الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دوافع التوثيق في القرن الهجري:
ومن هذه الوسائل:
1-
الحرص على سماع الأحاديث:
31-
ففي عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان الرجل منهم يحرص على حضور مجلسه، صلى الله عليه وسلم؛ لسماع الأحاديث منه، والتزود من توجيهاته السديدة، ونصائحه الكريمة، وبيانه، صلى الله عليه وسلم، للقرآن الكريم.
ولما كانت عندهم أعمال تشغلهم في بعض الأوقات عن حضور مجلسه، صلى الله عليه وسلم، تناوبوا الذهاب إليه، صلى الله عليه وسلم؛ كي يبلغ الشاهد منهم الغائب، فلا يفوت أحدًا منهم أمرًا من الأمور التي يجب أن يحفظوها عنه، وينفذوا ما فيها من تعاليم1.
32-
وكان لا يمل أحدهم أن يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر من مرة، ويذكر بعضهم أنه لا يجيز لنفسه أن يروي الحديث إلا إلا إذا سمعه أكثر من ثلاث مرات2.
ولقد كان بعضهم يَلزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ يأكل معه ويشرب، حتى يسمع منه كل ما يحدث به، وحتى لا يفوته من سنة رسول الله شيء، ومن هؤلاء أبو هريرة رضي الله عنه، الذي يقول:"إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون"3.
33-
وكانوا يتثبتون في السماع، فيسألون من حضر منهم مجلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول جابر بن سمرة، سمعت رسول الله،
1 صحيح البخاري طبعة دار الشعب 1/ 33.
2 صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 481 - 473. وانظر لهذا وما قبله بعض الأمثلة في رسالتي للماجستير "عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي" كلية دار العلوم - جامعة القاهرة ص168. وهي تحت الطبع.
3 صحيح البخاري 1/ 40 - 41.
صلى الله عليه وسلم، يقول:"اثنا عشر قيما من قريسش لا تضرهم عداوة من عاداهم" 1، فالتفت، فإذا عمر بن الخطاب وأبي في أناس، فأثبتوا لي الحديث، كما سمعت.
34-
وكان هذا التقليد من الصحابة، رضوان الله عليهم، هو الأساس الذي سار عليه معظم علماء الحديث والفقه بعد ذلك، توثيقًا لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصيانة له، فاعتبروا أن الأحاديث التي تؤخذ سماعًا أصح من غيرها؛ لأن الأخذ من الكتاب قد يؤدي إلى الخطأ إذا قرأه قراءة محرفة.
2-
حفظ الأحاديث:
35-
وبعد سماعهم للأحاديث وتثبتهم في سماعهم يحفظونها، ويؤدونها أداء سليمًا، ولقد نبههم إلى ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال لهم:"عليكم بالقرآن، وسترجعون إلى أقوام سيبلغون الحديث عني، فمن عقل شيئًا فليحدث به، ومن قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتًا، أو مقعده من جهنم"3.
36-
ولهذا رأينا إقلالهم من رواية الأحاديث، واستثقالهم لها؛ لأنهم يخافون ألا يكونوا قد حفظوا الأحاديث، فيكذبون فيها، أي يخطئون4، وقد روي عن عمر، وعبد الله بن مسعود قولهما:"كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" 5، وذلك لأنه ليس كل ما يسمع الإنسان يحفظه.
1، 2 المحدث الفاصل ص494. وأخرج الإمام مسلم عنه:"لا يزال هذا الأمر عزيزًا إلى اثني عشر خليفة"، قال: ثم تكلم بشيء لم أفهمه، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: "كلهم من قريش". صحيح مسلم بشرح النووي 4/ 482.
3 رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله ثقات "مجمع الزوائد 1 - 144" ورواية أحمد في المسند 4/ 334: "عليكم بكتاب الله، وسترجعون إلى قوم يحبون الحديث عني، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ومن حفظ عني شيئًا فليحدثه".
4 انظر المحدث الفاصل ص 553 - 558.
5 معرفة السنن والآثار: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي "384 - 458هـ" تحقيق السيد أحمد صقر - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة 1/ 47. وقد أخرج الحديث مسلم في صحيحه مرفوعًا عن أبي هريرة "مسلم بشرح النووي 1/ 59 - 60".
37-
ومن أجل حفظ الأحاديث وأدائها أداء سليمًا كانوا يتذاكرونها فيما بينهم، ويحضون على ذلك، يقول أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه:"تذاكروا الحديث، فإن الحديث يهيج بعضه بعضًا". وقال علي كرم الله وجهه: "تزاوروا وأكثروا ذكر الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يندرس". وعن عبد الله بن مسعود: "تذاكروا الحديث، فإن حياته مذاكراته"1.
3-
تمحيص الرواة:
38-
أي الأخذ من الضابطين منهم وترك غيرهم، ممن لا يضبطون أحاديثهم فيخطئون في روايتها.
يقول السخاوي: "وأما المتكلمون في الرجال فخلق من نجوم الهدى، ومصابيح الظلام، المستضاء بهم في دفع الردى، لا يتهيأ حصرهم في زمن الصحابة، رضي الله له عنهم، وهلم جرًّا
…
سرد ابن عدي في مقدمة "كامله" منهم خلقًا إلى زمنه، فالصحابة الذين أوردهم: عمر، وعلي، وابن عباس، وعبد الله بن سلام، وعبادة بن الصامت، وأنس، وعائشة، رضي الله عنهم، وتصريح كل منهم بتكذيب من لم يصدقه فيما قال"2.
39-
ومن هنا نشأ تشديدهم على من يروي لهم الأحاديث التي لم يسمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول البراء بن عازب، رضي الله عنه، مبينًا هذا:"ما كل الحديث سمعناه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يحدثنا أصحابنا، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيسمعونه من أقرانهم، ومن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه"3.
1 معرفة علوم الحديث: للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري "321 - 405هـ" تحقيق السيد معظم حسين - دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن 1970م ص 140، 141.
2 الإعلان بالتوبيخ، لمن ذم التاريخ: شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي "902هـ" القدسي. دمشق 1349هـ، ص163.
3 معرفة علوم الحديث للحاكم. ص14.
ومن مظاهر هذا التشدد أن بعض الصحابة كان يستحلف راوي الحديث غير مبال بمنزلة هذا الراوي في الإسلام، أو منزلته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد استحلف بعضهم عليًّا، وهو أمير للمؤمنين1.
وكان هذا من مذهب علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، يستحلف من يروي له عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول الحاكم: "وأما أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، فكان إذا فاته عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديث، ثم سمعه من غيره يحلف المحدث الذي يحدث به، والحديث في ذلك عنه مستفيض مشهور
…
وكذلك جماعة من الصحابة والتابعين"3.
40-
وليس معنى هذا التشدد وذلك التمحيص أنهم كانوا يكذبون ناقل الحديث إليهم، فلم يثبت أن أحدًا من الصحابة، رضوان الله عليهم، رمى أخاه بالكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يخشون أن يخطئوا في نقل الحديث، فلا يؤدونه على وجهه، ويصور هذا عمران ابن حصين حين يقول:"والله إن كنت لأرى أني لو شئت حدثت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يومين متتابعين، ولكن يبطأني عن ذلك أن رجالًا من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي، كما يشبه لهم"، ويعلق ابن قتيبة على هذا بقوله:"فأعلمك أنهم كانوا يغلطون، لا أنهم كانوا يتعمدون"3.
41-
ولقد نفى بعضهم الكذب عنه وعن إخوانه من الصحابة، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: "ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ،
1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 118، 119.
2 معرفة علوم الحديث: ص15. المحدث الفاصل ص518.
3 تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء أهل الحديث: للإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة "ت 276هـ" مطبعة كردستان العلمية بمصر، 1326هـ، ص49، 50.
فيحدث الشاهد الغائب"1، وفي رواية: "لم نكن نكذب"، ويقول أنس، رضي الله عنه، "ولكن كان يحدث بعضنا بعضًا ولا يتهم بعضنا بعضًا"2. وتقول عائشة رضي الله عنها: "ما كان خلق أبغض إلى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الكذب"3.
42-
والحق أن هذا أمر ينبغي أن يعرف وجه الصواب فيه؛ لأن بعض المحدثين اتهم بعض الصحابة بالكذب
…
وإذا كان المنبع الأول يكذب، ثم اعتقد موثقوا القرن الثاني وغيره أن ليس فيه كذب، وانشغلوا بوجوه أخرى للتوثيق، أو هكذا فعل معظمهم، فإنه لا فائدة من توثيقهم على هذا النحو؛ لأنهم أخذوا أحاديث الصحابة دون مناقشة لعدالتهم ولم يبحثوا فيمن يكذب منهم ومن لا يكذب، إذن فالسنة لم توثق على الرغم من الجهود التي بذلت، وهذا هو ما توصل إليه هؤلاء بهدف العصف بالسنة وإبعادها عن المسلمين، أو إبعاد المسلمين عنها4.
إذن فلنناقش هذه القضية، هل كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يكذبون في أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم؟
43-
لقد تعلق بعض هؤلاء المحدثين برد بعض الصحابة لأحاديث بعضهم الآخر، أو ببعض العبارات التي تتهم بعضهم "بعضًا" بالكذب
…
أما اختلافم في بعض الأحاديث، ورد بعضهم لأحاديث بعضهم الآخر، فلا يدلان على أنهم كانوا يكذبون في الحديث، ولا يتعدى
1 المحدث الفاصل: ص230.
2 قبول الأخبار ومعرفة الرجال: لأبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي مخطوط بدار الكتب المصرية "ورقة 9".
3 المسند 6/ 152، أحمد بن حنبل الشيباني، دار صادر بيروت 1389هـ - 1969م.
4 إن أبرز محاولتين لهذا كتابان: الأول: أضواء على السنة المحمدية، لمحمود أبو رية، والثاني: الأضواء القرآنية، للسيد صالح أبو بكر، وقد رد كثير من علمائنا -جزاهم الله خيرًا- على الكتاب الأول، وناقشت الكتاب الثاني، في كتابينا: كتب السنة، الجزء الأول والإسراء والمعراج. وقد نشرتها مكتبة الخانجي بالقاهرة.
الأمر أن يكون اختلافًا في فهم تلك الأحاديث، وما تدل عليه.. أو أن مدلول الحديث كان معمولًا به أولًا، ثم نسخ بعد ذلك، ولم يبلغ رواية هذا النسخ، فظل على العمل به وروايته.. أو توقف الصحابي فيما لم يبلغه من الأحاديث، حتى يتأكد من أنها صدرت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعند ما يتأكد الصحابي من ذلك، فإنه لا يتردد في التسليم والعمل بما روي له، والندم على عدم سماعه تلك الأحاديث.
ومن الاختلاف في فهم النصوص، أن عمر، رضي الله عنه، روى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وفهمه على أنه عام، وأن التعذيب بسبب بكاء الأهل على الميت.
أنكرت عليه ذلك الفهم عائشة وردت الحديث قائلة: "إنما قال النبي، صلى الله عليه وسلم في يهودية: إنها تعذب، وهم يبكون عليها"، يعني تعذيب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء، واحتجت بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.
ولم تنسب عائشة، رضي الله عنها، إلى عمر وابنه عبد الله، رضي الله عنهما الذي روى عن أبيه هذا الحديث، أنهما كذبا في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما بادرت فصرحت ينفي تهمة الكذب عنهما حين قالت:"إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين؛ ولكن السمع يخطئ"2.
وقد نسخ الحديث فلا يبلغ روايه ذلك النسخ، فيظل على روايته والعمل به -كما قلنا- ويكون هذا سببًا في معارضة بعض الصحابة، له، ورد روايته؛ ومثل هذا ما كان يفتي به أبو هريرة، رضي الله عنه، ويحدث به:"أن من أصبح جنبًا فقد أفطر"، ولم يبلغه أن ذلك نسخ، فلما
1 سورة فاطر: 18.
2 صحيح مسلم بشرح النووي: 2/ 589، 593 - والإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، بدر الدين أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الزركشي "745 - 794هـ" تحقيق سعيد الأفغاني. الطبعة الثانية 1390 - 1970 بيروت. لبنان، ص118، 119.
علم بذلك، وأن عائشة، وأم سلمة، زوجتي الرسول؛ أخبرتاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم -رجع عن قوله وفتياه.
ويقول الإمام ابن حجر، في شرح حديث عائشة وأم سلمة، رضي الله عنهما:"وذكر ابن خزيمة أن بعض العلماء توهم أن أبا هريرة غلط في هذا الحديث، ثم رد عليه بأنه لم يغلط، بل أحاله على رواية صادق "الذي روى عنه أبو هريرة هذا الحديث" إلا أن الخبر منسوخ
…
فحديث عائشة، رضي الله عنها، ناسخ لحديث الفضل ولا أبا هريرة الناسخ، فاستمر أبو هريرة على الفتيا به، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه1".
ومن التوقف في قبول الحديث حتى يتأكد الصحابي من أنه صدر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما حدث به أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه، عمر بن الخطاب، في رجوع الزائر عند ما لا يؤذن له ثلاث مرات، فقد توقف عمر، رضي الله عنه، في قبول الحديث، ولكنه قبله عندما أحضر له أبو موسى الأشعري البينة، ولم يكتف بقبوله، بل قال كأنه يعتذر:"ألهاني الصفق بالأسواق2"، يعني الخروج إلى التجارة.
وحدث أبو هريرة، رضي الله عنه، بحديث. "من تبع جنازة فله قيراط"، فتوقف فيه ابن عمر، حتى سأل عائشة التي صدقت أبا هريرة، وعندئذ قبل الحديث. وندم على أنه لم يعمل به، وقال:"لقد فرطنا في قراريط كثيرة".
إذن فما شأن عبارات بعضهم التي ورد فيها لفظ "الكذب" منسوبًا إلى بعضهم الآخر؟
1 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني. المكتبة السلفية بالقاهرة 4/ 147.
2 الحديث في صحيح البخاري 3/ 72، 1/ 67.
3 صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 611.
44-
ومن هذا أن سبيعة الأسلمية تعالت من نفاسها بعد وفاة زوجها بأيام فمر بها أبو السنابل، فقال:"إنك لا تحلين حتى تمكثي أربعة أشهر، فذكرت ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: كذب أبو السنابل، ليس كما قال، قد حللت فانكحي"1، ومن ذلك ما روي عن أبي الدرداء أنه قال:"من أدركه الصبح فلا وتر له، فذكر ذلك لعائشة: فقالت: كذب أبو الدرداء، كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يصبح فيوتر"2. ومن ذلك: "أن أسماء بنت عميس كانت هاجرت إلى الحبشة فيمن هاجر، فقال لها عمر، رضي الله عنه: "سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله، صلى الله عليه وسلم، منكم فغضبت، وقالت: كذبت يا عمر3".نقول: إن العرب قد استعملت الكذب بمعنى الخطأ4، ومن هذا قول الأخطل:"كذبتك عينك أم رأيت بواسط".
وقال ذو الرمة: "وما في سمعه كذب".
وفي حديث عروة، وقيل له: إن ابن عباس يقول: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، لبث بمكة بضع عشرة سنة، فقال: كذب، أي: أخطأ، وسماه كذبًا، لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد.
واستمع الزبير، رضي الله عنه، إلى أبي هريرة يحدث، جعل يقول كلما سمع حديثًا: كذب.. صدق.. كذب، فسأله عروة ابنه، يا أبت، ما قولك: صدق
…
كذب. قال: يا بني، أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا شك فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه5.
1 سنن سعيد بن منصور ص352 جـ3 ق1 - من ص116 دفاع عن أبي هريرة.
2 الكامل في ضعفاء الرجال: أبو أحمد بن عبد الله بن عدي الجرجاني "360هـ" مكروفيلم في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية جـ1 ورقة 13. وفي المطبوعة: "وهم" المقدمة ص87.
3 صحيح مسلم: 7/ 127.
4 اللسان مادة "كذب" جـ6 - دار صادر.
5 البداية والنهاية في التاريخ: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير "774هـ"، مطبعة السعادة بمصر جـ8 ص108، 109.
ولهذا يقول ابن القيم: الكذب نوعان: كذب عمد، وكذب خطأ، فكذب العمد معروف، وكذب الخطأ ككذب أبي السنابل بن بعكك في فتواه المتوفى عنها، إذا وضعت حملها. ومنه قوله، صلى الله عليه وسلم:"كذب من قالها"، لمن قال: حبط عمل عامر حيث قتل نفسه خطأ. ومنه قول عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد، حيث قال: الوتر واجب، فهذا كله من كذب الخطأ، ومعناه: أخطأ قاتل كذا1.
وقبل ابن القيم يقول ابن تيمية شيخه: "إن الكذب كانوا يطلقونه بإزاء الخطأ كقول عبادة: كذب أبو محمد، لما قال الوتر واجب، وكقول ابن عباس: كذب نوف لما قال: صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل.
45-
وقولهم أيضًا: "زعم" لآخر من الصحابة كانت تعني الإخبار فقط، كقول جابر، رضي الله عنه:"زعم أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، وسرد حديثًا3، "وأبو سعيد من أفاضل الصحابة، وجابر أرفع حالًا من أن يشك بصدق أبي سعيد، لكنها اصطلاحاتهم4".
ومنه قول زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما للنبي، صلى الله عليه وسلم "زعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق" 5، وقول الزهري: زعم محمود بن الربيع الأنصاري أنه سمع عتبان بن مالك6. وأنشد ابن الأعرابي:
وإني أذين لكم أنه
…
سينجزكم ربكم ما زعم7
1 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، طبعة المنار بمصر 1331هـ جـ1/ 204.
2 مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن القاسم النجدي الطبعة الأولى 1386 السعودية جـ 32/ 266.
3 صحيح مسلم 7/ 184.
4 دفاع عن أبي هريرة: عبد المنعم صالح العلي. الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م مكتبة النهضة ببغداد ودار الشرق ببيروت.
5 صحيح البخاري 2/ 149.
6 المصدر السابق 2/ 74.
7 اللسان مادة "ز ع م" جـ15. دار صادر.
46-
وفي آخر عهد الصحابة كان هناك جيل من التابعين يحدث فتبلغهم روايته، فكانوا يتوقون رواية الكذابين والمخطئين: لقد أعرض ابن عباس عن واحد من هؤلاء عندما قال له: مالي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع؟!. رد عليه:"إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف1"، وفي رواية: "إنا كنا نحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه.
وكانت هذه الوسيلة "اختبار الرواة" من أكثر الوسائل وأنجحها في الكشف عن الحديث وتوثيقه، كما سنرى في بحثنا هذا إن شاء الله الكريم.
4-
إسناد الحديث:
47-
ومع تمحيص الرواة واختبار ضبطهم وجدنا وسيلة أخرى كانت لها أهميتها الكبيرة فيما بعد، وهي أن بعضهم حرص على ألا يأخذ حديثًا منقطع الصلة برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان يسلم الحديث بعضهم إلى بعض، وكل يذكر من رواه له قبل الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا نشأت بذور الإسناد في الحديث، والتي كانت من أهم الوسال لتوثيق الحديث، وتصحيحه فيما بعد- كما قلنا.
وبطبيعة الحال نشأت البذور فقط؛ لأن الإسناد إنما هو وسيلة للكشف عن الرواة لاختبار عدالتهم وضبطهم، ومعظمهم -في ذلك الوقت عدول ضابطون.
48-
وقد قدم لنا الإمام مسلم مثالًا لهذا، فروي بسنده: "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعطي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، العطاء،
1 صحيح مسلم بشرح النووي 1/ 67، 68.
فيقول له عمر: أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك".
في هذا الحديث أربعة من الصحابة كل منهم يروي عن الآخر، وهم: السائب بن يزيد، عن حويطب بن عبد العزى، عن عبد الله بن السعدي، عن عمر بن الخطاب، رضوان الله عليهم أجمعين، ورواه عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طبيعي؛ لأنه يحكي واقعه بينه وبين رسوله الكريم.
وهذا رأينا أن كل واحد من هؤلاء الصحابة لم يكتف بذكر من سمعه منه، ولم يرفعه من بعد عمر إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإنما بين كل منهم كيف وصل إليه الحديث. ويقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث:"وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون، يروي بعضهم عن بعض، وأربعة تابعين بعضهم عن بعض"1.
كما قدم لنا السيوطي في "تدريب الراوي" أمثلة من هذا النوع؛ بعض الصحابة يروي بعضهم عن بعض، وبعض الصحابيات يروي بعضهن عن بعض.
49-
ومن الطريف الذي قدمه لنا أيضًا -ويدل على اهتمام بعض الصحابة بالإسناد- أن بعضهم سمع الحديث من تابعي رواه عن صحابي آخر، فرواه عن التابعي عن الصحابي الذي سمعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم2.
وإلى جانب اتخاذ هذه الوسائل لتوثيق السنة، وكلها تتعلق بعملية نقل الحديث كانت هناك وسائل أخرى لتوثيقه إلى جانب ذلك، وتتعلق بمتن
1 صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 83 - 85. الحديث بطرقه وشرحه.
2 تدريب الراوي 2/ 386 - 389.
الحديث من حيث النظر فيه مرتبطًا ذلك بعرضه على النصوص والمبادئ الإسلامية ومدى ملاءمته أو معارضته لها.
ومن هذه الوسائل:
1-
عرض الحديث على القرآن الكريم:
50-
فقد أنكر بعض الصحابة: رضوان الله عليهم، بعض الأخبار؛ لأنها، في رأيهم، تخالف كتاب الله عز وجل.
51-
وقد تقدم حكم عائشة، رضي الله عنها، على عمر، رضي الله عنه، بأنه أخطأ في رواية الحديث، وكان حكمًا مؤسسًا على أن معنى الحديث بهذه الرواية يخالف آية من القرآن الكريم1.
وعندما سئلت عن متعة النساء، وقد كانت جائزة بالسنة، قالت:"بيني وبينكم كتاب الله وقرأت هذه الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 2، ثم قالت: فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا"3.
52-
وكأن ابن عباس لم ير الأحاديث التي نسخت زواج المتعة صحيحة فردها بالكتاب أيضًا؛ أي بنفس المقياس الذي استعملته عائشة لبيان التحريم.
استدل ابن عباس بقوله عز وجل: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 4. وروي في قراءة عنه زيادة "إلى أجل مسمى5".
1 انظر ص32 من هذا البحث، وانظر الإجابة ص76 و77، وفي رواية: أنها ذكرت الآية الكريمة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} أي: لم تقبله بهذه الآية أيضًا.
وهذه الآية من سورة البقرة 286.
2 المؤمنون: 5 - 7.
3 الإجابة ص195.
4 سورة النساء: 24.
5 الاتجاهات الفقهية: ص118 - 119.
53-
ومن هذا أيضًا رد عائشة الأحاديث التي حرمت لحوم الحمر الأهلية، لأنها تتعارض مع قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1، "فإن ظاهر هذه الآية يدل على أن ما عدا المذكور فيها حلال، وذكر ابن حزم أن الذاهبين إلى أنها حلال استدلوا بأن عائشة أم المؤمنين احتجت بتلك الآية عند سؤالها عن الحمر الأهلية، فكأنها تذهب إلى حليتها2.
وقد وافقها ابن عباس أيضًا فذهب إلى أنها حلال مستدلًا بهذه الآية3.
2-
عرض السنة على السنة:
54-
ومن هذا ما روى أبو مسلمة بن عبد الرحمن، قال: دخلت على عائشة، فقلت: يا أماه، إن جابر بن عبد الله يقول:"الماء من الماء"، فقالت: أخطأ. جابر أعلم مني برسول الله، صلى الله عليه وسلم؟!
…
يقول: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل"، أيوجب الرجم ولا يوجب الغسل"4؟!.
55-
وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من جهة شريك بن عبد الله عن المقدام بن شريح بن هانئ، عن عائشة قالت:"من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يبول قائمًا" فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا"5.
1 سورة الأنعام: 145.
2 المحلى لابن حزم الظاهري 7/ 407.
3 نيل الأوطار: أحمد بن علي الشوكاني طبعة بولاق 8/ 328 - 332، وانظر البخاري 7/ 123- 124.
4 الإجابة: 145.
5 سنن ابن ماجه جـ1 ص112 "طبعة عيسى البابي".
وقال الترمذي: هو أحسن شيء في هذا الباب1، وأصح، ويقول الإمام بدر الدين الزركشي: وإسناده على شرط مسلم2.
56-
ونلمح مقياس عرض السنة على القرآن في قول عمر، رضي الله عنه، عندما رد حديث فاطمة بنت قيس:"طلقني زوجي ثلاثًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا سكنى لك ولا نفقة". قال عمر: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها حفظة أو نسيت"، وهو بهذا يشير إلى أن حديث فاطمة يتعارض مع قوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 3.
3-
عرض الحديث على القياس:
57-
روي أبو هريرة، رضي الله عنه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "الوضوء مما مست النار، ولو من ثور أقط4".
فرد ابن عباس هذا الحديث بالقياس قائلًا لأبي هريرة: "يا أبا هريرة، أنتوضأ من الدهن؟! أنتوضأ من الحميم؟! "5، 6.
58-
وروى أبو هريرة أيضًا: "من غسّل ميتًا اغتسل، ومن حمله توضأ"، والأصح أن هذا موقوف على أبي هريرة، إلا أنه في حكم المرفوع، لأنه لا مجال للرأي فيه.
أنكر ذلك ابن عباس قياسًا على غير الجسد الميت، مما يحمل فلا ينقض
1 جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي. المكتبة السلفية بالمدينة 1/ 67.
2 الإجابة ص 166.
3 سورة الطلاق: 6، منهج عمر بن الخطاب في التشريع: د. محمد بلتاجي. الطبعة الأولى. دار الفكر العربي. القاهرة ص84 - 85 - أحكام القرآن: أبو بكر أحمد ابن علي الرازي الجصاص "370هـ" نشر عبد الرحمن محمد - القاهرة 1347هـ 3/ 564 - 569.
4 لبن مجفف مستحجر "تحفة الأحوذي 1/ 256".
5 الحميم: الماء الحار بالنار "نفس المصدر والصفحة".
6 جامع الترمذي بتحفة الأحوذي 1/ 256.
الوضوء، وقال:"لا يلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة"1، وكذلك أنكرته عائشة، وقالت قولًا شبيهًا بقول ابن عباس، وطبقت المقياس نفسه، قالت:"أوَ نجس موتى المسلمين؟!، وما على رجل لو حمل عودًا؟! "2.
4-
عرض الحديث على ما يقول به الصحابة:
59-
لأنهم إذا كانوا يقولون بخلافة، فمعنى هذا أنه لم يصدر من الرسول، صلى الله عليه وسلم، أو هو قد نسخ، وخاصة عرضه على من يغلب على الظن أنه لا يخفى عليه لو كان قد صدر فعلًا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كزوجات الرسول، وخاصة في الأمور الجنسية. والقصة التالية تبين ذلك:
60-
قال: عبيد بن رفاعة الأنصاري: "كنا في مجلس فيه زيد بن ثابت، فتذاكروا الغسل من الإنزال، فقال زيد: "ما على أحدكم إذا جامع فلم ينزل إلا أن يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة"، فقام رجل من أهل المجلس، فأتى عمر، فأخبره بذلك، فقال عمر للرجل: "اذهب أنت بنفسك، فأتني به، حتى تكون أنت الشاهد عليه"، فذهب فجاءه به، وعند عمر ناس من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، فقال له عمر: أي عُديّ نفسه
…
تفتي الناس بهذا؟! "، فقال زيد: "أما والله ما ابتدعه، ولكن سمعته من أعمامي؛ رفاعة بن رافع، ومن أبي أيوب الأنصاري". فقال عمر لمن عنده:"يا عباد الله، قد اختلفتم، وأنتم أهل بدر الأخيار"، فقال له علي:"فأرسل إلى أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، فإنه إن كان شيء من ذلك ظهرن عليه "فأرسل إلى حفصة، فسألها، فقالت:"لا علم لي بذلك"، ثم أرسل إلى عائشة، فقالت:"إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل". فقال
1 الاتجاهات الفقهية ومصادره ص114.
2 الإجابة، ص121، 122.
عمر عند ذلك: "لا أعلم أحدًا فعله، ثم لم يغتسل إلا جعلته نكالًا"1، وهكذا نظروا في متن الحديث، ولم يكن هناك فاصل يفصل بينهم إلا عرضه على الصحابة الذين يطبقون ما يعلمون عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
61-
حقيقة لقد ردت عائشة حديث "الماء من الماء" بحديث آخر، كما رأينا، ولكن عرض عمر له على الصحابة، واختلافهم، وفطنة علي إلى عرضه على نساء الرسول لأنه -في الغالب- لا يخفى على بعضهن شيء من هذا-كل هذا دليل على وجود هذا الاتجاه عند الصحابة، رضوان الله عليهم
…
هذا الاتجاه نما وأصبح قويًّا عند بعض علماء القرن الثاني الهجري.. سنرى -بإذن الله- عند الأحناف مثلًا عرض الحديث على عمل الصحابة وأقوالهم، وهل اشتهر بينهم إذا كان مما تعم به البلوى؟ أو لا؟. وسنرى عند أصحاب مالك عرض الحديث على عمل أهل المدينة.
62-
وبعد؛ فإن هذه المقاييس المتعلقة بالرواية ونقل الحديث وبالمتن نفسه في بعض الأحايين، قد رجعت بكثير منهم إلى الصواب، فيما أخطأ أونسي فيه، بالإضافة إلى أنها قد مهدت الطريق لمن أتى بعدهم، فقد وضعت البذور للضوابط والمقاييس التي توثقت السنة بها، وتخلصت من الدخيل الذي علق بها عن قصد أو عن غير قصد. كما أنها تدل على أن السنة لم تؤخذ، حتى في عصر الصحابة قضية مسلمة، وإنما محصت، ونظر إليها وإلى رواتها بعين النقد.
ولكن، هل هذا هو كل ما قام به الصحابة، رضوان الله عليهم، لتوثيق السنة. أم كان لبعضهم جهد آخر يسهم في توثيق السنة وتحريرها؟
63-
الحق أنه كان هناك جهد لا يقل عن تلك الجهود السابقة ونعني به تدوين السنة في صحائف حفظتها وأعانت الذاكرة على ضبطها وصيانتها.
1 الإجابة: ص78.