الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب فضله وبيان من فرض عليه
592 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الكفارة لغة: من الكفر، وهو الستر والتغطية.
وشرعًا: إسقاط ما لزم الذمة: بسبب ذنب، أو جناية.
- الحجِّ في اللغة: القصد.
وفي الشرع: الحج: قصد زيارة بيت الله الحرام على وجه التعظيم، بأفعال مخصوصة في زمن مخصوص.
- المبرور: البر بكسرِ الباء اسم جامع للخير كله، فالمبرور مشتق من البر.
يقال: برَّه: أحسن إليه، فهو مبرور، ثم قيل: بر الله عمله، إذا قَبِله، كأنَّه أحسن إلى عمله بأن قبله، ولم يرده، وعلامة كونه مقبولًا هو الإتيان بجميع أركانه وواجباته، مع إخلاص النية، واجتناب ما نهي عنه.
قال النووي: الأصح والأشهر أنَّ المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، وعلامته أن تظهر ثمرته على صاحبه، بأن تكون حاله بعد الحج خيرًا منها قبله.
(1) البخاري (1197)، مسلم (827).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فضل العمرة وأنَّها، تكفر الذنوب، كسائر العبادات، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
لكن قيَّد العلماء التكفير للصغائر دون الكبائر.
فال النووي: "مذهب أهل السنة أنَّ الكبائر إنما تكفرها التوبة، أو رحمة الله وفضله".
قال ابن عبد البر: "المراد تكفير الصغائر دون الكبائر".
2 -
الحديث ظاهر في فضل الإكثار من العمرة، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
3 -
أنَّ العمرة ليس لها وقت مخصوص، ولا زمن معيَّن لغير متلبس بالحج، وهو إجماع العلماء.
4 -
أنَّ الحج أفضل من العمرة؛ لأهميته وكثرة أعماله، وكونه أحد أركان الإسلام.
5 -
قال النووي: "الأصح الأشهر أنَّ الحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البر، وهو الطاعة".
6 -
أنَّ الجنَّة هي منتهى الآمال، وهي الجائزة الكبيرة لفضائل الأعمال، ومن أعظم نعيم الجنه النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى.
7 -
الحضُّ على أداء الحج خاليًا من الإثم، آتيًا على الوجه المشروع، لأجل الحصول على هذا الثواب العظيم.
* خلاف العلماء:
ذهب جمهور العلماء إِلى استحباب العمرة في السنة الواحدة مرارًا، وقالت المالكية: تكره في السنة أكثر من عمرة واحدة.
ودليلهم: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلَاّ من سنة إلى سنة.
أما الجمهور: فدليلهم حديث الباب، وما أخرجه الترمذي (738) وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعًا:"تابعوا بين الحج والعمرة، فإنَّ المتابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد"، وغيرهما من الأحاديث، وقد اعتمرت عائشة في شهر واحد مرَّتين، وذلك في حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع.
والعلماء المحققون يريدون من العمرة ما يأتي بها الإنسان من بلده، لا ما يخرج من أجلها من مكة إلى أدنى الحل.
قال ابن القيم في زاد المعاد: ولم يكن في عُمَرِهِ صلى الله عليه وسلم عمرة واحدة خارجًا من مكة، كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عُمَرُه كلها وهو داخل إلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنَّه أحرم خارجًا من مكة، تلك المدة أصلًا فالعمرة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها عمرة الداخل إِلى مكة، لا عمرة من كان بها فخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلَاّ عائشة وحدها، من بين سائر من كان معه؛ لأنَّها كانت أحرمت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة، فصارت قارنة، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وبعمرة مستقلة، وترجع هي بعمرة ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم.
وأما الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: فقال: وأما ما يفعله بعض الناس من الإكثار من العمرة بعد الحج من التنعيم، أو الجعرانة، أو غيرهما، وقد سبق أن اعتمر قبل الحج، فلا دليل على مشروعيته، بل الأدلة تدل على أنَّ الأفضل تركه، لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يعتمروا بعد فراغهم من الحج، وإنما أعمر عائشة من التنعيم لكونها لم تعتمر مع الناس حين دخول مكة بسبب الحيض، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتمر بدلًا من عمرتها التي أحرمت بها من الميقات، فأجابها صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وقد حصلت لها عمرتان، فمن كان مثل
عائشة فلا بأس أن يعتمر بعد فراغه من الحج، عملًا بالأدلة كلها.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فقال: وأما الاعتمار بخروجه إلى الحل، فهذا لم يفعله أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، إِلَّا عائشة في حجة الودل، مع أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمرها به، بل أذن فيه بعد مراجعتها. أما أصحابه -الذين حجوا معه حجة الوداع، كلهم من أولهم إلى آخرهم- فلم يخرج منهم أحد، لا قبل الحجة ولا بعدها، وكذلك أهل مكة المستوطنون لم يخرج منهم إلى الحل لعمرة، وهذا متفق عليه، معلوم لجميع العلماء الذين يعلمون سنته وشريعته.
***
593 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! عَلى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ والعُمْرَةُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيْحٌ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال المؤلف: إسناده صحيح، وأصله في التصحيح.
وأخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني (2/ 284) عن محمَّد بن فضيل قال: حدَّثنا حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها.
قُلْتُ: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن خزيمة (3074) وأخرجه البخاري من طريق عبد الواحد بن زياد إِلى آخر السند، ثم أخرجه البخاري من طريق آخر عن حبيب بن أبي عمرة، وتابعه معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة، ولمعاوية هذا إسناد آخر بلفظ آخر.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (4287)، فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدثني إبراهيم بن الحجاج، أنبأنا أبو عوانة عن معاوية بن إسحاق عن عبادة بن رفاعة عن الحسين بن علي قال: جاء رجل إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان، وإني ضعيف، قال:"هلم إلى جهاد لا شوكة فيه، الحج".
وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات، قال المنذري: رواته ثقات.
(1) أحمد (24158)، ابن ماجة (2901)، البخاري (1520).
* مفردات الحديث:
- على النساء جهاد: بحذف همزة الاستفهام.
- جهاد: الجهاد مصدر جاهد جهادًا، أو مجاهدةً، إذا بالغ في قتال عدوه، فهو لغة: بذل الطاقة والوسع.
وشرعًا: قتال الكفار خاصة؛ لإعلاء كلمة الله.
- نَعَم: حرف جواب يأتي لثلاثة معان:
منها: أنه إعلام للسائل في جواب الاستفهام، وهو المراد هنا.
- عليهن جهاد لا قتال فيه: أطلق الجهاد الذي أرادت به قتال الكفار على الحج، من باب المشاكلة، وهو أن يذكر بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، وهو من أنواع البديع.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ الجهاد بالبدن وقتال الكفار ليس مشروعًا في حق النساء، لما هنَّ عليه -غالبًا- من ضعف البدن ورقة القلب، وعدم تحمل الأخطار، ولا يمنع ذلك قيامهنَّ بعلاج المرضى، ومداواة الجرحى، وإسقاء العطشى، ونحو ذلك من الأعمال.
2 -
أنَّ الجهاد واجب في حق الرجال، فهو فرض كفاية، إلَاّ أنَّه يتعيَّن في بعض الأحوال على كل قادر عليه.
3 -
تشبيه الحج والعمرة بالجهاد بجامع البعد عن الأوطان، ومفارقة الأهل وبذل الأموال، وأخطار السفر وأتعاب البدن.
4 -
فضل الحج والعمرة إذْ جعل ثوابهما كثواب الجهاد في سبيل الله.
5 -
فضيلة عائشة رضي الله عنها لأنَّ رغبتها في الخير والأعمال الصالحة جعلهتها تريد منافسة الرجال فيما خصص لهم من أعمال.
6 -
أنَّ الله تبارك وتعالى لما خلق الصنفين من البشر، هيَّأ كل صنف منهما، وأعده
للعمل الذي يناسبه ويتحمله، لما في ذلك من المصالح العظيمة، التي منها:
- توزيع الأعمال بين خلقه، فكل منهم يقوم بجانب من الأعمال.
- أنَّ الصنف الواحد إذا تخصَّص بعمل من الأعمال وحده أجاده وأتقنه، فجاء على المراد.
- أن يكون كل صنف مطالبًا بما يخصه، وما هيّء له من الأعمال.
- في هذا التوزيع العادل يكون عمار الكون، وسير الأعمال ونجاحها.
7 -
حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وجمال إجابته، فهو لم ينفِ عن عائشة تشوفها واشتياقها إِلى فضيلة الجهاد في سبيل الله، وإنما دلَّها على جهاد من نوع آخر، يرضي طموحها ويُطمئن قلبها.
8 -
استدلَّ بهذا الحديث الحنابلة وغيرهم على جواز صرف الزَّكاة للفقير الذي يريد أداء فريضة الحج، لأنَّه داخل في قوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60].
قال في الروض وحاشيته: ويجزيء أن يعطي منها فقيرًا لحج فرض وعمرته؛ لما روى أحمد (26026) وغيره أنَّ النَّبيَّ قال: "الحج والعمرة في سبيل الله"، ولما روى أبو داود (1698) أنَّ رجلًا جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"اركبيها فإنَّ الحج في سبيل الله".
9 -
قال في الحاشية: والحاصل أنَّه يجب للعمرة ما يجب للحج، ويسن لها ما يسن له، فهي كالحج في الإحرام، والفرائض، والواجبات، والسنن، والمحرمات، والمكروهات، والمفسدات، والإحصار، وغير ذلك، إلَاّ أنَّها تخالفه في أنَّه ليس لها وقت معيَّن، ولا تفوت، ولا وقوف لها في عرفة، ولا نزول لمزدلفة، وليس فيها رمي الجمار، ولا خطبة.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على مشروعية العمرة، وأنَّها من شعائر الله تعالى، ولكنهم اختلفوا في حكمها، فأهل الحديث، والإمامان الشافعي وأحمد، يرون وجوبها مرَّة واحدة في العمر على المستطيع كالحج.
كما روي وجوبها عن جماعة من الصحابة والتابعين، منهم عُمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وطاوس، والحسن البصري، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء.
أما الإمامان: أبو حنيفة ومالك وأتباعهما فيرون استحبابها فقط، وقد روي ذلك عن ابن مسعود ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال شيخ الإسلام في الاختيارات:"والقول بوجوب العمرة على أهل مكة قول ضعيف جدًا، مخالف للسنة الثابتة، ولهذا كان أصح الطريقين عن أحمد أنَّ أهل مكة لا عمرةً عليهم روايةً واحدةً وفي غيرهم روايتان".
وقد ذكر هذه الرواية في المغني فقال: "وليس على أهل مكة عمرة" نصَّ عليه أحمد، وقال: كان ابن عباس لا يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنّما عمرتكم طوافكم بالبيت، ووجه ذلك أنَّ ركن العمرة ومظهرها الطواف بالبيت، وهم يفعلونه فأجزأ عنهم" اهـ.
فأما دليل الموجبين مطلقًا فمثل قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والأمر يقتضي الوجوب، وقد قرنها بالحج، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه، ولما رواه الترمذي (852) وصححه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لسائل:"حُجَّ عن أبيك واعتمر" وبما أخرجه الدارقطني (2/ 284) عن زيد بن ثابت بلفظ "الحج والعمرة فريضتان".
وأما القائلون بعدم وجوبها، فيقولون إنَّ الأصل البراعة من الوجوب، ولا
ينتقل عنها إِلَاّ بدليل ثابت، فأمّا الآية فلفظ الأمر بالإتمام يشعر بأنَّه إنما يجب بعد الإحرام لا قبله، والحديث التصحيح "بني الإسلام على خمس" اقتصر على الحج، والله تعالى يقول:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97].
قلتُ: قد وردت أحاديث ضعيفة تفيد عدم وجوب العمرة، مثل:"يا رسول الله، أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمر خير لك" رواه أحمد (13877) وحديث: "الحج جهاد، والعمرة تطوع" رواه ابن ماجه (2980).
قال الحافظ ابن حجر: ولا يصح من ذلك شيء.
قال في سبل السلام: "والأدلة لا تنهض -عند التحقيق- على الإيجاب الذي الأصل عدمه".
قُلْتُ: والذي يترجح عدم الوجوب لاسيَّما للمكيين، ولكن الأفضل والأحوط هو الإتيان بها، وهو أمر سهل وميسر، ولله الحمد والمنة.
***
594 -
وعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: "أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ العُمْرَةِ، أَواجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، والرَّاجِحُ وَقْفُهُ، وَأَخْرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخرَ ضَعيفٍ (1).
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "الحَجُّ وَالعُمْرَةُ فَرِيْضَتَانِ"(2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف موقوف.
والراجح وقفه على جابر، فإنَّ الذي سأل عنه الأعرابيُّ، وأجيب عنه، مما للاجتهاد فيه مسرح، وأخرجه ابن عدي من طريق أبي عصمة عن ابن المنكدر عن جابر، وأبو عصمة كذبوه، كما أنَّ في إسناده -عند أحمد والترمذي- الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف.
وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة.
وقال الشافعي: ليس في العمرة شيء ثابت، إنما هي تطوع.
وأما حديث جابر: "الحج والعمرة فريضتان" فلم يذكر المصنف هاهنا من أخرجه، وما قيل فيه، والذي في التلخيص: أنَّه أخرجه ابن عدي (4/ 1468) والبيهقي (8542) من حديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر، وابن لهيعة ضعيف.
(1) أحمد (13877)، الترمذي (931)، ابن عدي (7/ 2507).
(2)
البيهقي (8542)، ابن عدي (4/ 1468).
* مفردات الحديث:
- أعرابي: بفتح الهمزة نسبة إلى الأعراب: سكان البادية، وجمعه أعراب وأعارب وأعاريب.
- فريضتان: الفرض لغة: الحَزُّ في الشيء.
وشرعًا: ما أوجبه الله على عباده المكلفين، وهو مرادف للواجب الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
وبعض الأصوليين يفرق بين الفرض وبين الواجب، بأنَّ الفرض ما شُرع بأمر قطعي، والواجب ما شُرع بأمر ظني.
- العمرة: اسم من الاعتمار، وهي لغة: الزيارة إلى شيء معظم.
وشرعًا: زيارة الكعبة المشرفة، لأعمال مخصوصة، جمعها عُمرٌ وَعُمُرات.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الأول: يدل على أنَّ العمرة ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، والثاني: يعارضه، فيدل على وجوبها وفرضيتها. أما الحج فأمره معروف، وتقدم الكلام عليه.
2 -
الحديثان ليسا بحجة، لا على الوجوب، ولا على الاستحباب لضعفهما، ولذا نقل الترمذي عن الشافعي أنَّه قال:"ليس في العمرة شيء ثابت، إنما هي تطوع، وفي إيجابها أحاديث لا تقوم بها الحجة".
وقد تقدم بسط الكلام على الخلاف فيها وحكمها، والله أعلم.
3 -
يدل الحديثان على مشروعية العمرة، إما وجوبًا كما في الحديث الثاني، وإما استحبابًا كالحديث الأول.
4 -
قال الوزير: أجمعوا على أن الحج والعمرة لا يَجِبَان في العمر إلَاّ مرَّة واحدةً، وأنَّ المرأة في ذلك كالرجل، وأنَّ شرائط الوجوب في حقها كالرجل.
قلتُ: وتزيد المرأة بشرط المَحْرَم.
595 -
وَعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: "قِيَلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ" رَواهُ الدَّارقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إِرْسَالُهُ (1)، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ أَيْضًا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
والشيخ الألباني: ناقش طرق هذا الحديث مناقشة طويلة، واستعرض أقوال المحدثين فيه، وانتهى به الأمر إِلى قوله: وخلاصة القول: أنَّ طرق هذا الحديث كلها واهية، وبعضها أوهى من بعض، وأحسنها طريق الحسن البصري المرسل. وليس في تلك الموصولات ما يمكن أن يجعل شاهدًا لها لِوَهْيها.
ويظهر أنَّ ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: لم يعط هذه الأحاديث والطرق حقها من النظر والنَّقد، حيث سردها في شرح العمدة ثم قال: فهذه الطرق مسندة من طرق حسانٍ، ومرسلةٍ، وموقوفةٍ، تدل على أنَّ مناط الوجوب الزاد والراحلة. اهـ.
قُلْتُ: ليس في تلك الطرق ما هو حسن، بل ولا ضعيف منجبر، فتنبه.
وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مُسْنَدًا، والصّحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة.
* مفردات الحديث:
- السبيل: السبيل يراد به الطريق، ويستعمل لكل ما يتوصل به إلى شيء، وهو
(1) الدارقطني (2/ 216)، الحاكم (1613).
(2)
الترمذي (813).
المراد هنا، ويذكر ويؤنث، والمسؤول عنه هنا هو المذكور في قوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
- الزاد: هو الطعام المدخر الزائد على ما يحتاج إليه في الوقت الحاضر، فسمي به طعام المسافر الذي يدخره لسفره، والجمع أزواد.
- الراحلة: هي من الإبل الصالحة للأسفار والأحمال، والرحل ما يوضع على ظهر البعير للركوب، والمراد هنا الحصول على ما يوصله إلى البيت الحرام.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فقد أناط تعالى وجوب الحج باستطاعة السبيل، فسأل بعضُ الصّحابة النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن السبيل في هذه الآية، ففسَّره بالزاد والراحلة.
2 -
من وجد الزاد والراحلة وجب عليه الحج، ومن لم يجد فلا يجب عليه.
3 -
الراحلة فسَّرت بالناقة، ولكن المعنى يشمل المراكب الآخر، فأصبحت الراحلة الآن إما السيَّارة، أو الطائرة، أو الباخرة، أو غيرها من المراكب الحديثة.
4 -
الزاد فُسِّر لغة بطعام المسافر، وأصبح الآن يشمل كل ما يحتاج إليه مريد الحج، من النفقات المنوعة، التي تختلف باختلاف الأحوال والأوقات.
5 -
الشارع أطلق الزاد والراحلة، ولكل إنسان ما يناسبه ويليق به، فلابد أن يكونا صالحين لمثله.
6 -
ومن هذا الحديث يستدل بأنَّ الله تعالى لم يكلف نفسًا إلَاّ وسعها، فالعاجز لا يجب عليه الحج، ولا يبنغي أن يحج ثم يكون عالة على الناس.
7 -
ما تقدم هو شرط الاستطاعة، فإن كملت أداة الاستطاعة، ولكن حصل مانع آخر فإن كان ميؤوسًا من زواله، كمرض ميؤوس منه، أو شيخوخة، أو أيست المرأة من حصول المحرم أنابوا من يحج عنهم، وإن كان المانع مرجوَّ الزَّوال -كمرض مأمول الشفاء منه، أو كخوف الطريق- بقي منتظرًا
حتى يزول، ثم إذا زال بادر بأداء الفريضة، إذا كان لا يزال مستطيعًا.
8 -
فيه دليل على أنَّ الصحابة رضي الله عنهم فهموا من كتاب الله معاني أسماء الله وصفاته، وأنهم لم يمروها ألفاظًا كما نزلت من دون معرفة لها، لأنَّها نزلت بلسانهم، فعرفوا معنى الاستواء والنزول، وفهموا معنى الرحمة، والغضب، والعجب، والمحبة، وجميع الصفات الذاتية والفعلية، ومما علموا أنَّ مَرَدَّ علمه إلى الله تعالى -وهو كيفية الصفة- فقد سكتوا عنه.
ولو كانوا لم يعلموا ذلك ما سكتوا عن السؤال عنه، وهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقل أهمية في الدين من ذلك، وهو معنى السبيل في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ففي هذا رد على طوائف المعتزلة والجهمية، وأضرابهم.
10 -
أنَّ الله تبارك وتعالى جعل الحج على: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فالفقير لا ينبغي أن يكلف نفسه ويشق عليها، وربَّما ضرَّ بحجه نفقة واجبة عليه، أو دينًا واجبًا عليه أداؤه، فيقدم ما لم يجب عليه على الواجب عليه، والله تعالى يقول:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91].
11 -
قال الفقهاء: والقادر مَنْ وجد زادًا وراحلة صالحين لمثله بعد قضاء الواجبات من الديون الحالَّة والمؤجلة، والزكوات، والكفارات، والنذور، وبعض النفقات الشرعية له ولأهله، إلى أن يعود بلا خوف.
* فائدة:
قال شيخ الإسلام: من اغتصب مركوبًا، أو اشتراه بمال مغصوب، وحج عليه فإنَّه يجب عليه أن يعوض صاحبه إذا أمكن، وإلَاّ تصدَّق بقدر قيمة الثمن عنه، وقد طاب حجه، وينبغي أن يعد لحجه وعمرته نفقة طيبة من حلال، لما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إنَّ الله طيبب لا يقبل إلَاّ طيباً"[رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1686)].
596 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوحَاءِ، فَقَال: مَنِ القَوْمُ؟ قَالُوا: المُسلِمين، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَال: رَسُولُ اللهِ، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، وَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟، قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- رَكْبًا: بفتح الراء وسكون الكاف بعدها باء موحدة تحتية، جمع راكب وهم الراكبون على الإبل خاصة في السفر، من العشرة فما فوق، جمعه أركب وركوب وركبان.
- الروحاء: بفتح الراء وسكون الواو ثم حاء مفتوحة بعدها ألف ممدودة، والروحاء بئر على الطريق الساحلي بين مكة والمدينة المنورة، وتبعد عن المدينة بـ (73) كيلو متر، يوجد بها المقاهي واستراحة، وتسميها العامة بئر الرحا، أو بئر الراحة، وخف شأنها الآن بعد أن أحدث الطريق السريع الذي لا يمر بها.
- صبيًّا: الصبي جمعه صبية وأصبية وصبيون وصبيان، قلبوا الواو فيها ياء للكسرة التي قبلها، وهو الغلام من الولادة إلى البلوغ.
وقال بعض أهل اللغة: يقال له صبي إذا قارب البلوغ عرفًا، وأما لغة فمن الولادة إلى أن يفطم.
- حج: مبتدأ مؤخر، و"ألهذا" خبر مقدم، يعني: أيحصل لهذا ثواب حج، ولم تقل: أعلى هذا حج؛ لأنَّه لا يجب على الأطفال.
(1) مسلم (1336).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
صحة حج الصغير والصغيرة، سواء كانا مميزين، أو دون سن التمييز.
2 -
أنَّ ثواب الحج للصغير لا لوليه، ولا لغيره من أقاربه، لكن لوليه الذي تسبب في نسكه أجر على ذلك.
3 -
حجة من دون البلوغ لا تجزيه عن حجة الإسلام، فإنَّ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة: نعم، أي: يصح منه الحج. وإن كان طفلًا لا يميز، كما هو ظاهر السياق بقوله:"فرفعت إليه امرأة صبيًا"، وهذا الإجمال في كلمة "حج" مبيَّن بحديث "أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى"[رواه البيهقي (9629)]. أي له الأجر في التطوع بالحج قبل البلوغ، وعليه ركن الحج -
وجوبًا -بعد البلوغ.
فقد أجمع العلماء على أنَّه لا يجزئه -إذا بلغ- عن حجة الإسلام.
قال الطحاوي: "لا حُجة في قوله "نعم" على أنَّه يجزئه عن حجة الإسلام، بل فيه حُجة على من زعم أنّه لا حجَّ له".
4 -
ما دام أنَّ الشارع أجاز حج الصغير فإنَّه يريد منه أن يأتي به على الوجه المشروع، فتشمله أحكام حج الكبير إلَاّ ما أخرجه الدّليل، فحيئذٍ يكون على وليه أن يتبع ما يأتي:
أ - إن كان دون التمييز أن ينوي عنه الإحرام، ويصير -بذلك- الصغير محرمًا.
ب - إن كان مميزًا أمره وليه أن يحرم، لأنه لا ينعقد الإحرام من الصغير المميز إلَاّ بإذن وليه؛ لأنَّه تصرف فيه شائبة مالية، فلا يكون إلَاّ بإذن الولي.
ج - إنَّ كان ذكرًا تجنب ما يتجنبه الذكور في الإحرام، وإن كان أنثى تجنبت ما يجتنبه النساء في الإحرام.
د - إن كانا مميزين فعليهما الطهارة من الحدث والنجاسة للطواف، وإن كانا دون التمييز، فينبغي لوليهما أن يطهر أبدانهما وثيابهما من النجاسة حين الطواف.
5 -
ولي الصغيرين هو القائم بشؤونهما ومصالحهما، من أب أو أم، أو غيرهما، فلا تُخص الولاية بالرجال، كما هو ظاهر الحديث.
6 -
يفعل الولي عنهما ما يعجزان عنه كالرمي ونحوه، لما روى الترمذي (849) عن جابر قال:"كنَّا حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنَّا نرمي عن الصغار".
أما ما يقدر عليه الصغير فيأتي به بنفسه، كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والطواف والسعي.
7 -
إذا كان الصغير المحمول في الطواف والسعي مميزًا، فإنَّه ينوي عن نفسه وحامله الطائف أو الساعي ينوي عن نفسه، ولكل منهما نية خاصة بنفسه، وأما إذا كان دون التمييز والناوي عنه حامله، فظاهر هذا الحديث إجزاء ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر المرأة التي سألته أن تطوف له وحده ولها وحدها، ولو كان واجبًا لبيَّنه، ولكن خروجًا من الخلاف، ومن باب الاحتياط، ولحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"[رواه الترمذي (2442)]، فالأفضل أن يكون حامله قد طاف وسعى لنفسه، حين حمل من هو دون التمييز.
8 -
فيه قبول العبادة من الصغار وإثابتهم عليها، وفيه تدريب وتمرين على طاعة الله تعالى، التي هي سعادة الدنيا والآخرة، ولله في أمره أسرار.
9 -
استحباب التعارف والتآلف بين المسلمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال:"من القوم؟ " فقالوا: فمن أنت؟ قال: "رسول الله".
والتعارف والتواصل من أهداف الحج ومقاصده، التي أشار إليه القرآن الكريم بقوله:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28].
10 -
فيه فضيلة صحبة أهل العلم والفضل، لاسيَّما في سفر الحج؛ ليستفيد منهم المسلم، وليؤدي عبادته على منهج سليم.
11 -
فيه أنَّ صوت المرأة ليس بعورة، ما لم تلينه وترققه، كما قال تعالى: {فَلَا
تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [الأحزاب] وإنَّ سماعه من الرجال جائز للحاجة إذا لم يقصد الرجل التلذذ بسماع صوتها.
12 -
فيه أنَّ المرأة تلي شوؤن ولدها، وتعمل فيه بما هو الأصلح له، ولو كان والده موجودًا، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يستفسر منها عن وجود أبيه.
13 -
حج الفرض عن الميت يجزيء عنه، ولو بغير إذن وارث؛ لأنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم شبَّهه بالدين.
أما الحي فلا يسقط عنه الحج إلَاّ بإذنه، ولو معذورًا، كدفع الزَّكاة عنه؛ لأنَّ هذه عبادات لا تصح إلَاّ بنيَّة.
بخلاف الدَّين فإنَّه يصح القضاء عنه بلا إذنه، لأنَّه ليس عبادة، ولو حجَّ أو اعتمر نفلًا، ونوى ثوابه لميت أو حي صحَّ، وأجزأ، ولو بلا إذن المحجوج عنه، والمعتمر عنه.
***
597 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ الفَضْلُ بنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَدِيف رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فَرِيْضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أدْرَكتْ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- رديف: وزن فعيل، وهو الراكب خلف الراكب، جمعه أرداف، ورُدَفاء، ورِداف.
- خثعم: هي قبيلة قحطانية ينتهي نسبها إلى كهلان، تقع ديارها على طريق الطائف إلى أبها، تحد ديارها -من ناحية الشمال والغرب- قبيلة شهران، وتحدها من الجنوب والشرق ديار بلقرن.
- فجعل الفضل: جعل من أفعال الشروع -هنا-، وضع ليدل على أن الخبر بدىء في فعله، و"الفضل" اسم جَعَل، وجملة:"ينظر إليها" في محل نصب خبرها.
- الشِّق: بكسر الشين المعجمة بعدها قاف مشددة، المراد به هنا الجانب.
- أدركت: أي لحقت، فالإدراك اللحاق.
- شيخًا كبيرًا: نصب على الحال، و"كبيرًا" صفة، وهو من استبانت فيه السن،
(1) البخاري (1513)، مسلم (1334).
يجمع على شيوخ وشيخان وغيرهما.
- لا يثبت على الراحلة: الجملة صفة لـ"شيخ" بمحل النصب، والمعنى: لا يدوم، ولا يستقر، فلا يقدر على ركوب الراحلة.
- أفأحج عنه: الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوفة على محذوف، أي: أيصح مني أن أكون نائبة، فأحج عنه؟
- نعم: حرف جواب وإعلام، وإن وقعت بعد الماضي: فهي تصديق له.
- حَجَّة الوداع: بكسر الحاء وفتحها وتشديد الجيم، وهي التي ودَّع النبي صلى الله عليه وسلم النَّاس فيها، وإلَاّ فهو لم يحج بعد الهجرة إلَاّ هذه الحجة.
- الودَاع: بفتح الواو، اسم من التوديع عند الرحيل، وهو الترك والمفارقة، سمي بذلك تفاؤلًا للمسافر بالدعة، التي سيصير إليها في سفره إذا قفل، وحجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تحريم النظر إلى المرأة التي ليست بذات مَحْرم.
2 -
إبعاد الإنسان عن مواقِع الفتنة، وصده عنها.
3 -
وجوب إنابة المُزْمِن غَيْرَهُ ليحجَّ عنه، وإن كان موسِرًا.
4 -
جواز نيابة المرأة عن الرجل، وبالعكس في أداء النسك.
قال شيخ الإسلام: يجوز للرجل الحج عن المرأة باتفاق أهل العلم، وكذا العكس عند الأئمة الأربعة، وخالف فيه بعض الفقهاء.
5 -
إنَّ من لم يستطع أداء الحج ببدنه لا يلزمه أداؤه بنفسه، بل تكفي النيابة عنه، هذا في حال استطاعته بماله، فإن لم يستطع بالمال، فلا تجب النِّيابة عليه، لقوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
6 -
ما دامت النِّيابة جائزة في فرض الحج، ففي نفله من باب أولى وأحرى أن تجوز.
7 -
ترك الاستفصال في هذا الحديث يدل على أنَّ النائب في الحج يأتي به، ولو من غير بلد المنوب عنه، ولو كانت أقرب منه، خلافًا للمشهور من مذهب الإمام أحمد.
8 -
في الحديث دليل على وجوب كشف المحرمة وجهها حين الإحرام، ولكنه مقيد بعدم رؤية الأجانب لها، كما في حديث عائشة الآتي.
9 -
هذه المسألة حدثت في حجة الوداع، أي قُبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأحكامها باقية لم تنسخ.
10 -
فيه بر الوالدين بالقيام بمصالحهما، من قضاء الديون، وأداء الحج، وغير ذلك.
11 -
جواز الإرداف على الدابة، إذا كانت مطيقة.
12 -
جواز سماع كلام الأجنبية للحاجة، إذا لم يخش فتنة، وتقدم.
***
598 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَن تَحُجَّ، وَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَايْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيتَهُ، اقْضُوا اللهَ، فَالله أَحَقُّ بِالوَفَاءِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- جُهَيْنَة: بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء بعدها نون مفتوحة ثم مربوطة، هو جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، فهي قبيلة قضاعية قحطانية، منازلها حتى الآن على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، وعاصمة قراها أملج.
- نذرت: أي أوجبت على نفسها، فالنذر شرعًا: إلزام مكلف مختار نفسه شيئًا لله تعالى، بكل قول يدل عليه.
- أفأحج عنها: الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار.
- أرأيتِ: أوله همزة استفهام للتقرير، وًاخره تاء المخاطبة المكسورة، والمعنى أخبريني.
- قاضيته: قضى لها عدة معاني، والمراد بها هنا: أدى دينه.
- اقضوا الله: أي اقضوا حق الله تعالى، وما وجب له عليكم.
- أحق بالوفاء: يعني أولى بإعطاء حقه وافيًا من غيره.
(1) البخاري (1852).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
انعقاد النذر في العبادات، والنذر هو إلزام المكلف نفسه شيئًا لله تعالى بالقول غير لازم بأصل الشرع.
2 -
وجوب الوفاء بالنذر إذا أوجبه الإنسان على نفسه؛ لقوله: "حجي عنها، واقضوا الله، فالله أحق بالوفاء".
لكن أصل عقد النذر مكروه، لما جاء في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنَّه نهى عن النذر، وقال: إنَّه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل".
3 -
في الحديث دليلٌ على أنَّ ناذر الحج إذا مات قبل أداء نذره يؤدى عنه، وجوبًا إن كان ترك مالًا، واستحبابًا إنَّ لم يترك مالًا، وأنه تعلق بذمته، وذلك مستفاد من تشبيهه بالدين، فإنَّ من مات وعليه دين، وله تركة وجب إيفاء الدِّين، وإلَاّ فلا يجب على الورثة، وإنما يستحب في حقهم.
4 -
إنَّ الوفاء واجب عن الميت، ولو لم يوصِ به، لأنَّه دين، فوجب إبراء ذمته منه.
5 -
في الحديث دليل على أنَّ القياس أصل من أصول التشريع، فإنَّه صلى الله عليه وسلم قاس الحج على الدين، وقاس حق الله على حق غيره في وجوب الوفاء.
6 -
في الحديث حسن التفهيم وتوضيح المسائل، فإنَّه صلى الله عليه وسلم ضرب المثل في المعلوم للمجهول؛ ليتضح وليكون أوقع في النفس.
7 -
في الحديث دليل على وصول ثواب عبادة الحج من الحي إلى الميت، وهو في الحج، والصدقة، والدعاء، والاستغفار مجمع عليه بين العلماء، وفي الصوم، والصلاة وتلاوة القرآن. موضع خلاف، والصّحيح عمومه، وتقدم بيان الخلاف في كتاب الجنائز، والله أعلم.
8 -
وجوب قضاء حقوق الله تعالى على الميت كالزكاة، والنذر، والكفارة،
وحجة الإسلام، وأنها تزاحم الحقوق التي عليه للخلق، فتُقدَّم هذه الديون على حق الوثة في التركة، فإن لم تفِ التركة، وزَّعت على الديون كلها، كلٌ بنسبته.
9 -
بر الوالدين ولو بعد وفاتهما، وإنَّ من البر بهما وفاء ديونهما ونذرهما.
10 -
إجزاء وفاء الدين النذر عن الميت من لطف الله تعالى بخلقه، وبره بهم، ليخفف عنهم أعباء الواجبات وتبعة الحقوق.
***
599 -
وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بلَغَ الحِنْثَ، فَعلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى" رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالبَيْهقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَات، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، وَالمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال المؤلف: رجاله ثقات، والمحفوظ أنَّه موقوف، وأخرجه الطحاوي والبيقهي من طريقين، وإسناده صحيح مرفوعًا وموقوفًا، وللمرفوع شواهد ومتابعات يتقوى بها.
قال في التلخيص: ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: "احفظوا عني، ولا تقولوا: قال ابن عباس"، وهذا ظاهره أنَّه أراد أنَّه مرفوع، فلهذا نهاهم عن نسبته إليه.
* مفردات الحديث:
- الحِنث: بكسر الحاء المهملة وسكون النون ثم ثاء مثلثة، هو الإثم والذنب، معناه أنَّه بلغ أن يكتب عليه إثم ذنبه، إذ بلغ حد التكليف.
- أيما: أيُّ: اسم شرط، وهي هنا معربة؛ لأنَّها مقطوعة عن الإضافة، و"ما" زائدة والتقدير أي صبي .. إلخ.
(1) ابن أبي شيبة (14875)، البيهقي (8397).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
فيه دليل على صحة حجة من لم يبلغ، وقد تقدم بيانه.
2 -
أنَّ حجة الصغير لا تجزئه عن حجة الإسلام، فإذا بلغ فعليه أن يؤدي فريضة الحج بعد البلوغ إذا كان مستطيعًا.
3 -
قال الترمذي وابن عبد البر والوزير وغيرهم: أجمع أهل العلم على أنَّ الصبي إذا حج قبل أن يبلغ فعليه الحج إذا بلغ ووجد سبيلا إليه، ولا تجزئه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذا عمرته.
4 -
أنَّ الصغير قبل البلوغ لا تكتب عليه الآثام في أعماله العدوانية، ولا توجب عليه واجبات يوصف بأنه فرط فيها، إلَاّ أنَّ هذا لا يسقط وجوب تأديبه، وتربيته بالحكمة.
5 -
أنَّ حجة الرقيق قبل عتقه صحيحة، له وللساعي في حجه أجرها، كما يكون ذلك للصغير.
6 -
أنَّ حجة الرّقيق قبل العتق لا تجزئه عن حجة الإسلام، بل عليه أن يحج أخرى إذا كان مستطيعًا، عملاً بهذا الحديث.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم -إلَاّ من شذَّ منهم- على أنَّ الصبي والعبد إذا حج في صغره، والعبد في حال رقه، ثم بلغ الصبي وعتق العبد، أنَّ عليهما حجة الإسلام، إذا وجدا سبيلًا.
وقال الترمذي: أجمع أهل العلم على أنَّ المملوك إذا حجَّ في حال رقه، ثم عتق فعليه الحج، إذا وجد إلى ذلك سبيلًا، ولا يجزيء عنه ما حجَّ في حالة رقه.
***
600 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: "لَا يَخلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ المَرْأُةُ إِلَّا معَ ذِي مَحْرَمٍ، فَقَامَ رَجُلٌ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا يخلونَّ: "لا" حرف نهي، تجزم الفعل، فالفعل مجزوم بها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.
- إلَاّ ومعها ذو محرم: المَحْرم بفتح الميم: مَنْ يَحرم عليه نكاحها أبدًا، من قريب بنسب كأبيها وأخيها، أو سببٍ مباحٍ. كصهر أو رضاع، والزوج له حكم المحرم.
- اكتُتِبْتُ: مبني للمجهول، وأصل الكتب جمع الشيء، من ذلك الكتابة جمع الحروف بعضها إلى بعض، والمراد هنا أنَّ اسمي مكتوب مع الغزاة.
- كذا وكذا: "الكاف" للنسبة، "وذا" اسم إشارة، والثانية توكيد لفظي للأولى.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، وهي مَن ليست بذات محرم له.
2 -
كذلك يحرم سفر المرأة مع غير ذي محرم، ولو للعبادة، أو للحاجة.
3 -
لا يجب عليها أداء الحج إذا لم تجد محرمًا، وذلك بإجماع العلماء، ولكن هل المحرم شرط للوجوب، أو شرط للأداء؟
(1) البخاري (1862)، مسلم (1341).
قولان، التصحيح الأول منهما لكن لو قامت به أجزأ عنها مع التحريم عند الأئمة الأربعة؛ لأنَّ أهلية الحج تامة، والمعصية في أمر خارج عنه.
4 -
في منعها من الحج إلَاّ مع ذي مَحرم حكمة سامية، هي المحافظة على الأخلاق الكريمة، والصيانة والعفاف، فإنَّ المرأة محل الأطماع، وهي ضعيفة في بدنها ونفسها، ولا يحافظ على شرفها ويغار عليها مثل الرجال من محارمها.
5 -
إذا تأملت حال نساء المسلمين الآن، من التبرج، والعري، ومزاحمة الرجال، والخلوات المحرمة معهم، وصحبتهم في الأسفار البعيدة، وغير ذلك من العادات التي يندى له الجبين، علمت بعد المسلمين عن دينهم، وعدم مراعاتهم حرماته.
6 -
في مثل هذه الآيات الكريمة والأخلاق العالية، المحافظة على الكرامة، والصيانة للشرف والعِرض، وحفظ الأنساب والأعراق، وهو مظهر كريم، وتكريمٌ للمرأة، وتطهيرٌ لها من الأدناس، أما الخلاعة والمجون والإباحية فهي الرجعية إلى عهد الوحشية والبهيمة، التي لا تعرف نظامًا، ولا قانونًا، ولا حياءً، ولا عفةً.
7 -
إنَّ فرض العين مقدم على فرض الكفاية، فالرجل كُتِب في الجهاد وهو فرض كفاية، والمحافظة على زوجته فرض عين، فقدمه النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه دليل على تقديم الأعذار الخاصة اللازمة على فروض الكفايات.
8 -
محرم المرأة هو زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد، بنسب كأخ وبسبب مباح كأخ من رضاع.
9 -
يشترط في المحرم الإسلام، فالكافر لا يكون محرمًا، كما يشترط التكليف بالبلوغ والعقل؛ لأنَّ الصغير والمجنون لا تحصل بهما الصيانة والكفاية.
10 -
استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أنَّ أداء فريضة الحج على التراخي
فلا تجب على الفور، ووجهه أنَّ زوجة الرجل تريد الحج في حجة الوداع، وزوجها كُتِب مع الغزاة، والمسلمون لم يحجوا إلَاّ ذلك العام، ولكنه معارَض بحديث:"إنَّ الله كتب عليكم الحج فحجوا"[رواه مسلم (2380)].
والأمر يقتضي الفور عند الأصولبين، وهذا نص لا يقاومه الاستنباط من حديث الباب، فإنه معرض لوجود الاحتمالات، وهو معارض بما رواه الإمام أحمد (2721) والبيهقي (8477) من حديث ابن عباس أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"تعجلوا الحج، فإنَّ أحدكم لا يدري ما يعرض له".
11 -
يعتبر المَحرم لكل من لعورتها حكم، وهي بنت سبع سنين فأكثر لأنَّها محل شهوة.
12 -
قال الشيخ: ليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب مع ذي محرم، وعليها أن تحج، وإن لم يأذن في ذلك، وإن أحرمت به بلا إذنه لم يملك تحليلها، ويستحب لها أن تستأذنه.
13 -
جاء في البخاري (1026) ومسلم (1339)"لا يحل لامرأة أن تسافر يومًا وليلةً، إلَاّ ومعها ذو محرم".
وجاء في البخاري (1026)"لا تسافر مسيرة يوم، إلَاّ ومعها ذي محرم".
وجاء في صحيح مسلم (1339): "لا يحل لامرأة أن تسافر سفرًا إلَاّ ومعها ذو محرم لها".
وجاء في المسند لأحمد (2391) بسند صحيح: "لا يدخل على المرأة رجل، إلَاّ ومعها محرم".
والقصد من المحرم معلوم، والعلماء تجاه هذا لهم اتجاهات، فبعضهم تمسَّك بظواهر النصوص، فلم يرخِّص للمرأة بتخطيها، سواء
كانت مسنة أو شابة، وسواء كانت مع رفقة آمنة أوْ لا، وسواء كان ثقةً في نفسها أوْ لا.
وبعضهم نظر إلى معنى ومراد الشارع، فما دام أنَّ حال الطمع في المرأة موجود، فالعمل بالنصوص واجب، وإذا فُقد هذا الخوف، بأن كانت المرأة ثقة في نفسها، ومع نساء ثقات، أو كانت في مجمع حاشد كالطائرة، يودعها محارمها ويستقبلها محارمها، فهؤلاء لا يتمسكون بظواهر النصوص، ويرون أنَّه لا يوجد محذور.
قال شيخ الإسلام: تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم؛ لزوال العلة. وقال: هذا متجه في كل سفر طاعة.
14 -
وقال الشيخ: وليس للأبوين منع ولدهما من الحج الواجب، ولا يجوز للولد طاعتهما في ترك واجب الحج، وكذا كل ما وجب: من صلاةٍ وصومٍ وصلاة الجماعةِ والسفر لطلب العلم الواجب؛ لأنَّه فرض عين، فطاعتهما واجبة في غير معصية: من فعل محرمٍ، أو ترك واجبٍ.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية منه، كما أجمعوا على تحريم سفر المرأة بدون محرم، إذا خيف الفتنة، واختلفوا فيما إذا بعدت الشبهة وموطنها.
فبعضهم أخذ بعموم اللفظ، فحرَّموا سفرها بدون محرم، سواءٌ قَرُب السَّفر أو بعُد، وسواءٌ كانت شابةً أو عجوزًا، وسواءٌ كان معها رفقةٌ من النساء أو لا، وهذا مذهب الحنابلة والظاهرية، وإليه ذهب إبراهيم النخعي، والشعبي، وطاووس.
أما الجمهور فذهبوا إلى تحريم ذلك على الشابة، وتساهلوا في المرأة الكبيرة، وبعضهم خصص السماح لها بوجود رفقةٍ من النساء، وبعضهم أباحه
حينما يكون الطريق آمنًا، وهذا كله في الحج الواجب.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فنقل عنه في الاختيارات قوله: "وتحج كل امرأة آمنة، مع عدم محرم؛ لزوال العلة، قال أبو العباس: وهذا متوجه في كل سفر طاعة".
قلتُ: والمسألة موضع اجتهاد بين العلماء، فمن رأى عموم النصوص أجراها على ظاهرها، ومنع ذلك مطلقًا، ومن رأى المعنى الذي حرم السفر من أجله أباحه في سورة تبعد الشبهة بها، وتخف الريبة حولها، والراجح ما قاله الشيخ من الجواز مع وجود الأمن، وقد تقدم مثله قريبًا، والله أعلم.
***
601 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ؟ قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ، قَالَ أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيْبٌ لِي، فَقَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ" رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، والرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال المؤلف: صحَّحه ابن حبان، قال البيهقي: إسناده صحيح، وليس في الباب أصح منه.
قال ابن الملقن: إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أعلَّه الطحاوي بالوقف، والدارقطني بالإرسال، والظاهري بالتدليس، وابن الجوزي بالضعف.
ولكن الحافظ في التلخيص مال إلى تصحيح الحديث، بالنظر إلى أنَّ له شاهدًا مرسلًا، رواه سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب الحافظ في التلخيص عن بعض علله، وهذا المرسل يقوي الموصول، ورجَّح عبد الحق وابن القطان رفعه، وصحَّحه ابن حجر مرفوعًا، وقال ابن الملقن: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الشوكاني.
(1) أبو داود (1811)، ابن ماجه (2903)، ابن حبان (962).
* مفردات الحديث:
- لبَّيك: سيأتي شرحه في حديث جابر، إن شاء الله تعالى.
- شُبْرُمَة: بضم الشين والراء وسكون الباء الموحدة.
- أخ لي أو قريب لي: "أو" للشك، والشاك هو راوي الحديث.
- حججت عن نفسك: هذا للاستفهام، وتقديره: أو لا؟
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب ذكر اسم المحجوج عنه في التلبية، لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم الرجل على تلبيته.
2 -
جواز حج الإنسان عن قريبه، سواء كان حيًّا أم ميتًا، لكن في النافلة تجوز مع قدرته على الحج وعدمها، أما في الفريضة فلا يحج عنه حتى ييأس من قيامه بالحج بنفسه.
3 -
أنَّ النائب لا تجوز حجته عن غيره إلَاّ بعد أن يحج فريضة الإسلام.
4 -
أنَّه لو أحرم عن غيره في هذه الحال انقلب الحج له، ومثله لو أتم الحج صارت الحجة له، لا لمن نوى النيابة عنه، فهو من الأحكام القهرية التي لا تؤثر فيها النية.
5 -
أنَّ الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد، فإن الإحرام عن الغير ممن لم يحج عن نفسه باطلٌ للنهي، ولكنه لم يؤثر في أصل عقد الإحرام، فصحت الحجة القائم بها مع اختلاف نيته وقصده.
6 -
وجوب المبادرة إلى تعليم الجاهل، إذا كان متلبسًا بالعبادة على غير وجه صحيح.
7 -
أنَّ المفتي إذا بيَّن للجاهل خطأ ما هو عليه، فلابُدَّ أن يبين له الطريقة الصحيحة في عمله الذي أخطأ فيه.
8 -
الحج عمل من شرطه أن يكون قربة لفاعله، فلا يجوز الاستئجار عليه
كغيره من القرب، فإذا كان هذا العمل إنما يعمل للدنيا ولأجل العوض الذي أخذه، لم يكن حجه عبادة لله، وإنما تقع النيابة المحضة فيمن غرضه نفع أخيه المسلم، لرحمٍ بينهما، أو صداقةٍ، أو غير ذلك، وله قصد أن يحج بيت الله الحرام، ويزور تلك المشاعر العظام، فيكون حجه لله، فيقام مقام المتسبب.
9 -
قال العلماء: يستحب أن يحج عن أبويه إن كانا ميتين، أو عاجزين؛ لحديث زيد بن أرقم:"إذا حجَّ الرجل عن والديه تقبل عنه وعنهما، واستبشرت أرواحهما في السماء، وكتب عند الله برًّا". أرواه الدارقطني (2/ 259)، ولا نزاع في وصول ثوابه إليهما.
***
602 -
وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال: خطَبَنا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "إنَّ الله كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَقَامَ الأَقْرَعُ بنُ حَابسٍ، فَقَال: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، الحَجُّ مَرَّةً، فَمَا زادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ" رَوَاهُ الخَمسَةُ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ (1)، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (2).
ــ
* درجة الحديث:
أصل الحديث صحيح بلفظ مقارب لهذا اللفظ، وأخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وغيرهم، فهو حديث مشهور ومتداول.
ولفظ مسلم: عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيُّها النَّاس! إنَّ الله قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجال: أكلَّ عام يا رسُول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلتُ نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
وقد صحَّح الحديث الحاكم ووافقه الذَّهبي، وقال الحافظ ابن حجر: له شواهد منها عند ابن ماجه عن أنس ورجاله ثقات.
* مفردات الحديث:
- كَتَبَ: له معان، والمراد هنا "فرض"، وجاء في الرواية الأخرى للحديث:
(1) أحمد (2510)، أبو داود (1721)، النسائي (2573)، ابن ماجه (2886).
(2)
مسلم (1337).
"فرض الله عليكم الحج".
- وجبت: وجب يجب وجوبًا لزم وثبت، والواجب شرعًا: ما أثيب فاعله وعوقب تاركه، وقال في المحيط: هو ما لزم علينا بدليل.
- تطوع: أي تبرع، وعبادة نافلة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمواعظ والتعليم، والتفقه في الدين.
2 -
فرض الحج على المسلمين إلَاّ من خصَّهم الدليل بعدم الاستطاعة.
3 -
أنَّ الحجَّ هو في العمر مرَّة فقط، وما زاد فهو نافلةٌ.
4 -
أنَّ صيغة الأمر لا تدل على التكرار في امتثاله أكثر من مرة، ما لم يأت البيان من دليل آخر.
5 -
أنَّ بعض الأحكام تكون بتفويض من الله تعالى لرسوله، وما كان بالاجتهاد أو بالوحي فكله شرع الله تعالى، فإنَّه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، ولا يقره الله تعالى إلَاّ على الحق.
6 -
أنَّ ما سكت عنه الشارع معفوٌّ عنه، وما كان ربُّك نسيًا، فالأحكام التي تجب على العباد بيَّنها الله ورسوله، وما سكتا عنه فهو متروك.
7 -
أنَّ الأفضل السكوت وعدم البحث عن الأمور التي لم يأت لها الشرع بذكر، فلقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101].
وقد جاء في البخاري (6845) ومسلم (4349): "أعظم المسلمين جرمًا من يسأل الله عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته".
وجاء في سنن الدارقطني (4/ 184) عن أبي ثعلبة مرفوعًا: "وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها".
8 -
الحديث فيه: "إنَّ الله كتب عليكم الحج فحجوا" والأمر يقتضي الفورية،
فتجب المبادرة إلى أداء الفريضة، قال شيخ الإسلام: الحج على الفور عند أكثر العلماء.
ولو مات ولم يحج مع القدرة أثم إجماعًا.
9 -
فيه أنَّ الأمر يقتضي الوجوب، فإنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لو قلتها لوجبت".
10 -
فيه أنَّ التشريع الرباني جاء إلى الخلق من ربهم بقدْر طاقاتهم واستطاعتهم، فلم يكلف جلَّ وعلا خلقه إِلَّا بما يطيقون، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
11 -
فيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، فإنَّه كره مسألة هذا الرجل لبحثه أمرًا مسكوتًا عنه، يخشى أن يبحث فيفرض، فتحصل بفرضه المشقة.
12 -
المفهوم من تشريع الحج في هذا الحديث، وكما جاء في بعض رواياته:"لو قلتُ نعم لوجبت، وما استطعتم" الإشارة إلى أنَّ الأمر على اليُسر والسهولة، لا على العسر والصعوبة، كما يظن السائل.
***