الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرة عامة على التوثيق في القرن الأول الهجري:
23-
إن جهود توثيق السنة في القرن الثاني الهجري لا تؤتي الثمار المرجوة منها إلا إذا سبقتها جهود أخرى قام بها قبلهم رجال القرن الأول الهجري؛ إذ أن هذه الجهود كانت هي الأساس الذي بنى عليه أهل القرن الثاني عملهم.
ما هذه الجهود؟:
24-
إن القرن الأول الهجري كان فيه الصحابة الذين تلقوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيه كبار التابعين الذين أخذوا الحديث عنهم. إذن فلنبين ما قام به الصحابة رضوان الله عليهم من أجل الحفاظ على سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجهود التابعين من بعدهم في هذا السبيل، حتى أسلموهها إلى أهل القرن الثاني الهجري.
توثيق الصحابة:
25-
لقد رأى الصحابة، رضوان الله عليهم، أن سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جزء من الدين الذي يدينون به؛ ففي القرآن الكريم الحث على طاعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، والنهي عن مخالفته، قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} 1، وقال جل شأنه:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم} 2، وقال عز من قائل:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 3، وقال سبحانه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4، إلى غير ذلك من الآيات.
1 النساء: 80.
2 النساء: 59.
3 النساء: 65.
4 الحشر: 7.
26-
وفي القرآن الكريم أيضًا الحث على الاقتداء به صلى الله عله وسلم، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .
27-
بالإضافة إلى ذلك فالرسول، صلى الله عليه وسلم، حذرهم من ترك سنته حين قال لهم:" لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: ما أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 2، وحين قال لهم يوم أن حرم عليهم أشياء يوم خيبر:"يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله"3.
28-
وقد أحسوا بذلك يقينًا حين نزلت بعض آيات من القرآن الكريم، فلم يستطيعوا فهمها، أو تنفيذ ما فيها من الوامر أو النواهي إلا بالرجوع إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبيانه لها؛ تنفيذًا لقوله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 4.
لقد نزلت الآية الكريمة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، فأبهم معنى كلمة الظلم عليهم، ويئسوا وقالوا:
1 الأحزاب: 21.
2 رواه الحاكم في المستدرك 1/ 108، وقال على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ويقول شيخنا المحدث الشيخ محمد الحافظ التجاني:"وسند هذا الحديث ورجاله رجال الصحيحين"، "سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: مجمع البحوث الإسلامية، الكتاب السابع 1389هـ - 1969م، ص21، 22".
3 رواه الحاكم أيضًا في المستدرك 1/ 109 - 110، وسنده صحيح "سنة الرسول ص 23".
4 سورة النحل: 44.
5 سورة الأنعام: 82.
أينا لم يظلم وانشتنهم رسولهم الكريم من هذا اليأس حين وضح لهم أن هذه الكلمة، تبين أن المراد بالظلم في هذه الآية الكريمة هو الشرك1.
ونزلت الأوامر مجملة بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففصل هذا الإجمال بسنته القولية أحيانًا وبسنته العملية كثيرًا، ولولا هذا البيان ما استطاعوا أن ينفذوا أمر الله تعالى بذلك.
ونزلت بعض الآيات الكريمة تحمل أحكامًا عامة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فخصص هذا العموم، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 2، فقال صلى الله عليه وسلم "لا يرث القاتل"3، وقال:"لا نورث، ما تركنا صدقة"4.
وجاءت بعض الآيات الكريمة بأحكام مطلقة، فجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيدتها، قال تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 5 وقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية بالثلث6، ولا تكون لوارث7.
بالإضافة إلى ذلك فقد جرت السنة بأحكام أخرى، غير توضيح المبهم، وتفصيل المجمل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق؛ فحرمت مثلًا الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها8. وحرمت أكل كل ذي ناب من
1 في رحاب السنة: الكتب الصحاح الستة د. محمد أبو شهبة. مجمع البحوث الإسلامية "الكتاب الثامن" 1389هـ - 1969م ص10.
2 النساء: 11.
3 سنن الترمذي جـ4 ص42، "طبعة مصطفى البابي الحلبي".
4 صحيح البخاري جـ8 ص185 "طبعة دار الشعب".
5 سورة النساء: 11.
6 سنن النسائي جـ6 ص241 - 245 المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة.
7 سنن الترمذي جـ4 ص433.
8 مصنف عبد الرزاق جـ6 ص263 - سنن النسائي جـ6 ص96 - 98.
السباع1، وحللت أكل لحم الضب والأرانب2 وغير ذلك3.
29-
أحس الصحابة في هذا كله بالحاجة الملحة إلى أخذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسوا أيضًا بالحاجة إلى حملها وصيانتها وحفظها وتسليمها إلى من بعدهم من الأجيال، والقرآن الكريم وجههم إلى حين قال لهم:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 4. والرسول صلى الله عليه وسلم، وجههم إلى ذلك أيضًا حين قال لهم: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها، ووعاها فبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 5. وحين يقول لهم عقب بعض خطبه: "هل بلغت
…
اللهم اشهد
…
يأيها الناس، ليبلغ الشاهد منكم الغائب" 6. وحين كان يقول لهم:"تسمعون ويُسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم"7.
30-
وحرصوا على عدم الغلط في الأخذ أو في الأداء؛ لأنهم سمعوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول لهم:"من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"8.
لهذا كله جدوا غاية الجد، وأخذوا بكل الوسائل التي تحقق لهم أخذ سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخذًا صحيحًا، وأداءها أداءً سليمًا، لا تبديل فيه ولا تغيير، ولا زيادة ولا نقصان.
1 سنن النسائي جـ7 ص200، 201.
2 المصدر السابق جـ7 ص196 - 200.
3 أصول التشريع الإسلامي: للأستاذ علي حسب الله. دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة 1391هـ - 1971م ص39 - 41.
4 التوبة: 122.
5 مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي "807هـ" بتحرير الحافظين العراقي وابن حجر -مكتبة القدس "1352هـ". القاهرة 1-139 ورجاله موثقون.
6 المصدر السابق 1- 139 ورجاله موثقون.
7 شرف أصحاب الحديث الخطيب البغدادي "392 - 463هـ" كلية الإلهيات جامعة أنقرة 1971 تحقيق د/ محمد سعيد خطب أوغل ص38.
8 مجمع الزوائد: 1/ 143 ورجاله رجال الصحيح.