الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الغصب
مقدمة
الغصب: مصدر غصب يغصب -بكسر الصاد- غصبًا، من باب ضرب، ويقال: اغتصبه يغتصبه اغتصابًا، والشيء مغصوب وغصب.
وتعريفه لغة: أخذ الشيء ظلمًا وقهرًا.
واصطلاحًا شرعيًّا: الاستيلاء عرفًا على حق غيره قهرًا بغير حق.
والاستيلاء كالقبض يختلف باختلاف المستولى عليه.
وهو محرَّم بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، ويقتضيه العدل والقياس.
قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوَّقه من سبع أرضين يوم القيامة"[رواه البخاري (3198)، ومسلم (1610)].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"[رواه مسلم (1218)].
والنصوص في تحريم حقوق الناس من الكتاب والسنة كثيرةٌ جدًا.
قال الموفق: أجمع المسلمون على تحريمه، والقياس يقتضي تحريمه.
قال شيخ الاسلام: للمظلوم الدعاء على ظالمه، بقدر ما يوجبه ظلمه.
ويجب على الغاصب رد ما غصبه، فهو من رد المظالم إلى أهلها.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الأمور التي تضمن بها النفوس والأموال ثلاثة:
الأول: يد متعدية، وضابطها كل من وضع يده على مال غيره ظلمًا.
الثاني: اليد المباشرة، فمن أتلف نفسًا محترمة، أو مالاً بغير حق، عمداً أو سهواً أو جهلاً، فإنَّه ضامن.
الثالث: اليد المتسببة، فمن فعل ما ليس له فعله في ملك غيره أو في الطريق، أو تسبب للإتلاف بفعل غير مأذون فيه، فتلف بسبب فعله نفسٌ، أو مالٌ ضمنه.
لكن إذا اجتمع مباشر ومتسبب، فالضمان على المباشر، فإن تعذر تضمينه ضمن المتسبب.
***
767 -
عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبع أَرَضِينَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- اقْتَطع: أخذ من أرض غيره جزءاً، ولو يسيرًا.
- شبرًا: بكسر الشين وسكون الباء بعدها راء، هو ما بين طرفي الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد بينهما، وهو مذكر، جمعه أشبار.
- ظلمًا: حال من فاعل اقتطع، والظلم لغة: الجوْر، ومجاوزة الحد.
وشرعًا: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، ومنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه.
- طوَّقه الله: بفتح الطاء المهملة بعدها واو مشددة، جعل هذه الطبقات من الأرضين طوقًا يحيط بعُنُقِهِ، كالغِل.
- أرضين: بفتح الراء، وجاز إسكانها، جمع أرض.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
إنَّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عظما حقوق الإنسان، قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188].
وقال صلى الله عليه وسلم "إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام"[رواه مسلم (1218)]. فلا يحل لأحدٍ أخذ شيءٍ من أحد، إلَاّ بطيبة من نفسه.
2 -
لذا أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ من اقتطع شبرًا من الأرض طوَّقه من سبع أرضين، جزءً له
(1) البخاري (3198)، مسلم (1610).
على ظلمه صاحبَ الأرض، التي استولى عليها ظلمًا.
3 -
أنَّ الظُّلم حرام في القليل والكثير، وهذا فائدة ذكر الشبر.
4 -
أنَّ العقار يكون مغصوبًا مستولى عليه بوضع اليد.
5 -
أنَّ مَنْ مَلك ظاهر الأرض مَلَكَ باطنها إلى تخومها، فلا يجوز أن يضع أحد تحت أرضه نفقًا، أو سربًا، ونحو ذلك إلَاّ بإذنه.
6 -
يكون مالكًا لما فيها من أحجار ومعادن جامدة، وله أن يحفر فيها ما شاء.
7 -
كما أنَّ العلماء جعلوا الهواء تابعًا للقرار، فمن ملك أرضًا ملك ما فوقها من أجواء وفضاء.
8 -
قال العلماء: إنَّ الحديث صريحٌ بأنَّ الأرض سبع طباق، إذ لم يطوق من غصب شبرًا، إلَاّ أنَّه تابع له في الملك، ويعضده ما رواه الإمام أحمد (16913) من حديث يعلى بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض، كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه إلى يوم القيامة حتى يفض بين الناس"، وهذا موافق لقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12].
* فوائد:
الأولى: قال الشيخ تقي الدين: إذا كان بيد الإنسان أموال مغصوبة، وسرقات، وأمانات للناس، وودائع، ورهون، ونحو ذلك، لا يعرف أصحابها، فله الصدقة بها، وله صرفها في مصالح المسلمين، ويبرأ من عهدتها.
الثانية: قال الشيخ تقي الدين: من كسب مالاً حرامًا ثم تاب، كثمن خمر، ومهر بغي، فإن كان لم يعلم التحريم ثم علم، جاز له أكله.
وإن كان يعلم التحريم أولاً ثم تاب، فإنَّه يتصدق به، كما نصَّ عليه الإمام أحمد.
الثالثة: قال الشيخ تقي الدين: من اختلط في ماله حرام وحلال، ولم يعرف
أيهما أكثر، فإنه يخرج نصف ماله، والنصف الباقي له حلال، كما فعل عمر بن الخطاب مع العمال، فإنه شاطَرَهم، فأخذ نصف أموال عماله، وإن عرف قدره تصدق به عن أصحابه.
الرابعة: قال الشيخ تقي الدين: المال المغصوب إذا اتَّجر به الغاصب ونمَّاه فربح، فأعدل الأقوال أن يكون الربح مناصفة بينه وبين صاحب المال، وهذا قضاء عمر الذي وافقه عليه الصحابة، وقد اعتمد عليه الفقهاء، وهو العدل؛ لأنَّ النماء حصل بمال هذا، وعمل هذا، فلا يختص أحدهما بالربح.
الخامس: قال الشيخ عبد الله بن محمَّد: كل قوم لهم عادة استمروا عليها تخالف أحكام الشرع في المواريث، والدماء، والديات، وغير ذلك، يفعلون ذلك مستحلين له في جاهليتهم، فإنَّهم إذا علموا واستقاموا لم يطالبوا بما فعلوه في جاهليتهم مما تملكوه من المظالم، ونحوها.
وأما الديون، والأمانات، فإنَّ الإسلام لا يسقطها، بل أداؤها إلى أربابها، والله أعلم.
***
768 -
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحدى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ مَعَ خَادِمٍ لَهَا بِقَصْعَةٍ فِيْهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ القَصْعَةَ، فَضَمَّنَهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعامَ وَقَال: كُلُوا، وَدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ لِلرَّسُولِ، وحَبَسَ المَكْسُورَةَ" رَواهُ البُخَارِيُّ، وَالتِّرمِذِيُّ وسَمَّى الضَّارِبَةَ عَائِشَةَ، وَزَادَ فَقَالَ: النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم "طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ" وصَحَّحَهُ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بعض نسائه: عند عائشة رضي الله عنها.
- إحدى أمهات المؤمنين: المرسلة زينب بنت جحش رضي الله عنها.
- خادم: قال في المصباح: الخادم غلامًا كان أو جاريةً، والخادمة في المؤنث قليل، والجمع خدم وخدَّام.
- قصعة: بفتح القاف، وسكون الصاد، وفتح العين، آخره تاء التأنيث، وعاء يؤكل فيه ويشرب، وكان يُتَّخذ من الخشب غالبًا، جمعه قصاع وقصع.
- ضمَّها: أي جمع القصعة المكسورة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ من أتلف لغيره شيئًا، أنَّه يضمنه بمثله، سواء كان المتلف مثليًا، كالمكيل والموزون، أو غير مثلي، كالثوب والإناء، وسيأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
(1) البخاري (2481)، الترمذي (1359).
2 -
وفيه بيان الغيرة الشديدة بين النساء، حتى ذوات الفضل العظيم، والشرف الكبير زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وشدة الغيرة من الزوجة، دليل زيادة المحبة.
3 -
فيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم من العفو، والصَّفح، والسماح، حيث لم يعاقب كاسرة القصعة اعتداء.
وهذا راجعٌ إلى صفحه، وكرم خلقه، وإلى تقديره لحال النساء، وما جُبِلن عليه.
4 -
قال شيخ الإسلام: عوض المثل كثير الدوران في كلام العلماء، وهو أمرٌ لابد منه، فهو من أركان الشريعة.
فقيمة المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل، ونحو ذلك، وقد جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:"من أعتق شِرْكًا له من عبد، قوِّم عليه قيمة عدل، لا وكس، ولا شطط" وقال صلى الله عليه وسلم في بِرْوَع بنت واشق: "لها مهر مثلها، لا وكس، ولا شطط".
فهو محتاج إليه فيما يضمن بإتلاف النفوس والأموال والأبضاع، والمنافع. وما يضمن بالعقود الفاسدة والصحيحة، فهو نفس العدل، ونفس الوفاء، وهو متَّفق عليه بين المسلمين، بل وبين أهل الأرض، وهو معنى القسط الذي أرسل الله به الرسل، وأنزل فيه الكتب، وهو مقابل الحسنة بمثلها، والسيئة بمثلها، فعوض المثل هو مثل المسمى في العرف والعادة.
5 -
فيه أنَّ الإناء المكسور، والثوب المشقوق، ونحوهما، يكون للمعتدي بعد أن أُخِذ منه الصالح، بدل الذي كسر.
هذا هو الظاهر من قوله: "ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحَبَس المكسورة" يعني في بيت الكاسرة التي أُخِذ إناؤها وأرسله إلا مُرسلة الطعام.
6 -
فيه أنَّ بعث الطعام أو الشراب من زوجة لبيت زوجة أخرى، فيه الزوج تلك الليلة وذلك اليوم أنَّه جائز، ولا يعتبر من الميل لزوجة على أخرى، فإنَّ
النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ الإرسال، وأمر بأكل الطعام بعد أن جمعه.
7 -
فيه جواز اتخاذ الخدم في البيوت؛ للقيام بما يناسبهم من الأعمال المنزلية.
8 -
فيه فضيلة احترام نعم الله تعالى وأكلها، ولو سقطت في الأرض ما دام أنَّها لم تتلوث، وهذا خلاف ما عليه كثير من الناس من إلقاء نعم الله تعالى النظيفة الكثيرة في الأماكن القذرة، فهذا من المحرَّمات، ومن كفران نِعَم الله تعالى.
9 -
فيه مؤاخذة الإنسان على إتلافه مال غيره وغُرمه إيَّاه، ولو صدر منه ذلك في حالة غضب وانفعال.
10 -
فيه استحباب عدم الترفع عن الأكل، واستعمال الإناء المكسور.
11 -
هذا الحديث لا علاقة له بباب الغصب حسب ما اصطلح على تعريفه الفقهاء، وإنما كان هذا من باب الإتلاف، لأنَّه ليس استيلاء؛ لذا فحقه أن يورد في باب ضمان المتلفات، ويحتمل أن تكون مناسبته لباب الغصب هو أنَّ عين المغصوب إذا تلفت تضمن بمثلها، والله أعلم.
* خلاف العلماء:
جمهور العلماء أنَّ المِثلي إذا أُتْلِفَ يُضْمن بمثله، والمثلي عند الحنابلة هو "المكيل والموزون".
وبعضهم يزيد في المثلي أيضًا "المعدود والمذروع".
وأما المتقوم فيضمن بقيمته.
ويستدلون لضمان المثلي بمثله بقوله تعالي: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، والمماثلة لا تتحقق إلَاّ في المكيلات والموزونات.
ودليل ضمان المتقوم بقيمته قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شِركاً له في عبدٍ، قُوِّم عليه قيمة عدل"[مُتَّفقٌ عَليْهِ].
فأمر بالتقويم في حصة الشريك؛ لأنَّها متلفة بالعتق، ولم يأمره بالمثل.
وذهب طائفة من العلماء ومنه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، إلى أنَّ المغصوب يضمن بمثله مكيلاً كان، أو موزوناً، أو غيرهما حيث أمكن، وأنَّه لا يعدل إلى القيمة إلَاّ إذا أعوز المثل أو تعذر، واستدلوا على ذلك بأدلة منها قوله تعالى:{فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11].
ولحديث الباب الذي معنا في ضمان القصعة بمثلها، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إناءٌ بإناءٍ" قال الشيخ تقي الدين: إنَّ القصاص مشروع في الأنفس والأطراف، وهي أعظم قدرًا من الأموال.
وقال الشيخ أيضا: إنَّ ضمان المال بجنسه أقرب إلى العدل، من ضمانه بغير جنسه، وهو الدراهم والدنانير.
وشيخنا عبد الرحمن السعدي يرجح هذا القول، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد، رَحمَه الله تعالى.
قال ابن موسى: إنَّ هذه الرواية هي المذهب.
***
769 -
وَعنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِن الزَّرْعِ شَيءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ إِلَاّ النَّسَائِيَّ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَيُقالُ: إِنَّ البُخَارِيَّ ضعَّفَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال في التلخيص: أخرجه أبو داود والترمذي من حديث رافع بن خديج مرفوعًا، وحسَّنه الترمذي لشواهده، وإلَاّ فإسناده ضعيف؛ لضعف بعض رجال سنده، كما أعلَّ بالانقطاع، بين عطاء بن أبي رباح، ورافع بن خديج.
قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب.
ولكن له طرق تقوي بها هي:
عن أبي جعفر الخطمي عن سعيد بن المسيب قال: كان ابن عمر لا يرى فيها شيئًا ثابتًا، حتى بلغه عن رافع بن خديج أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى زرعاً في أرض ظهير بن رافع فأعجبه، فقال:"ما أحسن هذا الزَّرع! فقالوا: إنَّه ليس لظهير، ولكنه لفلان، قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة".
فهذا الإسناد صحيح، لا علة فيه، وهو شاهدٌ قوىٌ لحديث شريك، وقد حسَّنه الترمذي، ونقل تحسينه عن البخاري، والله أعلم.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم من غصب أرضًا وزرعها.
(1) أحمد (3/ 465)، أبو داود (3403)، الترمذي (1366).
فذهب جمهور العلماء إلى أنَّ الزرع للغاصب، وأنَّ لصاحب الأرض قلعه قبل الحصاد، وأما بعد الحصاد فليس له إلَاّ أجرة الأرض.
وذلك لما في سنن أبي داود وغيره أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لعِرق ظالمٍ حقٌّ" وذهب الإمام أحمد وإسحاق إلى أنَّ صاحب الأرض تملك الزرع بمثل بذره وقيمة لواحقه من حرث، وسقي، ونحوهما، وله إبقاء الزرع للغاصب، بأجرة مثله إلى الحصاد.
هذا إذا أدرك الزرع قائمًا لم يحصد، وأمَّا بعد حصد الزرع، فليس له إلَاّ الأجرة.
وحديث الباب من أدلة القول الذي ذهب إليه الإمام أحمد وأتباعه.
وقال الشيخ تقي الدين: من زرع أرضًا بلا إذن شريكه، والعادة جارية بأنَّ من زرع فيها له نصيبٌ معلوم، ولربها نصيب قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك.
ثم قال: لو طلب أحد الشريكين من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه فيها فأبى، فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة.
وكذلك دارٌ بينهما فيها بيتان، سكَن أحدهما بيتًا منهما، فلا يلزمه شيء.
وصوَّبه في الإنصاف، وقال: إنَّه لا يسع الناس غيره.
* فوائد:
الأولى: قال الشيخ تقي الدين: المال المغصوب إذا عمل فيه الغاصب حتى حصل منه نماء، ففيه أقوال للعلماء، هل النماء للمالك وحده أو يتصدق به، أو يكون بينهما كما يكون إذا عمل فيه بطريق المضاربة؟ كما فعل عمر لما أقرض أبو موسى ابنيه من مال الفيء فتوقف عمر، فقال له بعض الصحابة: تجعله مضاربة بينهما وبين المسلمين، لهما نصف الربح، وللمسلمين نصف الربح، فعمل عمر بذلك.
وهذا ما اعتمده الفقهاء في المضاربة، فإنَّ النماء حصل بمال هذا
وبعمل الآخر، فلا يختص أحدهما بالربح.
الثانية: قال الشيخ: وإن بقيت بيده غصوب لا يعرف أربابها، صرفها في مصالح المسلمين، وكذا حكم رهون، وودائع، وسائر الأمانات.
قال في حاشية المقنع: ولا يجوز لمن هي بيده هذه الأشياء أن يأخذ منها شيئًا لنفسه، وخرَّج بعضهم جواز الأكل إذا كان فقيرًا.
الثالثة: قال الشيخ: من كسب مالاً حراماً ثم تاب، فإن لم يعلم بالتحريم، ثم علم جاز له أكله، وإن علم بالتحريم أولاً، ثم تاب تصدق به، وإن كان فقيرًا أخذ كفايته منه.
الرابعة: قال الشيخ: من اختلط ماله من حلالٍ وحرامٍ، ولم يعرف أيهما أكثر، فإنه يخرج نصف ماله، والنصف الباقي حلال، كما فعل عمر مع العمال، وإن عرف قدر الحرام، فإن عرف مالكه رده إليه، وإلَاّ تصدق به عن صاحبه.
الخامسة: قال الشيخ: إذا كان جميع ما بيد الإنسان مأخوذًا بغير حق فيرده إلى أهله، وإن كان كسبٌ فأعدل الأقوال أنَّ الربح بينه وبين أصحاب الأموال كالمضاربة.
السادسة: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الأيدي التي تضمن النفوس والأموال ثلاث:
الأول: يد متعدية، وضابطها كل من وضع يده على مال غيره ظلمًا.
الثانية: اليد المباشرة، فمن أتلف نفسًا، أو مالاً بغير حق، عمدًا أو سهوًا أو جهلاً، فإنَّه ضامن.
الثالثة: اليد المتسببة، فمن فعل ما ليس له فعله في ملك غير، أو في الطرق، أو تسبب لإتلافه بفعل غير مأذون فيه، فتلف بسبب فعله شيء ضَمِنَهُ.
770 -
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أرْضٍ، غَرَسَ أحَدُهُمَا فِيهَا نَخْلاً، وَالأرْضُ لِلآخرِ، فَقَضَى رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالأَرْضِ لِصَاحِبِهَا، وَأمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أنْ يُخرِجَ نَخْلَهُ، وَقَال: لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَآخِرُهُ عنْدَ أصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَفِي تَعْيِيْنِ صَحَابِيِّهِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في التلخيص: رواه النسائي والترمذي، وأعلَّه الترمذي بالإرسال، ورجَّح الدارقطني إرساله، ورواه أبو داود الطيالسي، من حديث عائشة، وفي إسناده زمعة وهو ضعيف، ورواه ابن أبي شيبة من حديث كُثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، وعلَّقه البخاري بقوله: ويروى عن عمرو بن عوف، وللحديث طرق قوي بها، تُروى عن سعيد بن زيد، وعائشة، وسمرة بن جندب، وعبادة بن الصامت، ورجل من الصحابة وغيرهم:
1 -
حديث سعيد: أخرجه أبو داود وعنه البيهقي، والترمذي، وقال الترمذي: حديثٌ حسن غريب، وهذه الطريق موصولة عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) أبو داود (3074).
والطريق الثاني: عن هشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، والطريق الأولى الموصولة رجالها كلهم ثقات رجال الشيخين، فهي صحيحةٌ، وقد قواها الحافظ في الفتح.
2 -
أما حديث عائشة: فيرويه عروة عنها، فقد أخرجه الطيالسي والبيهقي والدارقطني، وفيها زمعة بن صالح ضعيف، لكن رواه القضاعي من طرقٍ أخرى، ورواته ثقات، وهذا يؤيد القول بصحته.
3 -
أما حديث الرجل من الصحابة: فيرويه محمد بن إسحاف عن يحيي بن عروة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره، أخرجه أبو داود وأبو عبيد، ورجال سنده ثقات، لولا أنَّ محمَّد بن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، ومع ذلك فقال الحافظ: إسناده حسن.
4 -
أما حديث سمرة، فيرويه الحسن عنه مرفوعاً، فقد أخرجه البيهقي وأبو داود وعلته عنعنة الحسن البصري.
5 -
أما حديث عبادة، فيرويه إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت، أخرجه أحمد والطبراني، قال الهيثمي: وإسحاق بن يحيى لم يدرك عبادة وهو مجهول الحال، قال الحافظ في الفتح بعد أن ساق الطرق المذكور كلها: وفي أسانيدها مقالٌ، ولكن يقوي بعضها بعضًا، وهذا بالنظر إلى قوله:"ليس لعرق ظالم حقٌّ"، وأما الشطر الأول من الحديث فصحيح قطعًا، فقد أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة.
* مفردات الحديث:
- لعِرْق ظالم: بكسر العين وسكون الراء آخره قاف.
يروى بتنوين "عرق" فيكون "ظالم" نعت لـ"عرق"، وأسند إليه الظلم؛ لأنَّ الظلم حصل به، ويروى بغير تنوين، فيكون مضافا إلى ظالم، فمن نوَّن جعله ظالماً بنفسه تشبيهاً، ومن لم ينون فهو على حذف مضاف، أي لذي عرق ظالم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تحريم الاعتداء والاستيلاء على حقوق الناس، وإن اعتدى على أرض غيره، أو حقه فهو ظالمٌ آثمٌ، وحقوق العباد لا مفر من تبعتها إلَاّ بالبراءة منها.
2 -
أنَّ غرس المعتدي، وبناءه لا حرمة لهما، لأنَّهما وضعا بغير حق، وليس لعرق ظالم حق إبقاء الغرس، أو البناء.
3 -
أنه يجب في الحال رد الأرض المغصوبة إلى صاحبها، وإن كان فيه غرس، أو بناء تجب إزالته، وتسليم الأرض خالية مما يشغلها.
4 -
إذا حصل ضرر من وضع الغرس كحفر، أو أكوام ترابية ونحو ذلك، فعلى المعتدي إزالة الضرر الحاصل من فعله العدواني؛ لأنَّ هذا أثر اعتدائه، فيجب عليه إزالته، ويلزمه أيضًا أرش نقص الأرض إن نقصت.
5 -
قال ربيعة بن عبد الرحمن: العِرق الظالم يكون ظاهرًا، ويكون باطنًا، فأما الباطن فما حفر من الآبار، واستخرج من المعادن، والظاهر ما بناه أو غرسه.
6 -
قال فقهاؤنا: وإن بنى في الأرض المغصوبة، أو غرس بلا إذن ربها، لزمه قلع الغرس، وإزالة البناء إذا طالبه المالك بذلك.
قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، وقال ابن رشد: أجمع العلماء على أنَّ من غرس نخلاً أو كرمًا في غير أرضه، أنه يؤمر بالقلع، لقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس لعِرق ظالم حقٌّ" هذا هو المشهور عن الإمام أحمد، وعليه الأصحاب.
وعنه رواية أخرى: لا يقلع بل يملكه صاحب الأرض بالقيمة.
***
771 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَموَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بلَدِكُمْ هَذَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- إنَّ دماءكم: فيه حذفٌ، تقديره: سفك دماءكم، وكذا التقدير: أخذ أموالكم، وسلب أعراضكم.
- كحرمة: يُقال: حرمه الشيء يحرمه حرمانًا: منعه إياه، والحرمة لها معانٍ عدة، والمراد هنا: هو ما لا يحل انتهاكه من المحرمات شرعًا.
- يومكم هذا: عيد الأضحى، الذي هو اليوم العاشر من ذي الحجة.
- في شهركم هذا: شهر ذي الحجة.
- في بلدكم هذا: في منى، التي هي من حرم وضواحي مكة المكرمة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في حجة الوداع حجَّ معه جمع كبير من المسلمين؛ ليكونوا في بركة صحبته، وليأخذوا عنه أحكام المناسك.
2 -
أخذ يعظ الناس ويذكرهم في هذه المجامع الكبيرة، ليبلغ شاهدُهُم غائبهم، فصار يلقي عليهم في عرفات، وفي منى خطبًا، فيها جوامع الكلم، وفيها أصول الأحكام، وقواعد الدين، فكان ممَّا قال:
3 -
أنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا،
(1) البخاري (67)، مسلم (1679).
في بلدكم هذا.
4 -
فأعظم المحرَّمات بعد الشرك بالله تعالى الدماء المعصومة، التي جاء في الحديث الصحيح:"أنَّه لا يحل دم امريء مسلم إلَاّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
5 -
فالدماء المعصومة هي أحد الضرورات الخمس، التي جاء الدين بحمايتها وصيانتها، وشرع القصاص، والديات، والحدود؛ للمحافظة عليها، وهي: الدين، والنفس، والعِرض، والعقل والمال.
6 -
وفي الحديث تعظيم يوم النحر وأيام التشريق.
قال شيخ الإسلام: عيد النَّحر أفضل من عيد الفطر، فإنَّه يجتمع فيه عيد المكان، وعيد الزمان.
7 -
وفي الحديث تعظيم حرمة شهر ذي الحجة؛ لأنَّه أحد الأشهر الحرم، قال تعالى عنها:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
ويزيد ذو الحجة بأنَّ فيه هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وهو الحج.
8 -
وفي الحديث تعظيم حرمة البلدة المقدسة، التي قال الله تعالى عنها:{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: 1].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67].
وما رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عبد الله بن عدي أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سوق مكة: "والله إنَّك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خَرجتُ".
9 -
الحسنات تضاعف بحسب الزمان، كشهر رمضان، وعشر ذي الحجة، والأشهر الحرم، وحسب المكان، وهي المساجد الثلاثة، والمشاعر المقدسة، كما أنَّ المعاصي والآثام يعظم جرمها وإثمها حسب مكانها
وزمانها.
10 -
وفيه تعظيم حقوق المعصومين في الدماء والأعراض والأموال، وأنَّ أمرها كبير.
11 -
وفيه أنَّ ما هو داخل في حدود الحرم حكمه، حكم مكة في مضاعفة الثواب، وعظم العقاب، ومن حيث التعظيم والاحترام فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خطب في منى فقال:"أليست البلدة".
* قرار مجلس هيئة كبار العلماء بشأن ضمان البهائم: قرار رقم (111) في 2/ 11/ 1402 هـ:
قرر ما يلي:
عدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة المعبدة بالإسفلت، إذا تلفت نتيجة اعتراضها الطرق المذكور، فصُدمت، فهي هدر، وصاحبها آثم بتركها وإهمالها، لما يترتب على ذلك من أخطار جسيمة، تتمثل في إتلاف الأنفس والأموال، وتكرر الحوادث المفجعة، ولما يترتب على حفظها وإبعادها عن الطرق العامة من أسباب السلامة وأمن الطرق، والأخذ بالحيطة في حفظ الأموال والأنفس، تحقيقًا للمقتضى الشرعي، وتحرِّيًا للمصالح العامة، وامتثالاً لأمر ولي الأمر.
…
انتهى الجزء الرابع
ويليه الجزء الخامس
وأوله
(باب الشفعة)