الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هناك المعنى الذي يحتاج إليه من ذكر الإسناد متصلًا -على حين رأى البعض الآخر التمسك بالإسناد المتصل شرطًا في الحديث الصحيح، ومن هنا كان اختلافهم في حجية المرسل.
المرسل والاتجاهات في الأخذ به وتوثيقه وعدم الأخذ به:
معنى المرسل:
503-
وقبل أن نبين اتجاهات العلماء في الأخذ بالمرسل أو عدمه ينبغي أن نعرف المرسل؛ لأن هذ المصطلح قد تغير مفهومه من حين لآخر، واتسعت دائرته في بعض الأوقات وضاقت في أوقات أخرى.
504-
والمرسل في عرف المتقدمين -وخاصة في القرنين الثاني والثالث الهجريين- هو ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه، ومثله المنقطع.
505-
ويبدو هذا واضحًا في كلام الإمام الشافعي ومعاصريه ومن بعدهم من أهل القرن الثالث: يقول الإمام الشافعي: "وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع سعيد بن المسيب"1، وهو يريد بهذا المنقطع المرسل؛ لأنه يتكلم عن المراسيل. وفي أثناء كلامه في الرسالة عن المراسيل، ومتى يحتج بها سيتبين لنا بوضوح أنه يستعمل المرسل بالمعنى الواسع الذي يشتمل على كل منقطع.. وفي كلام علي بن المديني ما يبين أنه يطلق المراسيل على المنقطعات، فقد سئل عن حديث فقال: إسناده مرسل، رواه الحسن ومحمد بن سيرين عن ابن عباس2. فالانقطاع هنا قبل الصحابي.
506-
وإذا قرأنا كتاب المراسيل لابن أبي حاتم الرازي تبين لنا أنهم يطلقون المرسل بهذا المعنى، وقد بنى عليه كتابه، فقال:"باب شرح المراسيل المروية عن النبي وعن أصحابه والتابعين ومن بعدهم"3 سئل أبو زرعة الرازي عن المغيرة بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من أصبح مرضيًا لوالدته
…
" الحديث،
1 المراسيل: ص 13.
2 العلل لعلي بن المديني ص64.
3 المراسيل: ص 13.
فقال أبو زرعة: المغيرة لم يسمع من عطاء، مرسل1
…
ويقول أبو حاتم الرازي: مجاهد بن جبر عن عائشة مرسل2. ويقول الإمام أحمد: عبد الملك ابن أبي بكر عن عمر "في زكاة الدين" مرسل3. وسئل يحيى بن معين، سليمان بن أبي هند عن خباب مرسل؟ " شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة الحر4 "قال: نعم مرسل5، وفي كتاب العلل لابن أبي حاتم نجد أن أبا زرعة أطلق المرسل على ما حذف من سنده أكثر من راو، وهو ما سمي "بالمعضل" أو "البلاغات"، بعد ذلك يقول ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة وحدثنا بهذا الباب في "كتاب النكاح" بطريق معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: "أسلم غيلان بن سلمة وعنده عشر نسوة. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعًا".
وحدثنا أبو زرعة عن عبد العزيز الأويسي، قال: حدثنا مالك عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة: "أمسك أربعًا، وفارق سائرهن". فسمعت أبا زرعة يقول له: مرسل أصح6". ويقول يحيى بن سعيد القطان: مرسلات ابن عيينة شبه الريح، ثم قال: أي والله، وسفيان ابن سعيد -يعني الثوري- قيل له: مرسلات مالك بن أنس؟ قال: هي أحب إليّ7، ومعلوم أن مالكًا وابن عيينة والثوري جميعًا كانوا يرسلون بحذف جزء من السند أو السند كله، كما نشاهد ذلك واضحًا في الموطأ.
وهذا المعنى هو ما استمر عليه عرف الفقهاء والأصوليين بعد ذلك.
507-
وقد رأى معظم المتأخرين بعد القرن الثالث أن المرسل هو ما رواه
1 المصدر السابق ص135.
2 المصدر السابق ص 126.
3 المراسيل ص 87.
4 أخرجه مسلم متصلًا من طريق آخر عن خباب بلفظ: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرمضاء، فلم يشكنا". "بشرح النووي 2/ 266". وانظر الترمذي بتحفة الأحوذي 1/ 483.
5 المراسيل: ص 58.
6 علل الحديث: عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي - المكتبة السلفية بالقاهرة 1343 1/ 400 - 401/ 1199.
7 المراسيل: ص 12.
التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المنقطع هو ما أسقط من سنده راو واحد من دون التابعي، مثل أن يروي مالك بن أنس عن عبد الله بن عمر، أو سفيان الثوري عن جابر بن عبد الله، أو شعبة بن الحجاج عن أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين1، وما أشبه ذلك.
508-
ويبدو أن هذا المعنى للمرسل لم يستقر عليه من بعد القرن الثالث، وإن ادعى الحاكم أن مشايخ الحديث لم يختلفوا فيه، لأن الخطيب -وهو في القرن الخامس- قدم التعريفين على أنهما مستعملان وإن كان أشار إلى أن أكثر الاستعمال للثاني2.
509-
وقد خالف الحاكم ادعاءه بالإجماع هذا حينما قال: إن مشايخ أهل الكوفة يطلقون المرسل على من أرسل الحديث من التابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم من العلماء3 أي بالمعنى الأول. وحينما عرف المرسل مرة أخرى فقال: "هو قول الإمام التابعي أو تابع التابعي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين رسول الله قرن أو قرنان" ولا يذكر سماعه من الذي سمعه منه"4.
510-
ومنشأ هذا الاضطراب عند الحاكم أن المعنى الأول الذي استقر قبل القرن الرابع ظل سائرًا مع المعنى الثاني - كما نص على ذلك الخطيب.
511-
وإذا كنا نبحث عند علماء القرن الثاني فإننا سنأخذ المعنى الذي استقروا عليه وبنوا عليه آراءهم والذي يشمل المرسل والمنقطع والمعضل عند المتأخرين.
مراسيل الصحابة:
512-
والعلماء جميعًا وعلى الأقل في القرن الأول والثاني الهجريين يذهبون إلى أن الأحاديث المرسلة التي يرويها الصحابة الكبار والصغار
1 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد ص 70، 71.
2 الكفاية "هـ" ص 21.
3 معرفة علوم الحديث ص25، 26.
4 المدخل: ص12.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوها منه إنما هي من قبيل الأحاديث
الصحيحة والمحتج بها، فهي والمتصلة سواء، وذلك لأنهم عدول بتعديل الله لهم ومتثبتون في رواياتهم، فلا يخشى أن يحدثوا عن ضعيف أو كذاب.
اللهم من أحضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مميز، كعبيد الله بن عدي ابن الخيار، ومحمد بن أبي بكر، فإنه ولد عام حجة الوداع، فإن مرسله يأخذ حكم مراسيل غير الصحابة.
513-
وقد رأى العلماء أن مرسل الصحابي حجة؛ لأن رواية الصحابة إما أن تكون عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي آخر. والكل مقبول، واحتمال الصحابي الذي أدرك وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن التابعين بعيد جدًّا، بحذف مراسيل الصحابة الذين لم يميزوا إذا اعتبرناهم من الصحابة؛ لأنهم أخذوا عن التابعين بكثرة فاحتمال أن الساقط عندهم غير صحابي قوي، ويحتمل أن يكون غير الصحابي هذا غير ثقة1.
وهناك أكثر من اتجاه في الاحتجاج بمرسل غير الصحابي وقبوله وعدم الاحتجاج به ورفضه في القرن الثاني الهجري، الذي نعنى بدراسته.
الاتجاه الأول:
514-
وهو قبول المرسل، وعلى رأس هذا الاتجاه الإمام مالك رضي الله عنه، فقد ساق في "الموطأ" الكثير من المراسيل التي احتج بها وقبلها ومنها:
1-
ما رواه "عن زيد بن أسلم: أن رجلًا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: "فوق هذا"، قأتي بسوط قد ركب به "ذهبت عقدة طرفه ولان"، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم قال:
"أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من
1 الموطأ "طبعة الشعب" ص 515 - 516. و"يبدي صفحته" أي يظهر جانبه ووجهه والمراد من يظهر ما ستره أفضل".
هذه القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله، فإن من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله".
ومنها:
2-
حديث الشاهد واليمين رواه مالك هكذا: "عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد"1.
515-
يقول الشيخ محمد أبو زهرة -رحمة الله عليه- معقبًا على هذا الحديث: "ونرى السند فيه فقط جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين، والصحابي بيقين ليس فيه، فهو مرسل لم يذكر فيه الصحابي على أقوى الفروض، ومع ذلك أخذ به مالك رضي الله عنه، واعتبره"2.
والحديث فعلًا مرسل كما يقول أستاذنا إلا أن في السند غير جعفر أباه كما هو واضح من نص الحديث في "الموطأ" وما ذكره الشيخ وذكرته هنا.
3-
ومن هذا الحديث الذي يحكي ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل خيبر، يقول مالك:
"عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر، يوم افتتح خيبر: "أقركم فيها ما أقركم الله عز وجل، على أن الثمر بيننا وبينكم" 3.
516-
وقد أكثر الإمام مالك من المراسيل التي سميت فيما بعد بالبلاغات يقول في متعة الطلاق.
"أنه بلغه أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأة له، فمتع بوليدة"4.
وهو في هذا اعتمد في إخباره عن عبد الرحمن بن عوف الصحابي
1 الموطأ ص 449.
2 مالك، حياته وعصره -آراؤه الفقهية: محمد أبو زهرة. الطبعة الثانية- الأنجلو المصرية ص 295.
3 الموطأ ص 438.
4 المصدر السابق ص 354.
رضي الله عنه بلاغ بلغه "ولم يذكر من الذي بلغ، ولم يذكر السند إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه"1.
517-
وليس معنى قبول مالك للمراسيل عدم اهتمامه بالسند وأنه لا قيمة له عنده، أو عدم اهتمامه بتوثيق الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
كلا فهو المتشدد في قبول الأخبار، وقد مضى شيء من تشدده هذا، ولكنه يعتمد علىتوثيق من يأخذ عنه هذا المرسل، وثقته فيه، ومتى حدث ذلك وكان وفق مقاييسه النقدية، فإنه يطمئن إلى حديثه ويثق فيه، "فالتشدد في الاختيار هو سبب الاطمئنان وقبول الإرسال"2.
ومن أجل هذا رأى من بعده أن هذه المراسيل التي دونها في "الموطأ" إنما هي في حقيقتها أحاديث مسندة إلا القليل النادر منها، والذي لا يتجاوز أربعة أحاديث3.
518-
ويقول القرافي مبينًا حجة من يقبلون المراسيل: إن سكوت المرسل مع عدالته، وعلمه أن روايته يترتب عليها شرع عام "ليقتضي ذلك أنه ما سكت عنه إلا وقد جزم بعدالته، فسكوته كإخباره بعدالته، وهو لو زكاه عندنا قبلنا تزكيته وقبلنا روايته، فكذلك سكوته عنه حتى قال بعضهم: إن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق؛ لأن المرسل قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى، وذلك يقتضي وثوقه بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوض أمره للسامح ينظر فيه، ولم يتذممه، فهذه الحالة أضعف من الإرسال"4.
1 مالك، حياته وعصره: ص 265.
2 المصدر السابق ص 296.
3 تدريب الراوي 1/ 212 - 213. وقال السيوطي: وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد - وقد وصل ابن الصلاح الأحاديث الأربعة هذه. "مقدمة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي للموطأ "طبعة الشعب ص 4- 5".
4 شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي "684هـ" تحقيق طه عبد الرءوف سعد. مكتبة الكليات الأزهرية - دار الفكر. القاهرة - بيروت. الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م. ص 379 - 380.
519-
ونقل السيوطي عن ابن جرير أن التابعين قد أجمعوا بأسرهم على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم على رأس المائتين1 -وإذا كان ابن جرير قد انتقد في هذا، لأن هناك من لم يقبل المرسل في القرنين الأول والثاني، كسعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري2- فإنه يبقى مسلمًا به أن الأكثرية قد قبلت المرسل وعملت به في أواخر القرن الأول والنصف الأول من الثاني، ولم يكن مالك شاذًّا في هذا.
520-
ولكن مالكًا قد رفض بعض المراسيل مما جعل البعض يعيد، من الذين يرفضون المرسل، ومن هذا البعض الإمام الحاكم النيسابوري3، ومما جعل البعض -من ناحية أخرى- يهاجمه ويصفه بالتناقض؛ لأنه يأخذ بالمرسل ثم يترك بعض المراسيل، كابن حزم الذي يقول: إن مالكًا ترك حديث الوضوء من الضحك في الصلاة مع أنه يأخذ بالمراسيل4.
521-
والحق أن الإمام مالكًا قبل المرسل بشروط خاصة، قد أشرنا إليها وبها يطمئن إلى أن هذا المرسل مثل المسند، ولكن بدون هذه الشروط يرفض المرسل كما يرفض المسند في بعض الأحيان على الرغم من اتصاله، وهو لا يرفضه هذا وذاك لأنه مرسل أو مسند؛ بل لأنه لا تتوافر فيه الثقة في رواية أو مرسله.
وابن حزم متجن في هذا الهجوم؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يقول: إنه ما دام العلماء يأخذون بالمسانيد فينبغي أن يأخذوا بها جميعًا، وكذلك الأمر هنا؛ لأن هناك من المقاييس الأخرى التي يجب أن تراعى في الخبر مرسلًا أو غير مرسل.
1 تدريب الراوي 1/ 198.
2 فتح المغيث 1/ 136.
3 المدخل: ص12.
4 الإحكام 2/ 136 - 137.
5 انظر اختلاف الأحاديث والآثار في هذا الموضوع في نصب الراية 1/ 47 - 54.
522-
وربما رفض مالك "حديث القهقهة" لأنه كان موضع شك من الفقهاء والمحدثين؛ لأن مداره كان على أبي العالية؛ قام خراساني إلى عبد الرحمن بن مهدي -وكان أعلم الناس بحديث القهقهة- فقال: يا أبا سعيد، حديث رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من ضحك في الصلاة فليعد الوضوء والصلاة". فقال عبد الرحمن: هذا لم يروه إلا حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له: من أين قلت؟ قال: إذا أتيت الصراف بدينار، فقال لك: هو بهرج تقدر أن تقول له: من أين قلت؟.. قلت: نفسره لنا "قال: إن هذا الحديث لم يروه إلا حفصة بنت سيرين، عن أبي العالية، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فسمعه هشام بن حسام من حفصة وكتان في الدرا معها، فحدث به هشام الحسن، فحدث به الحسن، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فمن أين سمعها الزهري؟ قال: كان سليمان بن أرقم يختلف إلى الحسن، وإلى الزهري فسمعه من الحسن، فذاكر به الزهري، فقال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله1.
523-
أرأيت كيف شاع الاضطراب في رواية هذا الحديث وخفيت ظروف روايته وملابساتها؟!.. هذا بالإضافة إلى أن الزهري كان يقول: "لا وضوء في القهقهة". فقال الدارقطني: فلو كان هذا صحيحًا لما أفتى بخلافه2.
وقد تكلم الناس في أبي العالية وفي مراسيله، قال ابن سيرين: لا تأخذوا بمراسيل الحسن، ولا أبي العالية، وما حدثتموني لا تحدثوني عن رجلين من أهل البصرة: عن أبي العالية والحسن، فإنهما كانا لا يباليان عمن أخذا حديثهما.. وقال مرة أخرى: أربعة يصدقون من حدثهم، فلا يبالون ممن يسمعون: الحسن وأبو العالية وحميد بن هلال، وأنس بن سيرين3.
1 المحدث الفاصل ص 312 من المطبوع.
2 نصب الراية 1/ 48.
3 المصدر السابق 1/ 51.
فلكل هذا وغيره يرفض الإمام مالك بعض المراسيل، كما يترك بعض المسانيد، شأنه في ذلك شأن المستوثقين مما يحملون، المحتاطين فيما يأخذون.
524-
وقد أخذ ابن حزم على مالك أيضًا أنه ترك حديثًا مرسلًا رواه عن عروة بن الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه جالسًا والناس قيام"1.
525-
والحديث كما رواه الإمام مالك في "الموطأ": "عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج في مرضه، فأتى، فوجد أبا بكر، وهو قائم يصلي بالناس، فاستأجر أبو بكر، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن كما أنت: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر"2.
526-
والحديث مرسل -كما يقول ابن حزم-.. وعلى احتمال أن مالكًا لم يأخذ به، فعنده من الأسباب لذلك غير كونه مرسلًا.
أولًا: أن عنده من الأحاديث المتصلة ما يتعارض مع هذا الحديث، وقد ذكرها في "الموطأ" قبل رواية هذا الحديث المرسل.
الأول: رواه مالك عن ابن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا فصرع، فجحش شقة الأيمن "خدش أو فوق الخدش" فصلى صلاة من الصلوات، وهو قاعد، وصلينا وراءه قعودًا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين" 3.
1 الإحكام 2/ 137.
2 الموطأ ص 104 "طبعة الشعب".
3 الموطأ: ص 103 - 104 "طبعة الشعب".
والثاني: رواه مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: صلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو شاك، فصلى جالسًا، وصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن أجلسوا، فلما انصرف قال:"إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا"1.
وهذا السند هو نفسه سند الحديث
المرسل إلا أنه وصل بعائشة وربما كان هذا هو مصدر شك مالك في الحديث المرسل الذي تركه.
ثانيًا: أن هناك من الصحابة من أفتى بجلوس المأمومين خلف الإمام الجالس، كجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس ابن فهد، ويقول ابن حبان: إنه "لم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع، فكان إجماعًا، والإجماع عندنا إجماع الصحابة وقد أفتى به من التابعين: جابر بن زيد، ولم يرو عن غيره من التابعين خلافه بإسناد صحيح ولا واه، فكان إجماعًا من التابعين أيضًا، وأول من أبطل ذلك في الأمة المغيرة بن مقسم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة، ثم عنه أصحابه2.
527-
وإذا كنا -مع الأستاذ أحمد شاكر، عليه رحمة الله -لا نرضى من ابن حبان ادعاءه الإجماع؛ لأنه لا دليل عليه، إذ السكوت عن الشيء ليس معناه الأخذ به، "ولا ينسب إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل" -كما قال الإمام الشافعي3- فإننا نرى أنه ليس من شك في أن الإمام مالكًا قد بلغه عمل بعض الصحابة وفتواهم في هذا الأمر، فأيد به الأحاديث المتصلة وترك من أجلها الحديث المرسل.
528-
والحق أن قبول مالك للمراسيل على هذا النحو كان استجابة لعصره الذي كانت تكثر فيه المراسيل؛ لأن التابعين قد سمع كل واحد منهم
1 الموطأ: ص 103 - 104 "طبعة الشعب".
2 نصب الراية: 2/ 49.
3 تحقيق الرسالة ص257.
العديد من الصحابة، ويجد مشقة في إحصاء من سمع منهم هذا الحديث أو ذاك، روي عن الحسن البصري أنه كان يقول:"إذا اجتمع أربعة من الصحابة على حديث أرسلته إرسالًا" وروي عنه أيضًا قوله: متى قلت لكم: حدثني فلان فهو حديثه لا غير، ومتى قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد سمعته من سبعين أو أكثر، كما روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم: إذا رويت لي حديثًا عن عبد الله فأسنده لي، فقال: إذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي روى لي ذلك، وإذا قلت: قال عبد الله، فقد رواه لي غير واحد. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنك تحدثنا فتقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كنت تسنده لنا إلى من حدثك؟
…
فقال الحسن: أيها الرجل، ما كذبنا، ولا كذبنا، ولقد غزونا غزوة إلى خراسان، ومعنا فيها ثلاثمائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"1.
529-
ومهما يكن من شيء فقد اجتهد الإمام مالك في هذا العصر على أن يحمل الكثير من الأحاديث المسندة على الرغم من هذه الظروف ولم يحمل من المرسل إلا القليل بالنسبة لغيره، يقول أحمد بن صالح:"ثلث حديث مالك مسند، وليست هذه المنزلة لأحد من نظرائه"2.
الاتجاه الثاني:
530-
وهو قريب من الاتجاه الأول، ويكاد يتطابق معه، مع امتداد له آخر بقدر امتداد مدرسة الأحناف -صاحبة هذا الاتجاه- التي قام رجال فيها غير أبي حنيفة ببنائها
بعد زمن مالك وأبي حنيفة، ومن هنا نشأ هذا الامتداد الذي تغيرت صورته عما رآه مالك في حجية المراسيل.
531-
يقبل الأحناف مراسيل الصحابة -كغيرهم- والتابعين وتابعيهم، أو مراسيل أهل القرون الثلاثة الأولى -كما يعبر مؤلفوا أصولهم3.
1 كشف الأسرار 3/ 724 -تدريب الراوي 2/ 204- قواعد التحديث ص142 - مالك: ص 296.
2 ترتيب المدارك 1/ 135.
3 أصول البزدوي وشرحه كشف الأسرار 3/ 723.
وهم في هذا يتطابق اتجاههم مع اتجاه مالك وأكثر التابعين وتابعي التابعين، لأنهم كانوا يواجهون هذه المراسيل ويقولون بحجيتها
…
وامتدت هذه المدرسة إلى مشارف القرن الثالث فكان لهم رأي فيما بعد أهل القرون الثلاثة هذه، وهذا ما يميز اتجاه هذه المدرسة عن الاتجاه الأول، ومن يدري لو كان الله قد قيض لمدرسة مالك نفس هذه القوة إلى ذلك الحين؟، ربما كانوا قد ذهبوا إلى ما ذهبت إليه هذه المدرسة.
532-
ويبدو أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا قد قالوا بما قال به مالك، بدليل أن محمدًا مثلًا يعتمد على ما أرسله، وهو من أهل القرن الرابع1 "189 هـ" وفي "الموطأ" الذي رواه عن مالك يقول:"بلغنا عن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه أربع صلوات ثم أفاق فقضى صلاته"2 وأخذ بهذا، ويقول:"بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السيرين جميعًا: "عليكم بالسكينة" حين أفاض من عرفه، وحين أفاض من المزدلفة"3.
والمراد بالسيرين: سير العنق الذي هو بين الإبطاء، والإسراع، والنص وهو أرفع من العنق.
ويقول في هذا الباب: "بلغنا أنه قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيضاع الإبل وإيجاف الخيل" فبهذا نأخذ4.
533-
ووضع أساس تحديد القرون الثلاثة -على ما أعلم- عيسى بن أبان الذي عاش جزءًا من القرن الثالث الهجري "220 هـ" ورأى أن
1 أصول السرخسي 1/ 363. والقرن هنا معناه الجيل.
2 موطأ الإمام مالك "93 هـ - 179 هـ" رواية محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة 1387هـ - 1967م الطبعة الثانية ص100.
3 المصدر السابق ص 165.
4 المصد السابق ص 164. ويقال: وضع البعير يضع وضعًا، وأوضعه راكبه إيضاعًا إذا حمله على سرعة السير "النهاية" وإيجاف الخيل أي إسراعها من الوجيف وهو سرعة السير ومنه الآية الكريمة: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} "الحشر 26" أي: فما أجريتم في تحصيله.
المجتمع قد تغير ولم يكن كما كان عليه أهل القرون الثلاثة الأولى، إلا أهل العلم الذين حافظوا على دينهم واهتمامهم بالحديث، ولهذا قال: تقبل مراسيل أهل القرون الثلاثة وأهل العلم من غيرهم.
ويقول السرخسي: "وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول: من اشتهر في الناس بحمل العلم منه تقبل روايته، مرسلًا ومسندًا، وإنما يعني به محمد الحسن رحمه الله وأمثاله من المشهورين بالعلم، ومن لم يشتهر بحمل الناس العلم منه مطلقًا وإنما اشتهر بالرواية عنه، فإن مسنده يكون حجة ومرسله يكون موقوفًا إلى أن يعرض على من اشتهر بحمل العلم عنه"، وضع عيسى ابن أبان بهذا الأساس في أن هناك من المراسيل من لا تقبل.
ثم جاء أبو بكر الرازي "370 هـ" فحدد القرون الثلاثة بقبول مرسلها، وما بعدها لا يقبل إلا عمن هو عدل ثقة، يقول السرخسي: وأصح الأقاويل في هذا ما قال أبو بكر الرازي رضي الله عنه أن مرسل من كان من القرون الثلاثة حجة ما لم تعرف منه الرواية مطلقًا عمن ليس بعدل ثقة، ومرسل من كان بعدهم لا يكون حجة، إلا إذا اشتهر مرسله بأنه لا يروى إلا عمن هو عدل ثقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد للقرون الثلاثة بالصدق والخيرية، فكانت عدالتهم ثابتة بتلك الشهادة ما لم يتبين خلافها.
534-
وهذا لا يمنع أن بعض الأحناف المتقدمين إلى حد ما مثل أبي الحسن الكرخي "340 هـ" يظلون على قبول المرسل مثل المسند دون قيد زمني "فمن تقبل روايته مسندًا تقبل روايته مرسلًا" فهو "لا يفرق بين مراسيل أهل الأعصار"1.
535-
وحجة الأحناف:
1-
أن الصحابة رضوان الله عليهم قد اتفقوا على قبول المرسل، فقبلوا روايات ابن عباس رضي الله عنهما مع أنه لم يسمع من النبي صلى
1 أصول السرخسي 1/ 263.
الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه، ويقال: بضعة عشر حديثًا، فقد أرسل الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع منه في كثير من الأحاديث، ومما من ذلك "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر". وإنما سمع ذلك من أخيه الفضل.. والنعمان ابن بشير ما سمع إلا حديثًا واحدًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو:"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر جسده، وإذا فسدت فسد سائر جسده ألا وهي القلب". ثم كثرت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وأبو هريرة رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من أصبح جنبًا فلا صوم له" ولما أنكرت ذلك عائشة، رضي الله عنها، قال: هي أعلم، حدثني به الفضل بن عباس رضي الله عنهما، فقد أرسل الرواية عن النبي، صلى الله عليه وسلم من غير سماع منه1. وروى ابن عمر رضي الله عنهما:"من صلى على جنازة فله قيراط" الحديث. ثم أسنده إلى أبي هريرة.
وقال البراء بن عازب، رضي الله عنه: ما كل ما نحدث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثنا عنه، لكنا لا نكذب.
"ولما أرسل هؤلاء، وقبل والصحابة مراسيلهم، ولم يرو عن أحد منهم إنكار ذلك، صار ذلك إجماعًا منهم على جواز ذلك ووجوب قبوله"2.
2-
وإذا انتقلنا إلى التابعين وجدنا الحسن وسعيد بن المسيب، رضي الله عنهما وغيرهما من أئمة التابعين كانوا كثيرًا ما يروون مرسلًا. وقد كان إعلانهم عن أنهم يرسلون الحديث الواحد عن أكثر من صحابي سببًا في قول عيسى بن أبان: المرسل أقوى من المسند، "فإن من اشتهر عنده حديث بأن سمعه بطرق طوى الإسناد لوضوح الطريق عنده، وقطع الشهادة بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"3.
1 أصول السرخسي 1/ 60 - 61.
2 كشف الأسرار 3/ 724.
3 أصول السرخسي 1/ 361.
وقد يقال: إن قبول مراسيل الصحابة إنما هو لثبوت عدالتهم، وهذا غير موجود في غيرهم: لوجود الكذب في عصر التابعين وتابعيهم.
ويجيب الأحناف بأنه لا فرق بين صحابي يرسل وتابعي يرسل؛ لأن عدالتهم ثبتت بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم للقرون الثلاثة، وخاصة إذا كان الإرسال من وجوه التابعين، مثل عطاء بن رباح من أهل مكة، وسعيد بن المسيب من أهل المدينة، ومثل الشعبي والنخعي من أهل الكوفة، وأبي العالية والحسن من أهل البصرة، ومكحول من أهل الشام، فإنهم كانوا يرسلون ولا يظن بهم إلا الصدق1.
ولا يقال: إن هؤلاء الكبار ربما سمعوا من غير العدول، ولم يبينوا حالهم - لأنه لا يظن بهم فعل هذا، فإن من يستجيز الرواية ممن يعرفه غير عدل من غير بيان لا تقبل روايته مرسلًا ولا مسندًا2.
كما لا يقال -أيضًا- إنهم رأوا أن الإسناد لا تقوم به الحجة فحذفوه لأن القول بهذا معناه أنهم كتموا موضع الحجة بترك الإسناد مع علمهم أن الحجة لا تقوم بدونه.
"فتعيين أنهم اعتقدوا أن المرسل حجة كالمسند، وكفى باتفاقهم حجة"3.
3-
أن التابعين أرسلوا وملئوا كتبهم بالمراسيل، ولم يروا أن أحدًا من الأمة أنكر عليهم ذلك، فكان ذلك إجماعًا منهم على قبوله"4.
4-
على أننا إذا عدلنا الراوي، ونفينا عنه الكذب في كلام الناس، فمن غير المعقول أن يكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويحدث عنه
1 كشف الأسرار 3/ 724.
2 أصول السرخسي 1/ 361.
3 المصدر السابق 1/ 361 - 362.
4 كشف الأسرار 3/ 723.
بإسناد هو منقطع "والمعتاد من الأمر أن العدل إذا وضح له الطريق واستبان له الإسناد طوى الأمر وعزم عليه، فقال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يتضح له الأمر نسبه إلى من سمعه؛ لتحمله ما تحمل عنه1".
5-
أن كثيرًا من السنن روي مرسلًا، فترك هذه المراسيل تعطيل لكثير من السنن التي يحتاج إليها الفقهاء لبيان الأحكام الشرعية بأدلة من السنة2.
536-
وكان من الطبيعي أن يذهب الأحناف -كغيرهم- إلى أن المسند أرجح من المرسل؛ لتحقيق المعرفة برواة المسند وعدالتهم، دون رواة المرسل "ولا شك أن رواية من عرفت عدالته أولى ممن لا تعرف عدالته ولا نفسه"3.
537-
ولم يشذ منهم إلا عيسى بن أبان ومن تبعه من بعض المتأخرين، قالوا بأن المرسل أقوى من المسند؛ لأن المرسل قد سمعه بطرق كثيرة -كما سبق أن ذكرنا- ولأن المرسل ينطوي على حكم مرسله بصحة الحديث بخلاف ما إذا أسند فإنه لم يعزم الأمر، وإنما تركه لك، وأحالك عليه؛ لتتبين ما إذا كان صحيحًا أو غير صحيح4.
538-
لكنه ليس مثل "المشهور" من الأحاديث الذي تجوز به الزيادة على الكتاب -كما سبق أن ذكرنا5- بل هو في مرتبة أدنى منه؛ لأن هذه الميزة التي ثبتت للمراسيل، وهي كونها أعلى من المسند -إنما ثبتت لها اجتهادًا ورأيًا، فتكون مثل قوة ثبتت بالقياس، وقوة المشهور ثبتت بالتنصيص، وما ثبت بالتنصيص فوق ما ثبت بالرأي، فلا يكون المرسل مثل المشهور6.
1 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 724.
2 المصدر السابق 3/ 724.
3 كشف الأسرار 3/ 725.
4 أصول البزدوي بشرح كشف الأسرار 3/ 724.
5 ص 116 من هذا البحث.
6 البزدوي وكشف الأسرار معًا 3/ 725.
الاتجاه الثالث:
539-
هذا الاتجاه وقف موقفًا وسطًا، فلم يقبل كل المراسيل الصحيحة كما رأى الاتجاه الأول والثاني تقريبًا، ولم يرفض كل المراسيل كما رأى الاتجاه الرابع والأخير الذي سنتعرف عليه بعد قليل -إن شاء الله عز وجل.
540-
وهو يرى أن هناك مراسيل جديرة بالقبول؛ لأن هناك من الدلائل والشواهد على صحتها، وأن هناك مراسيل ينبغي رفضها أو التوقف في قبولها؛ لعدم وجود هذه الدلائل التي تدعو إلى الاطمئنان إليها، ويكون قبولها نوعًا من المجازفة؛ لأن رواتها تأكد فعلًا أنهم يروون عن الضعاف. وعلى هذا فقد قبل المراسيل، التي تتوافر فيها شروط ميعنة، ورفض غيرها.
541-
وعلى رأس هذا الاتجاه، بل وصانعه -الإمام الشافعي، رضي الله عنه. وهو يرى أن المرسل ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: مرسل كبار التابعين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثرت مشاهدتهم لهم.
ثانيهما: مرسل غيرهم أو مرسل من بعد كبار التابعين، كما يعبر الإمام الشافعي.
542-
أما القسم الأول "مرسل كبار التابعين" فإنه يقبل في حالات منها:
1-
أن يشركه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن يوافقوه في معنى ما روى فقط، فإن وجد ذلك كان دلالة على أن من أخذ عنه المرسل قد حفظه وضبطه وبالتالي فهو صحيح.
543-
ويقول ابن الصلاح إن هذا هو سبب احتجاج الشافعي رضي الله عنه، بكثير من مرسلات سعيد بن المسيب، رضي الله عنه، فإنها وجدت
مسانيد من وجو أخر، فكانت مأخوذة عن أبي هريرة؛ لما بينهما من الصلة والتصاهر. وهذا لا يمنع أن هناك مرسلات لابن المسيب لم يقبلها لعدم انضمام إليها ما يقويها. ولا يختص ذلك بإرسال ابن المسيب، فهناك مراسيل لغيره قبلها1.
544-
وإذا كان البعض قد أنكر أن يكون الشافعي قد أخذ بمراسيل ابن المسيب وإنما هو أخذ بالمسانيد التي أتت من طرق أخرى؛ فإن ابن الصلاح قد رد عليه بقوله: إن بالمسند تتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال، حتى يحكم له مع إرساله بأنه صحيح تقوم به الحجة وبالتالي يحكم على المتن بأنه صحيح، وهذا على اعتبار أن الإسنادين إذا اختلفا اختلف الحديثان، ويصير حينئذ المرسل والمسند دليلين لمعنى واحد يرجح على معنى آخر معارض إذا كان له طريق واحد مسند2.
على أنه إذا كان المسند حسنًا فإنه يرتقي بالمرسل عنه هذه المرتبة. وهذا كله -بطبيعة الحال- إذا كان المسند بمفرده صحيحًا صالحًا للحجة، أما إذا كان مما يفتقر إلى اعتضاد؛ لأن فيه ضعفًا، فإنه يقوي المرسل والمرسل يقويه، ويصير كل منهما بالآخر حجة3.
544-
وإذا لم توجد هذه الحالة وانفرد الراوي بإرسال حديث لم يسنده غيره فإن مما يقوي مرسله هذا ويجعله مقبولًا هو:
2-
أن يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه وبرجال غير رجاله.
وهذه الحالة -في رأي الإمام الشافعي- أضعف من الحالة الأولى.
ويفيد كل المراسلين الآخر، ويقوي الظن بوجود أصل لكل منهما، وينقل كل منهما من مرتبة الضعف إلى مرتبة الحسن لغيره؛ لأن ضعف كل منهما
1 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد ص 73، تدريب الراوي 1/ 200 - 201.
2 المصدر السابق. ص 73.
3 فتح المغيث 1/ 143.
إنما هو من جهة خفة ضبط راويه وحفظه وكثرة غلطه، لا من جهة اتهامهما بالكذب1.
545-
وإن لم يوجد ذلك فإنه يقبل إذا:
3-
وافقه ما يروى عن بعض صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم من أقوالهم ومن الموقوفات عليهم، لأنه إذا وجد ذلك كان دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح - إن شاء الله تعالى.
4-
أو يوافقه عوام من أهل العلم يفتون بمثل ما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
546-
هذه هي الحالات التي ذكرها الإمام الشافعي في الرسالة1.
ولا شك أن هناك حالات أخرى عنده لم يذكرها هنا، يتقوى بها المرسل، وتبعث على درجة الاطمئنان به، ومنها ما ذكره السخاوي في فتح المغيث وهي:
5-
أن يكون المرسل قد خبر علم من أرسل عنه وعرفه؛ لأنه في هذه الحالة يمكنه أن يدرك حديثه دون تحريف من غيره، قال الشافعي رحمه الله في حديث لطاوس عن معاذ: "طاوس لم يلق معاذًا، لكنه عالم بأمر معاذ، وإن لم يلقه، لكثرة من لقيه ممن أخذ عن معاذ، وهذا لا أعلم من أحد فيه خلافًا.
547-
ومثل هذا تمامًا ما ذهب إليه الطحاوي في الاحتجاج بحديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه سئل: "كان عبد الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا". قال الطحاوي: فإن قيل: هذا منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا، يقال: نحن لم نحتج به من هذه الجهة، إنما احتججنا به لأن مثل أبي عبيدة على تقدمه في العلم وموضعه من عبد الله،
1 الرسالة ص 461 - 463. وانظر حالات أخرى في كتاب الحديث المرسل حجيته وأثره في الفقه الإسلامي: محمد حسن هيتو. دار الفكر بيروت لبنان ص 43، 52.
وخلطته بخاصته من بعده، ولا يخفى عليه مثل هذا من أموره، فجعلنا قوله حجة لهذا1.
548-
وقد رأى بعضهم أن مما يسند به المرسل فعل صحابي أو انتشار أو عمل أهل العصر أو قياس معتبر، لكننا لم نعثر على نص للشافعي يقول بذلك، وإن كان بعضه يمكن أن يفهم من كلامه، فرأى الصحابي مثل عمله ورأيه مما يعضد به المرسل كما نص على ذلك في الرسالة، وعمل أهل العصر مثل فتوى عوام من أهل العلم إلا أن إرجاع بعضه إلى كلام الشافعي فيه تكلف، كما يقول السخاوي2.
549-
وقد انتقد القاضي أبو يعلى في كتابه العدة اتجاه الشافعي هذا في قبول المرسل في هذه الحالات، وقال: إنه بهذا لا يقبل المرسل لذاته، وإنما يقبله لأمور انضمت إليه، فكأنه في رأيه عندما يعمل بالمرسل إنما يعمل بالأمور التي انضمت إليه معه3.
ونقول: إنه ليس الأمر كذلك؛ لأن هذه الأمور تزيل الشك في المرسل فيعمل به هو4.
550-
وفي الحالات التي يقبل فيها المرسل جميعًا لا بد أن يتوافر في المرسل شرطان، وإلا أضر إرساله بحديثه، ولا يسع أحدًا قبول مرسله:
الشرط الأول:
أن يكون ممن يعرف من يرسل عنه، فليس مجهولًا عنده ولا عند أهل العلم، وألا يكون ممن يروي عن الضعاف المرغوب عن الرواية عنهم، يقول
1 فتح المغيث 1/ 134.
2 المصدر السابق 1/ 142.
3 العدة في أصول الفقه: للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء "380 - 408هـ" نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية. ص 138 - 139.
4 وانظر في مناقشة أبي يعلى وغيره في اعتراضات أخرى كتاب الحديث المرسل حجيته وأثره ص 43 - 51.
الإمام الشافعي معبرًا عن هذا: "أن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولًا، ولا مرغوبًا عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه.
الشرط الثاني:
ألا يخالف الحفاظ إذا شاركهم في معنى حديث يرويه وألا يكون ممن يزيد عليهم في ذلك، أما إذا خالفهم بالنقص فإن هذا يكون دلالة على حفظه وضبطه وتحريه؛ يقول الإمام الشافعي، معبرًا عن هذا الشرط: "ويكون إذا شرك أحدًا من الحفاظ في حديثه لم يخالفه فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه1.
551-
ولم يكن الشافعي يقول في قبوله المرسل على هذا النحو كلامًا نظريًّا فقط وإنما طبق ما قاله وإذا كنا لا نستطيع أن نقرأ فقهه كله فنستخرج منه الأمثلة العديدة فإننا نكتفي بإيراد شيء منها يدل على أن الشافعي استفاد من المراسيل على النحو الذي رسمه.
552-
قال الشافعي في مختصر المزني في باب "بيع اللحم بالحيوان: "أخبرنا مالك: عن زيد بن أسلم، عن ابن المسيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع اللحم بالحيوان"
…
وعن ابن عباس: "أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني جزءًا بهذه العناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا"
…
وكان القاسم بن محمد، وابن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلًا وآجلًا؛ يعظمون ذلك، ولا يرخصون فيه. قال الشافعي: وبهذا نأخذ، كان اللحم مختلفًا أو غير مختلف، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، خالف في ذلك أبا بكر. وإرسال ابن المسيب عندنا حسن"2.
1 الرسالة ص 463.
2 مختصر المزني: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني "264هـ" مطبوع على هامش كتاب الأم، طبعة دار الشعب بالقاهرة 2/ 157 - 158.
553-
وواضح أن الشافعي رضي الله عنه أخذ بهذا المرسل لأنه عضده قول أبي بكر وفتوى بعض التابعين.
554-
ويقول السيوطي: إن هذا الحديث الذي أورده الشافعي من مراسيل سعيد بن المسيب يصلح مثالًا لأقسام المرسل المقبول، فإنه عضده قول صحابي، وأفتى أكثر أهل العلم بمقتضاه، وله شاهد مرسل آخر أرسله من أخذ العلم عن غير رجال الأول، وشاهد آخر مسند، فقد روى البيهقي في المدخل من طريق الشافعي عن مسلم بن خالد، عن ابن جريح عن القاسم ابن أبي بزة قال:"قدمت المدينة، فوجدت جزورًا قد جزرت، فجزئت أربعة أجزاء، كل جزء منها بعناق، فأردت أن أبتاع منها جزءًا، فقال لي الرجل من أهل المدينة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي بميت، فسألت عن ذلك الرجل، فأخبرت عنه خيرًا".
قال البيهقي: فهذا حديث أرسله سعيد بن المسيب، ورواه القاسم ابن أبي بزة عن رجل من أهل المدينة مرسلًا. والظاهر أنه غير سعيد؛ فإنه أشهر من ألا يعرفه القاسم ابن أبي بزة المكي حتى يسأل عنه
…
قال: وقد رويناه من حديث الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الحفاظ اختلفوا في سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة1، فمنهم من أثبته، فيكون مثالًا لما له شاهد سند، ومنهم من لم يثبته فيكون أيضًا مرسلًا انضم إلى مرسل2 سعيد.
555-
وفي "باب زكاة مال اليتيم" من "الأم" رأى الشافعي أن الزكاة تكون في مال اليتيم كما في مال البالغ، وكان دليله في ذلك حديث
مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ابتغوا في مال اليتيم لا تستهلكه الصدقة أو لا تذهبه الصدقة".. وما عضد ذلك المرسل من فعل لعائشة وعلي وقول لعمر رضي الله عنهم3.
1 انظر الاختلاف في هذا السماع في كتاب العلل لعلي بن المديني ص55 - 57.
2 تدريب الراوي 1/ 201.
3 الأم 2/ 25.
556-
ثم بين الشافعي أنه إذا كانت توجد بعض الدلائل التي تجعلنا نقبل المرسل فليس معناه أنه مع المتصل المسند في درجة واحدة، ولكن الأخير أقوى منه وذلك لأن احتمال كون المرسل قد أرسل عمن يرغب في الرواية عنه لضعفه قائم، وكذلك إن وافقه مرسل، لاحتمال أن يكون مخرجهما واحد، من حيث لو سمى لم يقبل، وأيضًا إذا كان قول بعض الصحابة يقوي المرسل، فإنه من المحتمل أن يكون المرسل قد غلط بإرساله هذا الحديث حين سمع قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من الفقهاء1.
557-
وعلى هذا فاحتمال الخطأ والغلط قائم في جميع الحالات الأمر الذي لا يجعل المرسل بحال يرقى إلى مستوى الحديث المتصل الصحيح الذي انكشف فيه جميع رواته وقويت صلته برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن أجل هذا لم نجد سنة ثابتة من جهة الاتصال خالفها الناس كلهم؛ ولكننا وجدنا ذلك في بعض المرسل كما في حديث محمد بن المنكدر الذي سنذكره قريبًا -إن شاء الله، فلم يقل به أحد من أهل الفقه كلهم2.
558-
أما القسم الثاني، وهو مرسل "من بعد كبار التابعين"، من صغارهم وتابعيهم، وتابعي التابعين -فيقول الشافعي، رضي الله عنه: إنه لا يعلم واحدًا منهم يقبل مرسله، لعدة أمور:
1-
أنهم أشد تجوزًا فيمن يروون عنه، فلا يتحرون أن يروون عن الثقات فقط، وإنما يأخذون منهم ومن غيرهم.
2-
وهذا مترتب على الأول، وهو أنه قد وجدت الدلائل فعلًا على ضعف ما أرسلوه.
3-
استطالة السند وكثرة الإحالة في الأخبار وإذا كثرت الإحالة فيها كانت أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه، فتتسع دائرة الاحتمال السابق، وهو الأخذ عن الضعفاء.
1 الرسالة ص464، 465.
2 المصدر السابق ص 467، 471.
559-
ورأي الشافعي هذا فيمن بعد كبار التابعين إنما هو ناشئ عن الخبرة بهم وبما يرسلونه، فهو قد رأى بعضهم ينزع إلى جهة واحدة ومنبع واحد من منابع العلم ثم يترك منابع أخرى ربما كانت تعطي مثلها أو أثرى منها، وهذا البعض من أهل التقصير في العلم، ومن الواجب علينا أن نبحث عما قصر فيه ونستفيد منه، يقول الإمام الشافعي معبرًا عن هذا:"رأيت الرجل يقنع بيسير العلم، ويريد إلا أن يكون مستفيدًا إلا من جهة1 قد يتركه من مثلها أو أرجح، فيكون من أهل التقصير في العلم".
ورأى أن بعضهم كان على العكس من ذلك؛ فقد رغب في أن يتوسع في العلم فيقبل عن كل ضرب، ومنه ما كان بنبغي له أن يربأ بنفسه عنه توثيقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريًا في أخبار دينه، يقول الإمام الشافعي:"ورأيت من عاب هذه السبيل -يعني سبيل المقصرين- ورغب في التوسع في العلم، من دعاه ذلك إلى القبول عمن لو أمسك عن القبول عنه كان خيرًا له".
ورأى الشافعي أيضًا منهم أن الغفلة قد تدخل على أكثرهم فلا يتحرون أهل الصدق والضبط فيما يأخذون، وقد تؤديهم غفلتهم إلى أن يحملوا الغث ويتركوا السمين، يقول:"ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم، فيقبل عمن يرد مثله وخيرًا منه". وهذا الصنف المغفل من أهل العلم قد يقبل الأحاديث من الضعفاء، لأنها توافق رأيًا ارتآه، أو قولًا يقول به. وقد يرد الأحاديث التي يرويها الثقات، لأنها تخالف رأيه وقولًا أخذ به، أي: أنه يحكم رأيه في الأحاديث، فيقبل منها ما يوافقه، ولا شك في أن هذا فيه من الخطورة ما فيه على عملية توثيق الأحاديث وتحريرها؛ لأن أي إنسان قد يخطئ في رأيه وقد يصيب فيخطئ في الحكم على الأحاديث تبعًا لذلك أو يصيب، يقول الشافعي: "ويدخل عليه، فيقبل عمن يعرف
1 كذا في النص المحقق وقد علق الشيخ شاهر على هذه العبارة بقوله: "أو يريد ألا يكون" وهو يخالف للأصل وألف "أو" مزادة في الأصل بخط واضح -والحق أن التعبير يستقيم بهذه العبارة التي في سائر النسخ.
ضعفه، إذا وافق قولًا يقوله: ويرد حديث الثقة إذا خالف قولًا يقوله"1.
560-
ثم ضرب لنا الإمام الشافعي مثلًا من المراسيل التي رفضها محاولًا أن يطبق بعض ما قاله في مرسل: "من بعد كبار التابعين": وهو ما أخبر به سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر "أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مالًا وعيالًا، وإن لأبي مالًا وعيالًا، وإنه يريد أن يأخذ مالي، فيطعمه عياله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" 2.
فهذا الحديث لم يقبله الشافعي؛ لأنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أولًا: لأن الله سبحانه وتعالى لما فرض للأب ميراثًا محددًا من الابن، كغيره من الورثة، وهذا الفرض قد يكون أقل فروض كثير من الورثة - دل ذلك على أن ملكية المال إنما هي لابنه دونه.
ثانيًا: ولأن محمد بن المنكدر الذي أرسل هذا الحديث، وإن كان في غاية الثقة والفضل في الدين والورع -فإننا لا ندري عمن قبل هذا الحديث. ومثله في هذا مثل الشاهدين العدلين يشهدان على الرجلين فلا تقبل شهادتهما حتى يعدلاهما أو يعدلهما غيرهما.
وإذا كان محمد بن المنكدر لم يسم لنا من أرسل عنه، فاحتمل أن يكون أرسل عن غير ثقة -فإن غيره ممن أوثق منه سمى لنا من أرسل عنه، فكان ضعيفًا، وبان عوار حديثه، فهذا ابن شهاب الزهري يقول: "إن
1 الرسالة ص 465، 466.
2 رواه ابن ماجه عن جابر. ورواه عنه الطبراني في الأوسط، والطحاوي ورواه البزار عن هشام بن عروة مرسلًا، وصححه ابن القطان، وله طريق أخرى عند البيهقي في الدلائل وأخرجه ابن حبان عن عائشة، قال في المقاصد الحسنة:"والحديث قوي""كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: إسماعيل بن العجلوني الجراحي "1162هـ" - مكتبة التراث الإسلامي- حلب. 1/ 239 - 241 رقم الحديث 628".
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة"1.
ويقول الإمام الشافعي: أنه لم يقبل هذا؛ لأنه مرسل، حقًّا إن ابن شهاب إمام في الحديث والتخبير وثقه الرجال، وهو كثيرًا ما يسمي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خيار التابعين، "ولا نعلم محدثًا يسمى أفضل ولا أشهر ممن يحدث عنه ابن شهاب؛ لكنه هنا قبل عن سليمان بن أرقم، وهو ضعيف؛ لأنه رآه رجلًا من أهل المروءة والغفلة، فقبل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه؛ إما لأنه أصغر منه، أو لغير ذلك، ولم يسمه إلا عندما سأله معمر عن حديثه عنه، فأسنده له2.
561-
ومن أجل هذا يقول الإمام الشافعي: "يقولون: نحابي
…
ولو حابيننا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم3
…
وإذا احتمل في ابن شهاب أن يروي عن مثل هذا الراوي الضعيف مع مكانته التي رأيناها -فالاحتمال أقوى وأكثر وقوعًا في غيره ممن هو أقل منه في إمامته وفضله.
562-
هذا وقد زعم الماوردي أن الإمام الشافعي، في المذهب الجديد، يحتج بالمرسل إذا لم يوجد دليل سواه، وكذا نقله غيره، ولكن ابن السمعاني رد هذا بإجماع النقلة من العراقيين والخراسانيين عنه بأن هذا لا يجعل المرسل حجة عندالشافعي4.
563-
وقد نسب التاج السبكي إلى الشافعي أن المرسل إذا دل على محظور ولم يوجد سواه، فالأظهر وجوب الانكفاف عن هذه المحظور - يعني احتياطًا وتورعًا5.
1 سبق الكلام عن هذا الحديث. انظر ص264 - 265 من هذا البحث.
2 الرسالة ص 467 - 470.
3 معرفة السنن والآثار 1/ 81.
4 فتح المغيث 1/ 142.
5 المصدر السابق 1/ 243.
الاتجاه الرابع:
564-
ويقف فيه المحدثون الذين لا يقبلون إلا الحديث المتصل ولا يعتبرون الحديث المرسل أو المنقطع حجة بأية حال ومن أي قرن..
565-
ويمثل هذا الاتجاه الأئمة الكبار في القرن الثاني الهجري ومنهم يحيى بن سعيد القطان، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن بن مهدي يقول الإمام مسلم:"المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة"، وحكى ذلك ابن عبد البر عن جماعة من المحدثين1،. ويقول النووي:"ثم المرسل حديث ضعيف عند جماهير المحدثين"2.
ويرى يحيى بن سعيد القطان أن مرسلات أئمة الحديث لا فائدة فيها وليست ثابتة وإنما هي شبه الريح، يقول:"سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء لو كان فيه إسناد صاح به"، ويقول:"مرسلات أبي إسحاق الهمداني عندي شبه لا شيء، والأعمش والتيمي ويحيى بن أبي كثير" -يعني مثله. ويقول: "مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من سفيان عن إبراهيم، وكل ضعيف" ويقول: "مرسلات ابن عيينة شبه الريح.. ثم قال: أي والله سفيان بن سعيد"3، ويقول أحمد بن سنان: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئًا، ويقول: هو بمنزلة الريح، ثم يقول: هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه4. وقال في مراسيل الزهري: شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمى سمى، وإنما يترك من لا يستحب أن يسميه5.
وإذا كانت مرسلات كبار المحدثين والعلماء هكذا فما بالك بمرسلات من هم دونهم؟!..
1 مقدمة ابن الصلاح بشرح التقييد ص75.
2 التقريب ص9.
3 المراسيل ص12.
4 المصدر السابق ص11.
5 تدريب الراوي 1/ 205.
566-
وقد عرض العلماء المتأخرون حجة هؤلاء في رفضهم المراسيل وتمسكهم بالأسانيد المتصلة فقط، يقول ابن حزم: إن الذي يرسل إنما هو بمثابة من يحدث عن مجهول، و"من جهلنا حالة فرض علينا التوقف في خبره، وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله"، وسواء أقال الراوي العدل:"حدثنا الثقة" أم لم يقل لا يجب أن يلتفت إلى ذلك، إذ قد يكون عنده ثقة؛ لأنه لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره
…
والجرح أولى من التعديل، فقد وثق سفيان الثوري جابرًا الجعفي، وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الإسلام بحيث قد عرف، ولكنه خفي أمره على سفيان، فقال بما ظهر منه عنده"1.
567-
ويقول النووي قريبًا من هذا: "ودليلنا في رد العمل به أنه إذا كانت رواية المجهول المسمى لا تقبل؛ لجهالة حاله - فرواية المرسل أولى؛ لأن المروي عنه محذوف مجهول العين والحال2". ويفصل الإمام ابن حجر في شرح النخبة فيقول: "وإنما ذكر -يعني المرسل- في قسم المردود للجهل بحال المحذوف"، لأنه يحتمل أن يكون صحابيًّا، ويحتمل أن يكون تابعيًّا، وإذا كان تابعيًّا فإنه يحتمل أن يكون ضعيفًا، وإذا فرض أنه ثقة فإنه من المحتمل أن يكون قد حمل عن تابعي آخر ضعيف وبالاستقراء وجد أن هناك سبعة من التابعين روى بعضهم عن بعض، فليس كل مرسل روى فيه التابعي عن الصحابي، حتى نقول ونتأكد أنه أرسل عن ثقة ولم يرسل عن ضعيف3.
568-
ومن حيث الواقع العملي فهناك في زمن الصحابة والتابعين من يحدث وهو غير ثقة، فربما يروي عنه ولا يسميه، فتكون النتيجة هي روايتنا عن الضعاف دون أن ندري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال أبي: إني لأسمع الحديث استحسنه، فمنا يمنعني من ذكره إلا كراهية أن
1 الإحكام 2/ 135.
2 قواعد التحديث ص 133.
3 شرح نخبة الفكر ص17.
يسمعه سامع فيقتدي به، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث عمن أثق به، أو أسمعه من رجل أثق به قد حدث عمن لا أثق به، فهذا يدل -كما يقول ابن عبد البر- أن ذلك الزمان، أي زمان الصحابة والتابعين كان يحدث فيه الثقة وغيره.
وقال عمران بن حدير: إن رجلًا حدثه عن سليمان التيمي، عن محمد ابن سيرين "أن من زار قبرًا أو صلى عليه فقد برئ الله منه". قال عمران: فقلت لمحمد عند أبي مجلز: إن رجلًا ذكر عنك كذا، فقال أو مجلز: كنت أحسبك يا أبا بكر أشد اتقاء، فإذا لقيت صاحبك فأقرئه السلام، وأخبره أنه كذب. قال: ثم رأيت سليمان
عند أبي مجلز، فذكرت ذلك له، فقال: سبحان الله!
…
إنما حدثنيه مؤذن لنا، ولم أظنه يكذب.
569-
وقد تقدم سما قاله ابن لهيعة أنه سمع شيخًا من الخوارج يقول بعد ما تاب:
إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا.. قال ابن حجر: إن هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل؛ إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام، والصحابة متوافرون، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرًا وأشاعوه، فربما سمع الرجل الشيء فحدث به، ولم يذكر من حدثه به تحسينًا للظن، فيحمله عنه غيره، ويجيء الذي يحتج بالمقاطع، فيحتج به"1.
570-
والأخبار التي تروي أن كثيرًا من المراسيل إنما ظهر ضعفها بعد كشف ما قطع منها- كثيرة، وتحمل في طياتها تحذير الأئمة من الأخذ بالأسانيد غير المتصلة2.
الإمام أحمد والمراسيل:
571-
والحق أن الإمام أحمد رضي الله عنه ينتظم في سلك هذا الاتجاه، إذ أنه يعد الأحاديث المرسلة من الأحاديث الضعيفة التي لا يحتج بها، فقد
1 فتح المغيث 1/ 137 - 138.
2 المحدث الفاصل ص313 "المطبوع" - معرفة السنن والآثار 1/ 82.
سئل عن حديث ثوبان: "أطيعوا قريشًا ما استقاموا لكم" قال: ليس بصحيح، سالم بن أبي الجعد لم يلق ثوبان، فقد حكم ببطلان هذا الحديث لأنه مرسل"1. ويضعف أحاديث راو بأنها تهوى وتنحط لأنها مرسلة، يقول في أبي الحارث بن سليمان الفزاري: "حديثه يهوى، ويفسر عبد الله هذا بقوله: -يعني مراسيل2
…
وقد سئل عن حديث النبي، صلى الله عليه وسلم" مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة أو التابعين -متصل برجال ثبت، فقال: "عن الصحابة أعجب إلي"3، فهذا يدل على أن المرسل ليس بحجة عنده؛ إذ لو كان حجة عنده ما قدم عليه قول الصحابي لأن من جعله حجة قدمه على قول الصحابي"4.
ويقول أبو زهرة عليه رحمة الله تعالى، مقررًا هذا الاتجاه عند الإمام أحمد:"إن أحمد رضي الله عنه اعتبر المرسل من قبل الأخبار الضعيفة التي يكون الأصل ردها وعدم قبولها، ولذلك قدم عليه فتوى الصحابي، وهو لا يقدم هذه الفتوى على حديث صحيح قط، فتقديمها عليه دليل على أنه يعتبر ضعيفًا لا صحيحًا وهو بذلك ينحو نحو المحدثين الذين يقررون أن الحديث المرسل من قبيل الحديث الضعيف لا من قبيل الحديث الصحيح"5.
572-
وعلى الرغم من هذا فقد نقل عنه ما فهمه بعض الباحثين على أنه يقبل المراسيل ويحتج بها، فيكون في هذا شأنه شأن أصحاب الاتجاه الأول الذي على رأسه الإمام مالك -كما قررنا- ومن أقواله التي يستدل بها على ذلك قوله:"ربما كان المنقطع أقوى إسنادًا من المتصل" وقوله: "ربما
1 أصول مذهب الإمام أحمد: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي الطبعة الأولى 1394هـ - 1974م مطبعة جامعة عين شمس بالقاهرة ص294.
2 العلل ومعرفة الرجال 1/ 378.
3 المسودة في أصول الفقه لآل تيمية، مجد الدين أبي البركات عبد السلام وشهاب الدين عبد الحليم وتقي الدين أحمد جمعها أبو العباس بن محمد الحراني الحنبلي الدمشقي "ت 745هـ" تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - مطبعة المدني بالقاهرة ص310.
4 أصول المذهب الإمام أحمد: ص 393 - 394.
5 ابن حنبل ص230.
كان المرسل أقوى إسنادًا، وقد يكون الإسناد متصلًا وهو ضعيف، ويكون المنقطع أقوى إسنادًا منه"1.
573-
ولكن الذي يدرك عادة أئمة الحديث وعباراتهم عندما يوازنون بين الأحاديث يعرف أن هذه العبارة وأمثالها لا تعني أن الإمام أحمد يحتج بالمراسيل، بل قد تعني العكس تمامًا، إذا فهمناها على وجهها الصحيح، فهو يريد أن يقول: إن الحديث إذا جاء بطريق منقطع وآخر متصل فقد يكون هناك غلط في اتصاله، وأن الصحيح إنما هو انقطاعه أي أنه منقطع في الحقيقة، وواقع الأمر، وهذا بصرف النظر عن كونه يحتج به أو لا يحتج به. وهذا كثير وشائع في استعمالات المحدثين2. ولهذا كان الإمام أحمد يعجب من هؤلاء الذين يولعون بكتابة الأحاديث المتصلة ويأخذونها على أنها صحيحة مع أنها في الحقيقة مرسلة، فوصلها أحد الرواة غلطًا، يقول الميموني تلميذه: "كان يعجب أبو عبد الله رضي الله عنه، ممن يكتب الإسناد ويدع المنقطع، وقال: ربما كان المنقطع أقوى إسنادًا منه وهو يوقفه، وقد كتبه على أنه متصل".. ويضعف هؤلاء الذين يرفعون المراسيل، ولو رووها على حقيقتها مرسلة ما كان هذا منكرًا منهم، وما كان سببًا في تضعيفهم، يقول عن صدقة السمين:"ما كان من حديثه مرفوع منكرًا، وما كان من حديثه مرسل عن مكحول فهو أسهل، وهو ضعيف جدًّا"3. ويقول في المغيرة بن زياد: "ضعيف الحديث، روي عن عطاء عن ابن عباس في الرجل تحضر الجنازة قال: لا بأس أن يصلي عليها ويتيمم. قال عبد الله، قال أبي: رواه ابن جريح وعبد الملك عن عطاء مرسل.. وروي عن عطاء عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قصر وأتم". والناس يروونه عن عطاء مرسل4.
1 أصول مذهب الإمام أحمد ص300.
2 انظر علل الحديث لابن أبي حاتم ففيه الأمثلة الكثيرة جدًّا على ذلك.
3 العلل ومعرفة الرجال 1/ 84.
4 المصدر السابق 1/ 131 - 132.
ومثل هذا ما قاله عبد الله بن الإمام أحمد سألته -يعني أباه- عن حديث رواه محمد بن مصفى الشامي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما استكرهوا عليه وعن الخطأ والنسيان". وعن الوليد عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثله، فأنكره جدًّا وقال: ليس يروي فيه إلا عن الحسن1. فقد أنكر الإمام أحمد هنا المسند، وذلك لوجود الخطأ فيه وأثبت المرسل، وذلك حتى لا يؤخذ المرسل ليحتج به على أنه مسند مع أنه في الحقيقة ليس مسندًا والأصح أنه مرسل.
وقد كان الإمام أحمد يوثق هؤلاء الرواة المتيقظين الذين يروون المرسل على إرساله والمتصل على اتصاله لا يخلطون بينهما، ويقول: أصح الناس حديثًا عن سعيد المقبري -ليث بن سعد؛ يفصل ما روي عن أبي هريرة -يعني مرسلًا- وما عن أبيه عن أبي هريرة -هو ثبت في حديثه جدًّا2.
574-
وقد ثبت عن الإمام أحمد أنه أخذ ببعض المراسيل، الأمر الذي جعل بعض الحنابلة يفهمون منه أنه يأخذ بحجية المرسل مطلقًا ومنهم القاضي أبو يعلى الذي اختار أن يكون الإمام أحمد يحتج بالمرسل. وحجته كما قلنا أن الإمام أحمد أخذ ببعض المراسيل، فقد قال فيما نقله ابنه عبد الله: آخذ بحديث ابن جريح، عن ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار، عن النبي صلى الله عليه وسلم في العبد الآبق إذا جيء به دينار.
وحكم على بعض المراسيل بالصحة، فقال: مرسلات إبراهيم لا بأس بها، ومرسلات سعيد ابن المسيب أصح المرسلات3. وقال: وربما أخذنا بالحديث المرسل إذا لم يجيء خلافه أثبت منه4.
575-
ومن أجل هذا الفهم من أبي يعلى تكلم على وجه أخذ الإمام أحمد بالمرسل، فقال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ
1 العلل ومعرفة الرجال 1/ 203.
2 المصدر السابق 1/ 107.
3 العدة في أصول الفقه ص239.
4 المسودة ص276 عن أصول مذهب الإمام أحمد ص298.
إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} ولم يفرق بين من أنذر بمرسل أو مسند، ولأن عادة التابعين إرسال الأخبار إلى آخر الحجج التي تعرفنا عليها عند الآخذين بحجية المرسل. كما رد على الاعتراضات التي تثار ضد قبول المرسل.
576-
والحق أن القاضي أبا يعلى لم يقل: إن الإمام أحمد قد قال بتلك الاستدلالات الكثيرة التي أوردها، حتى نلزمه بها ونقول: إنه يحتج بالمرسل مطلقًا.
577-
والواقع أنه لا تناقض بين ما قلناه من أن الإمام أحمد يعتبر المراسيل من الضعيف وما نقل عنه من أنه قبل بعض المراسيل؛ لأنه يقبل بعض المراسيل بعض المراسيل مع الإقرار بأنها ضعيفة، وهذا في حالة واحدة يمكن أن نسميها حالة الاحتياط، وذلك إذا لم يجد غيرها بعد أن يفتش فلا يجد الأحاديث الصحيحة المسندة ولا الأقوال المأثورة عن الصحابة رضوان الله عليهم. والأحاديث المرسلة شأنها -في ذلك عنده- شأن كل الأحاديث الضعيفة الأخرى التي يأخذ بها في هذه الحالة. إنه لا يوثقها، وإنما يقول: إنها -على ضعفها- أقوى من رأي الرجال1. ولو كانت موثقة عنده ما أخرها عن أقوال الصحابة وفتاواهم، وفي أقوال الإمام أحمد ما يدل على مرتبة هذه الأحاديث المرسلة، فهو يقول: "إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة ولا من بعدهم خلافه، وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم تخرج عن أقاويلهم إلى قول من بعدهم، وإذا لم يكن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة قول نختار من أقوال التابعين، وربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده شيء فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، وربما أخذنا بالحديث المرسل إذا لم يجيء خلافه أثبت منه"2. وإذا كان هذا النص لا يبين بالتحديد مكانة المرسل من أقوال الصحابة والتابعين فإن أدنى ما يقال ويفهم منه أنه يأخذ
1 قواعد التحديث ص 113.
2 المسودة لآل تيمية ص 276.
بالمرسل في بعض الأحيان، وأنه أخره في الذكر عن أقوال الصحابة والتابعين، مما قد يشعر بأنه أقل منزلة منها، كما قربه بالحديث الضعي الذي في إسناده شيء.
578-
وقد أدرك ابن القيم أن الإمام أحمد يؤخر المرسل إلى المرتبة الرابعة كما قد يحتمل من هذا النص، فذكر أن الإمام أحمد يأخذ بالنصوص فإذا لم يجد شيئًا منها لجأ إلى فتاوى الصحابة فإذا لم يجدهم أجمعوا، اختار من أقوالهم إذا اختلفوا، فإذا لم يجد عندهم إجماعًا ولا اختلافًا أخذ بالمرسل والحديث الضعيف1.
579-
ولكن الذي يستوقفنا عند ابن القيم هو أنه قال -عقب ذلك- مبينًا منزلة الضعيف عامة والمرسل منه: إنه قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن عند الإمام أحمد، وأنه لم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف2.
وقد تبع ابن القيم في هذا أستاذه ابن تيمية الذي رأى هذا الرأي: لأن الحديث عند المتقدمين ينقسم إلى صحيح وضعيف فقط، وأن الحسن اصطلاح أحدثه الترمذي.
وقد سار على هذا الدرب بعض الباحثين المحدثين، وفسر أقوال الأئمة في الحديث الضعيف والأخذ به في ضوء هذا الرأي.
580-
وقد ناقشناه في رسالة الماجستير. وأثبتنا أن الأئمة لا يعنون بالضعيف الحسن، وإنما يعنون به ما هو أقل منه، مما لا يحتج به في الحلال والحرام والحسن يحتج به عندهم فيهما3. كما أشرنا إلى أن أبا حاتم الرازي سبق الترمذي في استعمال الحسن4.
1 أعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن القيم أبو عبد الله محمد بن أبي بكر "751هـ" - إدارة الطباعة المنيرة بالقاهرة 1/ 25.
2 أعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 25.
3 عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ص 229 - 230.
4 المصدر السابق ص229 - 300.
581-
ولكن الذي نضيفه هنا هو أن إطلاق الحسن على الحديث وعلى الراوي وراد على لسان عدة من العلماء السابقين للترمذي من طبقة شيوخه وشيوخ شيوخه، بل ورد هذا الإطلاق على لسان أحمد نفسه، وأنه كان يستعمله بالمعنى الاصطلاحي الذي هو دون الصحيح وفوق الضعيف.
582-
ثم ما الداعي إلى تفسر كلمة ضعيف بالحسن؟ مع أن ظاهخر كلام أحمد يشير إلى أن مراده بالضعيف الضعيف الذي لم تتحقق فيه شروط القبول، فإنه يريد أن الرأي لا يعتد به عنده ما دام قد نقل في المسألة نص ولو ضعيف؛ فإن الضعيف خير من الرأي.."ضعيف الحديث أقوى من الرأي".
583-
"وإذا فسرنا" الضعيف "بالحسن" فأي فائدة في هذا التنصيص من الإمام أحمد على أن الحسن مقدم على الرأي؟ إذ أن هذا أمر ثابت مقرر فالحسن حجة في كافة وجوه الاحتجاج، ولم يقل عن أحد من المتقدمين نفي الاحتجاج بالحسن إلا ما نقل عن أبي حاتم"1.
584-
وتخلص من هذا إلى أن الإمام أحمد يعتبر المرسل غير صحيح وضعيف وينضم في سلك هذا الاتجاه، الذي يرفض المراسيل كأحاديث صحيحة يحتج بها.
أثر هذا الاتجاه في توثيق السنة:
585-
وقد أفاد هذا الاتجاه أيما إفادة في توثيق الحديث، إذ قام أصحابه بما يشبه الاستقراء في تمييز الروايات التي جاءت مرسلة، والتي حدث بها مرسلوها عمن لم يسمعوها منهم، وأسقطوا من حدثوهم. وعرفوا من أرسل عن ثقات وسموه ومن كان غير ذلك، وسدوا بذلك النقص الذي أحدثه المتقدمون بإرسالهم الكثير من الأحاديث، ولو ذهبوا إلى ما ذهب إليه
1 قواعد في علوم الحديث: التحقيق في الهامش ص100 - 107 من بحث الشيخ محمد عوامه فينقد كلام ابن تيمية وابن القيم في الضعيف عند الإمام أحمد.
أصحاب الاتجاه الأول مثلًا ما فعلوا ذلك، يقول:"قد تأمل المتقدمون مراسيل سعيد بن المسيب فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره"1
…
وقال ابن المديني: "مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها "وقال يحيى بن سعيد القطان: "ما قال الحسن في حديثه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدنا له أصلًا إلا حديثًا أو حديثين"2.
وقال شعبة بن الحجاج: لم يسمع قتادة من أبي رافع شيئًا، فقال أحمد بن حنبل: أدخل بينه وبين أبي رافع خلاسًا والحسن، وقد سمع قتادة من خلاس3.
586-
وبعد أن انتهينا من الاتجاهات في الأخذ بالمرسل وعدم الأخذ به فإننا نسجل ملاحظتين على هذه الاتجاهات:
الأولى: أنه يتمثل في هذه الاتجاهات جميعها الحرص على أخذ السنة صحيحة متصلة الإسناد، ولم يكن في أخذ بعض العلماء بالمراسيل تخل عن هذا المبدأ وإنما لأنهم رأوا أن المراسيل كلها عند البعض أو بعضها عند البعض الآخر إنما هي صحيحة وإن بدت شكليًّا أنها منقطعة.. وكما يقول عبيد الله بن مسعود من الحنفية الذين يأخذون بالمرسل: "والمرسل منقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث الظاهر لعدم الإسناد الذي يحصل به الاتصال لا من حيث الباطن للدلائل المذكورة في المتن الدالة على قبول المرسل4.
وعلى هذا يمكننا أن نقول: إن كل العلماء على اختلاف اتجاهاتهم في هذا السبيل كانوا يأخذون بالمسانيد في حقيقة الأمر، والاختلاف هنا شكلي أو راجع إلى أسس أخرى غير كون الحديث مرسلًا أو غير مرسل. وقد يقال: لم إذن هذه الدراسة وهذا العناء؟ نقول: إنها أفادتنا في أمور منها: أننا أصبحنا على يقين من أن الذين رأوا الأخذ بالمراسيل لم يكونوا مفرطين، كما يبدو
1 معرفة علوم الحديث ص26.
2 تدريب الراوي 1/ 204.
3 العلل ومعرفة الرجال 1- 88.
4 شرح التوضيح على التنقيح: عبيد الله بن مسعود. الطبعة الأولى بالمطبة الخيرة بمصر 2/ 257.
من أول وهلة -ومنها تصحيح بعض الأخطاء- من وجهة نظرنا التي وقع فيها بعض الباحثين كاتهام مالك مثلًا بأنه تناقض مع نفسه حين أخذ بالمراسيل وترك بعضها
…
الثانية: أن هناك تدرجًا زمنيًّا في قبول المراسيل -كما يقول الأستاذ أبو زهرة1- فكلما كان الإمام أسبق أو العلماء أسبق كانوا أكثر قبولًا للمراسيل وكلما بعد الزمن وجدنا التشدد في قبولها، والسبب في ذلك أن الناس كلما اقتربوا من عهد الصحابة كانوا أكثر تورعًا وتقوى، فلا يروون إلا ما صح عندهم والقليل من كان غير ذلك
…
أيضًا فالسند يكون غير طويل، فإذا أرسل تابعي فإنه من العادة أنه سمعه من صحابي أو من زميل له تابعي يثق فيه والمرسلون عن بعضهم أحياء، ويستطيع المتحمل للحديث أن يتصل ببعضهم ويعرف حقيقة ما يحدثون، وليس الأمر كذلك في زمن الشافعي مثلًا، وفي زمن أحمد بن حنبل وأئمة الحديث في عصره، فالتدين قل
…
واستفحلت المذاهب، ودعاتها كثروا
…
واستطال السند ومن أرسل عنهم ماتوا ويحتمل أن يكونوا من الضعاف.
587-
وبعد؛ فقد تعرفنا على جهود العلماء، من فقهاء ومحدثين في وضع أسس توثيق سند الحديث ورجاله الذين نقلوه، وكانت لهم جهود أخرى في وضع أسس تعنى بمتن الحديث بعيدًا عن نقلته وهو ما سنتعرف عليه -إن شاء الله عز وجل في القسم الثاني الذي أصبحنا على مشارفه واقتربنا من عتباته بعون من الله الكريم وفضله.
1 ابن حنبل ص231.