الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
المناولة ومصطلحات الأداء عنها:
391-
إذا كان الضربان السابقان يشتركان في قراءة ما يتلقاه الطالب من الشيخ، سواء أكان القارئ هو الشيخ أو التلميذ أو غيرهما في المجلس -فإن الوجوه الأخرى للتلقي ليست فيها هذه القراءة وهذه ميزة تشترك فيها جميعًا، ولكنها تختلف من حيث الإذن بالرواية وعدمه. ومن حيث التأكد
من صيانة المرويات التي تنقل بها، وعدمه. وهذا يجعلها تتفاوت من حيث القيمة والجدارة بتوثيق المرويات المنقولة عن طريقها.
392-
ومن هذه الوجوه "المناولة"، وقد عرف القاضي عياض نوعين1 منها أحدهما لا يفترق عن نوع من أنواع الإجازة في شيء، ولذلك لن نعرض له هنا.
393-
أما النوع الآخر فهو صور، منها: أن يدفع الشيخ كتابه الذي رواه، أو نسخة منه وقد صححها، أو أحاديث من أحاديثه، وقد انتخبها وكتبها بخطه، أو كتبت عنه، فعرفها فيقول للطالب: هذه روايتي فاروها عني ويدفعها إليه، ومثال هذه الصورة: ما حدث به المروزي عن الإمام أحمد أنه قال له: إذا أعطيتك كتابي، وقلت لك: اروه عني، وهو من حديثي، فما تبالي؛ أسمعته أو لم تسمعه، قال المروزي: فأعطانا المسند - أي مناولة2.
394-
أو يقول الشيخ للتلميذ: خذ هذه النسخة فاكتبها، وقابل بها، ثم اصرفها إلي، وقد أجزت لك أن تحدث بها عني، أو اروها عني.
ومثال هذه الصورة ما رواه عبيد الله بن عمر أن الزهري دفع إليه صحيفة فقال: انسخ ما فيها وحدث بها عني، فقال له عبيد الله: أويجوز ذلك؟ قال: نعم، ألم تر الرجل يشهد على الوصية ولا يفتحها، فيجوز ذلك ويؤخذ به3.
وربما لم يطلب الزهري من عبيد الله أن يرد النسخة التي سيكتبها إليه ليصححها؛ لثقته في تلميذه هذا، أو ربما حدث ذلك فعلًا فرد إليه النسختين، نسخته والنسخة التي كتبها فاطمأن إلى ما فيها.
395-
أو يأتي الطالب الشيخ بنسخة صحيحة من روايته أو بجزء من حديثه، فيقف عليه الشيخ ويعرفه، ويحققه ويتأكد من صحته ويجيزه له.
1 الإلماع ص: 79.
2 الكفاية "هـ" ص 327.
3 المصدر السابق ص 326.
يقول أحد تلاميذ الأوزاعي: لقيت الأوزاعي ومعي كتاب، كنت كتبته من أحاديثه، فقلت: يا أبا عمرو، هذا كتاب كتبته من أحاديثك قال: هاته، وأخذه، وانصرف إلى منزله وانصرفت أنا، فلما كان بعد أيام لقيني به. فقال: هذا كتابك، قد عرضته وصححته، قلت: يا أبا عمرو، فأورى عنك، قال: نعم، فقلت: اذهب، فأقول: أخبرني الأوزاعي؟ قال: نعم1.
وسمى ابن الصلاح هذه الصورة عرض المناولة قياسًا على عرض القراءة2.
ونلاحظ أنه مع المناولة تكون إجازة بالرواية، ولهذا فقد كان من الممكن أن تكون نوعًا من أنواعها، ولكننا آثرنا -كما فعل القاضي عياض- أن نجعلها ضربًا مستقلًّا؛ لأنها تتضمن إجازة وزيادة.
396-
وفي كل هذه الصور الثلاث روعي ما يضمن للحديث أن ينتقل من الشيخ إلى التلميذ نقلًا صحيحًا لا تغيير فيه ولا تبديل، ففي الصورة الأولى يعطي الشيخ التلميذ نسخة قد وثق منها؛ لأنها كتابه الذي يحفظه عنده أو نسخة منه قد وقف عليها وصحح ما قد يقع فيها من أخطاء أثناء النقل.
وفي الصورة الثانية لا يعتمد على نقل التلميذ، وإنما يأمره بالمقابلة ثم يأخذ ما نقله ليستوثق من صحة النقل والمقابلة.
وفي الصورة الثالثة يتأكد من صحة ما يقوله التلميذ من أنها من حديثة ومن روايته، فيقف عليها، ويعرفها، ويحققها قبل أن يجيزها له3، ففي جميعها -كما ترى تحقق من الشيخ بما في الكتاب الذي يناوله، وهذا ما شرطه
1 الكفاية هـ ص 322. وقد فعل مالك وأحمد بن حنبل مثل هذا "انظر ص 327 عن الكفاية هـ".
2 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد والإيضاح ص 191.
3 وإذا كان قد روي عن الزهري أنه أتى إليه أحد التلاميذ بكتاب ما قرأه ولا قرئ عليه، فيجيز له أن يرويه عنه، فإن هذا يحمل -كما يقول ابن عبد البر- على أنه كان يعرف الكتاب بعينه، ويعرف ثقة صاحبه، ويعرف أنه من حديثه "جامع بيان العلم 2/ 218 - الكفاية ص 329".
الإمام أحمد حين سئل عن "المناولة"، فقال: ما أدري ما هذا، حتى يعرف المحدث حديثه وما يدريه ما في الكتاب1؟!.
397-
وكما يفهم من هذه الصور، فقد يكون الطالب عالمًا بما في الكتاب الذي تناوله من الشيخ وقد لا يكون عالمًا به.
ولكن أبا حنيفة ومحمدًا -رحمها الله تعالى- قد اشترطا أن يكون المناول -في كل الحالات عالمًا بما في الكتاب الذي يناوله إياه الشيخ، ولم يشترط هذا أبو يوسف -رحمه الله تعالى- ويقول السرخسي: إن هذا قياس على اختلافهم في كتاب القاضي إلى القاضي وكتاب الشهادة، فإن علم الشاهد بما في الكتاب شرط في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، وليس شرطًا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، لصحة أداء الشهادة، ثم يقول السرخسي: والأصح عندي أن المناولة التي لا يعلم الطالب ما فيها لا تصح في قولهم جميعًا؛ لأن أبا يوسف إنما أجاز عدم علم الشاهد، وعدم علم رسول القاضي إلى القاضي بما في الكتاب للضرورة؛ لأن هذه الكتب قد تشتمل على أسرار لا يريد الكاتب والمكتوب إليه أن يقف عليها غيرهما، وذلك المعنى لا يوجد في كتاب الأخبار.
398-
ثم إن الأخبار لها أهمية كبيرة، فهي تحل وتحرم في أمور الدين فأمرها عظيم، وخطبها جسيم، فلا ينبغي أن نحكم بصحة تحملها قبل أن تصير معلومة للمتحمل. أما إذا كان جاهلًا بها فمثله مثل الذي يقرأ عليه المحدث، فلم يسمع ولم يفهم، فإنه في هذه الحالة لا يجوز له أن يروي، والمناولة والإجازة إذا لم يكن ما في الكتاب معلومًا له دون ذلك2.
399-
وإذا كان الحديث ينقل بالمناولة على هذه الصورة من المؤكدات فقد رأى الإمام مالك وجماعة من العلماء أنها بمنزلة السماع من حيث القيمة
…
وقد تقدم قوله في عد المناولة من السماع، وروى عنه ابن أبي أويس مثل هذا3.
1 الكفاية هـ 328.
2 أصول السرخسي 1/ 377 - 378.
3 الإلماع ص 80.
ويقول القاضي عياض: إنها رواية صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين. ومن الذين قالوا: إنها بمنزلة السماع غير مالك الزهري، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومجاهد المكي، والشعبي، وعلقمة وإبراهيم النخعيان وأبو العالية وأبو الزبير، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وهؤلاء من أمصار مختلفة، فبعضهم مدني، وبعضهم كوفي، وبعضهم مصري، ويقول السيوطي: إن هناك جماعات أخرى من الشاميين، كما يذكر جماعات كثيرة من السلف كانت ترى هذا الرأي1.
400-
وحجة القائلين بهذا الرأي أنه -وإن لم يكن السماع موجودًا فالثقة من الشيخ بكتابه الذي يناوله للتلميذ ربما تفوق ثقته بإسماع حديثه له، أو السماع منه؛ لاحتمال الغلة من هذا أو ذاك2.
وقد اعتمد عمال النبي، صلى الله عليه وسلم، على كتبه التي وصلت إليهم بطريق المناولة، ومن هذا أنه بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، ويدفعه عظيم البحرين إلى كسرى3.
ومن هذا أيضًا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتب لعبد الله بن جحش كتابًا، وختم عليه، وناوله إياه، ووجهه في طائفة من أصحابه إلى جهة نخلة، وقال له:"لا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، ثم انظر فيه، وأنفذ لما فيه، ولا تكره أحدًا على النفوذ معك"4.
وذكر العيني وجه الاستدلال بهذا الحديث، وهو أنه لما جاز له الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه، وإن كان النبي، صلى الله عليه وسلم لم يقرئه، ولا هو قرأ عليه، فلولا أنه حجة لم يجب قبوله"5.
1 تدريب الراوي 2/ 46، 47.
2 الإلماع ص 81.
3 معرفة علوم الحديث ص 258.
4 الإلماع ص 81 - 82. وقد علقه البخاري في كتاب العلم 1/ 25 ووصله البيهقي والطبراني بسند حسن. قال السهيلي: احتج به البخاري على صحة المناولة، فكذلك العالم إذا ناول التلميذ كتابًا جاز له أن يروي عنه ما فيه. قال: وهو فقه حسن. "تدريب الراوي 2/ 44".
5 عمدة القاري شرح صحيح البخاري: بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني "855هـ" جـ2 ص 27.
وقد سبق أن ذكرنا أنه قد استعملها السلف من التابعين وتابعي التابعين وأجازوها.
401-
وذهب بعض الأئمة في القرن الثاني إلى غير هذا، فلم يعتبروها مثل السماع والعرض، وإنما هي في درجة أقل منهما، وممن ذهب إلى ذلك سفيان الثوري والأوزاعي وابن المبارك وأبو حنيفة والشافعي والبويطي والمزني وأحمد وإسحاق بن راهوية1.
الأداء عن المناولة:
402-
وإذا كانت هناك خشية من التحريف الذي لا يخشى مثله فبما سمع من المحدث أو قرئ عليه2 - فإنه ينبغي عند رواية أحاديث أخذت بهذه الطريق أن يعبر الراوي بما يدل عليها، فيقول: أعطاني فلان أو دفع إليّ كتابه أو شبيهًا بهذا، ولا يطلق عليها:"حدثنا" ولا "أخبرنا"؛ لأنه ليس هناك تحديث أو إخبار مطلقًا من غير قيد حتى لا تلتبس بالسماع أو القراءة.
403-
وهذا ما كان عليه السلف، رضوان الله عليهم؛ فعن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام قال: دفع إليَّ أبو رافع كتابًا فيه استفتاح الصلاة، قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قام في صلاة كبر، فقال:"وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين"3. وروى إبراهيم بن عرعرة قال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتابًا فقال: هذا ما سمعت من أبي، وكان فيه "عن قتادة عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أحرم في دبر صلاتي العشاء"4.
404-
وممن فعل ذلك في القرن الثاني الهجري حماد بن سلمة الذي
1 تدريب الراوي 2/ 47.
2 معرفة السنن والآثار 1/ 88.
3 هذا جزء من آية كريمة من سورة الأنعام رقم 79.
4 الكفاية هـ ص331.
قال في روايته "أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبيد الله بن أنس، وساق حديث الصدقات بطوله1.
405-
ورأى الأوزاعي أيضًا أن كلمة حدثنا وأخبرنا لا يصح أن تطلق على المناولة لما فيهما من التحديث والإخبار، وهو لم يحدث ولم يخبر، يقول عمرو بن أبي سلمة: قلت للأوزاعي، في المناولة أقول فيها:"حدثنا"؟ فقال: إن كنت حدثتك فقل. فقلت: أقول فيها: أخبرنا؟ قال: لا، قلت: فيكف أقول؟ قال: قل: قال أبو عمرو، وعن أبي عمرو2.
وهذا يفسر عبارة للأوزاعي غير واضحة تقول عند كتاب المناولة: "يعمل به ولا يحدث به" وفي رواية البيهقي" يتدين به ولا يحدث به3، مما جعل السيوطي يقول: إنه مما يعترض به على ذكر الأوزاعي فيمن يجيزون المناولة4.
والحق أنه يريد -كما يقول بعض الباحثين- ألا يطلق التحديث على المناولة بدليل هذه الرواية وغيرها مما يقول فيها عندما دفع إليه كتاب، فنظر فيه، ثم قال لمن دفع إليه الكتاب: اروه عني5.
406-
وفي القرن الثاني أيضًا رأينا غير واحد من الأئمة لا يمانع في أن يطلق عليها الراوي عند الأداء "حدثنا" أو "أخبرنا" ومن هؤلاء مالك ابن أنس وابن وهب وابن القاسم وأشهب بن عبد العزيز، وشعيب بن أبي حمزة وأبو اليمان الحكم بن نافع6.
وقدوتهم في ذلك الحسن البصري رحمه الله تعالى، فقد روى عنه أنه
1 المصدر السابق ص 331 - 332 وانظر كثيرًا من هذا الكتاب في صحيح البخاري 2/ 146، 147.
2 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 436.
3 المصدر السابق ص 437.
4 تدريب الراوي 2/ 48.
5 المحدث الفاصل "المطبوع" ص 437.
6 الكفاية هـ ص 333.