الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان لا يرى بأسًا أن يدفع المحدث كتابه، ويقول: ارو عني جميع ما فيه ويمكن للطالب أن يقول: "حدثني فلان"1.
1 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 435.
4-
المكاتبة ومصطلحات الأداء عنها:
407-
وهي منهج آخر من مناهج تلقي الحديث، وخاص بانتقال الكتب كما في المنهج السابق.
ولها أكثر من صورة؛ منها، كما يقول القاضي عياض:
1-
أن يسأل الطالب الشيخ أن يكتب له شيئًا من حديثه.
2-
أو يبدأ الشيخ بكتاب ذلك مقيدًا للطالب بحضرته أو من بلد آخر2.
ويذكر ابن الصلاح أنها نوعان: كتابة مقترنة بإجازة، بأن يكتب إليه ويقول: أجزت لك ما كتبته لك، أو ماكتبت به إليك، أو نحو ذلك من عبارات الإجازة3.
408-
والحق أن تعريف القاضي عياض فيه خلط بين المكاتبة والمناولة لأنه إذا كتب الشيخ بحضرة التلميذ شيئًا من أحاديثه وأفاده بهذه الكتابة فهي المناولة بعينها.
409-
والحق أيضًا أنه لا داعي لأن نقول -كما قال ابن الصلاح- إنها بإجازة وبغير إجازة، لأن الإجازة متحققة فيها، وإن لم يكن هناك نص على ذلك، وإلا فما معنى أن يكتب الشيخ للتلميذ كتابه ويرسله إليه؟، إلا إذا نص على غرض آخر غير الرواية.
ولهذا فالأولى أن نجعلها نوعًا واحدًا ونقول: إنها هي كتابة الشيخ أحاديثه أو بعضها لأحد تلاميذه أو أصحابه وإرسالها إليه بقصد إعطائه حق روايتها.
410-
وأمثلة هذا الوجه كثيرة منها ما يقوله الأوزاعي: كتب إلي قتادة قال: حدثني أنس بن مالك أنه "صلى خلف رسول الله، صلى الله
1 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 435.
2 الإلماع ص83، 84.
3 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 197.
عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ "الحمد لله رب العالمين" لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها"1.
411-
وحتى يكون الكتاب مصونًا عن التغيير في الطريق إلى من كتب إليه -ينبغي أن يشده المرسل، ويختمه بخاتمه، وقد فعل ذلك غير واحد من السلف وخاصة في القرن الثاني الهجري، ومن هؤلاء ابن جريح الذي كتب إلى ابن أبي سمرة بأحاديث من أحاديثه، وختم على الكتاب2. وكتب قتيبة ابن سعيد إلى الإمام أحمد بن حنبل وقال له: كتبت إليك بخطي، وختمت الكتاب بخاتمي ونقشه "الله ولي سعيد" وهو خاتم أبي، وفعل ذلك الإمام مالك بن أنس3.
412-
ويقول القاضي عياض مبينًا حكم هذا المنهج أو هذا الضرب: "قد أجاز المشايخ الحديث بذلك عنه"4.
ولكنهم اشترطوا شرطًا هامًّا يصون الحديث الذي ينقل عبره من التزييف والتحريف والكذب، وهو أن يتيقن الطالب أن هذا الكتاب الذي جاء إليه إنما هو، حقيقة، كتاب الشيخ، والخط الذي كتب به إنما هو خطه، فأما إذا كان شاكًّا في ذلك لم تجز له روايته عنه5.
وإنما أجازوها لأنها لا تفترق كثيرًا عن المناولة، فكون الشيخ يستجيب لسؤال الطالب ويكتب له، أو يرسل إليه بكتابه من غير سؤال إلى بلد آخر إنما هو أقوى إذن -كما يعبر القاضي عياض6- وكما يقول ابن الصلاح: إنها وإن لم تقترن بالإجازة لفظًا فهي متضمنة لها معنى7.
1 صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 35. وانظر أمثلة أخرى كثيرة لاستعمال هذا الضرب ابتداء من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم في المحدث الفاصل "المطبوع" ص438 - 449.
2 الكفاية "م" ص 486، 487.
3 المرجع السابق.
4 الإلماع ص: 84.
5 المحدث الفاصل: ص 452 "المطبوع".
6 الإلماع: ص 84.
7 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص197.
413-
وممن أجازها من أئمة القرن الثاني الأئمة شعبة بن الحجاج، ومنصور بن المعتمر، وأيوب السختياني، والليث بن سعد، وقد استمر عمل العلماء بها بعدهم وأجمعوا على ذلك1. وهي موجودة في كثير من أسانيدهم، وكثيرًا ما نجد "كتب إلى فلان" على لسان كثير من الرواة2.
ويروي البيهقي في كتابه "المدخل إلى الآثار" عن التابعين فمن بعدهم كثيرة، وكتب النبي، صلى الله عليه وسلم، شاهدة لقولهم.
414-
ومع هذا يذكر ابن الصلاح أن من الناس -ولم يذكر من هم- من قال: إنه لا تجوز الرواية بها، لأنه يمكن تزييف الخط ويكون شبيهًا بخط الشيخ.
ووصف ابن الصلاح هذا الرأي بأنه غير مرضي، وقال القاضي عياض. إنه غلط؛ لأن تزييف الخط نادر، والظاهر أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يقع فيه الالتباس، فيمكن التأكد من كونه خط الشيخ أو غيره، والتأكد من ثقة من يوصل هذا الكتاب إليه3.
ما قيمة هذا الضرب عند ما يجيزونه بالنسبة إلى الطرق الأخرى التي سبق ذكرها؟
…
415-
ذكر الرامهرمزي أن المكاتبة بمنزلة السماع؛ لأن الغرض من القول باللسان -كما هو الحال في السماع- التعبير عن ضمير القلب، فإذا وقعت العبارة عن الضمير بأية وسيلة كانت -كالمناولة والمكاتبة- كان ذلك كله سواء.
416-
وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة مقام القول، وذلك في حديث الرجل الذي أخبره أن عليه عتق رقبة، وأحضر له جارية قال: إنها أعجمية، فأراد الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يختبرها، فقال
1 الإلماع ص 86.
2 مقدمة ابن الصلاح ص 197.
3 الإلماع ص 84 - مقدمة ابن الصلاح ص 197 بشرح التقييد.
لها: "أين ربك"؟.. فأشارت إلى السماء. فقال لها: "من أنا"؟ قالت: أنت رسول الله. فقال للرجل: "أعتقها فقد عرف الرسول إسلامها بإشارتها، واكتفى بذلك عن القول. وكذلك هنا يكتفي بالكتابة عن القول.
417-
ثم أورد مثالًا يدلنا على أن هناك اتجاهين: أحدهما يعتبر المكاتبة مثل السماع، والآخر أقل منه: فقد روي أن إسحاق بن راهوية ناظر الشافعي -وأحمد بن حنبل حاضر- في جلود الميتة إذا دبغت، قال الشافعي: دباغها طهورها، فقال إسحاق: ما الدليل؟.. فقال: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس عن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، مر بشاة ميتة، فقال:"هلا انتفعتم بجلدها" 1؟!.
فقال إسحاق: حديث ابن عكيم: كتب إلينا النبي، صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر:"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" أشبه أن يكون ناسخًا لحديث ميمونة؛ لأنه قبل موته بشهر".
فقال الشافعي: هذا كتاب، وذاك سماع؟ فقال إسحاق: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، كتب إلى كسرى وقيصر، وكان حجة عليهم عند الله، فسكت الشافعي2.
فمن هذا المثال نرى أن الإمام الشافعي، رضي الله عنه رجح حديث ابن عباس عن ميمونة على حديث ابن عكيم؛ لأن الأول سماع، والثاني كتاب، والكتاب والمناولة والوجادة كلها مرجوحات؛ لما فيها من شبه الانقطاع بعدم المشافهة3.
على حين نرى أن إسحاق بن راهوية، رضي الله عنه، جعل الحديثين في درجة واحدة في هذا الموضوع، فالمكاتبة لا تقل حجية عنده عن السماع.
1 انظر الأحاديث في جلود الميتة وهل تحل أو لا في نصب الراية جـ1 ص 115 - 121.
2 المحدث الفاصل ص 452 - 454 من المطبوع، الإلماع ص 86 - 87.
3 نصب الراية 1/ 121 - 122.