الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: الرواية بالمعنى
924-
يقول الخطيب البغدادي: إن كثيرًا من السلف وأهل التحري في الحديث رأوا أنه لا تجوز رواية الحديث بمعناه، بل تجب المحافظة على ألفاظه كما صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما تلقاها كل راو من زميله.
وممن ذهب إلى ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم عبد الله بن عمر فقد روى عبيد بن عمير أن ابن عمر كان جالسًا مع أبيه وعندهم مغيرة بن حكيم -رجل من أهل صنعاء- إذ قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"إنما مثل المنافق مثل الشاة بين الربَّيضين" 1 من الغنم" فقال عبد الله لو علمت علمه، علمت أنه لم يقل إلا حقًّا ولم يتعمد الكذب، فقال: إنه لثقة، ولكني شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال هذا، قال: كيف يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق مثل الشاة بين الغنمين". فقال عبيد بن عمير هي واحدة إذا لم يجعل الحرام حلالًا والحلال حرامًا، فلا يضرك أن قدمت شيئًا أو أخرته، فهو واحد2.
925-
وهذه القصة مع دلالتها على تمسك ابن عمير بلفظ الحديث وأدائه دون تغيير في ألفاظه بما لا يغير المعنى، فإنها تشير إلى اتجاه آخر عند الصحابة رضوان الله عليهم، وهو أنهم يجوزون رواية الحديث بالمعنى ما دام ذلك لا يغير "أو لا يجعل الحرام حلالًا والحلال حرامًا" كما يعبر الصحابي عبيد بن عمير. وسننتقل إلى هذا الاتجاه بعد قليل.
929-
وقد روي هذا عن الإمام مالك رضي الله عنه، فقد سأله أحد تلاميذه عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد؟
…
قال: أما ما كان من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أكره ذلك وأكره أن يزاد فيه أو ينقص3.
1 الربيض: الغنم نفسها، والربض: موضعها الذي تربض فيه، أراد أنه مذبذب كالشاة الواحدة بين قطيعين من الغنم، أو بين مربضيهما. "النهاية".
2 الكفاية ص 268 - 269.
3 جامع بيان العلم وفضله حـ1 ص97.
927-
وقد حكى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان يحب أن يحدث بالألفاظ "أي يتمسك بألفاظ الحديث ولا يغير فيها"1.
928-
وروي هذا أيضًا عن القاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوه"2.
929-
وحجة أصحاب هذا الاتجاه أن الحديث بالمعنى وعدم التمسك بألفاظ الرسول، صلى الله عليه وسلم قد يغير مما أراده، خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم والفصاحة في البيان ما هو نهاية لا يدركه فيه غيره، ففي التبديل بعبارة أخرى لا يؤمن التحريف أو الزيادة والنقصان فيما كان مرادًا له3.
930-
ومن حجتهم كذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "نَضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" فقد أمر صلى الله عليه وسلم بمراعاة اللفظ في النقل، وبين المعنى فيه وهو تفاوت الناس في الفقه والفهم، واعتبار هذا المعنى يوجب الحجر عامًّا عن تبديل اللفظ بلفظ آخر4.
931-
ومن حجتهم أيضًا ما يرويه الإمام أحمد بسنده عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أويت إلى فراشك، فتوضأ ونم على شقك الأيمن وقل: "اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة". قال البراء: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت
…
"آمنت بكتابك الذي أنزلت" قلت "وبرسولك" قال: "لا، وبنبيك الذي أرسلت" 5
…
قال أصحاب هذا الاتجاه: أفلا ترى أنه لم
1 الكفاية "م" ص259.
2 معرفة السنن والآثار حـ1 ص44.
3 أصول السرخسي حـ1 ص355.
4 أصول السرخسي حـ1 ص355 والمحدث الفاصل:"المخطوط" ص346.
5 المسند حـ4 ص392 - 393.
يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ؟ ولم يجز تبديل كلمة "بنبيك" بكلمة "برسولك"؟ مع أن المعنى لا يتغير بهما1؟
932-
ولكن الواقع أن من ذهبوا إلى هذا قليلون وليسوا كثيرين كما يقول الخطيب -وربما هذا هو ما جعل السرخسي يصف هذا الاتجاه بأنه "قول مهجور"2.
933-
وبعض الروايات التي رويت عمن قيل عنهم ذلك تحتمل أحد أمرين:
الأمر الأول: أن إنكارهم كان على الزيادة والنقصان في الحديث وهذا بطبيعة الحال -يستدعي التغيير في المعنى في غالب الأمر، ومن هذا ما رواه الخطيب بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي قال:"لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد ولا ينقص ولا مثل عبد الله بن عمر"3.
الأمر الثاني: هو الكراهة فقط أو استحباب الرواية على اللفظ ولا يتعدى ذلك إلى رفض الرواية بالمعنى، ولهذا فسر أئمة المالكية قول مالك السابق بأنه "على الاستحباب" وأن "الأولى والمستحب المجيء بنفس اللفظ ما أستطيع"4 وقد عبر مالك نفسه عن هذا الاستحباب بقوله:"فأحب أن يؤتي به على ألفاظه"5 ومما يؤكد ذلك أنه أجاز زيادة الواو أو الألف إذا كان ذلك لا يغير المعنى6 ومما يؤكد ذلك أيضًا أن القاضي عياضًا قد عده من المجيزين لرواية الحديث بالمعنى أي من أصحاب الاتجاه الثاني.
1 الكفاية "م" ص27.
2 أصول السرخسي حـ1 ص355.
3 الكفاية "م" ص265.
4 الإلماع ص179.
5 المصدر السابق ص180.
6 ترتيب المدارك حـ1 ص148.
934-
ويحمل على هذا الأمر كذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من سمع حديثًا فحدث به كما سمع فقد سلم" أي الأحوط أن يحدث به على لفظه وهذا ما لا يختلف فيه1.
935-
وأصحاب هذا الاتجاه كما لا يجيزون الرواية بالمعنى لا يجيزون تقديم كلمة على كلمة، فابن عمر رضي الله عنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بني الإسلام على خمس: على أن تعبد الله، وتكفر بما دونه، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت، وصيام رمضان". فقال الرجل: نعبد الله ونكفر بما دونه، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت، قال: لا: أجعل صيام رمضان آخرهن -كما سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
936-
وابن عمر أيضًا لم يجز زيادة حرف واحد وإن كان لا يغير المعنى فقد روى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا على القوم المعذبين -يعني حجر وثمود- إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم فيصيبكم - أو قال: يصيبكم مثل ما أصابهم3.
937-
وقد عبر الشعبي عن هذا بقوله: "كان هذا العلم عند أقوام كان أحدهم لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واوًا أو ألفًا أو دالاً4.
938-
وقد غالى بعض أصحاب هذا الاتجاه فرأى ألا يصحح لحنًا وقع في الحديث من أحد الرواة قبل أن يأتي إليه"5.
939-
وقال أصحاب هذا الاتجاه: إن رواية الحديث على النقصان والحذف لبعض متنه غير جائزة؛ لأنها تقطع الخبر وتغيره، "فيؤدي ذلك إلى إبطال معناه وإحالته"،وكان بعضهم لا يستجيز أن يحذف منه حرفًا
1 الكفاية "م" ص 267.
2، "3" و"4" و"5" الكفاية "م" على التوالي ص271، 274 و280 - 284.
واحدًا، يقول عبد الملك بن عمير:"110هـ""والله إني لأحدث بالحديث، فما أدع منه حرفًا"1 وقال الخليل بن أحمد: لا يحل اختصار حديث النبي، صلى الله عليه وسلم؛ لقوله:"رحم الله امرأ سمع منا حديثًا فبلغه، كما سمعه"2.
940-
وروى عن مالك أنه كان لا يرى أن يختصر الحديث، وقال أبو عاصم النبيل: يكره ذلك؛ لأنهم يخطئون المعنى3.
941-
وإذا كان أصحاب هذا الاتجاه قليلين -كما رأينا- فإن الغالبية العظمى، وجمهور السلف والخلف -قد أجازوا رواية الحديث بمعناه ومن هنا رأينا كثيرًا من الأحاديث الصحيحة أتت بألفاظ وعبارات مختلفة.
942-
وممن ذهب إلى ذلك من الصحابة واثلة بن الأسقع وابن مسعود وأنس وغيرهم. ومن التابعين الحسن البصري وابن عون والشعبي.
روي عن الحسن أنه كان يحدث اليوم بحديث، ويعيده من الغد فيزيد فيه أو ينقص منه غير أن المعنى واحد "وقيل: لإبراهيم النخعي: إنا نسمع منك الحديث فلا نستطيع أن نجيء به كما سمعناه، قال: أرأيتك إذا سمعت تعلم أنه حلال من حرام؟ قال: نعم، قال: فهكذا كل ما نحدث.
وروى ابن عون قال: كان الحسن والشعبي وإبراهيم يحدثون مرة هكذا ومرة هكذا، ويقول ابن عون أيضًا: لقيت منهم من كان يحب أن يحدث الحديث كما سمع، ومنهم من لا يبالي إذا أصاب المعنى4.
943-
وممن روي عنه في القرن الثاني ذلك الزهري الذي يقول: إذا أصبت المعنى فلا بأس5 والإمام الشافعي وأبو حنية ومالك6 رضي الله عنهم جميعًا وكذلك جعفر بن محمد وسفيان الثوري وسفيان ابن عيينه، وحماد بن زيد ويحيى بن سعيد القطان7.
1 و2 و3 الكفاية "م" على التوالي: 289، 290، 291.
4 المحدث الفاصل ص348 - 350.
5 كتاب العلم لابن أبي خيثمة ص134.
6 الإلماع "التحقيق" ص187 عن الإكمال لشرح كتاب مسلم بن الحجاج في الصحيح ل3 أ.
7 الكفاية "م" ص314 - 316.
944-
وقد ذكر الخطيب البغدادي من حجة هؤلاء أحاديث بطرق ضعيفة مضطربة، قال السخاوي في بعضها:"إنها مضطربة لا تصح" ورواها الجوزجاني في الموضوعات.
945-
واستدل الشافعي رضي الله عنه لذلك بحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه"، فإذا كان الله تعالى رحمة منه بخلقه -أنزل كتابه على سبعة أحرف لتحل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم منه فغير كتاب الله تعالى أولى لأن تجوز فيه الرواية بالمعنى ما لم يتغير المعنى بتغير اللفظ، يقول مبينًا ذلك: "فإن كان الله لرأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف، معرفة منه بأن الحفظ قد يزل ليحل لهم قراءته، وإن اختلف اللفظ فيه، ما لم يحل معناه. وكل ما لم يكن فيه حكم فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه2.
946-
وقد روي ما هو شبيه بهذا عن يحيى بن سعيد القطان حيث قال: أخاف أن يضيق على الناس تتبع الألفاظ؛ لأن القرآن أعظم حرمة، ووسع أن يقرأ على وجوه إذا كان المعنى واحدًا3.
947-
بالإضافة إلى هذا فنظم الحديث ليس بمعجزة، والمطلوب منه ما يتعلق بمعناه وهو الحكم من غير أن يكون له تعلق بصورة النظم وقد علمنا أن الأمر بالتبليغ لما هو مقصود به، فإذا أكمل بذلك بالنقل بالمعنى كان ممتثلًا لما أمر به عن النقل لا مرتكبًا للحرام، وإنما يعتبر النظم في نقل القرآن، لأنه معجز مع أنه قد ثبت فيه أيضًا نوع رخصة كما رأينا4.
948-
ومن حجة أصحاب هذا الاتجاه أيضًا اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم على روايتهم لبعض الأوامر والنواهي بألفاظهم، مثل ما روى
1 تدريب الراوي حـ2 ص99.
2 الرسالة ص174.
3 الكفاية ص316.
4 أصول السرخسي حـ1 ص356.
صفوان بن عسال المرادي، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا إذا كنا سفراء ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها.. وما روى أبو محذورة رضي الله عنه أنه عليه السلام أمره بالترجيع.. وما روى عامر بن سعيد بن أبيه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ، وسماه فويسقًا، وما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة ورخص في العرايا إلى غير ذلك من الأمثلة.
949-
وكانوا رضوان الله عليهم ينقلون الحديث الواحد الذي جرى في مجلس واحد في واقعة معينة بألفاظ مختلفة، مثل ما روي في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد ودعا بعد الفراغ، فقال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم بعدنا أحدًا. لقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجرت واسعًا" وروي: "لقد ضيقت واسعًا" وروي كذلك: "لقد منعت واسعًا".
950-
ومثل الحديث الذي اتخذه أصحاب الاتجاه الأول: "نَضّر الله امرأ" لقد روي: "فرب حامل فقه لا فقه له" مكان "غير فقيه" ولم ينكر عليهم أحد في كل ذلك. "فكان ذلك إجماعًا منهم على الجواز"1.
951-
وقد روي عن ابن مسعود وأنس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون عند الرواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحوًا منه أو قريبًا منه، ولم ينكر عليهم ذلك أحد "فكان إجماعًا على الجواز أيضًا".
952-
وهؤلاء الصحابة كان بعضهم لا يكتب ما يسمعه، وما رواه إلا بعد سنين، وهذا فيه دلالة على أنهم كانوا يعددون رواياتهم؛ لأنهم كانو يروونها2 بالمعنى.
953-
وإذا كانت هذه الروايات تدل على ما نحن بصدده، بمفهومها
1 كشف الأسرار حـ3 ص776.
2 كشف الأسرار 3/ 776.
فإن هناك بعض الروايات عن الصحابة تدل نصًّا على جواز الرواية بالمعنى؛ لأنهم كانو يفعلون ذلك، فقد سئل واثلة بن الأسقع أن يحدث بعض أصحابه أو تلاميذه، بحديث ليس فيه وهم ولا مزيد ولا نسيان؟ فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئًا؟.. قالوا: نعم، وما نحن له بحافظين جدًّا.. إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال:"هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظًا، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى ألا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة؟.. حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى"1.
954-
كما روى البيهقي بسنده عن جابر بن عبد الله قوله: "إنا قوم عرب نردد الأحاديث فنقدم ونؤخر"2. وروى الإمام الشافعي أن بعض التابعين قال: "لقيت أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتهدوا في المعنى واختلفوا على ما في اللفظ، فقلت لبعضهم ذلك فقال: لا بأس ما لم يحيل المعنى"3.
955-
ومن حجتهم أيضًا أن الأمة قد اتفقت على أن للعالم بمعنى خبر النبي صلى الله عليه وسلم وللسامع لقوله أن ينقل هذا المعنى بغير اللغة العربية وأن الواجب على رسله وسفرائه إلى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم أن يرووا عنه ما سمعوه وحملوه، مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله، لا سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين، فإنه لا يجوز أن يكل ما يرويه إلى ترجمان، وهو يعرف الخطاب بذلك اللسان، لأنه لا يأمن الغلط وقصد التحريف على الترجمان، فيجب أن يرويه بنفسه، وإذا ثبت ذلك صح أن القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه، وامتثال موجبه دون إيراد نفس لفظه وصورته؛ لأنه إذا جاز الإبدال بلغة أخرى، فجوازه باللغة العربية أولى4.
1 تدريب الراوي 2/ 100.
2 المصدر السابق نفسه.
3 الرسالة ص275. وراجع التحقيق في الهامش في بيان عدم حذف الياء في "يحيل" وأن ذلك لغة.
4 الكفاية "م" 203 - تدريب الراوي 2/ 100.
956-
ومن حجتهم كذلك أن الله تعالى قد قص من أنباء ما قد سبق قصصًا كرر ذكر بعضها في مواضع مختلفة بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والزيادة وقد روي هذا عن الحسن البصري1.
957-
وكما أقام أصحاب هذا الاتجاه حججهم فقد استداروا إلى مخالفيهم يردون عليهم ما احتجوا به في عدم جواز رواية الحديث بالمعنى.
ويروي الرامهرمزي ما رد به هؤلاء على مخالفيهم الذين استدلوا بحديثين صحيحين -كما عرفنا- وفي الحديث الأول استدلوا بعبارة: "فأداها كما سمعها" ويبين المجيزون أن المراد "فأدى حكمها لا لفظها؛ لأن اللفظ غير معتد به، ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: "فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
وفي الحديث الثاني استدلوا برد الرسول صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب من "برسولك" إلى "بنبيك" كما علمه أولًا. ويرد المجيزون بأن كلمة "النبي" تحمل معنى زائدًا، ففيها زيادة مدح ولكل نعت من النعتين موضع؛ لأن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام، وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة جميعًا، فلما قال: وبنبيك الذي أرسلت" جاء بالنعت الأكثر مدحًا وقيده بالرسالة، بقوله: "الذي أرسلت" فكأن المعنى يتغير، ولهذا رده الرسول صلى الله عليه وسلم.
958-
أضف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو المعلم للصحابي الدعاء، وإنما القول هنا في اتباع اللفظ إذا كان المتكلم هو الذي يحكي كلام غيره.
959-
وأيضًا فالأسلوب بقوله: "ورسولك الذي أرسلت" يصير ركيكًا لأنه من المستقبح في الكلام أن تقول: "هذا رسول الله الذي
1 المحدث الفاصل "مخطوط" ص 345 - 346.
أرسله"، "وهذا قتيل زيد الذي قتله"؛ لأنه كان يكفي أن تقول: "رسول فلان" ولا حاجة إلى إعادة اسم المرسل والقاتل1.
960-
ولكن: هل المجوزون لرواية الحديث بالمعنى يرسلونها هكذا إرسالًا دون ضوابط أو قيود؟!
كيف ذلك وهم كغيرهم يحرصون على أن ينقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحريف أو تبديل؟
ولهذا فليس عجبًا أن نراهم يضعون من القيود والضوابط ما يحقق ذلك على الرغم من ترخيصهم في الرواية بالمعنى.
961-
وقد لاحظنا بعضًا من ذلك في آخر كلام الشافعي السابق الذي يجوز فيه الرواية بالمعنى ويقيم الحجة له إذا قال: "ما لم يحل المعنى".
962-
والحق أنه أول من عبر عن هذه القيود والضوابط -على ما نعلم- بصورة مفصلة، حيث رأى أنه لا بد لمن يؤدي الحديث أن يكون عاقلًا يفهم معنى الحديث "فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى كان غير عاقل للحديث فلم نقبل حديثه، إذا كان يحمل ما لا يعقل إن كان ممن يؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس تأديته على معانيه، وهو لا يعقل المعنى"3.
963-
ويحكي الخطيب أن هذا ليس خاصًّا بالشافعي، وإنما هو شرط عند جمهور الفقهاء؛ وأنه "ليس بين أهل العلم خلاف في أن ذلك لا يجوز للجاهل بمعنى الكلام، وموقع الخطاب والمحتمل منه وغير المحتمل"3.
964-
ويضيف الشافعي إلى هذا القيد قيدًا آخر وهو أن يكون الراوي عالمًا بما يغير المعاني من الألفاظ؛ أي يفهم الفروق بين الألفاظ ومعانيها، وكذلك الأساليب؛ لأنه إذا لم يكن كذلك ربما يغير المعنى بتغيير اللفظ أو الأسلوب، فيحل الحرام ويحرم الحلال، يقول الإمام الشافعي مبينًا
1 المحدث الفاصل "المخطوط" ص347 - 348.
2 الرسالة ص381.
3 الكفاية "م" ص300.
الشرطين معًا: "ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا: منها أن يكون من حدث به
…
عاقلًا لما يحدث به عالمًا بما يحيل معاني الحديث من اللفظ؛ وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث"1.
965-
وليست كل الأحاديث عند الشافعي تجوز فيها الرواية بالمعنى، وإنما ذلك خاص بغير أحاديث الأحكام؛ لأن هذا يؤدي اختلاف اللفظ فيها إلى تغيير المعنى واختلافه في غالب الأمر، وقد سبق قوله" وكل ما لم يكن فيه حكم فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه2.
966-
ويعتبر هذا شرطًا آخر من شروط الرواية بالمعنى عنده وقد مثل لهذا بأحاديث التشهد التي ورد كل منها بألفاظ مختلفة عما في الأخرى، فقال:
"ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعًا وألا يكون الاختلاف فيه إلا من حيث ذكرت، ومثل هذا كما قلت يمكن في صلاة الخوف، فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه"3.
967-
ولا يقل هذا الشرط أهمية عن الشروط السابقة؛ لأن أحاديث الأحكام تستنبط منها الأمور الفقهية، وهذا الاستنباط يعتمد في كثير من الأحيان على الألفاظ وما تدل عليه من معان ظاهرة أو خفية4.
968-
وقد ضيق الشافعي بهذه الشروط من دائرة الأحاديث التي تجوز فيها الرواية بالمعنى؛ لأن أحاديث الأحكام بلا شك أكثر من الأحاديث الأخرى؛ ولأن الرواة الفاهمين لأسرار اللغة العربية أقل من غيرهم ولهذا
1 الرسالة ص 370 - 371.
2، 3 المصدر السابق ص 174 - 276.
4 انظر نصب الراية حـ4 ص200.
نجده في بعض الأحيان ينهى مطلقًا عن الرواية بالمعنى حتى يتسنى للناس أن ينهلوا من الحديث كما صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه.
يقول: "لا يجوز لأحد أن يختصر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي ببعض الحديث ويترك بعضه، يحدث بالحديث كما روي عنه بألفاظه؛ ليدرك كل مما سمع منا ما فهمه الله تبارك وتعالى"1.
969-
وقد قدم أصوليو الأحناف قيودًا فيها بعض الشبه مما قاله الشافعي، قال السرخسي: إن الخبر إذا كان محكمًا له معنى واحد معلوم بظاهر المتن، يجوز نقله بالمعنى لكل من كان عالمًا بوجوه اللغة؛ لأن المراد به معلوم حقيقة، وإذا عبر الراوي بعبارات أخرى في أدائه لا تتمكن فيه تهمة الزيادة والنقصان.
970-
أما إذا كان ظاهرًا يحتمل غير ما ظهر من معناه كالعلم الذي يحتمل الخصوص والحقيقة التي تحتمل المجاز؛ فإنه لا تجوز روايته على المعنى إلا لمن جمع إلى العلم باللغة العلم بفقه الشريعة وطريق الاجتهاد؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لا يؤمن عليه أن ينقله إلى ما لا يحتمل ما احتمله اللفظ الأصلي له من خصوص أو مجاز، ولعل العبارة التي يروي بها تكون أعم من تلك لجهله الفرق بين العام والخاص "فإذا كان عالمًا بفقه الشريعة يقع الأمن عن هذا التقصير منه عند تغيير العبارة، فيجوز له النقل بالمعنى كما كان يفعله الحسن والنخعي والشعبي رحمهم الله"2.
971-
ومثاله قوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه" فموجبه العموم؛ لأن كلمة من "تتناول الذكر ولأنثى والصغير والكبير، لكن المراد منه محتمله وهو الخصوص إذا الأنثى والصغير والكبير، ليسا بمرادين منه لما عرف، فلو لم يكن للناقل معرفة ربما ينقله بلفظ لم يبق فيه احتمال الخصوص، بأن قال مثلًا: كل من ارتد فاقتلوه ذكرًا كان أو أنثى وحينئذ
1 مناقب الشافعي حـ2 ص30.
2 أصول السرخسي حـ1 ص 356.
يفسد المعنى، وقوله عليه الصلاة والسلام:"لا وضوء لمن لم يسم". فإن موجبه وحقيقته نفي الجواز، ومحتمله نفي الفضيلة، والمحتمل هو المراد لدلائل دلت عليه، فلو لم يكن الناقل بالمعنى فقيهًا ربما ينقله بلفظ لا يبقى فيه هذا الاحتمال بأن يقول مثلًا:"لا يجوز وضوء من لم يسم" فيتغير الحكم ويفسد المعنى1.
972-
وإذا كان الحديث من باب المشكل أو مشتركًا يعرف المراد منه بالتأويل أو مجملًا لا يعرف المراد منه إلا ببيان أو متشابهًا أو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم -فإنه لا تجوز الرواية عندئذ "حينئذ" بالمعنى.
973-
فأما المشكل والمشترك فلا يجوز نقلهما بالمعنى لأن المراد بهما لا يعرف إلا بالتأويل، والتأويل يكون بنوع من الرأي كالقياس، فلا يكون حجة على غيره.
974-
وأما المجمل فلا يتصور فيه النقل بالمعنى؛ لأنه لا يتوقف على المعنى فيه إلا بدليل آخر والمتشابه كذلك: لأنا ابتلينا بالكف عن طلب المعنى فيه، فكيف يتصور نقله بالمعنى.
975-
وأما ما يكون من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم كقوله: "الخراج بالضمان". و "العجماء جبار" وما أشبه ذلك، فقد جوز بعض الحنفية نقله بالمعنى ولم يجوزه بعضهم الآخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا بهذا النظم؛ ولإحاطة الجوامع بمعان قد تقصر عنها عقول ذوي الألباب. ويقول السرخسي: إن هذا كان هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ثم أداها كما سمعها"2.
976-
ويعني أصحاب هذا الاتجاه الذين يجوزون رواية الحديث بالمعنى أجازوا النقصان فيه إذا كان الراوي قد رواه مرة أخرى بتمامه، أو علم أن غيره قد رواه على هذا التمام، ولا يجوز له ألا يعلم ذلك ويفعله، وممن فعل ذلك الإمام سفيان الثوري، فقد كان يروي الأحاديث على الاختصار،
1 كشف الأسرار حـ3 ص778.
2 أصول السرخسي حـ1 ص357 - أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار حـ3 ص 777 - 778.
لمن قد رواها له على التمام لأنه كان يعلم منهم الحفظ والمعرفة بها، يقول أحد تلاميذه "علمنا سفيان الثوري اختصار الحديث1".
977-
وقال كثير من العلماء يجوز الاختصار على كل حال ولا يقتصر على أنه رواه قبل ذلك تامًّا2.
- وهذا بطبيعة الحال مشروط بالشرط الأساسي في الرواية بالمعنى وهو ألا يؤدي ذلك أو غيره إلى إحالة معنى الحديث وتغيره يقول الخطيب البغدادي: "وإن كان النقصان من الحديث شيئًا لا يتغير به المعنى كحذف بعض الحروف والألفاظ، والراوي عالم واع محصل لما يغير المعنى وما لا يغيره من الزيادة والنقصان، فإن ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى دون من لم يجز ذلك"3 ويقول القاضي عياض مبينًا ذلك أيضًا: "وكذلك جوزوا رواية بعض الحديث إذا لم يكن مرتبطًا بشيء قبله ولا بعده ارتباطًا يخل بمعناه، وكذلك إن جمع الحديث حكمين أو أمرين كل واحد مستقل بنفسه غير مرتبط بصاحبه فله الحديث بأحدهما. وعلى هذا كافة الناس ومذهب الأئمة"4.
978-
ومن باب أولى -في هذا الاتجاه ينبغي أن يصحح كل لحن أو خطأ لغوي يقع في الحديث. وقد نبه على ذلك من أهل القرن الثاني الأوزاعي وحماد بن سلمة وعفان وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وابن معين وأحمد بن حنبل5.
979-
وبعد -فلعلنا على ثقة بعد هذا الفصل من أن علماءنا قد عنوا بمتن الحديث في هذا الباب عناية كبيرة، ولاحظوا هل يتغير المعنى أو لا، أما عند المجيزين للرواية بالمعنى فأمرهم ظاهر واضح، وأما الآخرون فقد وضعوا من القيود كما رأينا ما يعصم من تغيير معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نغالي إذا قلنا: إن جوازهم كان في أقصر الحدود.
1 الكفاية "م" ص293.
2، 3 الكفاية "م" ص 289، 293 على التوالي.
4 الإلماع ص 187 "التحقيق" عن الإكمال لشرح مسلم ل3-أ "وهو مخطوط".
5 الكفاية "م" ص 296 - 298.