المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب التفليس والحجر - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٤

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب التفليس والحجر

‌باب التفليس والحجر

مقدمة

التفليس: مأخوذ من الفَلْس، فهي أقل أنواع النقود، وأخس مال الرجل، وأردأ العملات، قال في المصباح: أفلس الرجل أي صار ذا فلوس وزيوف، بعد أن كان ذا دراهم، فهو مفلس، وجمعه مفاليس. وحقيقته الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر.

واصطلاح الفقهاء: مَنْ دَينه أكثر من ماله.

وأما الحجر: فهو لغة: المنع والتضييق، ويسمى العقل حجرًا؛ لمنعه صاحبه من ارتكاب القبائح، ومنه قوله تعالى:{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} [الفجر: 5].

وشرعًا: منع الإنسان من التصرف في ماله،

والحجر ضربان:

أحدهما: حجر لحظ غير المحجور عليه، كَحَجر على مفلس لحق الغرماء، وعلى مريض بما زاد على الثلث، وحجر على مشتري الشقص المشترك بعد طلب الشفيع وغير ذلك.

والأصل في هذا الحجر ما في البخاري (2402) ومسلم (1559) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره" وهذا مذهب جمهور علماء المسلمين.

قال الاصطخري: لو قضا القاضي بخلافه نقض حكمه.

ص: 478

الثاني: حَجْرٌ لَحظ نفسه، وهو الحجر على الصغير، والمجنون، والسفيه، والأصل فيه قوله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5].

والمؤلف هنا ذكر ما يشير إلى أحكام النوعين.

*حكمته:

والحَجر من محاسن الإسلام وعدالة أحكامه، ذلك أنَّ الرجل إذا أفلس وافتقر بعد غنًى اختلطت عليه أموره، فتصرف تصرفات فيها الحَيف والجَور، إذ ربما يوفي بعض غرمائه ويترك بعضهم، وقد يستولي أقوياء غرمائه على موجوداته ويستأثرون بها، ويتركون الضعفاء منهم، وربما أخفى أمواله، أو بعضها، وغير ذلك من التصرفات التي تضر بغرمائه أو بعضهم، ومن لطف الله تعالى بخلقه وبأصحاب الحقوق أن شَرَع الحَجر؛ ليمنع المفلس من التصرف في أمواله الموجودة، وجعل تصرفه فيها غير نافذة ليحفظ بذلك الحقوق، ويوزع المجودات توزيعاً عادلاً بين غرمائه بالنسبة لديونهم.

أما المفلس: فسلمت ذمته من المحاباة والإيثار، ورضي عنه جميع غرمائه، وانقطع عنه الطلب، وسَلِمَ من ملازمة الغرماء، والله حكيم عليم.

***

ص: 479

739 -

عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "مَنْ أدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفْلَسَ، فَهُوَ أحَقُّ بِه مِن غَيْرِهِ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ.

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَمَالِكٌ مِن رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُرْسَلاً بِلَفْظِ: "أَيُّمَا رَجُلٍ باعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ وَلَم يَقْضِ الَّذِي باعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئاً، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِه، وَإِنْ مَاتَ المُشْتَرِي، فَصَاحِبُ المَتَاعِ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ" وَوَصَلَهُ البَيْهَقِيُّ، وَضَعَّفَهُ تَبَعًا لأَبِي دَاوُدَ.

وَرَوَى أَبُو دَاود وَابْنُ مَاجَه مِنْ رِوَايَةِ عُمَر بن خَلْدَة، قال: أتينا أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي صَاحِب لَنَا قَدْ أَفْلَسَ، فَقَالَ: لأقْضِيَنَّ فِيْكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَفْلَسَ، أَوْ مَاتَ، فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ" وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَضعَّفَ أَيْضًا هَذهِ الزِّيَادَةَ فِي ذِكْرِ المَوْتِ (1).

ــ

*درجة الحديث:

الحديث صحيح لغيره.

هذا الحديث مجموع من عدة روايات، كلها تتصل بأبي هريرة عدا

(1) البخاري (2402)، مسلم (1559)، مالك (2/ 678)، أبو داود (3520، 3523)، البيهقي (6/ 47)، ابن ماجه (2360)، الحاكم (2/ 50).

ص: 480

المرسلة، وهذه الروايات هي:

الرواية الأولى: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره" هذه متَّفقٌ عليها، فلا حاجة لبحثها، فقد رواها الجماعة.

الرواية الثانية: هي المرسلة عن أبي بكر بن عبد الرحمن بلفظ "أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه" وصلها البيقهي، ورجَّح الارسالَ الشافعي وأبو داود. قال البيهقي: ولا يصح موصولاً.

قلت: ولكن جاء ما يشهد للحديث من طرق أُخَر، فلذا فالحديث صحيح لغيره.

*مفردات الحديث:

- بعينه: بأن لم تتغير صفة من صفاته بزيادة، ولا نقص.

- أُسوة: بضم الهمزة وكسرها، أي هو مساوٍ لهم كواحد منهم، يأخذ كما يأخذون، ويُحرم كما يحرمون.

- الغُرَماء: بضم الغين وفتح الراء، جمع غريم، وهو الدائن أي الذي له الدين على غيره.

*ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أنَّ من وجد متاعه عند إنسان قد أفلس، فله الرجوع بمتاعه، بشروط أخَذها العلماء من هذا الحديث وغيره، وأخذوا بعضها من فهمهم لمراد الشارع الحكيم.

قال ابن دقيق: دلالته قوية، وبه أخذ أكثر أهل العلم.

قال الاصطخري من أصحاب الشافعي: لو قضى القاضي بخلافه نُقِضَ حكمه.

2 -

يراد بصاحب المتاع في الحديث البائع، وغيره من مقرِض، ونحوه من أصحاب عقود المعاوضات، وعموم الحديث يشملهم.

ص: 481

3 -

أن تكون موجودات المفلس لا تفي بديونه، وهذا الشرط مأخوذ من اسم "المفلس" شرعًا.

4 -

أن تكون عين المتاع موجودة عند المشتري، وهذا الشرط هو نص الحديث الذي معنا وغيره.

5 -

أن يكون الثمن غير مقبوض من المشتري، فإن قبضه كله أو بعضه فلا رجوع بعين المتاع، وهذا الشرط مأخوذ من بعض ألفاظ الأحاديث، كما يفهم من المعنى المراد.

6 -

الذي يفهم من عموم لفظ الحديث أنَّ الغرماء لو قدَّموا صاحب المتاع بثمن متاعه، فلا يسقط حقه من الرجوع بعين متاعه.

قلتُ: وأرى أننا إذا رجعنا إلى مراد الشارع، وهو "حفظ حق صاحب المتاع" فإننا نلزمه بأخذ الثمن الذي باعه به إذا قدمه الغرماء، وخصوصًا إذا كان في أخذه مصلحةً لعموم الغرماء، وللمفلس الذي يتشوف الشارع إلى التخفيف من ديونه.

قال ابن رشد: تقدر السلعة، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضي بها للبائع، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه، ويتحاصّون الباقي، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر.

أما الشيخ عبد الرحمن السعدي فقال: الأولى أنَّه إذا حصل له ثمن سلعته على أي وجه كان، لم يكن له أخذها؛ لأنَّ الشارع إنما خصَّه وجعل له الحق في أخذها خوفًا من ضياع ماله، فينظر إلى المعنى الشرعي.

7 -

أن تكون السلعة بحالها لم يتلف منها شيء، ولم تتغيَّر صفاتها بما يزيل اسمها، كنسْج الغزل، وخبز الحب، وجعْل الخشب باباً ونحو ذلك. فإن تغيرت صفاتها، أو تلف بعضها فصاحبها أسوة الغرماء.

8 -

أن لا يتعلق بها حق من شفعة أو رهن، وأولى من ذلك أن لا تباع، أو

ص: 482

توهب، أو توقف، ونحو ذلك فحينئذ لا رجوع فيها، ما لم يكن التصرف فيها حيلةً على إبطال الرجوع، فإنَّ الحيل محرَّمة، وليس لها اعتبار.

هذه هي الشروط المعتبرة لاستحقاق صاحب المتاع في الرجوع في عين متاعه الذي وجده عند المفلس، أخذها العلماء من لفظ الحديث، وبعضها من معناه المفهوم، والمراد من هذا الحكم.

9 -

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: ذكر الأصحاب لرجوع مُدْرِكِ عين ماله عند المفلس شروطًا، وأكثر هذه الشروط في استحقاق الرجوع في العين لا دليل عليه، وظاهر الحديث يدل على رجوعه ما لم يمنع مانع، كتعليق حق، أو انتقال ملك، أو تغيرها تغيرًا كثيرًا بزيادة.

10 -

يرى الأحناف أنَّ صاحب السلعة لا يرجع؛ لأنَّ المشتري ملكها بالشراء، وتأولوا الحديث بتأويلات ضعيفة.

منها: أنَّ الحديث مخالف للأصول، والحق ما ذهب إليه الجمهور من العمل بالحديث الذي هو أصل الأصول.

قال الشوكاني: الاعتذار عن الحديث بأنه مخالف للأصول اعتذار فاسد، والله الهادي.

* خلاف العلماء:

جاء في بعض روايات الحديث قوله: "من أفلس أو مات".

فذهب الإمامان مالك وأحمد إلى أنَّه إذا مات الميت فصاحب السلعة أسوة الغرماء، فلا يختص بها.

وذهب الإمام الشافعي إلى أنَّه يختص بها، فله الرجوع بعين ماله بعد وفاة من هي عنده.

وهذا القول أرجح قياسًا على المفلمس، واستئناسًا بهذه الرواية.

ص: 483

740 -

وَعَنْ عَمْرِو بنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ، وَعلَّقَهُ البُخَارِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه، وعلَّقه البخاري.

قال في بلوغ الأماني: صححه ابن حبان، وحسَّنه الحافظ، فقال في فتح الباري: وإسناده حسن، وقال الحاكم: الحديث صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي.

* مفردات الحديث:

- لَيّ الواجد: بفتح اللام ثم ياء مشددة، مصدر لوى يلوي ليًّا، وهو التسويف والمَطْل بتأخير الأداء بلا عذر.

- الواجد: بالجيم من الوجد، وهو الغني القادر على الوفاء.

- يُحل: بضم الياء مبني للمجهول.

- عِرضه: بكسر العين المهملة وسكون الراء وفتح الضاد، قال وكيع: عرضه شكايته.

(1) البخاري معلقًا (5/ 62)، أبو داود (3628)، النسائي (7/ 316)، ابن ماجه (3627)، ابن حبان (1164).

ص: 484

- وعقوبته: حبسه، حتى يبيع القاضي ماله، ويقضي دينه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الواجد هو القادر على وفاء دينه، فمطله وليه ظلم لصاحب الحق.

2 -

أنَّ هذا المطْل من الواجد يبيع ويُحِل لصاحب الحق عِرضه، بأن يقول: ظلمني ومنعني حقي، ونحو ذلك من شكواه، كما يحل عقوبته بالحبس حتى يوفي ما عليه من حق واجب.

3 -

الحديث دليل على تحريم مَطل الواجد وليّه صاحب الحق عن حقه.

4 -

اتَّفق العلماء على أنَّ كل من ترك حقًا واجبًا عليه، فإنَّه يستحق العقوبة حتى يؤدي ما يجب عليه أداؤه، من دينٍ، أو عاريةٍ، أو وديعةٍ، أو مال شركةٍ، أو نحو ذلك، فإن أبى عزَّره الحاكم مرة بعد أخرى حتى يؤدي الحق.

قال شيخ الإسلام: وهذا ما عليه الأئمة، لا أعلم فيه نزاعًا.

5 -

قال الشيخ: وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء، وَمطَل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك، فهو على الظالم المبطل إذا كان ما غرمه على الوجه المعتاد.

6 -

مفهوم الحديث أنَّ مطل المعسر لا يُحل عِرضه ولا عقوبته، وإنما الواجب إنظاره، وترك ملازمته، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، كما لا يطالبُ مدِين بدين مؤجل.

***

ص: 485

741 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَال: "أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَبْلُغْ ذلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لغُرَمَائهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَاّ ذلك" روَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أصيب: قال في المحيط: أصابته المصيبة إصابة: حلَّت به وأدركته.

والمصيبة تطلق على معانٍ متقاربة: البلية، والداهية، والشدة، وكل أمر مكروه يحل بالإنسان، جمعها مصائب، بالهمزة شذوذًا، وأصلها مصاوب، فكأنهم شبهوا الأصلي بالزائد فقلبوها همزة في مصائب.

- ابتاعها: أي اشتراها، وتقدم شرحها.

(1) مسلم (1556).

ص: 486

742 -

وَعَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَن أَبِيهِ "أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: حَجَرَ عَلى مُعَاذٍ مَالَهُ وباعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْه" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُرْسَلاً، وَرَجَّحَ إِرْسَالَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث مرسل.

قال في التلخيص: رواه الدارقطني (4/ 230)، والحاكم، والبيهقي (1141) من طريق هشام بن يوسف عن معمرٍ عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه بلفظ:"حَجَر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه".

وخالفه عبد الرزاق وعبد الله بن المبارك عن معمر فأرسلاه.

ورواه أبو داود في المراسيل من حديث عبد الرزاق مرسلاً مطولاً.

وصححه الحاكم، ووافقه الذَّهبي.

قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل، وقال ابن الطلاع: هو حديث ثابت.

* مفردات الحديث:

- حجر: يقال: حجر يحجر حجرًا، وهو لغة: المنع والتضييق، ومنه قوله تعالى:{حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} [الفرقان].

وشرعًا: منع الإنسان من التصرف في ماله، فإذا كان قاصرًا فالحجر لحظِّ نفسه، وإن كان رشيدًا فالحجر لحظ غيره من الغرماء.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

الحَجْر شرعًا: هو منع المفلس من التصرف في ماله الموجود الحادث بإرث

(1) الدارقطني (4/ 230)، الحاكم (2348)، أبو داود في المراسيل (1/ 162).

ص: 487

أو غيره، وهو مشروع بشرطه؛ لحفظ حقوق الغرماء، ونتيجة الحجر أنَّه لا يصح، ولا ينفذ تصرفه في ماله المذكور، ولا إقراره عليه.

2 -

لا يصح الحجر إلَاّ من الحاكم بطلب كل غرماء المفلس، أو طلب بعضهم؛ لأنَّ الحجر يحتاج إلى اجتهاد في الحكم به، كما أنَّه إلى وجود ولاية تشريعية وتنفيذية، ولا يقوم بذلك إلَاّ الحاكم.

3 -

لا يحجر على المدين حتى تكون ديونه أكثر من موجوداته.

4 -

المفلس قبل حجر الحاكم صحيح التصرف في ماله؛ لأنَّه رشيد، لكن يحرم عليه التصرف بما يضر غرماءه، هذا المذهب.

أمَّا ابن القيم فقال: إذا استغرقت الديون ماله، لم يصح تصرفه وتبرعه بما يضر أرباب الديون، سواءٌ حَجَر عليه الحاكم، أو لم يحجر عليه.

هذا مذهب مالك واختيار شيخنا، وهو الصحيح الذي يليق بأصول المذهب، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده؛ لأنَّ حق الغرماء قد تعلق بماله، والشريعة جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق، وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها.

قلتُ: ونصر هذا القول غير واحد من أهل التحقيق، وجزم به ابن رجب وغيره، وصوَّبه في الإنصاف.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: عند الشيخ تقي الدين لا ينفذ تصرف المفلس التصرف المضر بالغريم، ولو لم يحجر عليه، وهو أرجح وأقرب إلى العدل، لأنَّ تصرفه ظلم محرَّم، فكيف ينفذ الظلم المحرَّم وحجر الحاكم ما هو إلَاّ إظهار لحاله، لإيجاب شيء لم يجب إلَاّ بحجره.

5 -

على الحاكم أن يبيع مال المفلس، ويقسم ثمن ما باعه بين الغرماء بالمحاصَّة بقدر الديون.

وطريق المحاصَّة أن تجمع الديون، وتنسب إلى مال المفلس، وَيُعطى

ص: 488

كل غريم من دينه بتلك النسبة.

6 -

الحجر لا ينفك عن المفلس إلَاّ بوفائه دينه، أو حكم حاكم، ولو مع بقاء بعض الدين؛ لأنَّ حكمه مع بقاء بعض الدين، لا يكون إلَاّ بعد البحث عن نفاد ماله، والنظر في الأصلح من بقاء الحجر، أو فكِّه.

7 -

يجوز إعطاؤه من الزكاة لوفاء دينه.

قال فقهاء الحنابلة، واللفظ لصاحب نيل المآرب: من تَديَّن لنفسه في شراء مباح أو محرَّم، وتاب منه مع فقره، فإنَّه يُعطي ما يقضي به دينه، وكذا لو كان الدين لله تعالى.

8 -

إذا وزعَّ الحاكم ماله الموجود انقطعت المطالبة عنه، فلا يجوز ملازمته، ولا طلبه، ولا حبسه بهذا الدين بل يخلى سبيله، ويمهل إلى أن يحصل له مال فيأخذه الغرماء، وليس معناه: أنَّه ليس لكم إلَاّ ما وجدتم، وبطل ما بقي لكم من الديون، وهذا ما يفهم من الحديث مع قوله تعالي:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].

فالإفلاس لا يسقط حقوق أصحاب الديون، لكن يمنع من الملازمة والمطالبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لغرماء معاذ:"خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلَاّ ذلك".

***

ص: 489

743 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "عُرِضْتُ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يوْمَ أُحُدٍ، وَأنَا ابْنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأنَا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: "فَلَمْ يُجِزْنِيِ، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ" وَصَحَّحَها ابنُ خُزَيْمَةَ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- عُرِضت: مبني للمجهول، والعرض العسكري هو مرور فِرَق نموذجية من القوات المسلحة أمام رئيس الدولة، والنبي صلى الله عليه وسلم استعرض أفراد رجال غزوته حينما أراد الغزو، فرد ابن عمر في الغزوة الأولى لما كان صغيرًا، وأجازه في الثانية لما بلغ.

- أُحُد: جبل يحيط بالمدينة المنورة من الجهة الشمالية، وهو داخل حدود حرم المدينة المنورة، وغزوة أحد في سنة ثلاث من الهجرة.

- وأنا ابن أربع عشرة سنة: قال الحافظ في التلخيص المراد بقوله: "وأنا ابن أربع عشرة" أي طعنت فيها.

وبقوله: "وأنا ابن خمس عشرة" أي استكملتها.

- الخندق: أما الخندق فهو أخدود عميق مستطيل، يحفر في ميدان القتال يكون جهة العدو؛ لتتقي به الهجمات المباغتة، وقد حفره النبي صلى الله عليه وسلم في شمال غرب

(1) البخاري (2664)، مسلم (1868)، البيهقي (11081)، ابن حبان (4708).

ص: 490

المدينة جهة جبل سَلَع، لما حاصرت المدينة قُريش، وقبائل أسد وغطفان، فسميت الغزوة باسم هذا الخندق، الذي هو أول تدبير حربي حكيم عمل في جزيرة العرب، وغزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة.

- فلم يُجِزْني: يقال: أجاز يجوز إجازة، والمعنى: لم يمضني، ولم يأذن لي في القتال.

***

ص: 491

744 -

وَعَنْ عَطِيَّةَ القُرَظِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَم يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ مِمَّنْ لَمْ يُنْبِتْ، فَخلِّي سَبِيلِي" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال ابن عبد الهادي في المحرر: رواه الإمام أحمد واللفظ له، ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وسكت عنه أبو داود والمنذري، وسكوتهما دليل على صلاحيته عندهما.

قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: صححه الترمذي وابن حبان والحاكم وقال: على شرط الصحيح، وهو كما قال.

* مفردات الحديث:

- يوم قُرَيظة: بضم القاف وفتح الراء، بنو قُريظة قبيلة من قبائل اليهود، الذين كانوا يقيمون قرب المدينة النبوية، وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فنكثوا عهدهم، وأظهروا العداوة لما رأوا اجتماع القبائل يوم الخندق عند المدينة، ولما هزَم اللهُ الأحزاب، نزل حكم الله بأن تُقتلَ رجالهم، وتُسْبى نساؤهم وذراريهم، فكان من بلغ قُتل، ومن لم يَبْلُغ أُبقي.

(1) أبو داود (4404)، الترمذي (1584)، النسائي في الكبرى (5/ 185)، ابن ماجه (2541)، أحمد (4/ 310)، ابن حبان (4760)، الحاكم (2/ 123).

ص: 492

- أنبتَ: أي من نبت الشعر الخشن الذي حول قُبُلِه وهو "العانة"؛ قُتِلَ؛ لأنَّه بالغ مكلف، ومن لم ينبت هذا الشعر فهو لم يبلغ فَمخلَّى سبيله ويترك.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

هذان الحديثان جاءا لبيان أحكام المحجور عليه لحظ نفسه، من صغيرٍ، وسفيهٍ، ومجنونٍ.

2 -

المحجور عليه لصغره لا يُعطى ماله، ولا يجوز تصرفه فيه إلَاّ بعد بلوغه ورشده؛ لقوله تعالي {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].

3 -

البلوغ يكون بواحد من أمور منها:

البلوغ بتمام -الذكر أو الأنثى- خمسة عشر عامًا، وهذا معنى قوله:"وعُرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني" يعني أنَّه رآه بلغ لما وصل هذه السن.

ويكون بنبات شعر خشن حول القُبُل، وهي "العانة"، وهذا ما يفيده الحديث رقم (744)، حينما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل من بلغ من بني قُريظة، وترك من لم يبلغ، فمن اشتبه عليهم بلوغه من عدمه يكشف مئزره، فمن أنبت فقد بلغ، ومن لم ينبت لم يبلغ، فيخلى سبيله ولا يقتل.

4 -

من علامات البلوغ الإنزال من الذكر والأنثى، فإذا أنزل منيًّا حكم ببلوغه، ولو لم يتم خمسة عشر سنة، أو ينبت حول قبله شعر خشن.

5 -

تزيد البنت بعلامة رابعة للبلوغ هي الحيض، فمتى جاءها الحيض فهي بالغة لحديث:"لا يقبل الله صلاة حائض إلَاّ بخمار" رواه الخمسة، ولأنَّ الحيض علامة استعدادها للحمل، ولا تحمل إلَاّ بعد البلوغ.

6 -

مع علامات البلوغ هذه كلها لابُدَّ من الرشد؛ لدفع ماله إليه، فلو بلغ وهو سفيه لم يرشد، فلا يفك عنه الحجر، ولا يصح تصرفه، لقوله تعالي:

ص: 493

{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، ولأنَّ الرشد هو إصلاح المال، والسفه إضاعته وتبذيره، وقد قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5].

7 -

وللصغير أحكام مذكورة في كتب الفقه في "باب الحَجْر"، كوجوب المحافظة على ماله وإصلاحه، وتثميره وتنميته، وأن لا يتصرف وليه له إلَاّ بما هو الأحظ، وكلها ترجع إلى العناية باليتيم وبماله.

كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220].

وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء].

وقال صلى الله عليه وسلم: "خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُحسَن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُسَاء إليه".

والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة وشديدة، فإنَّ الله تعالى -جلَّت قدرته وتعالت حكمته- يعلم شح النفوس عند المال، ويعلم ضعف اليتيم وعجزه، فعني به وحذَّر من قرب ماله إلَاّ بالتى هى أحسن:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} . [النساء].

***

ص: 494

745 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَجُوزُ لامْرَأةٍ عَطِيَّةٌ إِلَاّ بإِذْنِ زَوْجِهَا".

وفِي لَفْظٍ: "لا يَجُوزُ لِلْمَرأةِ أمْرٌ فِي مَالِهَا إذا مَلَك زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَاّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن بلفظيه، وقد صححه الحاكم ووافقه الذَّهبي.

* مفردات الحديث:

- عصمتها: قال ابن فارس: العين والصاد والميم أصل واحد صحيح يدل على إمساك وملازمة.

وقال في المصباح: الاسم العصمة، والجميع عِصم، والمراد: بذلك عقد النكاح.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، فالرجل هو زعيم الأسرة، وهو سيد البيت، لما فضله الله به من سعةٍ في الفكر، وبُعْدٍ في النظر، وبصرٍ في العواقب، وهو صاحب الكد

(1) أحمد (2/ 179)، أبو داود (3547)، النسائي (5/ 65)، ابن ماجه (2388)، الحاكم (2/ 47).

ص: 495

والكدح، والكسب.

2 -

المرأة في المنزل هي المدبرة؛ لِمَا لَها من المعرفة والخبرة، وهي المتولية شؤون منزلها، ومن ذلك تدبير مال زوجها الذي بين يديها.

3 -

لا يجوز لها عطيةٌ، أو صدقةٌ، من مال زوجها إلَاّ بإذنه؛ لأنَّه صاحب الحق، فإن أذن أو علمت من حاله رضاه، فلها الصدقة بما جرت به العادة من الشيء القليل، من طعام البيت كالرغيف، وبقية الطعام والشراب، لما في الصحيحين عن عائشة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها، غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجر ما كسب، وللخازن مثل ذلك، لاينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا".

فإن منعها من ذلك، أو علمت منه البخل، فيحرم عليها الصدقة بشيءٍ من ماله، ولو قليلاً.

4 -

شراكتهم في الأجر من غير أن ينقص أجر بعضهم من أجر الآخر، وذلك من فضل الله تعالى وكرمه.

5 -

المرأة البالغة الرشيدة جائزة التصرف حرَّة في مالها.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" فقد حمله العلماء على أحد معنيين:

أحدهما: حسن عشرتها، وطيب نفسها، وتقديرها لزوجها، وتقديمه في أمورها، فهي لا تتصرف إلَاّ بعد مراجعته.

الثاني: أنَّ هذا خاصٌّ في الزوجة التي لم ترشد، فإذا كانت سفيهةً فيحرم تصرفها في مالها، ويجب على ولي أمرها حفظه، وأهم رجالها المحافظين على شؤونها هو زوجها الرَّشيد.

***

ص: 496

746 -

وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ المسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَاّ لأَحدِ ثَلَاثَةٍ: رجُل تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أصَابتهُ جَائِحَة اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أصَابتهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا مِن قَوْمهِ: لَقَدْ أصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- قبيصة: بفتح القاف، فموحدة، فمثناة تحتية، فصاد مهملة.

- مخارق: بضم الميم، فخاء معجمة، فراء مسكورة.

- المسألة: سؤال الناس من أموالهم.

- حمالة: بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الميم، جمعه حمالات، ما يحمل من دين.

- ثم يمسك: يكف عنه، ويمتنع.

- جائحة: قال في النهاية: هي الآفة التي تهتك الثمار والأموال وتستأصلها، والجمع جوائح.

قوامًا: يقال: قام يقوم قومًا وقيامًا: ضد قعد، والقِوام بكسر القاف: ما يقيم الإنسان من القوت.

- عيش: يُقال: عاش يعيش عيشًا: صار ذا حياة، والعيش مصدر والمراد هنا ما

(1) البخاري (1197)، مسلم (827).

ص: 497

يعاش به.

- الفاقة: افتاق الرجل افتياقًا افتقر، ولا يقال فاق الرجلُ؛ لأنَّ ذل من الرفعةِ والعلو. فالفاقة هي الفقر والحاجة.

- الحِجَا: بكسر الحاء: العقل.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تحريم سؤال الناس أموالهم بدون حاجة، فقد جاء في صحيح مسلم (1041) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"من يسأل الناس أموالهم تكثرًا فإنَّما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر".

2 -

جواز السؤال للحاجة إليها، ومنها هذه الحالات الثلاث الملجئة إلى السؤال.

3 -

الأولى: أن يقوم الرجل لإصلاح ذات البين بين قبائل، أو قبِيلتَين، أو عشيرتين، أو قريتين، فيتوسط بالصلح بينهما، ويلتزم في ذمته مالاً عوضًا عما بينهم من دماء أو خسائر؛ ليطفيء نار الفتنة، فهذا قد فعل معروفًا عظيمًا، فكان من المعروف حَمْله عنه من الصدقة؛ لئلا يجحف ذلك بالسادة المصلحين، ويوهن من عزائمهم، فجاء الشرع بإباحة المسالة له فيها، وجعل لهؤلاء السادة نصيبًا من الزكاة، ولو كانوا أغنياء.

4 -

القدر الذي ياخذه هذا المصالح الغارم هو قدر ما التزم به وتحمله، ثم يمسك فلا يأخذ أكثر منه.

5 -

الثاني: من أصابت ماله آفة سماوية أو أرضية، من بردٍ شديدٍ، أو حرٍّ شديدٍ، أو غرقٍ، أو حريقٍ، أو نحو ذلك من الآفات التي لا صنع لآدمي فيها، حتى لم يبق له ما يسد حاجته، فهذا تحل له المسالة حتى يصيب من العيش سداده، ثم يمسك، فلا يأخذ أكثر من كفايته، وكفاية من يمونه.

6 -

الثالث: من عُرفَ بالغنى والمال، فأصابه الفقر والحاجة، فهذا تحل له

ص: 498

المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، يقوم بكفايته وكفاية من يمونه.

7 -

القاعدة الشرعية تقول: "الأصل بقاء ما كان على ما كان" فالغني الذي أصابته الفاقة لا تحل له المسألة، ولا يعطى من الزكاة حتى يشهد له ثلاثة رجال عقلاء أمناء من قومه، الذين يعرفون حاله وصدق ما آل إليه أمره، فيشهدون بقولهم: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة.

وبدون هذه الشهادة فالأصل أنَّه غنيٌّ غير مستحق للزكاة.

8 -

أما الذي لم يُعرف بسابق غنى، فلا يحتاج في جواز إعطائه من الزكاة إلى هذه الشهادة.

9 -

فهؤلاء هم الذين تحل لهم المسألة، ويجوز دفع الزكاة إليهم، وأما من عداهم ممَّن يسألها جمعًا وتكثرًا، فهذا يأخذها سحتًا تسحته وتسحت ماله معه، نسأل الله العافية.

10 -

استثنى العلماء: سؤال ولي أمر المسلمين، فهذا لا بأس بسؤاله مع الغنى والحاجة؛ لأنَّ للسائل نصيبًا من بيت مال المسلمين.

***

ص: 499