إسناد منقطع، فإن محمد بن علي بن الحسين لم يدرك جد أبيه علي بن أبي طالب، وقد أطال الدارقطني الكلام على هذا الحديث في "كتاب العلل" قال: وكان جعفر بن محمد ربما أرسل هذا الحديث، وربما وصله عن جابر، لأن جماعة من الثقات حفظوه عن أبيه عن جابر، والقول قولهم؛ لأنهم زادوا، وهم ثقات، وزيادة الثقة مقبولة، انتهى..
عبد العزيز، وشريح وأهل المدينة، والشعبي، وسليمان بن يسار وأبو سلمة ابن عبد الرحمن، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وزريق بن حكيم، وزرارة ابن أوفى1.
640-
وعلى الرغم من هذا فقد روى الأحناف عن بعض التابعين وتابعيهم خلاف ذلك، فعن الزهري قال في "اليمين مع الشاهد"، وقد سئل عن جوازه:"هذا شيء أحدثه الناس، لا إلا شاهدين" وفي رواية عنه كان يقول: إنه بدعة، وأول من أجازه معاوية، ويقول الجصاص معقبًا على كلام الزهري:"والزهري من أعلم أهل المدينة في وقته، فلو كان هذا الخبر ثابتًا كيف كان يخفى مثله عليه؟ وهو أصل كبير من أصول الأحكام، وعلى أنه قد علم أن معاوية أول من قضى به، وأنه بدعة" ثم استطرد الجصاص في نقد الروايات التي تجوز ذلك2.
641-
وعلى الرغم من أن الإمام الشافعي حجة في الحديث وخبير بصحيحه وسقيمه، ورأيه في هذا الموضوع وفي أحاديثه حجة. إلا أنه إنصافًا للأحناف.
642-
نقول: إن هذه الأحاديث وغيرها التي رفضها الأحناف لم تسلم من الطعن، من حيث سندها ونقلتها3، الأمر الذي يجعلنا نرجح أن مقياس عرض الآحاد على القرآن وغيره مما قال به الأحناف أو غيرهم كان يعمل به فيما فيه شك من حيث نقله، وإن قال بصحته بعض العلماء، فهو عامل حاسم فيما تأرجح بين ثبوته وعدم ثبوته من الأحاديث، مما يمكن أن يرفضه المجتهد حينما يرى اختلاف الآراء حال صحته ولا يطمئن قلبه إليه.
وسنرى أن الإمام الشافعي نفسه يستخدم هذا المقياس وغيره أيضًا مما قال به
1 انظر الأحاديث المسندة وغيرها في الأم 7/ 273 - 275.
2 أحكام القرآن للجصاص جـ1 ص 612 - 618.
3 انظر ما يقال في هذه الأحاديث في "نصب الراية" 4/ 96 - 101، والجدير بالذكر أن الأحناف لم يكونوا وحدهم في عدم الأخذ بحديث الشاهد واليمين، بل كان الكوفيون جميعًا كذلك، ومعهم الثوري والأوزاعي، ويبدو أن مقياسهم كان عدم ثبوته من حيث نقله.
مخالفوه عندما يريد أن يثبت الأحاديث التي نقلها الصادقون في تقديره وعلمه، فهو موقف شبيه بهذا الموقف وإن اختلفت النتائج في الموقفين.
643-
وبعد أن أثبت الشافعي أحاديث
"الشاهد واليمين" بروايتها متصلة ومرسلة اتجه إلى توثيقها من حيث متنها نفسه؛ ليرد على من يقولون بردها؛ لأنها تخالف كتاب الله عز وجل.
قال الإمام الشافعي: إنه ليس هناك تعارض بين الآية الكريمة: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} والحديث، وليس يعلم أن في هذه الآية تحريم القضاء بأقل من شاهدين؛ لأن الشاهدين اللذين أمر الله جل ثناؤه بهما يجب أن يكونا عدلين حرين مسلمين، ومع ذلك نجيز شهادة أهل الذمة، ولم نعتبر هذه مخالفة لكتاب الله، وأجزنا شهادة القابلة وحدها ولم نعتبرها مخالفة لكتاب الله.
644-
ويقول لمخالفيه: وهناك نظائر لهذا حكمتم فيها بما ليس في القرآن، ولم تعتبره مخالفًا، فقد قال الله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 1، وقال عز ذكره:{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 2 ومع هذا قلتم: إن الرجل إذا خلا بالمرأة، وأغلق بابًا أو أرخى سترًا، أو خلا بها في صحراء وهما يتصادقان ولم يمسها كان لها المهر وعليها العدة والقضاء باليمين مع الشاهد أبعد ما يكون خلافًا لظاهر القرآن من هذا مع هاتين الآيتين.
645-
وإن الله عز وجل قال: "شهيدين" و"رجل وامرأتان" ففيه دليل على ما تتم به الشهادة، حتى لا يكون على من أقام الشاهدين يمين، لا أنه حرم أن يحكم بأقل منهما.. ومن جاء بشاهد لم يحكم له بشيء، حتى يحلف معه، فهوحكم غير الحكم بالشاهدين -ومثله أن يدعي الرجل على الرجل حق فينكل المدعي عليه عن اليمين، فيلزمه عندك ما نكل عنه،
1 البقرة: 237.
2 الأحزاب: 49.
وعندنا إذا حلف المدعي مع شاهد فهو حكم بغير شهادة شاهد وامرأتين وشهادة شاهدين1.
646-
وقد حكم الله عز وجل في الزنا بأربعة، وجاءت بذلك السنة وقال الله عز وجل:{شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وقد صار أهل العلم إلى ذلك؛ أي إلى إجازة أربعة في الزنا بالسنة واثنين في غير الزنا بالآية الكريمة، ولم يقولوا: إن واحدًا منهما نسخ الآخر ولا خالفه، وأمضوا كل واحد منهما على ما جاء فيه. وقد أجاز أهل العلم شهادة النساء وحدهن في عيوب النساء وغيرها من أمور النساء2، بلا كتاب مضى ولا سنة، ولم يقل أحد إن الله تعالى أحد الشهادات، فجعل أقلها شاهدًا وامرأتين، ولا تجوز بناء عليه شهادة النساء لا رجل معهن.
ولم يقل أحد كذلك: إن هذا مخالف للقرآن والسنة، لا يجوز -إذن- أن نرد السنة في اليمين مع الشاهد، ونتأول القرآن، مع أننا لم نرد أثرًا بأقل من شاهد ويمين ولم نتأول القرآن، وهو ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه أجاز شهادة القابلة3.
647-
ثم قال لمخالفيه: إنكم تقضون: أنه من وجد مقتولًا في محلة، ولم تقم بينه على أحد منهم بعينه أنه قتله -يحلف من أهلها خمسون رجلًا خمسين يمينًا ويدفعون الدية هم وعواقلهم، في ثلاث سنين4. فكيف تقضون بهذا مع أنكم تزعمون أن كتاب الله عز وجل يحرم أن يعطي مدع بأقل من شاهدين أو شاهد وامرأتين
…
وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرم أن يعطي مدع إلا بالبينة، وهي شاهدان أو شاهد وامرأتان، وتدل على أن اليمين براءة لمن حلف؟!
…
وكيف تعطون بلا شاهد هنا -في القسامة- وأحلفتم ولم تبرءوا، فخالفتم الكتاب والسنة؟!.
1 اختلاف الحديث ص 353 - 354.
2 ومنها إذا جاءت امرأة بولد، فأنكر الزوج، وقال: استعرته، ولم تلديه، فشهادة القابلة بأن المرأة ولدته تكفي "آداب الشافعي ص166".
3 الأم 7/ 10 وانظر ص14.
4 مسألة القسامة. وقد مر تعريفها.
648-
فإن قلتم: لم نخالفهما، وقد روي هذا عن عمر الخطاب -وهو أعلم بالكتاب والسنة- قلنا: إن هذا دليل على أن دعواكم أن الكتاب يحرم أن يعطى فيه أحد بأقل من شاهدين، و"أن السنة تحرم أن يحول حكم عن أن يعطي فيه بأقل من شاهدين -"كما في الشاهد واليمين" - أو يحلف فيه أحد، ثم لا يبرأ" - "كما في القسامة" -ليس بعام- كما زعمتم - وإذا كنتم قد خرجتم عن هذا العموم بالخبر عن عمر - فإننا لم نقل بالشاهد واليمين إلا بالخبر الثابت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وليس برأي رأيناه، والخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أولى من الخبر عن غير رسول الله1.
649-
ثم انتقل الإمام الشافعي إلى ضرب أمثلة أخرى من غير الشهادة والدعوى قال فيها الخالفون بالسنة، ولو طبقوا هذا المقياس لتركوها ومنها "المسح على الخفين" مع أن بعض الصحابة تركه وعنف من يمسح على الخفين. أخذ به الأحناف، مع أن الله سبحانه وتعالى لم يزد على أن قال:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 2 فما هو بين في كتاب الله إنما هو غسل القدمين أو مسحهما فقط، وليس في مسح الخفين، وإنما ورد ذلك في السنة الثابتة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
650-
ومن ذلك قول المخالفين: إنه لا يقطع إلا من سرق من حرز، ومن بلغت قيمته شيئًا مؤقتًا، دون غيره. هذا مع أن ظاهر كتاب الله عز وجل أن يقطع كل من لزمه اسم السرقة، قلّت سرقته أو كثرت، قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا.....} 3 الآية الكريمة، وما قالوا بذلك إلا لما جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم،
1 الأم 7/ 11.
2 سورة المائدة: 6.
3 سورة المائدة: 38.
مما يدل على ألا يقطع إلا من سرق من حرز، ومن بلغت سرقته شيئًا مؤقتًا دون غيره1.
651-
ومن ذلك قولهم برجم المحصن فقط إذا زنى، مع أن المذكور في القرآن الكريم هو الجلد لكل من لزمه اسم الزنا؛ مملوكًا كان أو حرًّا"، محصنًا أو غير محصن، قال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 2 وما قالوا بذلك إلا بالسنة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا، ولم يجلده، ولم يعرضوا ذلك على القرآن، ويقولوا فيه ما قالوا في حديث الشاهد واليمين3. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي ساقها الإمام الشافعي، رضي الله عنه ليبرهن على أن الذين قالوا بهذا المقياس، كانوا يستعملونه في بعض الأوقات دون بعضها الآخر.
652-
لكن قد يقال: إن السنة في هذه المواضع ليست من الآحاد، التي يعرضها الأحناف مثلًا على كتاب الله عز وجل، وإنما هي سنة مشهورة، وهذه يزاد بها على الكتاب -كما قلنا-4؛ لأن ثبوتها أقوى من ثبوت أخبار الآحاد وتفيد طمأنينة القلب، وليس ذلك موجودًا في أخبار الآحاد، فهناك فرق بينها وبين الأخبار التي ردوها، ومنها خبر الشاهد واليمين.
653-
وقد نبه على ذلك صاحب كتاب كشف الأسرار عندما قال: "فإن قيل: إن الصحابة خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} 5
1 أخرج البخاري ومسلم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"لم تقطع يد سارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن، حجفة أو ترس، وكلاهما ذو ثمن". وأخرجا عن ابن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
كما أخرج أصحاب السنن الأربعة عن ابن جريج عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع".
"نصب الراية 3/ 355؛ 364".
2 سورة النور: 2.
3 الأم 7/ 15.
4 ص 116 من هذا البحث.
5 سورة النساء: 11، 12.
بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ميراث لقاتل" وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} 2 و {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} 1 بقوله عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها" في شواهد لها كثيرة فثبت أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز.
"قلنا: هذه أحاديث مشهورة تجوز الزيادة بمثلها على الكتاب، ولا كلام فيها، إنما الكلام في خبر شاذ خالف عموم الكتاب، هل يجوز التخصيص به؟ وليس فيما ذكرتم دليل على جوازه، والدليل على عدم جوازه أن عمر وعائشة وأسامة رضي الله عنهم ردوا خبر فاطمة بنت قيس، ولم يخصوا به قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 3 حتى قال عمر، رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت، حفظت أم نسيت"4.
654-
والجدير بالذكر أن الإمام الشافعي، رضي الله عنه، لم يكن وحده في الميدان يدفع هذا المقياس، وإنما انتضى لذلك غيره، فقد حكى حوارًا شاهده بين صاحب لمحمد بن الحسن وبين صاحب له يسمى يحيى ابن البناء، وفي هذا الحوار الاتجاه الذي سار فيه الإمام الشافعي في رده ابن البناء.
وفي هذا الحوار الاتجاه الذي سار فيه الإمام الشافعي في رده على من يقولون بعرض الآحاد على الكتاب الكريم، يقول: "حضرت مجلسًا فيه جماعة، فيهم رجل يقال له سفيان بن سخيان، فقلت ليحيى بن البناء -وكان حاضرًا-: كيف فقه هذا؟ فقال لي: هو حسن الإشارة بالأصابع، ثم قال لي: تحب أن تسمعه؟ قلت: نعم. فقال: يا أبا فلان: رأيت شيئًا أعجب من إخواننا من أهل المدينة، في قضاياهم باليمين مع الشاهد؟.. إن الله عز وجل أمر بشاهدين، فنص على
1 سورة النساء: 12.
2 سورة النساء: 24.
3 سورة الطلاق: 6.
4 كشف الأسرار 3/ 729 - 730. وانظر في "نفقة المبتوتة" وما قيل في هذا الحديث كتاب "مقارنة المذاهب في الفقه" للأستاذين محمود شلتوت ومحمد علي السايس - مكتبة محمد علي صبيح 1373م، ص 112 - 117.
القضية، ثم قال:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، ثم أكد ذلك، فقال:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، فبين عز وجل أنه لا تتم الشهادة إلا برجلين أو رجل وامرأتين، فقالوا: يقضي برجل واحد، ويمين صاحب الحق".
"فقال: نعم؛ إنهم يقولون من هذا ما هو خلاف القرآن، فقال له يحيى: احتجوا، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعنى كتاب الله، وقد رووا عنه أنه قضى باليمين مع الشاهد، ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام "كذا".
"فقال ابن سخيان: لا يقبل هذا من الرواة، وهو خلاف القرآن فقال له يحيى: فما تقول فيمن تزوج امرأة ودخل بها، وأغلق عليها بابًا وأرخى سترًا، ثم فارقها، وأقرا جميعًا أنهما لم يتماسا؟ فقال: عليه الصداق.
"فقال يحيى: فإنهم يقولون: إن الله تعالى قد قال في كتابه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وأنت تجعل عليه الكل.
"فقال: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ذلك، وهو أعلم بمعنى الكتاب.
"فقال له يحيى: فلم تر للقوم حجة، وقد رووا ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد، ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورأيت لنفسك حجة بما رويت عن عمر رضي الله عنه، فلم يكن عنده في ذلك شيء"1.
655-
ومهما يكن من شيء فقد أفاض الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في رد هذا المقياس أكثر من غيره -على ما نعلم- لأنه يرى أنه باب يمكن أن ينفذ منه الحاقدون على السنة، فيعصفوا بها، ويحاولوا أن يبعدوها المسلمين عنها بحجة أن ما فيها ليس موجودًا في القرآن الكريم، وهذا هو
1 آداب الشافعي ص 169.
ما حدث فعلًا الآن، في عصرنا الحديث، فقد نبتت نابتة تقول: إن السنة لم تنقل نقلًا صحيحًا، فينبغي تركها، ويرون مخالفتها لكتاب الله عز وجل1.
656-
والحق أنه لا ضير على المسلمين في ألا يستعملوا هذا المقياس عندما يتأكدون من صحة نقل الحديث بمنهاج المحدثين ومصفاتهم التي صفت الأحاديث الصحيحة، وأبعدت عنها كل موضوع أو ضعيف، لأنه قد تخفى على عقولنا الحكمة في بعض الأحاديث فنتوهم أنها تعارض مع بعض الأحاديث التي رواها الثقات، كما فعل الأحناف في حديث اليمين مع الشاهد، فقد قالوا: إن في الآية قصرًا، وأن هناك حدًّا أدنى للشهادة، مع أن تأويلًا آخر للآية -كما فعل الإمام الشافعي- أدى إلى وجهة نظر أخرى ترى أن الآية لا تتعارض مع الحديث، وتثبت ما هو أدنى إلى العقل، وهو: أن الحديث إذا صدق نقلته كان وثيق الصلة برسول الله، صلى الله عليه وسلم.
657-
على اننا يمكننا أن نستفيد من هذا المقياس في بعض الحالات وذلك عندما يكون الحديث ضعيفًا، فإنه مما يؤكد لنا ضعفه، ويطمئننا على ذلك أن يكون متعارضًا بوضوح مع كتاب الله.. وعند ترجيح بعض الأحاديث بعضها الآخر، ويكون في هذه الحالة عاملاً أيضًا من عوامل الاطمئنان والتأكيد فقط.
الإمام الشافعي واستخدام هذا المقياس:
658-
وهذا هو ما فعله الإمام الشافعي كما نرى ذلك في كتابيه اختلاف الحديث والرسالة.
ومن الأمثلة على ذلك اختياره لحديث من أحاديث صلاة الخوف دون آخر؛ "لأن فيه من الشبه بمعنى كتاب الله عز وجل"، فقد روى مالك عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله،
1 انظر مثلًا هذه المحاولة في كتاب "الأضواء القرآنية" وقد أشرنا إليه قبل ذلك.
صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع1: "أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم".
659-
وروى عبد الله بن عمر بن حفص، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث يزيد بن رومان2.
660-
قال الشافعي: وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف خلاف هذه الصلاة في بعض أمرها، فقال: صلى ركعة بطائفة، وطائفة وبين العدو، وجاءت الطائفة التي لم تصل معه، فصلى بهم الركعة التي بقيت عليه من صلاته، وسلم، ثم انصرفوا فقضوا معًا.
وروى أبو عياش الزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم عسفان وخالد بن الوليد بينه وبين القبلة، فصف بالناس معه معًا، ثم ركع وركعوا معًا، ثم سجد، فسجدت معه طائفة، وحرسته طائفة، فلما قام من السجود، سجد الذين حرسوه، ثم قاموا في صلاته. قال جابر قريبًا من هذا.
661-
وهذه الأحاديث كلها صحيحة الإسناد، لكنها تحتاج إلى ترجيح بعضها على بعض ليعمل بالراجع منها.
662-
وقد اختار الإمام الشافعي، رضي الله عنه، الأخذ بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع دون غيرها، وهي ما عبر عنها الحديث الأول، حديث خوات بين جبير لما "فيه من الشبه بمعنى كتاب الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ
1 الرقاع جمع رقعة، وسميت بذلك؛ لأن بعض الصحابة الذين غزوا فيها نقبت أقدامهم، أي رقت، وسقطت أظفارهم، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق.
2 الرسالة ص182 - 183.
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} 1.. وقال عز من قائل: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 2.
663-
فقد فرق الله عز وجل بين الصلاة في الخوف وفي الأمن، حذرًا للمؤمنين أن ينال منهم عدوهم غرة أو يفتح فيهم ثغرة، وحديث خوات ابن جبير هو الذي يدل على هذا الحذر أكثر من غيره، وذلك أن الطائفة التي تصلي مع الإمام تحرسها الطائفة الأخرى التي هي خارج الصلاة "والحارس إذا كان في غير صلاة كان متفرغًا من فرض الصلاة، قائمًا وقاعدًا، ومنحرفًا يمينًا وشمالاً، وحاملاً إن حمل عليه، ومتكلمًا إن خاف عجلة من عدوه، ومقاتلًا إن أمكنته فرصة، غير محول بينه وبين هذا في الصلاة، ويخفف الإمام بمن معه الصلاة إذا خاف حمله العدو بكلام الحارس"3.
664-
أما الأحاديث التي تخالف حديث خوات بين جبيرة، فهي على خلاف الحذر الذي تدل عليه الآية، ووافقها فيه حديث خوات، فالطائفة التي تبدأ الصلاة مع الإمام تنصرف دون أن تكمل الصلاة؛ فتحرس الطائفة الأخرى، وهي لا تزال في صلاة، ويعد أن يسلم الإمام يقضيان جميعًا، ولا حارس لهما؛ لأنه لم يخرج من الصلاة إلا الإمام، وهو وحده لا يغني شيئًا أمام العدو، "فكان هذا خلاف الحذر والقوة في المكيدة"4.
1 سورة النساء: 102.
2 سورة النساء: 103.
3 الرسالة: ص 265.
4 المصدر السابق ص 265 - 266.
665-
وهناك وجه شبه آخر بين معنى الآيات وحديث خوات، مما جعل الشافعي يرجحه على غيره من تلك الأحاديث، وهو أن الله عز وجل ذكر صلاة الإمام والطائفتين معًا، ولم يذكر قضاء على الإمام، ولا على الطائفتين، مما يدل على أن الإمام والمأمومين يخرجون من الصلاة ولا قضاء عليهم، وهذا ما يدل عليه حديث خوات ويخالفه غيره.
666-
ومع هذا فالإمام الشافعي رضي الله عنه لا ينسى أن الأحاديث الأخرى صحيحة؛ لأن من نقلها رواة ثقات عنده، وهذا هو الأساس، فأثبتها وبين وجه صحتها من خلال متنها أيضًا وهو هنا يقدم عناية بمتونها لا تقل عن عناية الآخرين، فهو يرى أن حديث أبي عياش وجابر في صلاة الخوف يمكن الأخذ به إذا وجد السبب الذي من أجله صليت تلك الصلاة على النحو الذي صلوها عليه، فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة، وكان خالد في مائتين، وكان منه بعيدًا في صحراء واسعة، لا يطمع فيه؛ لقلة من معه، وكثرة من مع رسول الله، صلى الله عليه سلم، وكان الغالب ألا يحمل عليه العدو، ولو حمل عليه من بين يديه رآه، لأنه قد احتاط منه في السجود، فكانوا يرونه دائمًا، في السجود وفي غير السجود بطبيعة الحال.
فإذا كان الأمر كذلك؛ أي: العدو قليل وبعيد، وليس هناك من حائل يستر العدو عن الجيش، أمكن أن تصلى صلاة الخوف على النحو الذي وصفها به حديث أبي عياش وجابر1، ويكون الاختلاف بينه وبين حديث خوات ابن جبير إنما هو اختلاف الحالين.
667-
وكذلك الحديث الآخر، حديث ابن عمر؛ إذ "يحتمل أن يكون لما جاز أن تصلى صلاة الخوف على خلاف الصلاة في غير الخوف، جاز لهم أن يصلوها كيفما تيسر لهم، وبقدر حالاتهم وحالات العدو إذا أكملوا العدد، فاختلفت صلاتهم وكلها مجزئة عنهم إن شاء الله تعالى"2.
668-
ومن الأحاديث، كذلك، التي رجح فيها الشافعي، رضي الله عنه، بينها ائتناسًا بظاهر القرآن أحاديث غسل القدمين، وأحاديث مسح
1 المصدر السابق ص 262 - 263.
2 الرسالة ص 267. وانظر هذا كله في اختلاف الحديث ص220 - 226.
ظهريهما ورشهما، فقد رجح أحاديث غسل القدمين على الأخرى، لأن مع الأولى ظاهر القرآن الكريم. هذا على الرغم من أن في أحاديث المسح أو الرش من هو حسن الإسناد، ويثبت لو كان منفردًا كما يقول الإمام الشافعي، يقول معقبًا على هذه الأحاديث:"فإن قال قائل: فما جعل هذه الأحاديث -يعني: أحاديث الغسل- أولى من حديثي مسح القدمين ورشهما؟ قيل: أما أحد الحديثين -يعني في المسح أو الرش، فليس مما يثبت أهل العلم بالحديث لو انفرد، وأما الحديث الآخر فحسن الإسناد، ولو كان منفردًا ثبت، والذي يخالفه -يعني حديث الغسل- أكثر وأثبت منه، إذا كان هكذا كان أولى، ومع الذي خالفه ظاهر القرآن كما وصفت، وهو قول الأكثر من العامة"1. وهو يعني بظاهر القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 2، بنصب أرجلكم على معنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم.
669-
وقد أيد الإمام الشافعي الأحاديث التي نسخت نكاح المتعة بدلائل القرآن الكريم، فقد روى بسنده أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لابن عباس رضي الله عنهما:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية". كما روى بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء، فأردنا أن نختصتى، فنهانا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء". قال الإمام الشافعي: فإن لم يكن في حديث علي بيان أنه ناسخ لحديث ابن مسعود وغيره مما روي في إحلال المتعة فإنه يسقط تحليلها بدلائل القرآن والسنة والقياس.
670-
ثم رد على الذين يقولون بأن نكاح المتعة حلال ولم يحرم مبينًا ما أشار إليه من أن دلائل القرآن تدل على تحريمه، وتؤكد حديث علي رضي الله عنه. قال الله جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ
1 اختلاف الحديث جـ7 من الأم ص 203 - 207.
2 المائدة: 6.
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية الكريمة، فأحلهن بعد التحريم بالنكاح، ولم يحرمهن إلا بالطلاق. وقال عز ذكره في الطلاق:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 1. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} 2 الآية الكريمة. فجعل إلى الأزواج فرقة ما انعقد عليه النكاح، فكان بينا -والله أعلم- أن يكون نكاح متعة المتعة منسوخًا بالقرآن والسنة في النهي عنه لما وصفت؛ لأن نكاح المتعة: أن ينكح امرأة مدة، ثم ينفسخ نكاحها بلا إحداث طلاق منه، وفيه إبطال ما وصفت مما جعل الله إلى الأزواج من الإمساك والطلاق. وإبطال المواريث بين الزوجين، وأحكام النكاح التي حكم الله بها في الظهار والإيلاء واللعان -إذا انقضت المدة قبل إحداث الطلاق3.
671-
من كل هذا ندرك -أن الأحناف قد عنوا من خلال عرض السنة على القرآن بمتن الحديث وتوثيقه من حيث التأمل فيما يشتمل عليه من معنى.
هذا فوق عنايتهم به عن طريق توثيق الرواة الذين نقلوه -كما عرفت في القسم السابق.. كما أدركنا يقينًا كذلك أن خصومهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي في هذا السبيل، فهم قد دفعوا هذا المقياس من خلال تفحصهم في متون ما رفضه الأحناف؛ ليثبتوا أن هذه المتون -وقد صح سندها في رأيهم جدير معناها بالقبول، وأنها لا تتعارض مع كتاب الله عز وجل.. وكما قلت: فقد قدموا عناية بفحص المتون لا تقل عن عناية خصومهم..
وننتقل -بعون من الله عز وجل وفضل منه- إلى مقياس آخر من مقاييسهم ومناقشة مخالفيهم لهم فيه، لنقدم صورة أخرى من نقد المتون والعناية بتوثيقها من داخلها.
1 البقرة: 229.
2 النساء: 20.
3 اختلاف الحديث ص 2546 - 257 ومن أمثلة هذا أيضًا انظر باب طلاق الحائض ص 316 - 318 وباب المرور بين يدي المصلي ص 162 - 165 وباب التيمم ص 97.