الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الإقرار
مقدمة
الإقرار: يقال قرَّ الشيء في مكانه قرارًا: ثبت وسكن.
وشرعًا: إظهار مكلف مختار ما عليه، أو على موكله، أو موليه، أو مورثه، باللفظ، أو الكتابة، بما يمكن صدقه.
وحجية الإقرار ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282].
وأما السنة: فما في البخاري (6859) ومسلم (1697) قوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها".
وأما الإجماع: فإنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ الإقرار حجةٌ شرعيةٌ على المقِر. وأما القياس: فلأنَّ العاقل لا يقر على نفسه بشيء ضار بنفسه أو ماله، إلَاّ إذا كان صادقًا فيه.
* الإقرار حجة قاصرة:
الإقرار حجة قاصرة على نفس المقِر، لا يتعداه إلى غيره، وذلك لأنَّ المقِر لا ولاية له إلَاّ على نفسه، فيسري كلامه عليه دون غيره.
والإقرار إخبار عما في نفس الأمر، لا إنشاء، ولا عذر لمن أقر، فمن أقرَّ بحق ثم ادَّعى الإكراه لم يقبل منه إلَاّ ببينة، إلَاّ أن تكون هناك دلالة على الإكراه كقَيد، وحبس، وترسيم عليه، ويكون قرينة على صدقه، والقول قول بيمينه، لكن إن كان هناك قرائن تدل على قوة التهمة بحقه، فلا ينبغي أن تهمل تلك القرائن، لاسيَّما إذا تضافرت، وحينئذِ يجوز أن يُمسَّ بشيءٍ من العذاب ليقر.
762 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قُلِ الحَقَّ وَلَوْ كَانَ مُرًّا" صَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ، مِنْ حَديثٍ طَوِيلٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
قال في التلخيص: روى أحمد، والطبراني، وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال:"أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أقول الحق وإن كان مرًّا".
قال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح، غير سلام وهو ثقة، وقال: أحد إسنادي أحمد ثقات. وللحديث شاهد هو:
حديث علي بن أبي طالب: "قولوا الحق ولو على أنفسكم" قال في التلخيص: رويناه في جزء من حديث أبي علي بن شاذان بسنده إلى علي رضي الله عنه، وفيه ضعف وانقطاع، وقد جاء معنى هذا الحديث في عدد من الآيات الكريمات.
* مفردات الحديث:
- ولو كان مُرًّا: منصوب؛ لأنَّه خبر "كان" المحذوف اسمها.
- المر: بضم الميم وتشديد الراء، ضد الحلو، وهو ما تدرك مرارته بحاسة الذوق، وقد تجاوزوا به المحسوسات إلى المعنويات.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث ساقه المنذري في الترغيب والترهيب كما يلي: قال أبو ذر رضي الله عنه: "أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول الحق ولو كان مرًا، وأن لا
(1) ابن حبان (361).
أخاف في الله لومة لائم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني، وألَاّ أنظر إلى من أعلى مني، وأن أحب المساكين، وأن أدنو منهم، وأن أصِلَ رَحمي وإن قطعوني وجفوني، وألَاّ أسأل أحدًا شيئًا، وأن أستكثر من لا حول ولا قوَّة إلَاّ بالله، فإنَّها من كنوز الجنة".
فهذه وصايا نبوية كريمة، وكل فقرة منها لها أصل من الكتاب أو السنة، فجمعت في هذا الحديث.
2 -
الحديث فيه وجوب الإقرار بالحق، ولو لحق القائل المقر تبعات؛ لأنَّ في ذلك إظهارًا للحق، وإبراءً للذمة.
وقول الحق هذا شاملٌ لما على المقر نفسه، وشامل أيضًا لما على غيره من أداء الشهادة وإنكار المنكَر.
3 -
وفيه دلالة على قبول واعتبار قول القائل، وإقراره على نفسه في جميع الحقوق، فلو لم يكن لإقراره اعتبار ما أكَّد عليه بالإقرار به.
4 -
وهذا عامٌّ لجميع ما يجب الإقرار به من دم، أو حدٍّ، أو مال، أو أي حقٍّ من الحقوق، فهو إخبارٌ بما على النفس، ممَّا يلزمها التخلص منه.
5 -
ولكون الحق يصعب إجراؤه على النفس، وُصِف بالمرارة التي يُكره طعمها ويصعب استساغتها.
6 -
الإقرار حجَّةٌ قويةٌ؛ لأنَّ العاقل لا يقر على نفسه بما يضره، إلَاّ صادقًا، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِل من ماعز والغامدية إقرارهما بالزنا، وعاملهما بموجبه في إقامة الحد عليهما، فلو لم يكن حجة لما أخذها به في الحد، الذي من أخص صفاته أنَّه يُدرأ بالشبهات.
7 -
الإقرار حجة قاصرة على نفس المقر دون غيره، فيقتصر إقراره عليه، ولا يؤخذ به غيره، لما روى الطبراني (10701) عن ابن عباس: "أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله! أَقِم عليَّ الحد، فقد أتيتُ أمرًا حرامًا، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلقوا به
فاجلدوه -ولم يكن تزوج- فقال صلى الله عليه وسلم: من هي صاحبتك؟ قال: فلانة، فدعاها فقالت: يا رسول الله! كذَّب عليَّ، والله إني لا أعرفه، فقال صلى الله عليه وسلم: من شاهدك؟ فقال يا رسول الله! مالي شاهد، فأمر به فُجُلِدَ حدَّ الفرية ثمانين جلدة".
8 -
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: حديث "لا عذر لمن أقرَّ" يروى ولا أدري عن أصله، إلَاّ أنَّ معناه صحيح، وظاهره عند جميع العلماء اعتبار ذلك الإقرار من المقر بالحق الذي أنشأه.
قلتُ: قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" عن هذا الحديث: قال شيخنا -يعني ابن حجر: "لا أصل له، وليس معناه على إطلاقه صحيحًا".
9 -
قالت ندوة رؤساء المحاكم: إذا أقرَّ المتَّهم حال الامتحان بالحبس والضرب أو التهديد، إن وجد ما يصدق هذا الإقرار من وجود السرقة بعينها عنده، أو دلَّ على مكانها، وكيفية أخذها من حرز مثلها، فإنه لم يُقبل منه بل يؤاخذ بإقراره، أما إذا لم يظهر صدق ذلك الإقرار، وكان إقراره نتيجة تعذيب وإكراه، فإنَّه لا يعتبر مثل هذا الإقرار.
10 -
قال شيخ الإسلام: الحقوق قسمان:
- حقوق الله.
- حقوق الآدميين.
فأما حقوق الله، فإنَّ من شروط إقامتها البقاء على إقراره إلى تمام الحد، فإن رجع عن إقراره كفَّ عنه.
وبهذا قال الأئمة الأربعة، والثوري، وإسحاق.
وأما حقوق الآدميين، فهي مبنيَّةٌ على المشاحة، فإذا أقرَّ المكلف مختارًا، فلا يُقْبل رجوعه، ولا ادعاؤه غلطًا، أو نسيانًا بعد الإقرار، الذي يعتبر من أقوى الإثبات؛ ولهذا تلزم غرامة المسروق من أقرَّ ولو مرَّة
واحد.
11 -
قال الشيخ تقي الدين: وأما ضرب المتَّهم إذا عرف أنَّ المال عنده، وقد كتمه ليقر بمكانه، فهذا لا ريب فيه، كما يضرب ليؤدي ما عليه من المال الذي يقدر على وفائه، كما جاء في الصحيح من قصة عم حُيي بن أخطب الذي عُذِّب حتى أخرج المال المخفي.
12 -
قوله: "قل الحق ولو كان مُرًّا" أنَّ الله تعالى بكرمه ورحمته لا يؤاخذ على ما تهواه النفوس، ولو كان أمرًا مخالفًا للحق والعدل، ما دام أنَّه مضمر ذلك في نفسه، لم يتابع هواه وشهوته، وإنما عصى نفسه وألزمها الحق، بل إنَّه بهذه المجاهدة مأجور مثاب.
***