الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة الحج ودخول مكة
مقدمة
صفة الحج بيان ما شرع فيه من أقوال وأفعال، وفيها حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم، فإنه وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حين خرج من المدينة حاجًّا إلى أن عاد إليها من حجته صلى الله عليه وسلم، وسيكون بيان الحج وصفته بذكر ما ساقه المؤلف من هذا الحديث الشريف، وشرحه إن شاء الله تعالى.
وأما مكة المكرَّمة التي شرفها الله تعالى ببيته الحرام والبقاع المقدسة، فهي البلد الحرام الذي جعله الله تعالى مبعثًا لخاتم أنبيائه، ومهبطًا لآخر رسالاته، تلك الرسالة العامة الشاملة الثابتة الباقية، لما جعل الله تعالى فيها من مقومات البقاء، وعناصر الخلود، مما يكفل لها هذا البقاء الأبدي والشمول الذي لا ينتهي، فكان مصدرها من أم القرى، التي صارت بهذه الرسالة عاصمة الدنيا، وقبلة المسلمين.
قال الأستاذ حسين كمال الدين أحمد: إنَّ مكة المكرمة في الإسقاط المساحي المكي هي مركز العالم كله، ولقد أصبح من البديهي أنَّ الأرض كروية، وأنَّ الكرة الأرضية تدور حول نفسها دورة منتظمة، ولابد من محور ثابت داخل هذه الكرة يحدد النقطتين الثابتتين القطب الشمالي والقطب الجنوبي، والخط الدائري هو خط الاستواء.
وعندما تمَّ توقيع حدود القارات السبع على خريطة الإسقاط، وجدنا أنَّ الحدود الخارجية لهذه القارات يجمعها محيط دائرة واحدة، مركزها عند مكة المكرمة، أي أنَّ مكة المكرمة تعتبر مركزًا وسطًا للأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية، فهذا الإسقاط المكي الجديد يعطي مكة المكرمة مركزًا خاصًّا بين أماكن العالم، ولله في خلقه أسرار.
630 -
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حَجَّ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَال: اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِري بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي، وَصَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى البَيْدَاءِ أَهلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيْكَ لَكَ لبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكُ، لَا شَرِيْكَ لَكَ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا البَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصلَّى، وَرَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِن البَابِ إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَفَا قَرأَ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أَبْدَأُ بِمَا بَدَأ اللهُ بِهِ، فَرَقَى الصَّفَا حَتَّى رَأى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهُ وَكَبَّرَهُ، وَقَال: لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لَا إلهَ إلَاّ اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذلِك، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى المَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى إلَى المَرْوَةِ، فَفَعَلَ عَلى المَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا
…
وَذَكَرَ الحَدِيثَ، وفَيهِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِتةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى، وَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَصلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ، وَالعِشَاءَ، وَالفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى
عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بالقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتى بَطْنَ الوَادِي، فَخَطَب النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكَبَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ القَصْوَاءَ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجعَلَ حَبْلَ المُشَاةِ بمنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى إِذَا غَابَ القُرْصُ، وَدَفعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأَسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ: السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، وَكُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الحِبالِ أرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعدَ، حَتَّى أَتَى المزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، وَصَلَّى الفَجْرَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبح بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَشْعَرَ الحَرَامَ، فَاسْتَقْبلَ القِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهلَّلَهُ، وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيْقَ الوُسْطى الَّتِي تَخْرُجُ عَلى الجَمْرَةِ الكُبْرى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبع حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، كُلُّ حَصَاةٍ مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المَنْحَرِ، فَنَحَرَ، ثُمَّ رَكِبَ
رَسُولُ اللهِ، فَأَفَاضَ إِلَى البّيْتِ، فَصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهْرَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أسماء بنت عُميس: بضم العين وفتح الميم بعدها ياء ثم سين مهملة، الخثعمية كانت تحت جعفر بن أبي طالب، وأولاده منها، فقتل شهيدًا بغزوة مؤتة فتزوَّجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمَّدًا في الميقات، وبعد وفاة أبي بكر تزوجها علي بن أبي طالب.
- استثفري: بسين مهملة فمثناة فوقية ثم ثاؤ ثم فاء ثم راء، واستثفار المرأة أن تشد على وسطها شيئًا ثم تأخذ خرقة عريضة، تجعلها في محل الدم، وتشدها من ورائها وقدامها، ليمنع الخارج، وفي معناها الحفائض الآن.
- القصواء: بفتح القاف وسكون الصاد ثم واو وألف ممدودة، قال في النهاية: القصواء: الناقة التي قُطع طرف أذنها، وناقة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مقطوعة الأذن، قال محمَّد بن إبراهيم التيمي: إنَّ القصواء والعَضْبَاء والجَدْعَاء، اسم لناقة للنبي صلى الله عليه وسلم واحدة، وهي التي هاجر عليها النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي سُبِقت، فشقَّ ذلك على الصحابة.
- البيداء: بفتح الباء بعدها ياء مثناة ثم دال مهملة ثم ألف ممدودة، هي الفلاة، جمعها بِيْد.
- أهلَّ بالتوحيد: رفع صوته بالتلبية، التي تشمل على توحيد الله تعالى بألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، فكل أنواع التوحيد الثلاثة تشتمل عليها التلبية، وفيه تعريض لما كان يفعله أهل الجاهلية من انضمام قولهم: "إلَاّ شريكًا هو
(1) مسلم (1218).
لكَ تملكه، وما ملك".
- لَبَّيْكَ: أصله ألبَّ بالمكان إذا لزمه، نصب على المصدر، فهو من المصادر التي يجب حذف فعلها لكونه وقع مثنى، ولذلك يجب حذف فعله قياسًا؛ لأنَّ العرب لما ثنوه للتأكيد كأنَّهم ذكروه مرَّتين.
فمعنى لبَّيك: إجابة لك بعد إجابة، وإقامة على طاعتك دائمة، والمراد بالتثنية التأكيد والتكثير.
- إنَّ الحمد: بفتح الهمزة وكسرها، فالكسر على الابتداء، والفتح على المصدرية، قال ثعلب: الاختيار الكسر فهو أجود من الفتح؛ لأنَّ الذي يكسر يذهب إِلى أنَّ الحمد والنعمة لله على كل حال، وأما الذي يفتح فيذهب إلى أنَّه معنى لبيك؛ لأنَّ الحمد لك، أي لبَّيك لهذا السبب.
- والنعمة: بكسر النون هي المسرة واليد البيضاء بالعطاء، والأشهر في إعرابها الفتح معطوف على الحمد اسم "إنَّ"، والخبر محذوف، والجار والمجرور "لك" يتعلَّق بالخبر المحذوف، ويجوز الرفع على الابتداء.
- الركن: هو الركن الشرقي من الكعبة المشرفة، الذي فيه الحجر الأسود، والذي يمسح منه الحجر الأسود.
فرمل: الرَّمل هو الإسراع في المشي والهرولة، مع هز المنكب، وذلك في الثلاثة الأشواط الأُوَل من طواف القدوم.
- مقام إبراهيم: هو الحَجَر الذي كان يقوم عليه إبراهيم أثناء بنائه البيت هو وإسماعيل، وهو الآن في حاشية المطاف، تجاه باب الكعبة المشرفة.
- رقى: قال في المصباح ما خلاصته: رقيت في السلم أرقى رقيًا، من باب تعب، ورقيت الجمل علوته، وأما رقيته أرقيه من باب رمى: عوذته بالله، والاسم الرقيا على وزن فعلى، والجمع رُقًى.
- الصفا: مقصور، جمع صفاة، وهو الحجر الضخم الصلد الأملس، وهكذا
هذا المشعر، وهو أصل جبل أبي قيس، وهو من الشعائر المقدسة، قال تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158].
- المروة: جمعها مرو هي الحجارة البيض الرقاق البراقة في الشمس، وهكذا صفة المروة التيِ هي أحد المشاعر المقدسة، قال تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158].
- شعائر الله: الشعائر جمع شعيرة وهي أعلام الإسلام، والشعائر هنا هي أعلام الحج، ليقوم الحاج بتعظيمها، والطواف بهما.
- أنجز: نجز الوعد نجزًا -من باب قتل- تعجل، ويتعدى بالهمزة وبالحرف، فيقال: أنجزته ونجزت به إذا عجلته، وقد تحقق هذا الوعد بنصر الله لنبيه، حين هزم الأحزاب وحده.
- وعده: وعد يستعمل في الخير والشر، فيقال: وعده خيرًا وبالخير، وشرًا وبالشر، وقد أسقطوا لفظي: الخير والشر، وقالوا: في الخير: وعده وعدًا، وفي الشر: وعده وعيدًا، فالمصدر هو الذي يفرق بينهما، فالوعد للخير والوعيد للشر.
- نصر عبده: ينصره نصرًا، أعانه وقواه، والمعنى: نصر الله نبيه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم على أعدائه، حتى صارت له الغلبة عليهم، وفتح البلاد.
- هزَم: يهزم هزمًا -من باب ضرب- كسره وفلَّه، فالاسم الهزيمة، والجمع هزمات.
- الأحزاب: الأحزاب: هم تلك القبائل الذين تحزبوا، وتجمعوا وحاصروا المدينة، فهزمهم الله تعالى وحده من غير قتال الآدميين، قال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، وقال تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب].
- انصبَّت قدماه: في بطن الوادي: نصب ينصب نصابًا، انحدر فهو مستعار من انصباب الماء في بطن الوادي، فالانصباب الانحدار.
- طن الوادي: ما خفي منه، وانخفض.
- سعى: يسعى سعيًا، السعي يطلق في لسان العرب على الإسراع، والعَدْو الشديد، ويطلق على الكسب للخير أو الشر، فإن كان يعدى بـ"إلى" فالمراد منه الجري، وإن كان المراد به العمل والكسب فيعدى باللام، قال تعالى:{وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]، أي عمل لها، وأما قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فيعتبر بمعنى المضي، ولذا فإنَّ قراءة عمر وابنه وابن مسعود:"فامضوا"، والمراد بالسعي هنا العَدو الشديد، وقت شعيرة السعي في بطن الوادي، والآن مكان العدْو هو ما بين العَلَمَيْنِ الأخضرين، اللذين هما علامة على ضفتي الوادي.
- يوم التروية: بفتح المثناة الفوقية فراء، هو اليوم الثّامن من ذي الحجة، سمي بذلك، لأنَّهم كانوا يتروون فيه الماء ليوم عرفة، ذلك أنَّه لم يكن فيه حينذاك ماء.
- فأجاز: جاز المكان يجوزه جوزًا وجوازًا: سار فيه، وأجازه بالألف قطعه ومعناه هنا: جاوز المزدلفة، ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات.
- عرفة: هي مشْعر حلال، فهي خارج حدود الحرم لأنَّها واقعة في الحل وحدودها كالآتي:
الحد الشمالي: ملتقى وادي وصيق بوادي عرنة.
الحد الجنوبي: ما بعد مسجد نمرة جنوبًا بنحو كيلو ونصف.
الحد الغربي: هو وادي عرنة، ويمتد هذا الحهد من ملتقى وادي وصيق حتى يحاذي جبل نمرة.
الحد الشرقي: هي الجبال المحيطة المقوسة على ميدان عرفات من الثنية التي
ينفذ معها طريق الطائف، وتستمر سلسلة تلك الجبال شمالًا حتى تنتهي سفوحها عند ملتقى وصيق بعرنة.
قال العيني: وأما عرفة فإنَّها تطلق على الزمان، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وعلى المكان وهو الموضع المعروف.
حتى أن عرفة: نقول فيه ما قاله النووي: المراد قارب عرفات، فإنَّ نمرة ليست من عرفات.
- القُبة: بضم القاف وتشديد الباء الموحدة التحتية ثم تاء التأنيث، هي الخيمة الصغيرة.
قال ابن الأثير: القبة من الخيام بيت صغير مستدير، والجمع قِبَب وقِباب.
- ضُرِبت له: ضرب القبة نصبها، وإقامتها على أوتاد مضروبة في الأرض.
- نَمِرَة: بفتح النون وكسر الميم فراء فتاء تأنيث جبلان، صغيران هما منتهى حد الحرم من الجهة الشرقية، فهما محاذيان لأنصاب الحرم، فنمرة تكون على يمين الخارج من المأزمين والأنصاب عن يساره، ووادي عرنة يفصل بين نمرة وبين عرفات.
- بطن الوادي: أي وادي عرنة الذي فيه مقدمة مسجد نمرة، ووادي عرنة ليس من موقف عرفات بل هو حدها الغربي كما تقدم.
- الصخرات: هي صخرات ملتصقة بالأرض تقع خلف جبل عرفات، فهي عنه شرقًا، فالواقف عندها يستقبل جبل الرحمة، والقبلة معًا، وهو موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو موقف الولاة بعده حتى الآن.
- حبْل المشاة: الأصح أنَّها بالحاء المهملة وبعدها باء موحدة ثم لام، وهو الطريق الذي يسلكه المشاة، ويكون هذا الحبل أمام الواقف على الصخرات وبين يديه.
- المشاة: بضم الشين، جمع ماش.
- الصفرة: بضم الصاد وسكون الفاء، لونٌ دون الحمرة، وهو شعاع الشمس بعد مغيبها.
- حتى غربت الشمس حتى غاب القرص: قال النووي: "هكذا في جميع النسخ، ويحتمل أن يكون قوله "حتى غاب القرص" بيانًا لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة، فإنَّ هذه تطلق مجازًا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال، بقوله حتى غاب القرص.
وقال القاضي عياض: ولعلَّ الصواب؛ حين غاب القرص، ويحتمل الأول ويكون الكلام على ظاهره، وجاء بقوله: حتى غاب القرص لدفع توهم المجاز.
- دفع: يقال دفع السيل من الجبل إذا انصب منه، الدفع هنا المراد به: الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة.
- شنقَ: بفتح الشين المعجمة والنون الفوقية الموحدة مخففة ثم قاف مثناة، ضمَّ وضيَّق.
- الزِّمَام: بكسر الزاي المعجمة، هو الخيط الذي يشد إلى الحلقة التي في أنف البعير، ليقاد به، ويمنع به.
- مورِك: بفتح الميم وكسر الراء الموضع من الرحْل، يجعل عليه الراكب رجله، وتسميها العامة "ميركة".
- رَحْله: بالحاء المهملة ما يوضع على ظهر البعير للركوب، ويسمى الكُور بضم الكاف وسكون الواو، وهي لغة فصحى.
- السكينة السكينة: مرتين، الأولى منصوبة بفعل محذوف على الإغراء، أي الزموا السكينة، والسكينة الثانية توكيد لها، والسكنية في السير من السكون ضد الحركة، أي كونوا مطمئنين خاشعين.
- حَبْلًا: بالحاء المهملة وإسكان الباء، وهو التل اللطيف من الرمل الضخم.
- حتى تصعد: بفتح التاء المثناة الفوقية وضمها، فَإنَّه يقال: صعدت الجبال وأصعد إذا ارتفعت في جبل أو غيره، فالإصعاد السير في مستوى من الأرض والصعود الارتفاج على الجبال والسطوح والسلالم والدرج، ومنه:{كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
- المزدلفة: مأخوذ من الازدلاف، وهو التقرب، فالحاج يتقرَّب بها من عرفة إِلى منى، أما حدودها فهي:
الحد الشرقي: من مفيض المأزمين الغربي.
الحد الغربي: وادي مُحسِّر.
الحد الشمالي: جبل ثَبِير.
الحد الجنوبي: جبال المريخيات.
فما بين هذه الحدود الأربعة من شعاب، ووهادٍ، وروابٍ، وسهولٍ كلها مزدلفة، وتسمى جَمْعًا؛ لاجتماع الناس فيها ليلة يوم النحر.
- لم يسبح بينهما: أي لم يصلِّ نافلة بين صلاتي المغرب والعشاء.
- المشعر الحرام: هو جبل صغير في المزدلفة، يسمَّى قُزَح بضم القاف وفتح الزاي آخره حاء مهملة، وقد أزيل وجعل مكانه المسجد الكبير الموجود الآن في مزدلفة.
- أسفر جدًا: بكسر الجيم، أي إسفارًا بالغًا، والضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور.
- مُحَسِّر: بضم الميم وفتح الحاء المهملة ثم سين مهملة وآخره راء، هو وادٍ يقع بين مزدلفة ومنى، وليس من واحد منهما، وإنما هو برزخ حاجز بينهما، وروافده جبل ثبير الأثبرة، ومنتهاه ملتقاه بسيل مزدلفة، ثم يتَّجهان حتى يجتمعا بوادي عرنة المتجه غربًا إلى البحر الأحمر في جنوب جده.
- حرَّك: أي حث دابته، واستخرج جريها.
- الطريق الوسطى: هي الطريق القاصدة إلى الجمرات.
- الجمرة: جمعها جِمار، والجِمَار عند العرب الحجارو الصغار، وبه سميت جمار منى، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
- حصى الخذْف: بفتح الخاء المعجمة ثم ذال معجمة ساكنة ففاء موحَّدة، وقدر الحصاة مثل حبة الباقلاء، أو الفول.
والخذف: هو الرمي بالحصى بالأصابع، وذلك بأن يجعل الحصاة بين سبابتيه ويرمي بها، قال ابن الأثير: ويستعمل في الرمي والضرب.
- نَحر: النحر هو الطعن بالسكين، أو الحربة في الوهدة، التي بين أصل العنق والصدر، والنحر للإبل خاصة.
- فأفاض إلى البيت: قال في الفائق: الإفاضة في الأصل الصب، فالمراد بهما الدفع بكثرة، تشبيهًا لها بفيض الماء الكثير، والمعنى هنا: دفع من منى إلى الكعبة المشرفة لطواف الإفاضة.
* ما يؤخذ من الحديث:
قال الإمام النووي في شرحه على مسلم: "حديث جابر حديث عظيم مشتمل على جُمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم، لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم، قال القاضي: وقد تكلَّم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنَّف فيه ابن المنذر جزءًا كبيرًا، وخرَّج من الفقه مائة ونيفًا وخمسين نوعًا، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه" اهـ.
وقال شارح البلوغ: "وليعلم أنَّ الأصل في كل ما ثبت أنَّه فعله صلى الله عليه وسلم في حجه الوجوب، وذلك لأمرين:
أحدهما: أنَّ أفعاله في الحج بيان للحج الذي أمر الله به، والأفعال في بيان الوجوب محمولة على الوجوب.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عنِّي مناسككم" فمن ادَّعى عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج فعليه الدليل" اهـ.
وهذه جمل من فوائده، ونفائسه:
1 -
أنَّ الحُليفة هي ميقات أهل المدينة، ومن أتى عليها من غير أهلها.
2 -
استحباب اغتسال الحائض والنفساء للإحرام، فغيرهما يكون أولى بذلك.
3 -
استحباب استثفار الحائض والنفساء في حالة الإحرام، ويقوم مقامها الحفائظ المستعملة الآن.
4 -
صحة إحرام الحائض والنفساء، فإذا طرأ الحيض والنفاس بعد الإحرام، فجواز المضي فيه من باب أولى.
5 -
إذا كان الإحرام وقت فريضة أو بعد نافلة لها سبب، كسنة الوضوء، استحب أن يكون الإحرام بعد تلك الصلاة، وإن لم يكن شيء من ذلك، فبعض العلماء يرى استحباب ركعتين قبل الإحرام، ومنهم الحنابلة، ومنهم من لا يرى مشروعية ذلك؛ لأنَّه لا دليل عليه، والعبادات توقيفية، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أولى.
6 -
الإهلال بالتلبية حينما يستقل المحرم مركوبه، وتقدَّم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَهلَّ بالإحرام بالمسجد بعد انصرافه من الصلاة، ولعلَّ جابرًا من الذين لم يسمعوا إهلاله إلَاّ بعد استوائه على ناقته فحدَّث بما سمع ورأى.
7 -
تسمية التلبية توحيدًا لاشتمالها عليه، ففيها أنواع التوحيد الثلاثة، فتوحيد الإلهية في "لبيك لا شريك لك لبيك" فهو الاستقامة على عبوديته وحده، وتوحيد الربوبية في إثبات "أنَّ النعمة لك والملك لا شريك لك" وتوحيد الأسماء والصفات في إثبات "الحمد" المتضمن إثبات صفاته تعالى الكاملة.
8 -
الإشارة إلى إهلاله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد مخالفة لتلبية المشركين الشركية.
9 -
أنَّ تحيَّة المسجد البدء بالطواف في البيت، فأول شيء بدأ به صلى الله عليه وسلم الطواف.
10 -
شرط الطواف البدء من الركن الذي فيه الحجر الأسود.
11 -
استحباب استلام الحجر الأسود في أول الطواف، وعند محاذاته في كل الطواف.
12 -
استحباب الرمل في الأشواط الثلاث الأُول، والمشي في الأربعة الباقية، والرمل خاص في طواف القدوم.
13 -
استحباب صلاة ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم، وقد تلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى:{مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]
فيكون فعله تفسيرًا للصلاة المذكورة في الآية، وتعبين مقام إبراهيم في هذا الحجر المعروف.
14 -
استحباب استلام الحجر بعد صلاة ركعتي الطواف وقبل السعي، وليس بواجب بإجماع العلماء.
15 -
قال الشيخ: الحج فيه ثلاثة أطوافة:
- طواف عند دخول مكة، ويسمى طواف القدوم.
- الطواف الثاني هو بعد عرفة، ويقال له طواف الإفاضة، وهو طواف الفرض الذي لابد منه.
- الطواف الثالث: هو لمن أراد الخروج من مكة، وهو طواف الوداع، وإذا سعى عقب واحدٍ منها أجزأه، ولو لم يكن متوقفًا على تقدم الطواف عليه لما أخرته عائشة رضي الله عنها.
16 -
كل طواف بعده سعي، يسن أن يعود المُحرم إِلى الحجر فليستلمه قبل السعي إن أمكن، لأنَّ الطواف لما كان يفتتح بالاستلام فكذا السعي، بخلاف ما إذا لم يكن بعده سعي، فلا يستلم بعد الركعتين.
18 -
المعتمر -ولو كانت عمرة تمتع- إذا شرع في الطواف قطع التَّلبية؛ لأنَّ التَّلبية إجابة إلى العبادة، فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل،
والأخذ في التحلل منافٍ للإجابة على العبادة، واستقبالها.
ولما روى أبو داود (1551) من حديث ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسك عن التَّلبية في العمرة إذا استلم الحجر".
قال النووي: الصحيح أنَّه لا يلبي في الطواف والسعي، لأنَّ لهما أذكارًا خاصة.
18 -
استحباب الخروج للسعي من باب الصفا إن سهل ذلك.
19 -
أنَّ السَّعي يكون بعد طواف النسك ولا يتقدمه، قال في الحاشية: وإن سعى قبل أن يطوف لم يجزئه السعي إجماعًا.
20 -
استحباب الموالاة بين الطواف والسعي.
21 -
البداءة بالسعي من الصفا، فلو بدأ بالمروة لم يعتد بالشوط الأول، والبدء بالصفا هو تفسير لقوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فقد بدأ بما قدَّم الله ذكره.
22 -
استحباب رقي الصفا واستقبال القبلة حينما يطلع عليه، وهو سنة، فيوحد الله، ويكبره، ويحمده بما ورد، قال الشيخ: لو ترك صعوده فلا شيء عليه إجماعًا.
23 -
الذكر المشروع على الصفا والمروة مناسب للمقام؛ لأنَّه في حجة الوداع التي تجلت فيها قوة الإسلام بعد ضعفه، وظهور الدين بعد خفائه، والجهر بعبادة الله تعالى بعد إسرارها في مكة، والقيام بركنية الحج ذلك العام خالصًا لله تعالى، بعد أن كان الحج لا يؤدى إلَاّ من المشركين وحدهم.
وقد اشتمل على توحيد الله تعالى بالوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، والاعتراف بنعمه بما أنجز ما وعده المسلمين بظهور الدين، ونصر رسوله، وهزم أعداء الدين من الأحزاب، فهو على كل شيء قدير.
24 -
الذكر المشروع يكرره على الصفا ثلاث مرات يتخللهن الدعاء؛ لأنَّ هذا
المشعر العظيم من مظان الإجابة.
25 -
بعد الذكر والدعاء يتجه إلى المروة، فما بين الصفا والمروة هو المسعى.
26 -
ولا تشترط الطهارة للسعي، بل تسن؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالطهارة فيه، وليس بصلاة كما لا تشترط به ستر العورة.
27 -
فإذا حاذى العَلَم الأخضر هرول حتى العلم الثاني لأنَّ ما بينهما كان هو بطن الوادي، والهرولة خاصة للرجال، وبعد مجاوزة العَلَم الثاني يمشي حتى يصل المروة.
قال الشيخ: وإن لم يسع في بطن الوادي بل مشى على هينته جميع ما بين الصفا والمروة، أجزأه باتفاق العلماء، ولا شيء عليه.
28 -
ثم يرقى على المروة ويقول ويفعل عليها مثل ما قاله وفعله على الصفا، من قراءة الآية المذكورة، واستقبال القبلة، والذكر، والدعاء، وبعد تمام السعي يحل من عمرته إن كان متمتعًا، وإن كان يشرع له البقاء في إحرامه بقي محرمًا حتى يتحلل من حجه.
29 -
قال النووي: فيه دلالة لمذهب الجمهور أنَّ الذهاب من الصفا إِلى المروة يحسب بعد الرجوع إِلى الصفا ثانية.
قال الوزير: اتَّفق الأئمة أن يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية.
30 -
ثم قصَّر من شعره وحلَّ، ما لم يكن ساق الهدي.
وبهذا قال أهل الحديث، وإمامهم أحمد بن حنبل، وأهل الظاهر لبضعة عشرة حديثًا صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:"من لم يكن معه هدي فليحلل"[رواه مسلم (1213)].
وسأل سراقة بن مالك: هل هي لنا خاصة؟ قال: بل "للأبد"، [رواه مسلم (1218)].
قال ابن القيم: كل من طاف بالبيت، وسعى، ممن لا هدي معه، من
مفرد، أو قارنٍ أو متمتعٍ، فقد حلَّ، هذه هي السنة التي لا رادَّ لها، ولا مدافع اهـ.
31 -
استحباب التوجه إلى منى للحج يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، وصلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وفجر يوم التاسع فيها، ثم البقاء فيها حتى تطلع الشمس، واستحبابه إجماع العلماء.
32 -
فإذا طلعت الشمس توجه إِلى نمرة، وأقام فيها حتى تزول الشمس.
33 -
قوله: "ثم أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة" هذا الكلام يشعر بأنَّ نمرة في عرفة، وهي ليست بعرفة وإنما "نمرة" شعب بين جبلين"، هما نهاية حد الحرم من الشرق الجنوبي، وبجانبها أنصاب الحرم المنصوبة على طريق المأزمين، وبين عرفات والحرم "وادي عرنة" الذي ليس من الحرم وليس من عرفات.
فيكون معنى قوله "حتى أتى عرفة" كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أي قَرُب من عرفات، وكتابتنا هذه عن مشاهدة، وتحرٍّ، وصحبةٍ لسكان تلك المنطقة، مع تطبيق النصوص على الموقع.
كانت قريش في جاهليتها تقول: نحن أهل الحرم، وكانوا لا يجاوزون مزدلفة إلى عرفة، لأنَّ مزدلفة في الحرم، وعرفة في خارجه، وكان الناس يذهبون إِلى عرفة، ويقفون بها، فلما حجَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ظنَّت قريش بأنه سينهج نهجهم فلا يجاوز مزدلفة إِلى عرفة، إلَاّ أنَّ الله تعالى أمره بذلك، فقال تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]،
34 -
قال الشيخ: ويصلي الإمام، ويصلي خلفه جميع الحجاج من أهل مكة، وغيرهم قصرًا وجمعًا، كما جاءت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لم يأمر أحدًا من أهل مكة أن يتموا، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ باتفاق أهل الحديث، وإنما قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة.
ومن قال: لا يجوز القصر إلَاّ لمن كان على مسافة قصر، فهو مخالف للسنة.
35 -
استحباب البقاء بنمرة إلى ما بعد الزوال، وصلاة الظهر والعصر فيها جمعًا، وهذا الجمع متَّفق على مشروعيته.
واختلف في سببه، فذهب الحنفية وبعض الشافعية إلى أنَّ سببه النسك، وذهب الشافعية إلى أنَّ سببه السَّفر، وهذا هو التصحيح؛ لأنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قصر الرباعيتين، ولا تقصران إلَاّ في السفر.
36 -
استحباب الخطبة للإمام؛ ليعلم الناس صفة الوقوف، ويذكرهم بعِظم هذا اليوم، ويحثهم على الاجتهاد فيه بالدعاء والذكر.
37 -
بعد الزوال يذهب إلى مسجد نمرة، فيصلي بها مع الإمام الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، واستحب جمع التقديم هنا ليتسع وقت الوقوف، ولا يصلي بينهما، ولا بعدهما سنة.
38 -
على علماء المسلمين، وطلبة العلم الاقتداء بهديه عليه الصلاة والسلام، فيعلمون الناس، ويعظونهم ويذكرونهم أمر دينهم، وكيفية أداء مناسكهم.
39 -
ثمَّ يتَّجه إلى الموقف بعرفة، فيشتغل فيه بالدعاء، والذكر، والتلبية.
40 -
استدل بالحديث على أنَّ وقت الوقوف لا يدخل إلَاّ بالزوال.
41 -
الأفضل الوقوف بعرفة بموقف النبي صلى الله عليه وسلم إن سهل ذلك، وإلَاّ وقف بحيث كان منزله.
قال النووي: وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل، فغلط بل الوقوف في كل جزء من أرض عرفات.
42 -
استقبال القبلة حين الدعاء والذكر، أفضل من استقبال الجبل لمن لم يسهل عليه استقبالها معًا.
43 -
من وقف بعرفة نهارًا فيجب عليه الاستمرار فيها حتى غروب الشمس.
44 -
الدفع من عرفة إلى مزدلفة يكون بعد الغروب، وقبل الصلاة.
45 -
استحباب الدفع بسكينةٍ ووقارٍ وخضوعٍ، وخشوعٍ وتكبيرٍ، وتلبيةٍ، فإن وجد سائق السيارة طريقًا مشى، وإلَاّ انتظر حتى يمشي الذي أمامه، ولا يتجاوز السيارات، بل عليه بالنظام، ومراعاة خُطَّة السير، فهو آمن له، وأسهل لمن معه ولغيرهم من الحجاج.
46 -
جواز استظلال المحرم بالخيمة.
47 -
قال الشيخ: ولم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة دعاءً خاصًا، ولا ذِكْرًا خاصًا، بل يدعو الحاج بما شاء من الأدعية الشرعية، ويكبر، ويهلل، ويذكر الله تعالى حتى تغرب الشمس، وقد جاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلَاّ الله وحده لاشريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".
48 -
قال الشيخ: ويجتهد في الدعاء والذكر هذه العشية، فهو يوم تُرجى فيه الإجابة، ويَرْفع يديه.
قال ابن عباس: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات يدعو ويداه إلى صدره"[رواه أبو داود].
وما رؤي إبليس في يوم هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أغيظ، ولا أدحر من عشية عرفة، لِما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلَاّ ما رؤي في يوم بدر.
49 -
ولا يستبطيء الإجابة، لقوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وليكثر من الاستغفار والتضرع، والخشوع، وإظهار الضعف، والافتقار، ويُلحَّ في الدعاء، فإنَّه موقف عظيم، تسكب فيه العبرات، وتُقال فيه العثرات، وهو أعظم مجامع الدنيا.
فإنَّ تلك أسباب نصبها الله مقتضية لحصول الخير، ونزول الرحمة، فإن لم يقدر على البكاء فليتباك.
وقد جاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".
قال العلماء: هذا وإن لم يكن دعاءً صريحًا فهو تعريض به، مراعاة للآداب، وأيضًا فإنَّ اشتغاله بخدمة المولى، والإعراض عن الطلب اعتمادًا على كرمه، فإنَّه سبحانه لا يضيع أجر المحسنين، ففي الحديث القدسي:"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، فالذاكر وإن لم يصرح بالطلب، فهو طالب بما هو أبلغ من التصريح.
50 -
استحباب جمع صلاتي المغرب والعشاء بمزدلفة تأخيرًا، وهذا جمع متَّفق عليه بين العلماء، على خلاف بينهم في حكمه: استحبابًا، أو وجوبًا.
51 -
أن يصليهما بأذان واحد، وإقامتين، وهذه الرواية أصح الروايات.
52 -
أن لا يصلي بينهما نافلة، وكذا لا يصلي قبلهما، ولا بعدهما.
53 -
الاضطجاع بعد الصلاة حتى طلوع الفجر، ليتقوى على أعمال يوم العاشر الكثيرة الكبيرة.
54 -
استحباب البقاء بمزدلفة حتى طلوع الفجر، والصلاة، والبقاء إلى قرب طلوع الشمس.
55 -
أفضلية الوقوف عند المشعر الحرام مستقبلاً القبلة، والدعاء، والتكبير، التهليل عنده حتى الإسفار جدًّا.
56 -
استحباب الدفع من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس، قال ابن القيم:
أجمع المسلمون على أنَّ الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سُنَّة.
57 -
الإسراع في وادي محسِّر الفاصل بين مزدلفة وبين منى، والإسراع هنا جاء على صفة دفعه من عرفة من أنَّه إذا وجد فرجة أرخى لناقته الزمام وأسرع.
58 -
البداءة برمي جمرة العقبة يوم النحر، ويكون ذلك بعد طلوع الشمس، ولا يرمي غيرها هذا اليوم
59 -
أن يكون الحصى بقدر الباقلاء أو الفول.
60 -
وجوب النحر على الآفاقي: القارن والمتمتع.
قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أنَّ من أحرم بعمرة في أشهر الحج وحلَّ منها، وليس من حاضري المسجد الحرام، ثم أقام بمكة حلالاً، ثم حجَّ من عامه أنَّه متمتع عليه دم.
وقد اشترط فقهاؤنا لوجوب الدم على المتمتع سبعة شروط:
الأول: أن يحرم بالعمرة من الميقات، أو من مسافة قصر فأكثر من مكة.
الثاني: أن يحرم بها في أشهر الحج، وقال الأئمة الثلاثة، يكون متمتعًا إذا طاف لها في شوال.
الثالث: أن يحج من عامه، وقد وافق عليه الأئمة الثلاثة.
الرابع: أن لا يسافر بين الحج والعمرة مسافة قصر، وقد وافق عليه الأئمة الثلاثة.
الخامس: أن ينوي التمتع في ابتداء إحرامه، واختار الشيخ الموفق عدم هذا الشرط، وهو مذهب الشافعي.
السادس: أن يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج.
السابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وهو إجماع العلماء.
61 -
قوله: "ثم ركب
…
فأفاض إلى البيت" يعني طاف طواف الإفاضة، وهو ركن لا يتم الحج إلَاّ به، فمن لم يطف لم يحل له أن ينفر حتى يطوف،
وأول وقته بعد نصف ليلة النحر لمن وقف قبل ذلك بعرفات، ويسن فعله يوم النحر بعد الرمي، والنحر، والحلق، وإن أخَّره عن أيام منى جاز، بلا نزاع بين العلماء.
62 -
قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ التحلل الثاني يحيى محظورات الإحرام جميعها، ويعود المحرم حلالاً، لما جاء في البخاري ومسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم "لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجَّه ونحر هديه يوم النحر، فأفاض بالبيت ثم حلَّ من كل شيء حرم منه".
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء: في حكم السَّعي، هل هو ركنٌ، أو واجبٌ، أو سنةٌ؟
وهي ثلاثة أقوال:
في مذهب أحمد، والمشهور من المذهب أنَّه ركن.
واختار القاضي أنَّه واجب من واجبات الحج، وليس ركنًا.
قال الموفق: وهو أقرب إلى الحق إن شاء الله تعالى، وقال في الشرح الكبير: وهو أولى؛ لأنَّ دليل من أوجبه دلَّ على مطلق الوجوب، لا على أنَّه لا يتم الحج إلَاّ به، فيجبره بدم، وكونه واجبًا لا ركنًا هو مذهب أبي حنيفة، والثوري.
قال في شرح العمدة: قال شيخنا: وقول القاضي أقرب إلى الحق، فإنَّ ما روي عن عائشة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه دليل على وجوبه، كالرمي، والحلق، وغيرهما، ولا يلزم منه كونه ركنًا.
***
621 -
وَعنْ خُزَيْمَةَ بنِ ثَابتٍ رضي الله عنه "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبيَتهِ فِي حَجٍّ أَو عُمْرَةٍ سَأَلَ اللهَ رِضوَانَهُ وَالجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِن النَّارِ" رَوَاهُ الشَّافِعيُّ، بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال المؤلف: رواه الشافعي بإسناد ضعيف.
قال في التلخيص: رواه الشافعي من حديث خزيمة، وفيه صالح بن محمَّد بن زايدة الليثي، وهو مدني ضعيف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
مشروعية التلبية؛ للحج أو العمرة، وأنَّ هذا من هديه صلى الله عليه وسلم.
2 -
مشروعية الدعاء بعد الفراغ من التلبية، لأنَّ التلبية هي شعار النسك، فهي من أفضل أعماله، فالدعاء بعدها حريٌّ بالإجابة.
3 -
التلبية تتضمن التوحيد، وهو أساس الدين، فما بعده يكون من مواطن قبول الدعاء، فينبغي اغتنام هذه الفرصة.
4 -
أنَّ فضل الدعاء سؤال الله رضوانه ورحمته، فهو الجامع لخيري الدنيا والآخرة، والاستعاذة من النار، التي هي أعظم الشرور والمصائب.
5 -
أنَّ من أدب الدعاء أن يتقدمه من الداعي الثناء على الله تعالى وتمجيده، فهو من التوسل المشروع فيكون أحرى بالإجابة.
(1) الشافعي (1/ 307).
622 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نَحَرْتُ هَاهُنا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ كُلَّهَا مَوْقِفٌ" رَوَاه مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- نحرت: يقال: نحر البعير نحرًا، -من باب نفع- طعنه بالسكين في لبته، وهو مكان النحر، والنحر خاص بالإبل.
- منى: أحد المشاعر المقدسة، والآن هي بلدة كبيرة المرافق والدوائر الحكومية، التي تخدم حجاج بيت الله تعالى، وتتيح لهم الراحة في أداء مناسكهم، وستأتي أحكامها إن شاء الله تعالى.
أما حدودها فهي:
الحد الغربي: هو جمرة العقبة.
والحد الشرقي: وادي محسر الفاصل بينها وبين مزدلفة.
قال عطاء بن أبي رباح: منى من العقبة إلى محسر.
أما حدها الجنوبي والشمالي: فهو الجبلان المستطيلان من جانبيها، فالشمالي منهما ثبير الأثبرة، والجنوبي منهما الصابح، وفي سفحه مسجد الخيف، فيما أدخلت هذه الحدود الأربعة فهو منى.
قال بعض العلماء: ما أقبل على منى من وجوه هذه الجبال فهو منها، وما أدبر فليس منها.
(1) مسلم (1218).
- مَنْحَر: بفتح الميم، اسم الموضع الذي تنحر فيه الإبل، قال بعضهم: منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف.
- هاهُنا: "ها" حرف تنبيه، و"هنا" ظرف للمكان القريب.
- جمع: هي المزدلفة المتقدم تحديدها، سمِّيت جمعًا، لاجتماع الحجاج فيها.
- رحال: رحل يرحل رحيلاً، انتقل وسار، ورحال الرجل أثاثه وزاده، والمراد هنا مكان إقامته.
- موقف: وقف يقف وقوفًا، ثبت وسكن، والموقف موضع الوقوف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب نحر الهدي، أو ذبحه في منى، والمراد به دم التمتع، والقِران، والتطوع بهدي الحج، وأما دم العمرة ففضيلته في مكة، وأما الدم الواجب لترك نسك، أو فعل محظور فإن كان داخل الحرم، ففي مكان وجود سببه من الحرم، وإذا كان فعل المحظور خارج الحرم فحيث وجد أيضًا، ويجوز أيضًا في الحرم.
2 -
جواز ذلك في أي مكان من منى حيث إنَّ منى كلها منحر.
3 -
أن جمعًا كلها موقف، ففي أي مكان من مزدلفة وقف الحاج أجزأه ذلك، وتقدم تحديدها في شرح المفردات.
4 -
أنَّ جميع ميدان عرفة موقف، ففي أي مكان فيها وقف ودعا أجزأه ذلك، وصحَّ حجُّه، وقد تقدم تحديد الموقف.
5 -
إن تَيسَّر الوقوف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة، ومزدلفة فهو أفضل، وإذا كان ذلك يشق فلا يُستحب.
6 -
يسر الشريعة الإسلامية المطهرة وسماحتها، فلا تكليف، ولا عنت، ولا مشقة، وإنما مبناها السهولة واليسر.
7 -
أقامت الحكومة السعودية مسالخ فنية في أرض الحرم القريبة من منى، وبرادات فخمة، لحفظ لحوم الهدي والأضاحي، للاستفادة منه للمحتاجين على طول العام، وإرسال ما يجوز توزيعه خارج الحرم إلى الدول الإسلامية المتضررة.
***
623 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَا جَاءَ إلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أسفَلِهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أعلاها: ثنية الحَجُون بفتح الحاء، وتسمى كداء، بفتح الكاف وآخره ألف ممدودة، وهي الطريق الآتي من بين مقبرتي المعلاة.
- أسفلها: ثنية كُدى، بضم الكاف وآخره ألف مقصورة كهُدى، ويعرف الآن بريع الرسَّام، فهو الطريق الذي يأتي من حارة الباب متَّجهًا إلى جرول مع قبة محمود، والثنية هي كل طريق بين جبلين.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
دخول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من أعلى مكة، وهو مدخله حينما جاء فاتحًا لها في رمضان، سنة ثمان من الهجرة، كما جاء في حديث عائشة.
2 -
جاء في بعض طرق حديث ابن عمر في الصحيحين، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى" مما يدل على أنَّ هذين الطريقين هما مدخله ومخرجه، غازيًا، أو حاجًّا، أو معتمرًا، فيكون هذا هو المشروع لمن سهل عليه ذلك.
3 -
قال في فتح الباري: اختلف في المعنى الذي لأجله خالف النبي صلى الله عليه وسلم بين الطريقين، فقيل ليتبرك به كل من في طريقه، وقيل: لمناسبة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأنَّ إبراهيم عليه السلام دخل منها، وقيل: لأنَّ من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت.
قُلْتُ: لعلَّ المدخل هذا والمخرج أسمح له عند الدخول والخروج والله أعلم.
(1) البخارى (1577)، مسلم (1258).
624 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْدُمُ مَكَّةَ، إلَاّ باتَ بذِي طُوًى حَتَّى يُصْبحَ وَيَغْتَسِلَ، وَيَذْكُرُ ذلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بذي طوى: يجوز في الطاء الضم والفتح والكسر، والضم أفصح وأشهر، وواوها مخففة، وآخره ألف مقصورة.
قال النووي: هو موضع عند باب مكة، في صوب طريق العمرة المعتادة ومسجد عائشة، ويعرف اليوم بآبار الزاهر.
قُلْتُ: ولا تزال بئر طوى موجودة في جرول أمام مستشفى الوِدلاة، وهذا التحديد من النووي شامل للمناطق الثلاث: الزاهر، والعتيبية، وشمالي جرول.
- حتى: هي الجارَّة التي بمعنى "إلى"، والفعل بعدها منصوب بـ"أن" مضمرة وجوبًا، وأنَّ والفعل المضارع في تأويل مصدر مجرور بحتى تقديره:"حتى إصباحه، واغتساله".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب الغُسل عند دخول مكة، قال في فتح الباري: قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء.
2 -
قال العيني: الغسل لدخول مكة ليس لكونه محرِمًا، وإنَّما هو لحرمة مكة، حتى يُستحب لمن كان حلالاً أيضَا، وقد اغتسل لها صلى الله عليه وسلم عام الفتح. وكان
(1) البخاري (1553)، مسلم (1259).
حلالاً، أفاده الشافعي رضي الله عنه في الأم. اهـ كلامه.
3 -
استحباب البيات بذي طوى ليدخل مكة نهارًا، قال ابن حجر عند شرح هذا الحديث: وهو ظاهر في الدخول نهارًا.
4 -
أما تخصيص الاغتسال من هذه البئر، والبيات في هذا المكان، فلعله راجع إلى أنَّ ذلك واقع في طريقه فلا تتقيد الأفضلية في ذلك.
5 -
تعظيم مكة المكرمة، والكعبة المشرفة فهما من شعائر الله تعالى، والله تعالى يقول:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]
6 -
استقبال الأعمال الهامة في الصباح، فهو وقت النشاط والاستجمام، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"بورك لأمتي في بكورها".
***
625 -
وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما "أنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الحَجَرَ الأَسْوَدَ، وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ" رَوَاهُ الحَاكِمُ مَرْفُوعًا، وَالبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
تقبيل الحجر الأسود جاء في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأما السجود عليه فرواه الحاكم والبيهقي بإسناد متصل إلى ابن عباس مرفوعًا، وروياه عنه موقوفًا، ورجح الذهبي في الميزان وقفه، ورواه الطيالسي، والدارمي، وابن خزيمة، وابن السكن، والبزار من حديث جعفر بن عبد الله عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس مرفوعًا.
قال العقيلي: إنَّ في حديث جعفر بن عبد الله وهمًا واضطرابًا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب تقبيل الحجر الأسود عند بدء الطواف، وعند محاذاته أثناء الطواف، وهذه سنة ثابتة بالأحاديث الصحيحة، وسيأتي منها حديث عمر في الصحيحين.
2 -
يدل هذا الأثر على استحباب السجود على الحجر الأسود، ولكن هذا الأثر لم يثبت رفعه، ولا يكفي لمشروعية السجود عليه، والعبادات توقيفية، والأصل فيها المنع إلَاّ ما ثبت شرعه عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا روي عن الإمام مالك: أنَّ السجود على الحجر الأسود بدعة.
(1) الحاكم (1/ 455)، البيهقي (5/ 75).
3 -
مشروعية استلام الحجر الأسود، أو تقبيله لمن سهل عليه ذلك، أما مع الزحام وأذية الطائفين فلا يشرع، بل تركه أفضل إذ الاستلام، أو التقبيل فضيلة فقط، وأذية الناس محرَّمة، فلا يقدم المستحب على المحرم.
***
626 -
وَعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "أمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا أرْبَعًا، مَا بيْنَ الرُّكنَيْنِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أن يرملوا: بضم الميم، والرمل هو الهرولة، وهو الإسراع في المشي، مع هز الكتفين، وتقارب الخطى.
- أشواط: جمع شوط بفتح الشين المعجمة، هو الجري مرَّة إلى الغاية، والمراد هنا الطوفة حول الكعبة.
- الركنين: هما اليماني والركن الشرقي الذي فيه الحجر الأسود، ويقال لهما: اليمانيان تغليبًا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب الرمل في الأشواط الثلاثة من طواف القدوم، وهو خاص بالرجال لأنَّهم المخاطبون به في عمرة القضاء، وهم الذين تظهر فيهم حِكمته من حيث إظهار القوة والجَلَد للجهاد، ولأنَّ النساء يطلب منهن الستر والتحفظ.
2 -
استحباب المشي في الأشواط الأربعة الباقية.
3 -
أنَّ ذلك مستحب في طواف القدوم، وكذا طواف الحج والعمرة، إذا قاما مقام طواف القدوم.
4 -
في حديث ابن عبَّاسٍ أنَّه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمشوا ما بين الركنين، وهذا في عمرة القضاء، رأفةً بحال الصحابة، فقد جاء آخر الحديث قول ابن عباس:
(1) البخاري (1602)، مسلم (1264).
"ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلَاّ الإبقاء عليهم"، كما جاء في صحيح مسلم:"إنَّ المشركين جلسوا مما يلي الحِجْر" أي على جبل قعيقعان، ومَنْ هُو فيه لا يرى مَن يكون بين الركنين اليمانين.
أما في حجة الوداع فقد جاء في حديث جابر الذي في مسلم (1218): "إنَّه صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثًا، ومشى أربعًا" كما هو صريح في هذين الحديثين اللذين معنا، فيكون آخر أمره عليه الصلاة والسلام الرمل في كل الثلاثة، فتكون سنة الرمل هكذا.
5 -
الحكمة في إظهار الجَلَد والقوة أمام الأعداء من المشركين، الذين قالوا حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة: إنَّه يقدم عليكم قوم قد وَهَنَتْهم يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، فكانت سنة لعموم المسلمين، ولذا فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم فعله حتى بعد أن طهَّر الله مكَّة من المشركين والشرك في حجة الوداع، ولما خطر بذهن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تركه فقال:"ما لنا وللرمل، إنما كنا أرينا به المشركين قوتنا، وقد أهلكهم الله" ثم رجع فقال: "شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه".
قال ابن جرير: ثبت أنَّ الشارع رمل ولا مشرك يومئذٍ بمكة، فعُلِم أنَّه من مناسك الحج.
6 -
فيه استحباب إظهار القوة والجَلَد أمام أعداء الدين، لأنَّ في ذلك عزُّ الإسلام، وتوهين أعدائه.
7 -
إظهار القوة في العبادة والنشاط عليها لمقصد حسن، لا ينافي إخلاصها لله تعالى.
8 -
قال في فتح الباري: لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاثة لم يقضه في الأربعة الباقية؛ لأنَّ هيئتها السكينة، فلا تغير.
9 -
قال الشيخ: يستحب أن يرمل من الحجر إلى الحجر في الأطوفة الثلاثة، فهو سنة باتفاق الأئمة، ففي مسلم من حديث ابن عمر قال:"رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجرِ ثلاثًا، ومشى أربعًا في الحج والعمرة"
وفي صحيح مسلم عن جابر: "رمل ثلاثًا، ومشا أربعًا".
قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم.
وقال ابن عباس: رمل في عُمَره كلها، وفي حجه، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وكان أصل هذا الرمل إغاظة المشركين، ثم صار سنة مع زوال سببه، كالسعي والرمي.
10 -
قال الشيخ: فإن لم يمكنه الرمل للزحمة، كان خروجه إلى حاشية المطاف والرمل أفضل من قربه إلى البيت بدون رمل، لأنَّ المحافظة على فضيلة تتعلَّق بذات العبادة، أهم من فضيلة تتعلق بمكانها.
***
627 -
وعَنِ ابْن عبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: "لَمْ أرَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ البيْتِ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَّيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1)
ــ
* مفردات الحديث:
- يستلم: استلم يستلم استلامًا.
قال في المحيط: استلم الحجر الأسود استلامًا: لمسه ومسحه بيده.
- اليمانيين: تثنية يماني، وهو من باب التغليب، حيث يراد بهما الركن اليماني، أي الموالي جهة اليمن، والركن الشرقي الذي فيه الحجر الأسود، والتغليب كثير في اللغة العربية، كالقمرين: للشمس والقمر، والأبوين: للأب والأم، وغير ذلك، قاله النووي. واللغة الفصيحة المشهورة تخفيف الياء، وفيه لغة أخرى بالتشديد، فمن خفف نسبة إلى اليمن، والألف عوض عن إحدى يائي النسب، فتبقى الياء الأخرى مخففة، ولو شددت لجمع بين العوض والمعوض.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
للبيت العتيق أربعة أركان: الشامي، والغربي، واليماني، والشرقي الذي فيه الحجر الأسود.
2 -
يشرع مسح اليماني والحجر الأسود، هذا هو الذي وردت فيه النصوص الشرعية.
3 -
أنَّه لا يُستلم إلَاّ الركنان اليمانيان.
4 -
العبادات توقيفية، فلا يتعبد الله إلَاّ بما شرعه تعالى، أو شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1) مسلم (1269).
5 -
بإجماع المسلمين أنَّ الركنين اليمانيين مبنيان على أسس إبراهيم وقواعده، وأما الشامي والغربي فليس على قواعد إبراهيم، حيث اقتطع الحِجر من الكعبة، واحتجز.
6 -
ذكرنا هذا إن صلح أن يكون علة المسح لليمانيين دون الآخرين، وإلَاّ فالحكمة هو امتثال أمر الله تعالى، الذي لا يأمر إلَاّ بما فيه الخير والصلاح، ولا ينهى إلَاّ عما فيه الضرر والفساد، والله أعلم.
***
628 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه "أَنَّهُ قَبَّلَ الحَجَرَ، وَقَالَ: إِنِّي أعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ، لَا تَضرُّ ولَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أنِّي رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبلُّكَ مَا قَبَّلتُك" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يؤخذ من كلام هذا الإمام الملهم أصلٌ شرعيٌّ عظيمٌ، هو أنَّ الأصل في العبادات الحظر والمنع، فلا يشرع منها إلَاّ ما شرعه الله ورسوله، فلا مجال للرأي والاستحسان في ذلك، كما نبَّه على أنَّ القدوة في ذلك خاصَّة هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه المبلغ عن الله تعالى، فهو القدوة والأسوة في الأمور الشرعية.
2 -
قال النووي: وإنما قال: "لا تضر ولا تنفع" لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين أَلِفُوا عبادة الأحجار وتعظيمها، رجاء نفعها، وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، فخاف عمر أن يراه بعضُهم يقبله، ويُعنى به فيشتبه عليه، فبيَّن له أنَّه حجر مخلوق كباقي المخلوقات، التي لا تضر، ولا تنفع، وأشاع عمر هذا في الموسم ليشهد في البلدان، ويحفظ عنه أهل الموسم.
3 -
ما أشبه الليلة بالبارحة، فإنَّ كثيرًا من البلاد الإسلامية لديهم من الجهل بشرعهم، وتوحيد الله تعالى الذي هو أصل الدين، مثلما هو عند أهل الجاهلية، فما أحوج المسلمين إلى من يبصرهم بأمر دينهم، ويلقنهم إياه على حقيقته، التي أرادها الله تعالى منهم، حينما بعث الله رسوله، وأنزل عليه كتابه المبين.
(1) البخاري (1597)، مسلم (1270).
4 -
فيه مشروعية تقبيل الحجر الأسود في الطواف، ولكن هذه الفضيلة تكون بشرط ألا يترتب عليها محرم، من مزاحمة الناس، ومدافعتهم، وأذيتهم حتى يصل إليه، فإنَّه في هذه الحال يكون ترك الاستلام أفضل، لاسيَّما للنساء.
5 -
قال الخطابي -رحمه الله تعالى-: فيه أنَّ متابعة السنن واجبة، وإن لم يقف لها على علل معلومةٍ وأسبابٍ معقولةٍ، وقد فضَّل الله البقاع والبلدان، كما فضل بعض الليالي، والأيام، والشهور.
6 -
يعلم من قوله رضي الله عنه "إنَّك حجر" أنهم ينزلون النوع منزلة الجنس، باعتبار اتصافه بصفة مختصة به، فقوله:"إنَّك حجر" شهادة له بأنَّه من هذا الجنس، ثم أكد هذه الجنسية وقررها بأنه حجر لا يضر ولا ينفع، وقوله: "لولا أني رأيت
…
" فهذا إخراج له من الجنس باعتبار تقبيله صلى الله عليه وسلم.
***
629 -
وَعنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يطُوفُ بالبيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ مَعَهُ، ويُقَبِّلُ المِحْجَنَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- المحجن: بكسر الميم وسكون الحاء المهملة ثم جيم آخره نون والميم زائدة، جمعه محاجن، هو عصا محنية الرأس.
قال ابن دريد: كل عود معطوف الرأس فهو محجن.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
لما أكثر الناس على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو يطوف طاف على ناقته وجعل يستلم الحجر الأسود بمِحجنه، ويشير به صلى الله عليه وسلم إلى الحجر.
2 -
فيه دليل على جواز الطواف راكبًا للحاجة.
3 -
فيه استحباب استلام الحجر الأسود، فإن شقَّ استلامه باليد استلمه بما فيه يده على أن لا يؤذي بذلك الطائفين.
4 -
استلام الحجر الأسود، وتقبيله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلَاّ في حال الطواف، وبين الطواف والسعي.
5 -
قال في الحاشية: أما الإشارة إلى الحجر الأسود إن شقَّ تقبيله، أو استلامه بيده، أو شيء آخر فهو إجماع.
وأما الركن اليماني فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يشير إليه، ولو فعله لنقل، فالسنة ترك ما تركه صلى الله عليه وسلم، فإنَّ السنة كما تكون في الفعل تكون أيضًا
(1) مسلم (1275).
بالترك.
6 -
قال الشيخ تقي الدين: لا يستلم إلَاّ الركنين اليمانيين دون الشاميين، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما استلم اليمانيين خاصة، لأنهما على قواعد إبراهيم، والآخران هما في داخل البيت، قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
7 -
قال الشيخ: وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم، وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس، فالطواف بها، واستلامها، وتقبيلها، من أعظم البدع المحرَّمة باتفاق الأئمة الأربعة.
8 -
قال النووي: واستدل به أصحاب مالك وأحمد على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه؛ لأنَّه لا يؤمن ذلك من البعير، فلو كان نجسَا لما عرَّض المسجد له.
* قرار هينة كبار العلماء بشأن حكم الطواف على جزء من سقف المسعى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثالثة والخمسين، المنعقدة بمدينة الطائف، خلال المدة من 12/ 5/ 1421 هـ إلى 15/ 5/ 1421 هـ، درس موضوع حكم الطواف وقت الزحام على جزء من سقف المسعى، وذلك بناء على كثرة ما يرد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من استفتاءات حول هذا الموضوع.
وبعد الدراسة رأى المجلس بالأكثرية عدم جواز الطواف فوق جزء من سطح المسعى؛ لأنَّ المسعى يعتبر خارج المسجد الحرام، وليس جزءًا منه، بل هو مشعر مستقل بأحكامه، وما يؤدى فيه من عبادات، والطواف إنما هو في المسجد الحرام، لقول الله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} .
وخروجًا من هذا المحذور فقد اطَّلع المجلس على كتاب معالي الرئيس
العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي رقم: "32/ 1" وتاريخ 15/ 3/ 1421 هـ، ومشفوعه المحضر المعد من لجنة هندسية مكونة من:"مجموعة بن لادن السعودية، واتحاد المهندسين الاستشاريين، والرئاسة العامة لشؤن المسجد الحرام والمسجد النبوي" المتضمن ايجاد حل لهذا الموضوع، وذلك بتوسعة سطح المسجد الحرام من الجهة الشرقية مما يلي صحن المطاف من خلال اضافة ثلاثة عشر مترًا "13 م" إلى الممر الضيق، ليصبح عرض الممر كاملاً عشرين مترًا "20 م"، وهذا يتطلب عمل قواعد أرضية، وأعمدة جديدة من الأرض إلى السطح، تخترق المبني القديم للحرم في ذلك الجزء.
ويرى المجلس الموافقة على رأي اللجنة الهندسية المذكور بعالية، لما فيه من المصلحة العامة للطائفين من الحجاج والمعتمرين، ولكونه لا يجوز الطواف خارج المسجد الحرام، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه
…
***
630 -
وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: "طَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أخْضَرَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ النَّسَائيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال في المنتقى: رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه.
قال الشوكاني: حديث يعلى بن أمية صححه الترمذي، وسكت عنه أبو داود والمنذري، وصححه النووي.
* مفردات الحديث:
- مضطبعًا: الاضطباع افتعال من الضَبعْ بالسكون، هو العضد، أما بضم الباء فهو الحيوان المعروف، والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء على كتفه الأيسر، وبهذا يبدو ضبعه الأيمن، والضبع هو الكتف.
- بُرد: بضم الباء وسكون الراء المهملة، قال في المعجم الوسيط: البُرد كساء مخطط يلتحف به، جمعه: أَبْرَاد، وأبرُد، وبُرود.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استحباب الاضطباع في طواف القدوم خاصة، حيث لم يرد في غيره من الطواف.
(1) أحمد (17273)، أبو داود (1883)، الترمذي (859)، ابن ماجه (2954).
2 -
قال العلماء: والحكمة في فعله أنَّه يُعين على إسراع المشي، وأول من اضطبع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عمرة القضاء؛ ليستعينوا بذلك على الرمل؛ ليرى المشركون قوتهم وجلدهم، ثم صار سنة.
3 -
لا يشرع الاضطباع بعد هذا الطواف، فإذا قضى طوافه سوَّى ثيابه، فلا يضطبع في ركعتي الطواف.
4 -
كثير من المحرمين يضطبع منذ يلبس ملابس الإحرام حتى يحل منها، وهذا غير مشروع.
5 -
جواز الإحرام بالأخضر وغيره من الألوان، مع فضيلة الأبيض.
***
631 -
وَعنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ يُهلَّ مِنَّا المُهلُّ، فَلَا يُنْكرُ علَيْهِ، وَيُكبِّرُ مِنَّا المُكَبِّرُ، فَلَا يُنكرُ عَلَيه" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث بتمامه في صحيح مسلم: سأل محمَّد بن أبي بكر أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في مثل هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منَّا فلا ينكر عليه".
ففي الحديث رد على من قال: يقطع التلبية صبح يوم عرفة.
2 -
الإهلال: هو رفع الصوت بالتلبية، فالحديث دليل على جواز جعل التكبير مكان التلبية، فتارةً يفعل هلذا، وتارةً يفعل هذا، فكله سنة، أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها.
3 -
الحديث يدل بفحواه على أنَّ الصحابة رضي الله عنهم ينكرون على من خالف النَّهج الصستقيم في قولٍ أو فعلٍ، وأنَّهم لا يقرون مخطئًا على خطئه للمداهنة والمجاملة.
…
(1) البخاري (1659)، مسلم (1285).
632 -
وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "بَعَثنَي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الثَّقَلِ -أو قَالَ: فِي الضَّعَفَةِ- مِنْ جَمْعٍ بلَيْلٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الثقل: بفتح الثاء المثلثة وفتح القاف، قال في النهاية: هو متاع المسافر.
- الضَعَفة: بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة والفاء، جمع ضعيف، هم النساء والأطفال، وكبار السن والمرضى.
- جَمْع: بفتح الجيم وسكون الميم فعين مهملة، هي مزدلفة، سمِّيت بذلك؛ لاجتماع الناس فيها، أو لجمع الصلاتين المغرب والعشاء فيها.
…
(1) البخاري (1856)، مسلم (1293).
633 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليْلَةَ المُزْدَلِفَةِ أنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ ثَبِطَةً -يعْنِي ثَقِيلَةً- فأَذِنَ لَهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- ثَبطَة: يقال: ثبّطه يثبّطه ثبطًا، من باب نصر، بمعنى عوَّقه وبطَّأه، فالثَبِط هو الثقيل، والمرأة ثَبِطة، جمعها ثبِطَات.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
في الحديثين دليل على أنَّ هديه صلى الله عليه وسلم البيات بمزدلفة إلى بعد طلوع الفجر.
قال في المغني: والمستحب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في المبيت إلى أن يصبح، ثم يقف حتى يسفر.
2 -
أما الضعفة من النساء، والصبيان، والكبار العاجزين، والمرضى، وكذلك مَن لا يستغنون عن رفقته من الأقوياء، فلا بأس من تقديمهم بعد منتصف ليلة النحر إلى منى.
قال في المغني: ولا نعلم في تقديمهم مخالفًا، ولأنَّ فيه رِفْقًا بهم، ودفعًا لمشقة الزحام عنهم، واقتداء بفعل نبيهم صلى الله عليه وسلم.
3 -
قال الوزير: أجمعوا على جواز الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل إلَاّ أبا حنيفة قال: عليه دم.
ودليل الجمهور حديث ابن عباس: "كنتُ فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى". [رواه البخاري (1678)، مسلم (1293)].
(1) البخاري (1680)، مسلم (1290).
قال الترمذي: عليه العمل عند أهل العلم.
قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: وله الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل، وبعض أهل العلم يأبى ذلك، ويقول: إنه ما جاء إلَاّ في حق الضعيف، فلا يكون مسوغًا لبقية الناس أن يدفعوا مثلهم، وهذا أحوط، وإلى هذا ذهب الشيخ، وابن القيم.
والليل الشرعي المعتبر من غياب الشمس إلى طلوع الفجر.
4 -
مكان الوقوف يكون في أي جزء من مزدلفة التي تقدم تحديدها، وأفضله عند المشعر الحرام، وهو الجبل الصغير الذي فيه المسجد لمن سهل عليه ذلك، أما من لم يسهل عليه، فالرفق بنفسه ورفقته أولى.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم المبيت بمزدلفة، ويراد بالمبيت بها الحصول فيها تلك الليلة.
فذهب الإمام أحمد إلى وجوبه إلى بعد منتصف الليل، على غير السقاة والرعاة، وإن لم يدركها إلَاّ بعد نصف الليل أجزأ، لأنَّ الحكم منوط بالنصف الأخير، وأما الشافعي: فالصحيح من مذهبه أنَّ الواجب جزء من النصف الثاني من الليل، وقال مالك: الواجب هو النزول بمزدلفة ليلاً قبل الفجر، بقدر ما يحط رحاله، وهو سائر من عرفة إلى منى.
وأما الأحناف: فالمبيت بمزدلفة عندهم سنة، والواجب عندهم هو الوقوف زمنًا بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.
وذهب قلة من العلماء منهم الشعبي، وعلقمة، والنَّخعي، وأبو بكر بن خزيمة إلى أنَّ من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج.
وأقرب هذه الأقوال للصواب الذي هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجته القول الأول، ولا يخالفه شيء من الأدلة عند التامل، والله أعلم.
634 -
وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمْسُ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ النَّسَائِيَّ، وفِيهِ انْقِطَاعٌ (1).
635 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الجَمْرَةَ قَبْلَ الفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ، فَأَفَاضَتْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وإِسْنَادُهُ علَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (2)
ــ
* درجة الحديثين:
أما حديث ابن عباس، فحسَّنه الحافظ في الفتح، وله طرق ذكرها الألباني في إرواء الغليل، وصحَّحه ابن حبَّان، لكن قال ابن عبد الهادي والحافظ: في إسناده انقطاع.
وأما حديث عائشة فأخرجه الحاكم والبيهقي ورجاله رجال الصحيح.
وقال ابن عبد الهادي: رجاله رجال مسلم، وقال البيهقي: إسناده صحيح لا غبار عليه.
* مفردات الحديث:
- فأفاضت: قال الجوهري: أفاض الناس من عرفات إلى جمع أي دفعوا، وكل دفعة إفاضة، والمراد هنا أنَّ أم سلمة رضي الله عنها لما رمت جمرة العقبة أفاضت إلى مكة فطافت طواف الإفاضة، وهو أحد أركان الحج.
(1) أحمد (19778)، أبو داود (1940)، الترمذي (893)، النسائي (5/ 270)، ابن ماجه (3025).
(2)
أبو داود (1942).
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
حديث ابن عباس يدل على أنَّ وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر لا يدخل إلَاّ بعد طلوع الشمس، وحديث عائشة يدل على جواز رميها قبل طلوع الفجر وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
2 -
الحديثان يدلان على جواز دفع الضعفة من النساء والصبيان ونحوهم من مزدلفة إلى منا قبل طلوع الفجر.
3 -
حديث عائشة يدل على أنَّ وقت رمي جمرة العقبة يبدأ قبل طلوع فجر يوم النحر، وحدده الشافعية والحنابلة بدخول النصف الثاني من ليلة النحر.
قال ابن القيم: والذي دلت عليه السنة إنَّما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليس مع من حده بالنصف دليل، والله أعلم.
4 -
فيه دليل على دخول وقت الإفاضة من منى إلى البيت لطواف الحج قبل طلوع الفجر من ليلة النحر، وحدده الشافعية والحنابلة بنصف الليل.
5 -
حديث عائشة أصح من حديث ابن عباس، فعند تعارض الحديثين في دخول وقت الرمي يكون العمل بحديث عائشة أولى، على أنَّه يمكن الجمع بينهما بحمل حديث ابن عباس على الندب، وحديث عائشة على الجواز، مع أنَّه من الرحمة واليسر العمل بحديث عائشة في هذه الأزمنة، التي تضخمت فيه أعداد الحجاج، ووجدت المشقة العظيمة عند رمي الجمار.
***
636 -
وَعنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. "مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنا هَذِهِ -يَعْنِي بِالمُزْدَلِفَةَ- فَوَقَفَ مَعَناَ حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبلْ ذلِكَ لَيْلاً أوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّةُ، وَقَضَى تَفَثَهُ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في التلخيص: رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبَّان والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عروة بن مضرس بألفاظ مختلفة، وصحَّحه هذا الحديث الدارقطني والحاكم والقاضي أبو بكر بن العربي، وقال: إنَّه على شرطهما، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح.
* مفردات الحديث:
- من شهد: أي حضر.
- صلاتنا هذه: صلاة الفجر بمزدلفة.
- ندفع: أي نرحل ونفيض من مزدلفة إلى منى.
- تفثه: بفتح التاء المثناة الفوقية والفاء الموحدة والثاء المثلثة. قال في النهاية: التفث هو ما يفعله المحرم بالحج إذا حلَّ، كقص الشارب، والأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ويقال للرجل: تفِث، وللمرأة تَفِثَة.
(1) أحمد (15619)، أبو داود (1950)، الترمذي (891)، النسائي (5/ 263)، ابن ماجه (3016)، ابن خزيمة (2820).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
استدل به الحنابلة على أنَّ وقت الوقوف بعرفة يدخل من فجر يوم التاسع؛ لعموم قوله: "ليلاً أو نهارًا" وهو شامل لما قبل الزوال، وهو من مفردات المذهب، أما الجمهور فيرون أن الوقت لا يدخل إلَاّ بالزوال، والعمل يقول الجمهور أحوط.
2 -
قال الخطابي: في هذا الحديث من الفقه أنَّ من وقف بعرفات وقفة بعد الزوال من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر، فقد أدرك الحج.
3 -
قوله: "فقد تمَّ حجه" يريد به معظم الحج، وهو الوقوف بعرفة، لأنَّه أَمِنَ فوات الحج، أما الطواف وهو ركن كبير، فلا يخشى فواته، لبقاء وقته وامتداده.
4 -
قوله: "وقضى تفثه" أي قرُب من التحلل الذي يزيل به ما علقه، بسبب الإحرام، من شعور، وأظفار، وأدران.
5 -
هذا الحديث هو حجة الشعبي وعلقمة والنَّخعي وغيرهم في أنَّ من فاته الوقوف بمزدلفة فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة، كما لو فاته الوقوف بعرفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"من شهد صلاتنا هذه" حيث جعلها شرطًا لصحة الحج.
وقد خالفهم جمهور العلماء فاوجبوا دمًا على من فاته المبيت بمزدلفة، وعلى هذا عمل المسلمين الآن.
6 -
استدل به الفقهاء على أنَّه لا يشترط لصحة الوقفة بعرفة أن يعلم الواقف أنَّها عرفة.
7 -
استدل به على أنَّ من لم يقف بعرفة إلَاّ ليلاً، فإنَّ حجَّه صحيح، وأنه لا يجب عليه دم، لفواته جزء من وقوف النهار.
8 -
استدل به على مشروعية الدفع مع الإمام أو بعده؛ لأنَّه هو قائد مسيرة الحج،
فهو قدوتهم في أعماله.
9 -
استدل به على مشروعية شهود صلاة الصبح في مزدلفة مع الإمام، فهو من كمال النسك.
10 -
الوقوف -هنا- المراد به الحصول في مزدلفة في ذلك الزمن، لا نفس الوقوف.
11 -
في الحديث ترتيب أعمال مناسك الحج، وأنَّه لا يقدم شيء على شيء، فلو قدم المبيت بمزدلفة على الوقوف بعرفة، فإنَّه لا يجزئه هذا المبيت.
12 -
فيه جواز التعبير عن تمام الشيء بالإتيان ببعضه.
***
637 -
وَعَنْ عُمرَ رضي الله عنه قَالَ: "إِنَّ المُشْرِكينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ويَقُولُون: أشْرِقْ ثَبِيرُ، وإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، فَأَفَاضَ قَبْلَ أن تَطْلُعَ الشَّمْسُ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أشرق ثَبير: ثبير بفتح الثاء المثلثة ثم باء موحدة مكسورة ثم ياء ساكنة آخره راء مهملة، هو الجبل الكبير الشاهق الواقع علما حد مزدلفة الشمالي.
وكانت العرب في الجاهلية لا يدفعون من مزدلفة إلى منى إلَاّ بعد إشراق الشمس على قمة هذا الجبل، فكانوا يقولون: أشرق ثبير، كيما نغير.
- أشْرِق: بفتح الهمزة، فعل أمر من الإشراق، أي أدخل في وقت الإشراق، وفي بعض نسخ البخاري "كيما نغير" أي لنذهب سريعًا إلى منى، كالمغيرين من سرعة الدفع.
- فأفاض: أصله من إفاضة الماء، وهو صبه بكثرة، فالمراد هنا: الدفع من مزدلفة إلى منى، أما الإفاضة الأولى التي قال الله تعالى عنها:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] فهي من عرفة إلى مزدلفة.
وأما الإفاضة الثالثة التي مرَّت في حديث جابر، فهي الإفاضة من منى إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة، وبها سمِّي طواف الحج "طواف الإفاضة"، وهذه الإفاضة الثانية من مزدلفة إلى منى.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ المشركين كانوا يعظمون البيت، ويحجونه، ويقفون في المشاعر إرثًا من
(1) البخاري (1684).
أبيهم إبراهيم عليه السلام، إلَاّ أنَّهم غيَّروا، وبدَّلوا في صفة النسك.
2 -
أنَّ المشركين في حجهم يبقون في مزدلفة صبح يوم النحر حتى تشرق الشمس، ثم يفيضون إلى منى.
3 -
النَّبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع من مزدلفة إلى منى وقت الإسفار قبل طلوع الشمس.
4 -
وجوب مخالفة الكفار على تنوع مللهم، في أعمالهم، وأحوالهم، وشعائرهم؛ ليكون للمسلمين كيان مستقل عنهم، وميزة تبرزهم وتميزهم عن غيرهم، فلا يذوبون في الأوساط والمجتمعات المخالفة لنهجهم، والمؤسف أنَّ المسلمين الآن يترسمون خطاهم، فيحاكونهم في كل شيء بلا بصيرة.
5 -
قوله: "وإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خالفهم" يفهم قصد مخالفة الكفار، والابتعاد عن مشابهتهم.
6 -
تحصل من الاستقراء أنَّ إفاضات الحجيج ثلاث:
الأولى: من عرفة إلى مزدلفة ليلة عيد النحر، وهذه هي المذكورة في قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]
الثانية: من مزدلفة إلى منى، وهذه هي المذكورة في هذا الحديث:"فأفاض قبل أن تطلع الشمس".
الثالثة: الإفاضة من منى إلى مكة المكرَّمة لأداء طواف الحج المسمى "طواف الإفاضة"، وهي المشار إليها في حديث جابر السابق، وفيه:"ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت".
***