الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القَرْض
مقدمة
القَرْض: بفتح القاف وسكون الراء.
لغةً: الحدّ والقطع، والقرض اسم مصدر، بمعنى الاقتراض.
واسم المصدر: هو ما ساوى المصدر في الدلالة على الحدث، ولم يساوه في اشتماله على جميع حروف فعله.
فالقرض اسم مصدرة لخلوه من بعض أحرف فعله لفظًا وتقديرًا.
والقرض شرعًا: دفع المال ارتفاقًا لمن ينتفع به، ويردّ بدله.
وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.
فالكتاب: عموم قوله تعا لى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد: 18].
والسنة كثيرة: ومنها أحاديث الباب الآتية.
وقال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ القرض قُربة ومثوبة.
وأما القياس: فإنَّ القرض من جنس التبرع بالمنافع، كالعارية، وباب العارية أصله أن يعطيه أصل المال لينتفع به ثم يعيده إليه، فتارةً ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار، وتارةً يعيره ماشية ليشرب لبنها، وتارة يعيره شجرة ليأكل ثمرها ثم يعيدها. والمستقرض يأخذ القرض لينتفع به، ثم يعيد إلى المقرض مثله.
ولهذا نُهِيَ أنَّ يشترط زيادة على المثل، وليس هو من باب البيع، فإنَّ
عاقلًا لا يبيع درهمًا بمثله من كل وجه إلى أجل.
فالقرض من باب الإرفاق والتبرع، لا من باب المعاوضات، ولهذا سمَّاه النَّبي صلى الله عليه وسلم:"منيحة"؛ لينتفع المقترض، بما يستخلف منه، يعيده بعينه، فإن أمكن وإلَاّ فنظيره أو مثله.
قال في شرح الإقناع: وهو من المرافق المندوب إليها في حق المقرض لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نفَّسَ عن مُؤمنٍ كُرْبةً من كرب الدنيا نفَّسَ الله عنه كُرْبة من كرب يوم القيامة"[رواه مسلم (2699)].
ولما فيه من الأجر العظيم، فقد روى أنس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"رَأَيتُ ليلة أُسري بي على باب الجنة مكتوبًا الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقلتُ يا جبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأنَّ السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلَاّ من حاجة"[رواه ابن ماجه (2431)].
والقرض ليس من المسألة المذمومة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا إثم على من سُئل فلم يُقرِض، لأنَّه ليس بواجب، بل مندوب.
***
733 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيَرْةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أخَذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيْدُ أدَاءَهَا أدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أخَذَهَا يُريدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ الله" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أدَاءَهَا: من أخذ أموال الناس بأي وجه من وجوه المعاملات، حال كونه يريد أداء هذه الأموال إلى أهلها أدَّى الله عنه، بأن ييسِّر له ما يؤديه من فضله لحسن نيته.
- إتلافهَا: تلف الشيء تلفاً بمعنى هلك، فمن أخذها حال كونه يريد إتلافها على صاحبها أتلفه الله تعالى، بأن يُذهب ما في يده، فلا ينتفع به لسوء نيته.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تقدم أنَّ القرض إرفاق وتبرع، لا معاوضة ومقاضاة؛ ولذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة، ينتفع بها المقترض، ثم يعيدها بعينها إن أمكن، وإلَاّ ردَّ مثلها، فهو ارتفاق.
2 -
الحديث يدل على أنَّ من أخذ أموال الناس قرضًا، أو شركةً، أو إجارةً، أو عاريةً، أو غير ذلك، ونيته أداءها إليهم، أدى الله عنه في الدنيا، وفي الآخرة.
فأما في الدنيا فذلك بأن يسهِّل أمره، ويربح عمله، فيؤديها، وأما في الآخرة إذا مات ولم يوف فبأن يُرضي الله عنه غريمه بما شاء الله تعالى.
فقد أخرج ابن ماجة وابن حبان والحاكم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم
(1) البخاري (2387).
يُدان دينًا، يعلم الله أنَّه يريد أدَاءَهُ، إلَاّ أدَّاه الله عنه في الدنيا والآخرة".
3 -
يدل الحديث على أنَّ من أخذ أموال الناس ليس لحاجة إليها، ولا لتجارة وعمل بها، وإنما يريد الاستيلاء عليها وحرمانهم منها، أو يكون لحاجة إليها ولكنه لم ينو وفاءهم، ولا أداء حقوقهم، فإنَّ الله تعالى يتلف ماله في الدنيا بهلاكه، فيصاب بالفاقة، أو يبقيه له ولكن بمحق بركته، وهلاك ماله.
4 -
الحديث يدل على عِظم أثر النية في الأعمال، فمن صلحت نيته صلح عمله، ومن فسدت نيته فسد عمله:"إنما الأعمال بالنيات".
5 -
فيه تعظيم حقوق العباد وأموالهم، ووجوب التحرز منها والابتعاد عنها إلَاّ بحق.
6 -
فيه أنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما يدين العبدُ يُدان، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فليحرص المسلم أن يعامل الخلق بمثل ما يحب أن يعامل به.
7 -
الحديث يدل على جواز الاستقراض بالنية الطيبة، من عزمه على أداء القرض؛ ليخرج من التبعة، وليحصل على معونة الله تعالى في الدنيا أو في الآخرة، فقد روى ابن ماجه والحاكم بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الله مع الدائن حتى يقضي دينه".
***
734 -
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِىَ اللهُ عنْهَا- قَالَتْ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانًا قَدِمَ لَهُ بَزٌّ مِنَ الشَّامِ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتَ مِنهُ ثَوْبَيْنِ نَسِيئَةً إِلَى مَيْسَرَةٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ" أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَالبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
رواه الإمام أحمد قال: "حدثنا محمَّد بن جعفر حدَّثنا شعبة عن عمارة، يعني ابن أبي حفصة، عن عكرمة عن عائشة قالت: إنَّ فلانًا جاءه بزٌّ، فابعثْ إليه يبيعك ثوبين إلى الميسرة، فبعث إليه، فقال: قد عرفت ما يريد محمَّد، إنما يريد أن يذهب بثوبي -أي لا يعطيني دراهمي-. فبلغ ذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قد كذب، لقد عرفوا أني أتقاهم لله عز وجل" أو قال:"أصدقهم حديثًا، وآداهم للأمانة" وأخرجه الحاكم وصححه، وأقرَّه الذَّهبي على ذلك.
قال المؤلف: رجاله ثقات.
* مفردات الحديث:
- فلانًا: هو يهودي بخيل شحيح، حاقدٌ على الإسلام ورسول الإسلام، يقال له:"حليق"، وليس هذا الرد الجاف بغريب عن تلك الطغمة اليهودية الفاسدة.
- بزّ: بفتح الباء، والزاي المشددة نوع من الثياب الغليظة.
- نسيئة: أنْ يؤخِّر تسليم الثمن.
(1) الحاكم (2/ 23)، الترمذي (1213)، النسائي (7/ 294).
- إلى ميسرة: أي إلى وقت اليسار والسعة والغنى.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
القادم إلى المدينة بالبز من الشام هو يهودي من يهود المدينة المنورة الحاقدين على الإسلام ونبي الإسلام، وإلَاّ فهو يعلم أنَّ الحبيب المصطفى أوفى الناس وأكرم النَّاس، ولكنَّ الحقد والحسد الَّذي ملأَ قلبه، جعله يعامل حبيبنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هذه المعاملة الجافية، قبَّحه الله تعالى.
2 -
من كرم نفسه وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم أنَّه لم يعاتبه، ولم يؤنبه، وإنما عامله بما أدَّبه الله تعالى به في مثل قوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف].
3 -
فيه دليل على جواز معاملة الكفار، والشراء منهم، والبيع لهم، وغير ذلك من التصرفات، وأنَّها لا تعتبر من موالاتهم والركون إليهم.
4 -
فيه دليل على جواز الاستقراض، وأنه ليس من المسألة المذمومة، فهو استرفاق بالشيء؛ ليعيد مثله عند الميسرة.
5 -
فيه دليل على أنَّ أجل القرض حال، ولكنه يصلح أن يوعد بوفائه عند الميسرة.
6 -
كما أنَّ الحديث يدل على أنَّه لا يشترط العلم بآجَل القرض؛ لأنَّه حالٌّ في نفس الأمر، فبقاؤه عند المستقرض إرفاق.
7 -
فيه دليل على أنَّ ما يأتي من الكفار من ثياب مصبوغة، أو أواني مُموَّهة، فالأصل في ذلك الطهارة. 8 - وفيه بيان لؤم اليهود وشحهم، وفساد طويتهم، وأنَّ هذه الأخلاق الذميمة والصفات الدنيئة متأصلة بأولهم وآخرهم، إلَاّ من أنقذه الله تعالى منهم باتباع الرسل، وهدي الأنبياء.
قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء].
9 -
وفيه دليل على جواز معاملة مَن في ماله شبهة حرام، فإنَّ المعروف عن اليهود التعامل بالربا، وأخذ الرشوة، هذا ما لم يكن المتصرف فيه هو عين المال الحرام.
***