الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الصلح
مقدمة
الصُّلح: اسم مصدر صالحه مصالحة وصِلاحًا -بالكسر.
الصلح لغة: قطع المنازعة.
وشرعًا: معاقدة يتوصل بها إلى موافقة بين متخاصمين قطعًا للنزاع.
وهو جائزٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
قال تعالي: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء]، وقال صلى الله عليه وسلم:"الصلح جائز بين المسلمين، إلَاّ صلحًا أحلَّ حرامًا، أو حرم حلالاً"[رواه الترمذي (1352)]، وجاء في الترمذي من حديث أبي الدرداء أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قلنا: بلى، قال: إصلاح ذات البين".
وأجمع المسلمون على جوازه، وتقتضيه المصلحة، فإنَّه من مساعي جلب الخير، ودفع الشر.
وهو من أكبر العقود فائدة، لما فيه من قطع النزاع والشقاق، ولذا حسُن وأبيح فيه الكذب، فقد جاء في البخاري (2692) ومسلم (2605) من حديث أم كلثوم أنَّها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا".
والصلح أقسام: منه الصلح بين المسلمين وأهل الحرب بعقد الذمة، أو الهدنة، أو الأمان.
ومنه ما يكون بين أهل البغي وأهل العدل، حينما يخرج البغاة على الإمام، فإنَّ عليه مراسلتهم، وإزالة ما يطلبون إزالته من الظلم، وعقد الاتفاق معهم.
ومنه ما يكون بين زوجين إذا خيف الشقاق بينهما، بعثَ الحاكم حكَمًا من أهل الزوج، وحَكَمًا من أهل الزوجة، وأجريا ما يريان فيه الصلاح بينهما من جمع أو تفريق.
ومنه الصلح بين المتخاصمين في الأموال، وهو المراد هنا في هذه الترجمة.
والصلح في الأموال قسمان:
1 -
صلح على إقرار.
2 -
صلح على إنكار.
ولكل قسم أحكام تخصه.
فالصلح على إقرار نوعان:
أحدهما: الصلح على جنس الحق، وذلك بأن يقر لخصمه بدين فيُسقط عنه بعضه، أو بعين فيهب له بعضها، فيصح ذلك؛ لأنَّه جائز التصرف، لا يمنع من إسقاط بعض حقه، أو هبته.
الثاني: أن يصلح عن الحق المقرّ به بغير جنسه، فيصح، ويكون حينئذ معاوضة، إما بيع أو صرف، أو غيرهما فتجري فيه أحكام تلك المعاوضة.
القسم الثاني: صلح على إنكار.
وذلك بأن يدَّعي إنسان على الآخر عينًا في يده أو دينًا في ذمته، فينكره المدعى عليه، ثم يصالح على مال، فيصح الصلح، ويكون في حق منكر إبراء؛ لأنَّه بذل العوض لدفع الخصومة عن نفسه، وليس في مقابل حق ثابت عليه.
وأما المدعي فيكون الصلح في حقه بيعًا، يأخذ أحكامه المعروفة.
والصلح كما تقدم من أنفع العقود؛ لما يتوصل به إلى إطفاء الفتن وإخماد الحروب، وإصلاح الأحوال، وإرضاء النفوس، ولما يثمر من استتباب الأمن، واستقرار الأمور، وصفاء النفوس، وقطع دابر الشر. ولذا قال الله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]، وقال تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة جدًا، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
***
747 -
عَن عَمْرِو بنِ عَوْفٍ المُزَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الصُّلحُ جَائِزٌ بينَ المُسْلِمِينَ، إلَاّ صُلحًا حرَّم حَلَالاً، أوْ أحلَّ حَرَامًا، وَالمُسْلِمُونَ عَلى شُروطِهِمْ، إِلَاّ شَرْطًا حرَّم حَلَالاً، أو أحلَّ حَرَامًا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ؛ لِأنَّ رَاوِيَهُ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ عَوْفٍ ضَعِيفٌ، وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ (1) وَقَد صَحَّحَهُ ابْنْ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح لغيره.
قال في التلخيص: رواه أبو داود. والحاكم من حديث الوليد بن رباح عن أبي هريرة، وضعفه ابن حزم وعبد الحق، وحسَّنه الترمذي، وزاد الحاكم من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده:"إلَاّ شرطًا حرَّم حلالاً أو أحلَّ حرامًا" وهو ضعيف، ورواه الدارقطني، والحاكم من حديث أنس، وإسناده واهٍ، ورواه الدارقطني، والحاكم من حديث عائشة وهو واهٍ.
وقال الألباني: الحديث صحيح، وقد روي من حديث أبي هريرة، وعائشة، وأنس وعمرو بن عوف ورافع بن خديج وعبد الله بن عمر، وجملة القول إنَّ الحديث بمجموع هذه الطرق يرتقي إلى درجة الصحيح لغيره.
(1) الترمذي (1352).
(2)
ابن حبان (1199)، أبو داود (3594).
* مفردات الحديث:
- بين: هي ظروف بمعنى وسط، فإذا أضيفت إلى ظرف زمان، كانت ظرف زمان وإذا أضيف إلى ظرف مكان كانت ظرف مكان.
- المسلمون على شروطهم: أي ثابتون عليها، لا يرجعون عنها.
- إلَاّ شرطًا: "إلَاّ" أداة استثناء، وهنا يجب نصب ما بعدها، لوقوعه بعد كلام تام موجب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جمع هذا الحديث الشريف بين أنواع الصلح والشروط، صحيحها وفاسدها، بهاتين الجملتين الجامعتين.
2 -
الأصل في الصلح أنَّه جائز نافذ؛ لأنَّ الله قد مدحه في كتابه فقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]؛ ولأنه طريق سليم إلى المصالحة بين المتخاصمين.
3 -
يستثنى منه الصلح إذ حرَّم ما أحل الله تعالى، أو أحل ما حرَّمه، فإنَّ هذا مصادم لشرع الله ومنافٍ لأمره، فهو غير جائزٍ، ولا نافذٍ.
4 -
يدخل في الصلح الجائز الصلح في الدماء، والأنكحة، والأموال، وغير ذلك من المعاملات التي تجري بين الناس، ويحصل فيها الاختلاف والتنازع، فالصلح هو سبيل حسمها.
5 -
من ذلك الصلح على إنكار، بأن يدَّعي عليه حقًّا من دين، أو عين، فينكر المدعى عليه ثم يتَّفق مع المدعي على المصالحة، فيقنع المدعي بما يُعطى مقابل دعواه، فيحصل الصلح على ذلك.
6 -
ومن ذلك الحقوق المجهولة، كان يكون بين متعاملين معاملة طويلة، جَهِلا ما على أحدهما للآخر، أو جَهِلا ما بينهما من الحقوق، فاصطلحا فيما بينهما على حسم الخلاف بينهما، وتمام ذلك أن يسامح كل منهما صاحبه بعد الصلح.
7 -
ومن ذلك الصلح بين الزوجين المتخاصمين في حقوق الزوجية، من نفقةٍ،
أو كسوة، أو مسكنٍ، أو عشرةٍ، ويدخل بينهما من يحسن الصلح، وينهي النزاع بينهما ويحسمه، كما قال تعالي:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
8 -
ومن ذلك الصلح عن القصاص في النفوس، أو الأطراف، أو منافع الأعضاء، حينما يتفقان عليه بمعاوضة بقدر الدية، أو أكثر، أو أقل، فالصلح جائزٌ ونافذٌ، قال تعالي:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178].
9 -
فإن تضمن الصلح تحريم حلال، أو تحليل حرام، فهو فاسد بنص هذا الحديث، أو عُقِد الصلح على ظلم أحد الطرفين فهو حرام، لقوله تعالي:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات].
10 -
ومن الصلح المحرم الإكراه عليه، وذلك مثل أنْ يضيق على زوجته، ويعضلها ظلمًا؛ لتفتدي نفسها منه، فتعيد إليه ما دفعه من صَداقٍ، أو بعض ذلك الصداق، الذي استحل به الاستمتاع بها، فهذا ظلم وجَور، قال تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] ثم قال تعالي: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء].
أما إذا كانت ظالمة كأن تقصر بحقوق الله من ترك الصلاة، أو الصيام، أو غير ذلك من شعائر الله، أو ارتاب منها ريبة تحفُّ بها القرائن القوية، أو كانت سيئة الخلق والعشرة معه، تمنعه أو تمطُله بحقوقه عليها، فلا مانع أن يعضلها لتفتدي منه، قال تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].
قال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل، فلا بأس أن يضارها حتى تفتدي منه.
وقال بعض المفسرين: الفاحشة البذاءة باللسان.
قلتُ: وهو عام لهذا كله، ولغيره من سوء حال المرأة مع ربها، أو مع زوجها.
12 -
وأما الشروط: فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أنَّ المسلمين على شروطهم، إلَاّ شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً.
وهذا أصلٌ كبيرٌ من أصول المعاملات، والمعاهدات، والعقود، فإنَّ الشروط هي التي يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر، مما له فيه حظٌّ ومصلحةٌ، فذلك جائزٌ ولازم، إذا اتَّفقَا عليه.
13 -
من ذلك أن يشترط المشتري في المبيع وصفًا مقصودًا، كشرط البقرة لبوناً، أو الجارح صيوداً، أو الدابة هِمْلَاجَةً (أي حسنة السير في سرعة)، ممَّا فيه وصفٌ مقصود، فهو شرطٌ معتبرٌ لازمٌ نافذٌ.
14 -
ومن ذلك أن يشترط المشتري أنَّ الثمن أو بعضه مؤجل بأجل مسمى، أو يشترط البائع نفعًا معلومًا في الثمن، كسكنى الدار المباعة سنةً ونحوه، أو شرط أن يستعمل السيارة المباعة مدةً معلومةً لعملٍ معلومٍ، فكلها شروطٌ جائزةٌ.
15 -
ومن ذلك شروط مؤسسي الشركات والمشاريع، شروطًا معلومةً عادلةً، ليس فيها جهالةٌ، ولا ظلمٌ، ولا مخاطرةٌ، فهي لازمة.
16 -
ومن ذلك شروط الواقفين والموصِين في أوقافهم ووصاياهم، من الشروط المعلومة المقصودة، التي لهم فيها نفع، فكلها شروط صحيحة لازمة.
17 -
ومن ذلك شروط الزوجة على زوجها سكنى دارها، أو بلدها، أو نفقةً معينةً لها، أو شرطت عليه أولادها من غيره.
فقد جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "إنَّ أحق الشروط أن يوفى به ما استحلَّت به الفروج".
18 -
أما الشروط المحرَّمة، كأن تشترط المرأة طلاق ضرتها فهو محرَّم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكفأ ما في إنائها"[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
وسيأتي هذا بأوضح منه في باب النكاح، إن شاء الله تعالى.
748 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمْنعُ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ. ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاللهِ لأَرْمِينَّ بِهَا بَيْنَ أكتَافِكُمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا يمنع: "لا" نافية، وقد روي لا يمنعنَّ، فتكون "لا" ناهية، والفعل مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون توكيد، في محل جزم.
- جاره: يفهم من لفظ الحديث أنَّ المراد به الجار الملاصق الذي يمكن وضع خشبة على جداره.
- أن يغرز: بفتح الياء ثم غين معجمة ثم راء مهملة ثم زاي معجمة، يثبت أطراف خشبة في جداره ليسقف عليها، و"أن" وما دخلت في تأويل مصدر، تقديره: غرز خشبة في جدار جاره.
- خشبة: جاءت في بعض روايات البخاري بالإفراد، والأكثر بالجمع، وقال ابن عبد البر: اللفظان في الموطأ، والمعنى واحد، لأنَّ المراد برواية الإفراد الجنس.
- عنها: المراد بالضمير السنة المذكورة في خطبته، حينما كان أميرًا على المدينة النبوية.
- لأرمين بها: يحتمل أنَّه يريد هذه السنة، ويحتمل إرادة الخشبة، والمعنى: إن لم تقبلوا هذا الحكم، وتعملوا به راضين، لأجعلن الخشبة على رقابكم كارهين، وأراد بذلك المبالغة حينما كان أميرًا عليهم.
(1) البخاري (2463)، مسلم (1609).
- أكتافكم: بالمثناة الفوقية، جمع كتف، وهو العاتق، أي بينكم، ويروى بالنون "أكنافكم" جمع كنف بفتحها، ومعناها أيضا بينكم؛ لأنَّ الكنف الجانب.
قال ابن عبد البر: قرأناه في الموطأ بالتاء والنون، يعني بالوجهين بأكتافكم، وبأكنافكم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
للجار حقوق كثيرة كبيرة على جاره تجب مراعاتها، فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على صلة الجار، وبره، والإحسان إليه، وكف الأذى عنه، قال تعالى:{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36].
وجاء في البخاري (6015)، ومسلم (2625)، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنَّه سيورثه" وجاء في البخاري (6016) أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه"، والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا.
2 -
ومن حُسن الجوار، ومراعاة الحقوق، أن يبذل الجار لجاره المنافع التي لا تعود عليه بالضرر الكبير، وينتفع بها الجار.
3 -
من ذلك أنَّه يجب على الجار أن يأذن لجاره أن يضع خشبة على جداره، إذا لم يكن عليه ضرر كبير من وضعها، وكان الجار في حاجةٍ إلى ذلك، ويحرم عليه منعه؛ لأنَّ النَّهي يفيد التحريم.
4 -
فهِمَ بعض العلماء أنَّ النَّهي للكراهة فقط، أما أبو هريرة رضي الله عنه فقد فهِم من النَّهي التحريم من المنع؛ ولذا أنكر على أهل المدينة إعراضهم عن هذه السنة والأخذ بها، وفهم الصحابي مقدم على فهم غيره.
5 -
هذه من حقوق الجار التي حثَّ عليها الشارع، وأمر ببره بها، والإحسان إليه، فيقاس على وضع الخشب غيره من الانتفاعات التي يكون في الجيران
حاجةٌ إليها، وليس على مالك المنفعة مضرةٌ كبيرةٌ في بذلها، فحينئذٍ يجب بذلها، ويحرم منعها، قياساً على التي قبلها.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على المنع من وضع الخشب على جدار الجار مع وجود الضرر إلَاّ بإذنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".
واختلفوا فيما إذا لم يكن على صاحب الجدار ضرر، وكان بصاحب الخشب حاجة إلى وضعها، وذلك بأن لا يمكنه التسقيف إلَاّ بالوضع على جداره.
فذهب الأئمة الثلاثة إلى أنَّه لا يجوز، مستدلين بأصل المنع؛ لحديث:"لا يحل مال امريء مسلم، إلَاّ بطيبةٍ من نفسه"، وحديث:"أموالكم عليكم حرام" رواه مسلم (1218)، ونحو ذلك من الأدلة.
وذهب الإمام أحمد وإسحاق وأهل الحديث إلى وجوب بذل الجدار لصاحب الخشب، مع حاجة الجار إليه، وقلة الضرر على صاحب الجدار، وأنَّ على الحاكم إجباره بطلب صاحب الخشب، إذا امتنع من ذلك.
الدليل على ذلك:
1 -
ظاهر الحديث الذي معنا، فإنَّه ورد بصيغة النَّهي المؤكد، والنَّهي يقتضي التحريم، وإذا كان حراماً فإنَّ البذل واجب.
2 -
أبو هريرة راوي الحديث استنكر عدم الأخذ بهذه السنة، وتوعَّد على تركها، والإعراض عنها.
وهذا يقتضي فهمه لوجوب البذل، وتحريم المنع، وراوي الحديث أعرف بمعناه.
3 -
ورد مثل هذه القضية في زمن عمر بن الخطاب، فقد روى مالك بسند صحيح أنَّ الضحاك بن خليفة سأل محمَّد بن مسلمة أن يجري خليجًا له في
أرض محمَّد بن مسلمة فامتنع، فكلَّمه عمر في ذلك فأبى، فقال عمر: والله ليمرنَّ ولو على بطنك، ولم يُعلم لعمر مخالفٌ من الصحابة، فكان اتفاقًا منهم.
4 -
أنَّ الله عظَّم حق الجار، وأكَّد حرمته، فله على جاره حقوق، فإذا لم يبذل له ما ليس عليه فيه مضرة، فأين رعاية الحقوق.
أما العمومات التي يستدل بها الجمهور على عدم الوجوب، فهي مخصَّصة بهذا الحديث الصحيح؛ للمصالح المذكورة.
***
749 -
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ لامْرِيءٍ أنْ يَأُخُذَ عَصَا أخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" رَوَاهُ ابْنُ حِبَّان وَالحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال في التلخيص: رواه الدارقطني (3/ 25)، من طريق مقسم عن ابن عباس، ورواه البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي، وهو من رواية سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي حُميد، وقوَّى ابن المديني رواية سهيل، وله شاهد من حديث يزيد ابن أخت نمر، قال البيهقي: إسناده حسن، وحديث أبي حميد أصح ما في الباب. وقال الزيلعي: إسناده جيد.
* مفردات الحديث:
- لامريء: أصله المرء، مثلث الميم: الإنسان، مثناه مرآن، والنسبة إليه مريء، فإن جئت بهمزة الوصل صار فيه ثلاث لغات، فتح الراء أو ضمها، أو إعرابها.
- العصا: العود، وما يتوكأ عليه، ويضرب به، وهو من الخَشب، مؤنث، وهو واوي، والدليل أنَّ مثنَّاه عصوان، جمعها عصي.
- طيب النفس: يقال طاب عنها شيء نفساً تركه، والمعنى طابت نفسه عن شيء بحله ورضاه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، وهو يودع الناس، قوله: "إنَّ دماءكم
(1) ابن حبان (1166)، ولم أجده في الحاكم.
وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت، اللَّهم اشهد" [البخاري (1654)].
2 -
فحديث الباب يفيد تحريم أخذ أموال الناس بغير رضا أنفسهم، وطيبة قلوبهم، فمن أخذها واستولى عليها بغير طريق الرضا، فهي عليه حرام.
3 -
حقوق العباد عظيمة، فالذنوب التي بين العبد وبين ربه تكفرها التوبة النصوح، أما حقوق العباد فلا يكفرها مع التوبة إلَاّ البراءة منها بأدائها، أو استحلال أهلها، أو غير ذلك من التخلص من تبعاتها.
4 -
الشهادة في سبيل الله تعالى تكفر الذنوب كلها إلَاّ الدين، كما جاء في مسلم (3497) من حديث أبي قتادة أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله: أرأيتَ إن قُتِلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إلَاّ الدين، فإنَّ جبريل قال لي ذلك".
5 -
أما أموال الغير فمع طيب النفس حلال وطيبة، والرضا يكون بالإذن الصريح، ويكون بما يدل عليه من قرينة، أو من حالة صاحب الحق، وصِلته بالمستبيح، كما قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] لأنَّ القرابة والصداقة مظنة الإذن والإباحة.
6 -
هذه أمور الإباحة فيها أو عدمها ترجع إلى ما تعارف عليه الناس، واعتادوه بينهم، كما ترجع إلى ما يعرف عن أصحاب البيوت من السماح، وطيبة النفس أو عدم ذلك، فالمرجع هو طمأنينة القلب وراحة النفس في مثل هذه الأحوال التي تختلف باختلاف الناس، وباختلاف الوقت والمكان.