الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب شروطه وما نُهِي عَنْهُ
660 -
عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِه، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ" رَوَاهُ البَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح بتعدد طرقه.
قال المؤلف: رواه البزار وصححه الحاكم.
قال في التلخيص: رواه الحاكم والطبراني، ورجح البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي إرساله عن سعيد بن عمير.
وفي الباب عن علي وابن عمر ذكرهما ابن أبي حاتم، وأخرج الطبراني في الأوسط حديث ابن عمر، ورجاله لا بأس بهم.
قال في بلوغ الأماني: رواه الإمام أحمد وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير، ورواه البيهقي مرسلاً، وقال: هذا هو المحفوظ والله أعلم.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد أن ذكر له عدَّة طرق، فقال عن طريق الطبراني: رجاله ثقات، وقال عن طريق أحمد: رجاله ثقات.
* مفردات الحديث:
- الكسب: كسب يتعدى بنفسه، وبالهمزة إلى مفعول ثان، فيقال: أكسبت زيدًا
(1) البزار (2/ 83)، الحاكم (2/ 10).
مالاً: أي أنلته، والكسب طلب الرزق، وإصابته بتصرف وجهد.
- أطيب: أي أفضل عملاً، وأكثر بركةً، وأحلَّ أكلاً.
- بيع: باعه يبيعه بيعًا، فهو بائع، والشيء مبيع ومبيوع، وهو بائع العين، وهو من الأضداد مثل الشراء، فيطلق على كلٍّ من المتعاقدين بائع.
قال ابن قتيبة: بعت الشيء بمعنى ابتعه، وبمعنى اشتريته، وشريت الشيء بمعنى بعته، ولكن إذا أطلق البائع، فالمتبادر إلا الذهن أنَّه باذل السلعة، والبيع اسم مصدر، والجمع بيوع، والمصدر لا يجمع، ولكنه جُمعَ نظرًا إلم اختلاف أنواعه، وتفسيره لغةً: مطلق المبادلة.
وتعريفه شرعًا: هو مبادلة المال بالمال على سبيل التراضي.
- مبرور: يقال: برَّ يبر برًّا، فالبار هو الصادق الصالح، وضد العاق، جمعه أبرار وبررة، فالبيع المبرور هو الذي لم يخالطه شيء من المأثم، كالكذب، والخداع، واليمين الكاذبة، ونحو ذلك.
قال ابن القيم: "البر" كلمة جامعة لجميع أنواع الخير، والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلتها كلمة "الإثم" الجامعة لأنواع الشر، ورديء العيوب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث دليل على ما في الإسلام من حثٍّ؛ على الحركة والعمل، وطلب المكاسب الطيبة، وأنَّه دين ودولة، فكما يأمر العبد بالقيام بحق الله تعالى عليه، يأمره أيضًا بطلب الرزق والسعي في الأرض؛ لعمارتها واستثمارها، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15].
2 -
يدل على أنَّ أفضل المكاسب عمل الرجل بيده، فقد جاء في صحيح البخاري (2072) أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرٌ مِنْ أن يأكل من عمل يده".
3 -
يدل على أنَّ التجارة من أطيب المكاسب، إذا سلمت من العقود المحرَّمة، كالربا، والغرر، والخداع، والتدليس، ونحو ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.
4 -
يدل الحديث على أنَّ البر كما يكون في العبادات، يكونُ أيضًا في المعاملات، فإذا نصَحَ المسلم في بيعه، وشرائه، وصناعته، وعمله، وحرفته، فإنَّ عمله هذا من البر والإحسان، الذي يثاب عليه في الدنيا والآخرة.
5 -
يدل على أنَّ أي عمل يقوم به المسلم ليعف به نفسه، ويستغني به عمَّا في أيدي النَّاس أنَّه من المكاسب الطيبة، وكل إنسانٍ مهيَّىء لِمَا يناسبه من الأعمال، والحرف، والصناعات.
6 -
عدم تخصيص الشارع وتعيينه عملاً بعينه، دليل على قصد تنفيذ الإرادة الكونية في عمَارة هذا الكون، وذلك بأن يقوم كل إنسان، وكل طائفة بالعمل الذي لا تقوم به الطائفة الأخرى، فالله تبارك وتعالى:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه].
7 -
الرجل في الحديث ليس مقصودًا، وإنما سيق مساق الغالب، فإنَّ الرجال غالبًا هم أصحاب الكسب والإنفاق.
8 -
البيع المبرور هو الذي يعقد على مقتضى الشرع، باجتماع شروطه وأركانه ومتمماته، وانتفاء موانعه ومفسداته، فتجتمع فيه الشروط المتقدمة، وتنتفي عنه موانعه، من الغرر، والجهالة، والمقامرة، والمخاطرة، وعقود الربا، والغش والتدليس، وإخفاء العيوب.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في تعيين أطيب المكاسب وأحسنها.
فقال الماوردي: أطيبها الزراعة، لأنَّها أقرب إلى التوكل.
وقال النووي: أطيب المكاسب عمل الإنسان بيده، فإن كان زراعة فهو
أطيب المكاسب لما يشتمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي والدواب والطير.
وقال الحافظ ابن حجر: أفضل المكاسب من أموال الكفار بالجهاد، فهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم، ولما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: اختلف العلماء أي المكاسب الدنيوية أولى، فمنهم من فضَّل الزراعة، ومنهم من فضَّل التجارة، ومنهم من فضَّل العمل باليد من الصنائع والحِرف.
وأحسن ما يقال في هذا الباب: أنَّ الأفضل لكل أحد ما يناسب حاله، ولابدَّ في جميع المكاسب من النصح وعدم الغش، والقيام بالواجب من جميع الوجوه.
قال ابن مفلح في "الأداب الشرعية" ما خلاصته:
يسن التكسب حتى مع الكفاية، كما يباح كسب الحلال لزيادة المال والجاه، والترفه، والتنعم، والتوسعة على العيال، مع سلامة الدين، والعرض، والمروءة، وبراءة الذمة.
ويجب ذلك على من لا قوت له، ولمن تلزمه نفقته، ويقدم الكسب العياله لقوله صلى الله عليه وسلم:"كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته"[رواه مسلم (996)].
قال القاضي: الكسب الذي لا يقصد به التكاثر، وإنما يقصد به التوسل إلى طاعة الله، من صلة الإخوان، أو التعفف عن وجوه الناس، فهو أفضل لما فيه من منفعة غيره ومنفعة نفسه، وهو أفضل من التفرغ لنوافل العبادات، لما فيه من منافع الناس، وخيرُ الناس أنفعهم للناس.
* فائدة:
قال الخطابي: كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه؛ لحديث: "دع ما يريبك
إلى ما لا يريبك" [رواه أحمد (1630)].
وقال الغزالي: ورع الصديقين: ترك ما يتناول لغير نية القوة على العبادة،
وورع المتقين: ترك ما لا شبهة فيه خشية أن يجرَّ إلى الحرام.
وورع الصالحين: ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم، بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، فإن لم يكن له موقع فهو ورع الموسوسين.
قال ابن تيمية: الفرق بين الزهد والورع، أنَّ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخاف ضرره في الآخرة.
قال ابن القيم: إنَّ هذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.
وقال ابن القيم أيضًا: التحقيق أنَّ النعم إن شغلته عن الله، فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن ذكر الله بل كان شاكرًا فيها، فحاله أفضل، والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها، والطمأنينة إليها.
* قرار المجمع الفقهي بشأن حكم الحقوق المعنوية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت، من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ، 10 إلى 15 كانون الأول ديسمبر 1988 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء، في موضوع الحقوق المعنوية، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرَّر:
أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف،
والاختراع، أو الابتكار، هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة؛ لتمول الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا، فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري، أو العنوان التجاري، أو العلامة التجارية، ونقل أي منها بعوض مالي، إذا انتفى الغرر، والتدليس، والغش، باعتبار أنَّ ذلك أصبح حقًّا ماليًّا.
ثالثًا: حقوق التأليف، والاختراع، أو الابتكار مصونة شرعًا، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.
***
661 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ عَامَ الفَتْحِ، وَهُوَ بمَكَّةَ:"إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حرَّمَ بيَعَ الخَمْرِ، وَالمَيْتَةِ، وَالخِنْزِيرِ، وَالأَصْنامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟، فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذلِكَ: قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّم عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ باعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنه" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- عام الفتح: يعني فتح مكة المكرمة، في شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة.
- حرَّم: قال في فتح الباري: هكذا في الصحيحين بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد، وفي بعض طرقه "إنَّ الله حرَّم" وفي وجه:"إنَّ الله ورسوله حرَّما" والتحقيق جواز الإفراد، إشارةً إلى أنَّ أمر النبي صلى الله عليه وسلم ناشىءٌ عن أمر الله، وهو نحو قوله تعالى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] فالجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها.
- لا، هو حرام:"لا" ناهية، وبعدها فعل محذوف مجزوم، والتقدير: لا تبيعوها، فإنَّ بيعها حرام، وما حَرُمَ بيعه حَرُمَ الانتفاع به.
- الخمر: مادة خمر تدل على الستر والتغطية، ومنه خِمار المرأة الساتر لرأسها
(1) البخاري (2236)، مسلم (1581).
ووجهها، وتخمير الأواني: تغطيتها، ومن هنا أخذ معنى الخمر للمادة المسكرة، لأنَّها تغطي العقل، وكل ما أسكر فهو خمر من أي نوع من عنب أو تمرٍ، أو شعيرٍ، وهذه المشروبات المستحدثة.
- الميتة: ما مات حتف أنفه، أو ذكي ذكاة غير شرعية.
- الخنزير: الخنزير حيوان خبيث قذر من الفصيلة الخنزيرية، جمعه خنازير.
- الأصنام: ما ينحت من حجارة، أو يصنع من حديد، أو طين، أو خشب، أو أي مادة كانت، لتُعبد من دون الله تعالى، وقد يكون الصنم على صورة إنسان، وقد يكون على صورة حيوان، كعجل بني إسرائيل، أو صورة شيطان يتخيلونه.
- أرأيتَ: بمعنى أخبرنا.
- تُطْلَى بِهَا السفن: طلا يطليه طليًا: لطخه، والطلاء: القطران وكل ما يطلى به، فطلاء السفن أن تدهن حتى يَزُول عنها الماء، فلا يفسدها.
- السُّفن: بضمتين جمع سفينة يقال: سفن الشيء يسفنه سفنًا قشره، السفينة، المركب البحري سميت بذلك؛ لقشرها وجه الماء.
- ويستصْبِح بها الناس: استصبح الرجل إذا أوقد المصباح واستضاء به، فالاستصباح: الاستضاءة.
- فقال: لا، هو حرام: قيل: الضمير يرجع إلى الانتفاع المفهوم من قوله: "فإنَّها تطلى بها السفن
…
" إلخ، ولكن الراجح أنَّ الضمير يرجع إلى البيع؛ لأنَّ السائل إنَّما سأل عنه، ولأنَّ الكلام مسوق له ويؤيده قوله: "ثم باعوه".
- قاتل الله اليهود: يقال قتله يقتله قتلاً: أزهق روحه وأماته، قال أهل اللغة: قاتله الله لعنه وعاداه، ولعن الله اليهود لاستعمالهم الحيل.
- جملوه: بفتح الجيم والميم، أذابوا الشحم المحرَّم عليهم أكله، يقال: جمل الشحم يجمله، من باب نصر، ومنه الجميل، الشحم المذاب، ثم باعوه
ليحتالوا على الانتفاع بالشحوم، والضمير في "جملوه" راجع إلى الشحوم على تأويل المذكور.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جاءت هدذه الشريعة الإسلامية المحمَّدية بكل ما فيه صلاح البشر، وحذَّرت من كل ما فيه مضرة تعود على الأديان، والأبدان، والعقول، والأعراض، والأموال.
2 -
تحريم الخمر، عمله، وبيعه، وشربه، وكل وسيلة تعين عليه، والخمر: كل ما أسكر وغطَّى العقل من أي نوع يكون، سواء كان سائلاً أو جامدًا.
3 -
إذا كان الخمر حرامًا تناوله، وبيعه، وترويجه، فما كان أشد منه مفسدة وضررًا أشد حرمة، وأكبر إثمًا وهي المخدرات: التي أفسدت الأخلاق، وأضعفت العقول، وأذهبت الأموال، وأضاعت الأديان، وهدمت الصحة.
4 -
تحريم أكل الميتة، والانتفاع بها: بلحمها، أو شحمها، أو دمها، أو عصبها، وكل ما تسير إليه الحياة من أجزائها، وحرمت لقذراتها ونجاستها، ومضرتها على الأبدان والصحة.
5 -
استثنى جمهور العلماء من الميتة: الشعر، والوبر، والصوف، والريش، إذا لم تتبعها أصولها؛ لأنَّه ليس لها صلة بمادة الميتة، فلا يكتسب من خبثها ونجاستها؛ فهذه الأشياء لا تحلها الحياة، فلا يصدق عليها اسم الميتة وتقدم في باب الآنية الكلام على جلد الميتة، وخلاف العلماء فيه.
6 -
تحريم الخنزير أكله وبيعه وملامسته، لأنَّه خبيث رجس، فضرره على الدين بالنجاسة والدياثة، وضرره على العقل بذهاب الغيرة الواجبة، وضرره على البدن بالأمراض، وكل هذه المضار حقائق صدقتها الاكتشافات العلمية.
7 -
مما يلحق بالأصنام في التحريم الصور الخليعة، التي تظهر في المجلات، والصحف، والأفلام الماجنة، التي تعود على الأخلاق بالفساد، وتسبب
فتنة الشباب والشابات، لما تحركه من الغرائز الجنسية، ومن الأصنام: الصليب الذي هو شعار النصارى، ومن الأصنام، تماثيل الزعماء التي تنصب بالميادين والشوارع العامة، ففيها فتنة وغلو، يجر إلى الشرك بالله تعالى.
8 -
أنَّ المحرمات المعدودة في الحديث ما هي إلَاّ نماذج لأنواع الخبائث التي يعود ضررها على الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والعِرض، والعقل، والمال.
ولتحريمها حِكمٌ وعللٌ، فَعِلَّةُ تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير: النجاسة، فتتعدى إلى كل نجاسة، والعلة في منع بيع الأصنام، البعد عن طاعة الله، فكل ما ألهى وشغل عن طاعة الله فهو حرام، ومن لك التماثيل والصور المجسمة، وآلات اللهو والطرب.
9 -
جواز استعمال النجاسة على وجه لا يتعدى، فقد أقرَّهم صلى الله عليه وسلم على دهن الجلود، وطلي السفن بها، فإنَّ الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا، هو حرام" راجع إلى البيع.
قال ابن القيم في الهدي: ينبغي أن يعلم أنَّ باب الانتفاع أوسع من باب البيع، فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به، إذ لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع.
أما ابن حجر في فتح الباري فقال: قوله: "لا هو حرام" حمله الجمهور على الانتفاع، فقالوا يحرم الانتفاع بالميتة إلَاّ ما خصه الدليل، وهو الجلد المدبوغ. كما أنَّه المشهور من مذهب أحمد.
قال في شرح الاقناع "ولا يصح بيع الأدهان النجسة العين، من شحوم الميتة وغيرها، ولا يحل الانتفاع بها، استصباحًا ولا غيره، لحديث جابر".
10 -
أنَّ التحايل على محارم الله هو عمل اليهود فقد صب عليهم غضبه ولعنته، فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة: 13]
11 -
تحريم الحِيَل على استحلال المحرمات، أو ترك الواجبات، وأنَّها لا تغير حقائق الأشياء، ولو سميت بغير أسمائها، أو غيرت بعض صفاتها.
12 -
تحذير هذه الأمة مما أقدم عليه اليهود من فعل المحارم بالحيل، لئلا يُصبها ما أصابهم من غضب الله، ولعنته، وأليم عقابه.
قال الخطابي: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى المحرَّم، فإنَّه لا يتغيَّر حكمه بتغير هيئته، وتبديل اسمه.
13 -
قال ابن القيم: لعن الله اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم عليهم أكله، ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع، وأيضًا فإنَّ اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنَّها بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك.
وقال في معالم السنن: الوسيلة إلى الحرام حرام في الكتاب والسنة والفطرة والمعقول، فإنَّ الله سبحانه مسَخَ اليهود قِردة وخنازير، لما توسلوا إلى البيع الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، فإنَّ الطريق متي أفضت إلى الحرام، فإنَّ الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلاً لأنَّ إباحتها وتحريم الغاية جمع بين متناقضين، فلا نتصور أن يباح شيء ويحرم ما يُفضي إليه، بل لابد من تحريمها، أو إباحتها، والثاني: باطل قطعًا، ويتعيَّن الأول.
14 -
يدل الحديث على القاعدة المشهورة: "إذا رجحت المفسدة على المصلحة فالمقدم هو درء المفسدة" فإنَّ المصلحة بشحوم الميتة ألغيت؛ نظرًا إلى مفسدة الانتفاع بالميتة.
***
662 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا اخْتَلَفَ المُتَبايِعَانِ، وَلَيسَ بَيْنَهُمَا بيِّنَةٌ، فَالقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلعَةِ، أوْ يَتَتَارَكَانِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف ولكن تقوى بطرقه.
فقد أخرجه أحمد، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، وصححه ابن السكن والحاكم، ورواه الشافعي منقطعًا بين عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وبين عبد الله بن مسعود، لكن جاء موصولاً، فرواه محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده مرفوعًا.
قال الألباني: الحديث قوي بمجموع طرقه.
* مفردات الحديث:
- بيِّنة: يقال: بأن يبين بيانًا وتبيانًا؛ اتَّضح وظهر، فالبينة ما أبان الحق وأظهره، من قرار وشهود وغيرهما.
- رب السلعة: أي صاحبها، والمراد به البائع.
- السلعة: بكسر السين المهملة وسكون اللام، هي البضاعة والمتاع الذي يتجر به، جمعها سلع.
- يتتاركان: يتفق البائع والمشتري على فسخ البيع.
(1) أبو داود (3511)، النسائي (7/ 302)، الترمذي (1270)، ابن ماجه (2186)، أحمد (1/ 466).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّه إذا حصل خلاف بين البائع والمشتري، وليس لدى أحدهما بيِّنة، فإنَّ القول هو قول البائع، مع يمينه.
فإنَّ القاعدة الشرعية: أنَّ من كان القول قوله فعليه اليمين.
2 -
يطبق في هذا ما رواه البيهقي، وبعضه في الصحيحين، من حديث أنس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"البيِّنة على المدعي واليمين على من المنكر"
وعند هذا الحديث جمع شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله خلاف البائع والمشتري في صور، هذه خلاصتها:
1 -
إذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، ولا بينة، تحالفا، وصفة التحالف أن يحلف البائع ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ثم لكل منهما فسخ البيع.
2 -
إذا اختلفا في صفة الثمن أخذ نقد البلد، إن وافق قول أحدهما.
3 -
إذا اختلفا في عين المبيع أو قدره يتحالفان، ويفسخ العقد.
4 -
إذا اختلفا في شرطٍ، أو رهنٍ، أو ضمينٍ، فقول من ينفيه؛ لأنَّ الأصل عدمه.
5 -
إذا دعا أحدهما فساد العقد، وادَّعى الآخر صحته، فالأصل سلامة العقد، والقول قول مدعي الصحة، وعلى المدعي البيِّنة.
6 -
إذا بيع بصفةٍ أو رُؤيةٍ سابقة فادَّعى المشتري تغير الصفة، وأنكر البائع، فالقول قول المشتري، لأنَّ الأصل عدم لزوم الثمن على المشتري.
7 -
إذا اختلفا عند من حدث العيب مع الاحتمال، فالقول قول البائع على الصحيح، وعلى هذا القول عمل الناس.
***
663 -
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الكلب: بفتح فسكون، حيوان معروف، والأنثى كلبة، والجمع كلاب، والكلب مشهور بشدة الرياضة والوفاء.
قال علماء الأحياء: الكلب حيوان أهلي من الفصيلة الكلبية ورتبة اللواحم، ومنه سلالات كثيرة.
- مهر البغي: المهر هو العوض الذي يقدم في النكاح، ويسمى ما يدفع للزانية تجوزًا؛ لكونه على صورته.
- البَغي: بفتح الموحدة وكسرة الغين وتشديد الياء، هي الزانية، أصله بغوي على وزن فعيل بمعنى فاعله، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، فصار بغُي، ضم الغين، فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء، وتجمع البغي على بغايا.
فالبغاء: بكسر الباء ممدودًا هو الطلب، وكثُر استعماله في الزنا، فيقال: بغت المرأة تبغي بغاء: إذا زنت، فهي بغي فعولٌ بمعنما فاعلة، نسأل الله العافية.
- حُلْوَان الكاهن: بضم الحاء المهملة مصدر حلوته حلوانًا إذا أعطيته، شبه بالشيء الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلاً بلا مشقة، فهو ما يأخذه الكاهن على
(1) البخاري (2237)، مسلم (1567).
كهانته، أما الكاهن فهو الذي يدعي علم الغيب، وهو شامل للعرَّاف، والمنجِّم، وضرَّاب الحصى، وقاريء الكف، وغيرهم من الدجالين والمشعوذين.
قال ابن الأثير: الكاهن الذي يخبر بالغيب المستقبل، والعرَّاف الذي يخبر بما خفي، فبعضهم زعم: أنَّ له تابعًا من الجن يلقي إليه الأخبار، وبعضهم يزعم: أنَّه: يعرف الأمور بمقدمات وأسباب، يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله، أو فعله، أو حاله، ومنهم من يدَّعي أنه يستدرك الأمور بفهمٍ أُعطيه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] فهو تبارك وتعالى أحلَّ الطيبات وحرَّم الخبائث، فالمكاسِب الخبيثة حرَّمها، فكان مما حرَّم ما جاء في هذا الحديث الشريف.
2 -
الكلب أنجس الحيوانات وأقذرها، فنجاسته لا يطهِّرها إلَاّ التراب، مع تكرير الغسل سبعًا، فنهى عن اقتنائه، وبيعه، واتخاذه، ما لم تشتد الحاجة إليه، لحراسة الغنم، أو الزرع، أو يتَّخذ للصيد فيباح اقتناؤه، أما النَّهي عن ثمنه فهو يحتمل أحد أمرين:
أحدهما: أنَّ النَّهي عن ثمنه؛ لأنَّه حرام، وهذا يقول به من يرى بطلان بيعه، وتحريم ثمنه، وهم جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، سواء جاز اقتناؤه، أو لا.
أما الإمام أبو حنيفة فيرى صحة بيعه، وإباحة ثمنه، والنَّهي عنه إنَّما هو لدناءته، لا لتحريمه، والراجح هو القول الأول.
3 -
سيأتي في حديث أبي الزبير عند مسلم زيادة للنسائي "إلَاّ كلب صيد" وبعض العلماء قيد إطلاق الحديث بها، والجمهور اعتبروها شاذةً وأخذوا بعموم الحديث.
4 -
الزنا من أعظم المعاصي، وأفحش المنكرات، فما يؤخذ عليه من أجرٍ فهو خبيث حرام، سواء كانت الزانية حرةً، أو أمةً.
5 -
ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به ذنب عظيم، وإثم كبير، وذلك بمثل ما يدعيه الكهان، والعرَّافون، والمنجمون، وأصحاب الشعوذة من أنَّهم يعلمون المغيبات، من الأمور المستقبلة، والأشياء الخفية، لاسيما إذا جعلت هذه الدعاوي الباطلة وسيلة لسلب أموال الناس بالباطل.
6 -
أنَّ ما يندر من صدق هدذه الدعوى الغيبية لا تكون إلَاّ بإخبار الشياطين لهم، والشياطين لا يخبرونهم إلَاّ إذا خدموهم وأطاعوهم بالكفر بالله تعالى، وما دونه من المعاصي، كما قال تعالى عنهم:{اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا} [الأنعام: 128].
7 -
الإتيان إلى هؤلاء الدجالين معصية قد تصل إلى الكفر عند تصديقهم بما يقولون، ففي الحديث "من أتى عرَّافًا فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمَّد"[رواه أحمد (9171)].
8 -
فالحديث ينهى عن الأمور التي تمس الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال، فيكون النَّهي فيها أشد، وعنها آكد، والنَّهي يقتضي التحريم.
9 -
الإسلام دين صدق فلا يقر الدجالين والمشعوذين، ودين طهارة ونزاهة فلا يرضى كسب المال بالطرق الوسخة والفاحشة المنكرة، ودين جِد فلا يرضى أخذ أموال الناس إلَاّ بطرقٍ نافعةٍ يستفيد منها الطرفان، أما المنَافع المحرَّمة فلا يعترف بها، ولا يجعل لها ثمنًا، ولا وزنًا.
10 -
إذا كانت هذه الأمور منكرة فالعقود التي توصل إليها محرَّمة باطلة، وما ترتب عليها من كسب فهو حرام، فنهي الشارع يقتضي التحريم والفساد.
11 -
جاء في بعض روايات الحديث: "وثمن الدم"، والدم المسفوح، ومنه
المسحوب من بدن الصحيح للمريض، فبيعه حرام، ولكن إذا اضطر إليه للمريض، أو للعمليات، فدفع العوض فيه جائز من أجل الضرورة، والإثم إنما هو على الآخذ، وليس على الباذل للعوض لحاجةٍ أو ضرورة إثمٌ، وقد أصدر في هذا مجلس كبار العلماء قرارًا، ذكروا فيه هذا التفصيل في حكمه.
***
664 -
وَعَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما "أَنَّهُ كَانَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أعْيَا، فَأَرَادَ أنْ يُسَيِّبهُ، قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا لِي وَضَرَبةُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، فَقَال: بِعْنيهِ بِأُوْقِيَّةٍ؟ قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ، فَبِعْتُهُ بأُوْقِيَّةٍ، وَاشْتَرَطْتُ حُمْلَانَهُ إلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بلَغْتُ أتيْتُهُ بِالجَمَل، فَنَقَدَنِي ثَمَنهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أثَرِي، فَقَال: أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ، لآخذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا السِّيَاقُ لِمسُلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- جمل: قال الفراء: الجمل زوج الناقة، ويجمع على جِمال وأجمال وجمالات.
- أعيا: بفتح الهمزة وسكون العين، أي كلَّ وعجز عن السير والذهاب إلى مقصده، يقال: أعيى فهو معي، وأعياه الله كلاهما بالهمزة، لازمًا ومتعديًا، ولا يقال: عياء.
- أن يسيِّبه: بضم الياء وفتح السين وتشديد الياء، من باب التفعيل، أي أراد أن يتركه رغبة عنه، فيطلقه ليذهب حيث شاء.
- أُوقيَّة: بضم الهمزة وكسر القاف وتشديد الياء، وجاء في رواية البخاري "وقية" بدون الهمزة، قال العيني: وليست بلُغَةٍ عالية.
والأوقية: أربعون درهمًا إسلاميًّا، والدرهم نصف مثقال وخُمُس مثقال، والمثقال أربعة غرامات ورُبع غرام.
(1) البخاري (2861)، مسلم (3/ 1221).
- قُلتُ لا: قال العيني: ثبت أنَّ جابرًا قال: لا أبيع، بل أهبه لك.
- حُملانه: بضم الحاء المهملة، أي أشترط أن يكون لي حق الحمل عليه إلى المدينة.
- نقدني ثمنه: أعطاني الثمن نقدًا معجلاً.
- أثري: بفتحتين، أو بكسر فسكون، أي بعث من يطلبني ويأتي بي إليه.
- أتُراني: بضم التاء، بمعنى تظنني كلَّمتك، لأجل نقص الثمن، لأخذ جملك، والاستفهام للإنكار، أي أتظنني وتحسبني.
- ماكستك: يقال: ماكسه مماكسةً: شاحَّه؛ لأجل انقاص الثمن.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
من حسن القيادة، والرفق برفقة السفر أن يكون قائدهم، وأميرهم في ساقتهم، فيكون في مؤخرة الجيش، أو القافلة، انتظارًا للعاجزين، ورفقًا بالمنقطعين.
2 -
رحمة النبي ورأفته، فإنَّه لما رأى جابرًا في هذه الحال أعانه بالدعاء والضربة المباركة لجَمَله الهزيل، فسار بإذن الله تعالى سيرًا صار أمام رفقته.
3 -
هذه الضربة منه صلى الله عليه وسلم معجزة ظاهرة ناطقة بأنَّه رسول الله حقًّا، حينما مسَّ هذا الجمل المهزول العاجز المتخلف، فيسير على أثر هذه الضربة هذا السَّير الحسن، ويلحق بالجيش.
4 -
جواز البيع والشراء من الإمام لرعيته.
5 -
أنَّ مماكسة النبي صلى الله عليه وسلم في البيع، والامتناع من البيع عليه لأجل الزيادة في الثمن، أو عدم الرغبة في البيع، لا يعد معصية ومخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم، فإنَّ مثل هذه الأمور ليست على وجه العبادة والإلزام، وإنما هي عقود مباحة، ترجع إلى العادات، فيكون فيها خيار الطرفين، وأيضًا في الرواية الأخرى عند الإمام أحمد (14495)، قال:"لا أبيع، بل أهبه لك".
6 -
أخذ ابن رجب من هذا الحديث قاعدة عامة هي: أنَّه يجوز للإنسان نقل الملك في شيء، واستثناء نفعه المعلوم مدَّة معلومة.
7 -
أن لم يكن المستثنى معلومًا فإنَّ العقد لا يصح، فإنَّ استثناء المجهول من المعلوم يصيِّر المعلوم مجهولاً، وهذا يعم الإجارة، والهبة، والوقف، والوصية.
8 -
جواز عقد البيع، ولو لم يحصل قبض الثمن، ولا المبيع، ما لم يكن ذلك مما يجري فيه الربا، أو يكون رأس مال سلَمَ، أو المبيع في الذمة، فلابد من القبض في المجلس.
9 -
كرم النبي صلى الله عليه وسلم، وسماحته عند البيع والشراء.
10 -
تطييب خاطر أصحابه، وممازحتهم بالحق والصدق.
11 -
جواز ترك الدابة رغبة عنها، إذا كان عندها ما تقتات منه.
12 -
مشروعية عمل الأسباب حتى للنتائج الخارقة للعادة، التي تقع من الأنبياء والصالحين، كقصة مريم في هزها النخلة، وضرب جمل جابر ليسير سيرًا ما كان يسيره حال قوته ونشاطه.
13 -
أنَّ تسليم المبيع من عُهدة البائع.
14 -
جواز البيع الصوري إذا كان يتوصل بعقده على مصلحة، ولا يترتب عليه مضرة، ولا مفسدة.
15 -
قوله: "فهو لك" ليس إنشاء وتمليكًا، وإنما إخبارًا عما في نفس الأمر وحقيقته.
16 -
جواز أخذ الهدية إذا لم يستشرف لها الإنسان، ولم يسألها، لاسيَّما من ولاة الأمور.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء هل يجوز للبائع أن يشترط نفعًا معلومًا في المبيع،
كسكنى الدار المباعة شهرًا؟ وهل يجوز -أيضًا- للمشتري أن يشترط على البائع نفعًا معلومًا في المبيع، كأن يشترط عليه حمل ما اشتراه إلى موضع معين، أو خياطة الثوب المبيع، ونحو ذلك؟
ذهب الأئمة الثلاثة إلى المنع، لِما رواه أبو داود (3405) والترمذي (1290) عن جابر "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلَاّ أن تُعلم".
وذهب الإمام أحمد إلى جواز شرطٍ واحدٍ فقط، كان جَمَع بين شرطين بطل البيع، ووافقه إسحاق، والأوزاعي، وابن المنذر.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى، أنَّ البيع صحيح مع الشروط العائدة للبائع أو المشتري، من منافع معلومة في المبيع والثمن، أو عائدة للمشتري لو كثرت. واختار هذه الرواية شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي -رحمهم الله تعالى-.
قال شيخ الإسلام: الأصل في العقود والشروط الصحة والجواز، ولا يحرم منها ويبطل إلَاّ ما دلَّ الشرع على تحريمه وإبطاله. وقال ابن القيم: كل شرط لم يخالف كتاب الله تعالى فهو لازم.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الشرطان اللذان باجتماعهما تترتب مفسدة شرعية هي مسائل العينة.
وأدلة هؤلاء المحققين هي:
1 -
حديث جابر الذي معنا في الباب.
2 -
"نهى عن الثنيا إلَاّ أن تعلم"، وهذه شروط واستثناءات معلومة.
3 -
قال صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم، إلَاّ شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالاً"، وغير ذلك من النصوص الشرعية والاعتبارات المرعية.
665 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: "أَعْتَقَ رَجُل مِنَّا عَبدًا لَهُ عَنْ دُبرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَا بِهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَباعَهُ" مُتَّفَقٌ عَليْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- عن دبر: بضم الدال المهملة وضم الباء الموحدة، هو نقيض القُبُل من كل شيء، والمراد هنا أنَّه أعتقه وعلَّق عتقه بموت السيد، فهذا يسمى مدبَّرًا، كما سيأتي إن شاء الله بيانه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
التدبير هو عتق الرقيق بعد موت المعتِق، بأن يقول السيد لرقيقه: أنتَ حر بعد موتي، سمي بذلك؛ لأنَّ العتق دُبُر الحيَاة.
2 -
في الحديث جواز التدبير وصحته، وهلذا حكم متَّفق عليه عند العلماء.
3 -
أنَّ الرقيق المدبَّر يعتق من ثلث مال المتوفى، لا من رأس مال التركة، لأنَّ حكمه حكم الوصية؛ لأنَّ كلاً منهما لا ينفذ إلَاّ بعد الموت، وهذا مذهب جمهور العلماء.
4 -
جواز بيع المدبر، فعند الإمامين: الشافعي وأحمد جواز بيعه مطلقًا عند الحاجة وعدمها لأنَّه لما جاز في سورة من صور البيع جاز في كل صوره، ولأنَّه شبيه بالوصية التي يجوز الرجوع عنها، ما دام الموصي في حال الحياة، وبعضهم قيد جواز بيع المدبر بالحاجة فقط؛ عملاً بهذا الحديث.
5 -
الواجب على من ليس عنده سعة في الرزق أن يجعل ذلك لنفسه ولمن
(1) البخاري (2141)، مسلم (997).
يعول، فهم أولى من نوافل الصدقات.
وفي الحديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يعول"[رواه مسلم].
أما من وسَّع الله عليه فليحرص على اغتنام الفرص، فليس له من ماله إلَاّ ما قدمه لآخراه:{مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]
6 -
البداءة بالأهم في الأعمال، وتقديم الواجبات على المستحبات.
7 -
كل عمل يُقدم عليه الإنسان وهو مخالف للشرع فهو باطلٌ لاغٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"[رواه مسلم].
فالأعمال التي ليست على وفق ما شرع الله من العبادات، وما أباح من المعاملات فهي باطلة.
***
666 -
وَعَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ فَأْرةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَمَاتَتْ فِيهِ، فَسُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فَقَال: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوه" رَواهُ البُخَارِيُّ.
وزَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ: "في سَمْنٍ جَامِدٍ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
زيادة أحمد والنسائي وتقييدها: "في سمن جامد" حكم عليها بالشذوذ الإمام البخاري وابن تيمية، وذلك لتفرد عبد الرحمن بن مهدي بها، ومخالفته لرواية الجماعة عن الإمام مالك.
وفي التلخيص الحبير لابن حجر: ذكر عدَّة روايات وطرق تقوي هذه الزيادة، وتجود الحديث، وكذلك في الفتح (9/ 669) لكن رجح فيه الوقف.
* مفردات الحديث:
- فأرة: بفتح الفاء تُهمز ولا تُهمز، الواحدة من الفار، وتقع على الواحدة من الذكر والأنثى، وهو جنس حيوان من الفصيلة الفأرية، ورتبة القوارض.
- سَمْن: بفتح السين وسكون الميم، هو سلاء الزبد، وهو ما يذاب ويخلص منه بعد إغلائه.
- جامد: جمد الماء، وكل سائل يجمد جمْدًا وجُمُودًا -من بابي نصر وكرم- يبس، وضد ذاب.
…
(1) البخاري (5540)، أحمد (7284)، النسائي (4186).
667 -
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَقَعَتِ الفَأَرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإنْ كانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوه" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.
وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ البُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ بِالوَهْمِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
قال الشيخ محمَّد زكريا الكاندهلوي في شرحه على الموطأ ما خلاصته: رواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بلفظ، "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
"، الحديث.
قال: حكى الترمذي عن البخاري أنَّه قال في رواية معمر: هذه خطأ، وقال ابن أبي حاتم: إنَّها وَهَم، وأشار الترمذي إلى أنَّها شاذة، وقد حكم البخاري وأبو حاتم عليه بالوهم، وقالوا: إنَّ معمرًا قد غلط على الزهري لأنَّ الصحيح هو الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة.
* مفردات الحديث:
- مائع: يقال: ماع الشيء يميع ميعًا: سال وجرى، فالمائع خلاف الجامد.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يدل الحديثان على نجاسة الفأرة، وأنَّها من الخبائث، فلقد جاء في الصحيحين أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها، وسمَّاها فاسقة.
2 -
أنَّ الفأرة إذا وقعت في سمن أو مائع، وماتت فيه نجَّست ما حولها مما وقعت فيه، فيجب إلقاؤها وإلقاء ما حولها.
(1) أحمد (6880)، أبو داود (3842).
قال الحافظ: لم يأت تحديد ما يُلقى، لكن أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء: أن يكون قدر الكف، وسنده جيد لولا أنَّه مرسل.
3 -
أنَّ بقية السمن أو اللبن أو نحوهما مما ليس حولها طاهرٌ، يجوز أكله واستعماله، فلا تسري النجاسة إلى كل أجزائه.
4 -
أنَّ ذكر السمن إنَّما هو واقعة عين لميمونة، وإلَاّ فالحكم عام في كل المائعات من دهنٍ، وزيتٍ، ولبنٍ، وعصيرٍ، وغير ذلك.
قال الحافظ: وإلحاق غير السمن به في القياس واضح.
5 -
قال الخطابي: في الحديث دليل على أن المائعات لا تزال بها النجاسة، وذلك أنَّها إذا لم تدفع عن نفسها النجاسات، فلأن لا تدفع عن غيرها أولى.
6 -
في الحديث دلالة على تحريم الأعيان النجسة، وأنه لا يجوز الاستفادة منها ولا استعمالها، وتقدم مثله في حديث جابر (661).
7 -
مفهوم قوله: "فماتت فيه" أنَّها لو سقطت فيه وخرجت حية أنَّ السمن لا ينجس، فإنَّ الفقهاء جعلوا الهرة وما دونها في الخلقة طاهرًا في حال الحياة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّها ليست بنجس، إنَّها من الطوَّافين عليكم" وقيس عليها الباقي.
8 -
قوله: "كلوه" ليس أمرًا، وإنما هو إباحة، وبيان حكم طهارته.
9 -
هذا الحكم ما لم يتغيَّر السمن بالنجاسة في ريحه، أو طعمه، أو لونه، فإن تغيَّر فإنَّه نجس لا يجوز استعماله ولا قربه، فإنَّ الماء وهو الطهور إذا تغيَّر طعمه أو ريحه أو لونه بالنجاسة نجس، فكيف بالمائعات التي لا تدفع عن نفسها نجاسة.
10 -
الحديث عام في السمن: قليله وكثيره، فليس فيه تقييد، فيبقى على عمومه أنَّ الفأرة إذا وقعت فيه وماتت ولم تغيره أنَّها تلقى، ويؤكل السمن، كثُر أو قلَّ.
11 -
وفي الحديث: دلالة على جواز ملامسة النجاسة لإزالتها، وتطهير المكان منها، ومن أدلة هذه المسألة مشروعية الاستنجاء، وغسل النجاسات.
12 -
رواية البخاري مطلقة تعم السمن المائع والجامد، ورواية أحمد والنسائي تقيد ذلك في السمن الجامد، ولكن محققي المحدثين كالبخاري وأبي حاتم حكموا على رواية "في سمن جامد"، بالوهم.
قال الترمذي: سمعت البخاري يقول: هو خطأ، والصواب: ما رواه الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنهم.
وقال الترمذي: هو حديث غير محفوظ.
قال ابن القيم: اختلف العلماء في هذا الحديث إسنادًا ومتنًا، ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يرَوْه صحيحًا، بل رأوه خطأ محضًا، فكثير من أهل الحديث جعلوا هذه الرواية:"إذا كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائبًا فلا تقربوه" موهومة معلولة، فإنَّ النَّاس إنما رووه عن سفيان عن الزهري من غير تفصيل، كما رواه البخاري وغيره.
***
668 -
وَعَنْ أَبِى الزُّبَيرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ وَالكَلْبِ، فَقَال: زَجَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ والنَّسَائيُّ، وزَادَ: "إلَاّ كلْبَ صَيْدٍ" (1).
ــ
* درجة الحديث:
زيادة النسائي ضعَّفها الإمام أحمد، واستنكرها النسائي، وضعَّفها النووي والسيوطي، ونقلا اتفاق المحدثين على ذلك.
* مفردات الحديث:
- السِّنَّوْر: بكسر السين المهملة وتشديد النون، هو الهِرّ والقطّ، وهو حيوان أليف من الفصيلة السنورية ورتبة اللواحم، والأنثى سنورة، جمعه سنانير.
- الكلب: كل سبع عقور، وغلب على هذا النابح بل صارت حقيقة لغوية فيه لا تحتمل غيره، الجمع: أكلب وكلاب، والأنثى كلبة، وجمعها كلاب وكلبات.
- زجر عن ذلك: يقال: زجره يزجره زجرًا: منعه ونهاه عنه، وأمره بالكفِّ عن بيعه، والانتفاع بثمنه بعنفٍ وشدةٍ.
- صيد: صاد الطير وغيره يصيده صيدًا واصطاده: اقتنصه وأمسكه بمشقة، فالطير مصيد، والرجل صائد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على النَّهي عن بيع السنور، وتحريم ثمنه وإن جاز اقتناؤه لغير حاجة، لعدم النَّهي عن ذلك، ولما في الصحيحين:"أنَّ امرأة دخلت النَّار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
(1) مسلم (1569)، النسائي (7/ 190).
ولأنَّها طاهرة في الحياة، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ومنهم الحنابلة، إذ صحة البيع إنما تكون في عين مالية، والسنور ليس بمال.
وذهب الجمهور إلى جواز بيعه، وحملوا الحديث على التنزيه ومكارم الأخلاق، وأنَّ هذا مما اعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة فيه، ولكنه خلاف الظاهرة لأنَّ النَّهي يقتضي التحريم، ففيه زجر، وهو أبلغ من النَّهي، وتكون العلة في تحريم بيعه لعدم النفع المقصود فيه.
2 -
يدل الحديث على تحريم ثمن الكلب وتحريم بيعه؛ لما في الصحيحين من حديث أبي مسعود "نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب"، والنَّص على تحريم ثمنه يدل باللزوم على تحريم بيعه؛ لأنَّه نجس العين، ولا ينتفع به إلَاّ لحاجة.
3 -
الحديث الذي في الصحيحين عام، ولكن عند النسائي زيادة تقدم حكمها وأنَّها ضعيفة:"إلَاّ كلب صيد".
ومن أجل هذه الزيادة اختلف العلماء في جواز بيعه.
فذهب الجمهور -ومنهم الإمامان: الشافعي وأحمد- إلى تحريم بيعه، وإن كان كلب صيدٍ، أو زرعٍ، أو ماشيةٍ، ويباح اقتناؤه لهذه الحاجة مع تحريم بيعه وثمنه، لأنَّ الأصل في النَّهي أنَّه للتحريم.
قال الخطابي: جواز الانتفاع بالشيء إذا كان لأجل الضرورة لم يكن يدل على جواز بيعه، كالميتة يجوز الانتفاع بها للمضطر ولا يجوز بيعها، وذهب أبو حنيفة إلى جواز بيعه مطلقًا، سواء جاز اقتناؤه، أو لا.
وقال عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي: ما أبيح من الكلاب فبيعه جائز، وما حرم اقتناؤه منها فبيعه محرَّم.
***
669 -
وَعنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "جَاءَتْنِي بَرِيْرَهُّ فَقَالَتْ: إِنِّي كاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسع أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوْقِيةٌ، فَأَعِيْنِيْنِي. فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَن أَعُدَّهَا لَهُمْ، وَيَكُونُ وَلَاؤُكِ لِي، فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيْرَةُ الَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إلَاّ أنْ يَكُونَ الوَلَاءُ لَهُمْ، فَسَمعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبرَتْ عَائشِةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: خُذِيْهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ، فَإنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ، فَفَعَلَتْ عَائشِةُ رضي الله عنها، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَحَمِد اللهَ، وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أمَّا بَعْدُ: فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، مَا كانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كتَابِ اللهِ فَهُوَ باطلٌ، وَإِنْ كانَ مِائه شَرْطٍ، قَضاءُ اللهِ أحَقٌ، وَشَرْطُ اللهِ اوْثَقُ، وَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: "اشْتَرِيْهَا، وَاعْتِقِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءُ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بريرة: مولاة عائشة، كانت تحت زوجها مغيث، وكان مولى مثلها، فلما عتقت خيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم فاختارت فراقه.
- كاتبتُ أهلي: الكتابة مشتقة من الكتب وهو الجمع؛ لأنَّ نجوم أقساطها
(1) البخاري (2168)، مسلم (1504).
جمعت على الرقيق، أو من المكاتبة، وهو العقد بينها وبين مواليها من الأنصار.
- أواق: تقدم أنَّ الأوقية أربعون درهمًا إسلاميًا، وأنَّ الدرهم نصف مثقال وخمس مثقال، والمثقال (4.25) غرامات.
أواق: جمع أوقية، وأصلها أواقي بتشديد الياء، فحذفت إحدى الياءين تخفيفًا، والثانية على طريقة قاضٍ.
- ولاؤك لي: أي ولاء عتقك يكون لي.
- ما بال: جواب أما، والأصل أن يكون بالفاء، ولكنها قد تحذف، ومعنى "بال" يعني ما حال رجال، وشأنهم.
- رجال: لإشعار النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ قصة المبايعة كانت مع رجال، وفي بعض روايات البخاري:"ما بال أقوام" وفي بعضها: "ما بال أناس".
- ليست في كتاب الله: أي ليست الشروط في حكم الله تعالى وقضائه في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هي مما يخالف الكتاب والسنة والإجماع.
- ما كان: كلمة "ما" شوطية، فلذلك دخلت الفاء في جوابها، وهو قوله:"فهو باطل".
- باطل: في اللغة: ذاهبٌ ضائعٌ لاغٍ.
وشرعًا: ما وقع غير صحيح من أصله، فلا نفاذ له.
- وإن كان مائة شرط: لم يقصد بالمائة التحديد، وإنما قصد التوكيد، والمبالغة للعموم، يعني أنَّ الشروط التي لم تشرع باطلة، ولو كثرت.
- أحق وأوثق: جاءا على صيغة التفضيل، وليسا على بابهما، وإنما هما صفتان مشتبهتان، فالمراد: إنَّ قضاء الله، وشوط الله هما الحق القوي.
- أوثق: يقال: وثُق الشيء يوثُق وثاقة: قوي وكان محكمًا، والمعنى: أقوى وأشد استحكامًا.
- إنما الولاء لمن أعتق: هذه صيغة حصر: بأنَّ ولاء العتاقة، وما يترتب عليه من عصوبةٍ، ومناصرةٍ، وتوارثٍ، ونحوها هي لمن أسدى النعمة على الرقيق بالعتق، وصار سببًا في حريته.
قوله: "أحق وأوثق"، و"لمن أعتق"، فيه سجع، وهو نوع من أنواع البديع، وهو من محسِّنات اللفظ إذا لم يكن فيه تكلف، وإنَّما نهى عن سجع الكهَّان لما فيه من التكلف.
- الولاء: يقال: والى فلانًا موالاة: ناصره وأعانه، فالولاء بفتح الواو ممدود لغة: القرابة.
وشرعًا: عصوبة سببها نعمة المعتِق على رقيقه بالعتق.
* ما يؤخذ من الحديث:
هذا الحديث جليل عظيم الفائدة؛ لما اشتمل عليه من الأحكام، ولِما حوى من الفوائد والفرائد.
وقد أفرده بعض العلماء بالتصنيف، واستخرجوا منه ما يزيد على أربعمائة فائدة، ونحن نجمل أهم الأحكام الظاهرة في:
1 -
خلاصة القصة أنَّ أمةً لأحد بيوت أهل المدينة، يقال لها "برِيرة" اشترت نفسها من أسيادهم بتسع أواق فضة، لهم كل عام أوقية واحدة، فجاءت تستعين عائشة على وفاء دَيْنها، فقالت لها عائشة: اذهبي إلى أسيادك فأخبريهم أني مستعدة أن أدفع أقساط دين الكتابة مرَّة واحدة، ليكون ولاؤك خالصًا، فأخبرتهم فأبوا إلَاّ أن يكون لهم الولاء، فعلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال لعائشة: اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنَّما الوَلاء لمن أعتق".
ثم خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس، ونهاهم عن الشروط المحرَّمة، وأخبرهم بأنَّ أي شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وبيَّن لهم أنَّ الولاء لمن أعتق.
2 -
مشروعية مكاتبة الرقيق، لأنَّها طريق إلى تخليصه من الرق، الذي هو من
أفضل الأعمال الصالحة.
3 -
أنَّ دين الكتابة يكون مؤجلاً يحل قسطًا قسطًا؛ لأنَّ الرقيق حين عقد الكتابة لا يملك شيئًا، فصار التأجيل فيها لازمًا، ومن هذا أخذ العلماء معناها واشتقاقها.
4 -
جواز تعجيل تسليم الأقساط المؤجلة، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ عائشة على استعدادها لدفعها لهم معجلةً.
5 -
أنَّ الولاء لمن أعتق؛ لأنَّه لُحْمة كَلُحمَة النسب، أما اشتراطه للبائع فباطل.
6 -
أنَّ اشتراطه من البائع لا يؤثر في صحة عقد البيع، إنما الذي يَبْطل: الشرطُ وحده، لمخالفته مقتضى العقد.
7 -
استحباب تبيين الأحكام عند المناسبات، وأن يكون في المجامع الحافلة، كخطب الجمعة، والمجامع الكبيرة، ووسائل الإعلام، من الصحف، والإذاعة، والتلفاز وغير ذلك.
8 -
استحباب افتتاح الخطب، بحمد الله والثناء عليه، لتحل بها البركة.
9 -
استحباب الابتداء بـ"أما بعد"؛ لأنَّها يؤتى بها في الكلام، للانتقال من أسلوب إلى غيره، ومن موضوع إلى آخر.
10 -
أنَّ كل شرط يخالف حكم الله فهو باطل مردود، وإن أكثر، فليس المائة في الحديث بعدد مقصود، وإنما المراد به التكثير والمبالغة، كقوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
11 -
أنَّ حدود الله وأحكامه وأقضيته وشروطه هى المتبعة، وما عداها فلا يلتفت إليه، "فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق".
12 -
أنَّ العتق بأي طريق يسبب الولاء، سواء كان منجزًا، أو مكاتباً، أو غير ذلك من طرقه، لعموم "الولاء لمن أعتق".
13 -
أنَّ الشروط التي على خلاف مقتضى العقد فاسدة بنفسها، ولكنها غير
مفسدة للعقد.
14 -
قوله: "شروطًا ليست في كتاب الله": قال ابن القيم: ليس المراد به القرآن قطعًا، فإنَّ أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل علمت من السنة، فعلم أنَّ المراد بكتاب الله حكمه، فإنَّه يطلق على كلامه، وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنَّ كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له، فيكون باطلاً، والصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله، واعتبار كل شرط لم يحرمه الله، ولم يمنع منه.
15 -
الولاء عصوبة سببها نعمة المُعتِق على عتيقه، ولذَا جاء في الحديث الذي رواه الحاكم (7990) وابن حبان (4950) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"الولاء لُحْمَة كلُحمة النسب، لا يباع، ولا يوهب".
يرث به المعتِق -بكسر التاء- وترث به عصبة المعتِق المتعصبون بأنفسهم، كما سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى.
16 -
أشكل على كثير من العلماء إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بشراء بريرة، واشتراط الولاء لهم، وهو شرط باطل، وأحسن جواب عن ذلك: أنَّهم يعلمون فساد الشرط، وأقدموا عليه، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم بنقيض قصدهم، فأمهلهم يمارسون هذا الشرط، ثم أعلن فساده، وعدم نفوذه، وغضب وزجرهم عن التلاعب بأحكام الله، إلَاّ أنَّه صلى الله عليه وسلم جعل وعظه وزجره عامًّا ليكون؛ ردعًا لهم ولغيرهم، كما هي عادته في مثل هذه المواقف.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل الأصل في العقود والشروط الحظر إلَاّ ما ورد الشرع بإجازته، أو أنَّ الأصل فيها الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلَاّ ما دلَّ الشرع على تحريمه وبطلانه؟
قال شيخ الإسلام: إنَّ القول الأول هو قول الظاهرية، وكثير من أصول
أبي حنيفة، وكثير من أصول الشافعي، وأصول الطائفة من أصحاب مالك وأحمد.
فأهل الظاهر لا يصححون عقدًا، ولا شرطًا إلَاّ ما ثبت جوازه بنصٍّ، أو إجماعٍ.
أما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنَّه لا يصح من العقود والشروط ما يخالف مقتضى العقد، وكذلك الشافعي يوافق أبا حنيفة على أنَّ كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع لدليل خاص.
وكذلك طائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي.
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، فيتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس، ولما يفهمونه من معاني النصوص، التي ينفردون بها عن أهل الظاهر.
وحجة هؤلاء:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فكل شرط ليس في القرآن، ولا في السنة، ولم يُجْمِع عليه العلماء فهو مردود.
2 -
قياسهم جميع الشروط التي تنافي موجَب العقد على اشتراط الوَلاء؛ لأنَّ العامة فيه كونه مخالفًا لمقتضى العقد؛ لأنَّ العقود توجب متقضياتها بالشرع، فيعتبر تغييرًا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات، وهذه نكتة القاعدة، وهي أنَّ العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع.
أما دليل القول الثاني: فقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود، والمواثيق، والشروط، والعقود، وأداء الأمانة، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، عُلِم أنَّ الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح
إلَاّ ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصوده العقد هو الوفاء به.
وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"[قال الترمذي: حسن صحيح]، وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة.
فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبًا، ولا حرامًا، فما كان مباحًا بدون الشرط فالشرط يوجبه.
والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء المحدثين، أنَّ اشتراط الزيادة واشتراط النقص جائز، ما لم يمنع منه شيء.
قال شيخ الإسلام: وتصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود، وسواء اشترط على البائع فعلاً أو تركًا في البيع، مما هو مقصود للبائع، أو المبيع نفسه، فيصح البيع والشرط.
وقال ابن القيم: الضابط الشرعي أنَّ كل شرط خالف حكم الله تعالى وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف فهو لازم، فإنَّ المسلمين على شروطهم إلَاّ شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرم حلالاً، وهو اختيار شيخنا ابن تيمية رحمه الله.
* قرار هيئة كبار العلماء بشأن صحة الشرط الجزائي ولزومه:
وملخص قرارهم ما يلي:
إنَّ الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر، يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالتزام الموجب له، يعتبر شرعًا، فيكون العذر مسقطًا لوجوبه حتى يزول، وإذا كان الشرط الجزائي كثيرًا عرفًا بحيث يراد به التهديد المالي، ويكون بعيدًا عن مقتضى القواعد الشرعية، فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف، على حسب ما فات من منفعة، أو لَحِق من مضرة، ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي، عن طريق أهل النظر والخبرة؛ عملاً بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وبالله التوفيق.
* قرار مجمع الفقه الإسلامى بشأن موضوع الشرط الجزائي:
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادي الآخرة 1421 هـ، إلى غرة رجب 1421 هـ (23 - 28 سبتمبر 2000).
بعد اطِّلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "الشرط الجزائي"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع، بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرَّر ما يلي:
أولاً: الشرط الجزائي في القانون: هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شُرِط له عن الضرر الذي يلحقه، إذا لم يُنَفِّذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه.
ثانيًا: يؤكد المجلس قرارته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السَّلَم، رقم:(85)(2/ 9)، ونصه:"لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلَّم فيه؛ لأنَّه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير" وقراره في الاستصناع رقم: (65)، (3/ 7) ونصه:"يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًا بمقتضى ما اتَّفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة" وقراره في البيع بالتقسيط رقم: (51)(2/ 6) ونصه: "إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه. أي زيادة على الدين، بشرط سابقٍ أو بدون شرط، لأنَّ ذلك ربًا محرم".
ثالثًا: يجوز أن يكون الشرط الجزائي مقترنًا بالعقد الأصلي، كما يجوز أن
يكون في اتفاق لاحق قبل حدوث الضرر.
رابعًا: يجوز أن يشترط الشرط الجزائي في جميع العقود المالية، ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا، فإنَّ هذا من الربا الصريح.
وبناءً على هذا، فيجوز هذا الشرط مثلاً في عقود المقاولات بالنسبة للمقاول، وعقد التوريد بالنسبة للمورد، وعقد الاستصناع بالنسبة للصانع، إذا لم ينفذ ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه.
ولا يجوز مثلاً في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية، سواء كان بسبب الإعسار، أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه.
خامسًا: الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لَحِقَ المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي، أو المعنوي.
سادسًا: لا يُعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شُرط عليه أنَّ إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته، أو أثبت أنَّ من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد.
سابعًا: يجوز للمحكمة بناءً على طلب أحد الطرفين أن تُعدِّل في مقدار التعويض، إذا وجدت مبررًا لذلك، أو كان مبالغًا فيه.
* توصيات:
يوصي المجمع بعقد ندوة متخصصة لبحث الشروط، والتدابير التي تقترح للمصارف الإسلامية، لضمان حصولها على الديون المستحقة لها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
***
670 -
وَعَن ابْن عُمَرَ -رَضِىَ اللهُ عنْهُمَا- قَالَ: "نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهاتِ الأوْلادِ، فقال: لا تُباعُ، وَلا تُوهَبُ، وَلا تُورثُ، يَسْتَمْتِعُ بِهَا مَا بَدَا لَهُ، فَإذَا مَاتَ فَهِيَ حُرّةٌ" رَوَاهُ مَالكٌ وَالبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: رَفَعَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَوَهِمَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
أثر موقوف صحيح.
رواه الدارقطني وقال: الصحيح وقفه على عمر، ومثله قال البيهقي وعبد الحق، وقال ابن دقيق العيد: المعروف فيه الوقف، وفي الباب آثار عن الصحابة.
وقال ابن عبد الهادي في المحرر: رواه مالك في الموطأ، وقال غلط فيه بعض الرواة فرفعه.
* مفردات الحديث:
- أمهات الأولاد: أم الولد: هي من كانت رقيقة فولدت من مالكها مولودًا حيًّا أو ميتًا، ولو لم يكن إلَاّ صورة خفية من إنسان، فإنها تعتق بموت سيدها.
- ما بدا له: بدا الأمر يبدو بُدُوًّا: ظهر، أي إلى متى شاء.
- ما: ظرفية مصدرية، وهي وما دخلت عليه في تأويل "مدة بدوه له".
…
(1) مالك (2/ 776)، البيهقي (10/ 342).
671 -
وَعنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنا أُمَّهَاتِ الأَوْلَادِ، وَالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ لَا يرَى بذلِكَ بأْسًا" رواه النَّسَائيُّ وابنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
قال المؤلف: رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني، وصحَّحه ابن حبان، وقال في التلخيص: وأخرجه أحمد والشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي والحاكم، ورواه الحاكم من حديث أبي سعيد، وإسناده ضعيف.
قال البيهقي: وليس في شيء من الطرق أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلع على بيع أمهات الأولاد، وأقرَّهم عليه.
وتعقَّبه ابن حجر بأنَّه روى ابن أبي شيبة عن جابر ما يدل على ذلك.
وقال ابن عبد الهادي: إسناده على شرط مسلم.
وصحح الحديث الألباني في إرواء الغليل بمجموع طرقه، وأيضًا لا يشترط لإقرار الحكم اطلاعه صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الله مطَّلع عليه، ولا يقر نبيه على خلاف ما شرعه.
* مفردات الحديث:
- سرارينا: مفردها سُرِّية، بضم السين وكسر الراء وتشديدها ثم ياء مفتوحة آخرها تاء التانيث، هي الجارية المملوكة.
- بأسًا: "لا يرى بذلك بأسًا" أي إثمًا وحرجًا، قال في المحيط: قيل المعنى: لايؤجر عليه، ولا يؤثم به".
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
يدل أثر عمر رضي الله عنه على تحريم بيع أمهات الأولاد، وتحريم نقل
(1) النسائي في الكبرى (3/ 199)، ابن ماجه (2517)، الدارقطني (4/ 135)، ابن حبان (1215).
الملك فيهن بأي طريقة ووسيلة، سواء كان بيعًا، أو هبة، أو إرثًا، وإنما تبقى أم ولد، تأخذ من أحكام الأحرار عدم جواز التصرف فيها بما ينقل الملك، أو يسببه، وتأخذ من أحكام الرقيق جواز الخدمة، والاستمتاع.
2 -
أنَّها بعد موت سيدها تكون حرَّة تامة الحرية، تملك جميع تصرفاتها، فبدأ عتقها بولادتها من سيدها، وبعد موته كمل عتقها.
3 -
أما حديث جابر فيدل على جواز بيع أمهات الأولاد، وأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك ويقرهم عليه.
4 -
جمهور العلماء أخذوا بما نهى عنه عمر، واعتبروه إجماعًا من الصحابة، وأيدوه بما رواه أحمد وابن ماجه والحاكم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دُبُره".
5 -
أجابوا عن حديث جابر بأنَّه مجرد إقرار على فعلٍ، وقته لا يعرف بالتحديد، وتتطرق إليه احتمالات كثيرة.
6 -
قال فقهاؤنا: إذا أولد حرٌّ أمته ولدًا حيًّا أو ميتًا، قد تبيَّن فيه خلق الإنسان صارت أم ولدٍ له، تعتق بموته من كل ماله، ولو لم يملك غيرها، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة؛ لحديث ابن عبَّاس يرفعه:"من وطيء أمته فولدت فهي معتقة عن دبر منه"[رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني].
وذكرت أم إبراهيم عند النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعتقها ولدها".
وهو قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومذهب جماهير العلماء.
7 -
قال ابن رشد: الثابت عن عمر أنَّه قضى بأنَّ أم الولد لا تباع، وأنَّها حرَّة من رأس مال سيدها إذا مات، وهو قول أكثر التابعين، وجمهور فقهاء الأمصار، وحكى ابن عبد البر والإسفراييني والباجي والبغوي وغيرهم الإجماع على أنَّه لا يجوز بيعها، ولا نقل الملك فيها.
***
672 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بيْع فَضْلِ المَاءِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: "وَعنْ بيْع ضِرَابِ الجَمَلِ"(1).
673 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ. (2)
ــ
* مفردات الحديثين:
- فضْل الماء: هو الماء الزائد عن حاجة الإنسان.
- ضِراب الجمل: بكسر الضاد المعجمة، وهو ماء الفعل الذي يقذفه في رحم أنثاه، والمنهي عنه أخذ الأجر عليه.
- عَسب: بفتح العين المهملة وسكون السين المهملة وآخره باء موحدة، المراد بالضراب والعسب هو ماء الفحل، الذي يقذفه في رحم أنثاه، وقيل: عسب الفعل الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفعل، وهذا المعنى أعدل، لأنَّ نفس الضراب غير منهي عنه.
قال أبو عبيد: العسب في الحديث الكراء، ويدل على صحة ما قاله أبو عبيد رواية الشافعي:"نهى عن ثمن بيع عسب الفحل".
قال في القاموس: ومورد النَّهي في الحديث الأجرة التي تؤخذ على ضِراب الفعل.
- الفَحل: هو الذكر من كل حيوان، جملاً كان، أو خروفًا، أو تيسًا، أو فرسًا، أو غير ذلك.
(1) مسلم (1565).
(2)
البخاري (2284).
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديث رقم (672) دليل على تحريم بيع فضل الماء، وأنَّ الواجب بذل الزائد منه لمحتاجه.
2 -
الماء الواجب بذل زائده هو ما كان نقع بئرٍ، أو نبع عينٍ، أو نهرًا جارٍ، أو مشربًا من وادٍ، ولو كان ذلك في أرض مملوكة، ما دام الماء زائدًا عن حاجة صاحب الأرض، وليس عليه ضرر كبير من دخول المُسْتَقِين أَرْضَه.
قال في الشرح الكبير: أما الأنهار النابعة في غير ملك، فلا تملك بحال، وأما ما ينبع في ملكه كالبئر، فنفس البئر مملوكة لمالك الأرض، والماء غير مملوك في ظاهر المذهب، والوجه الثاني: يملك، والخلاف إنما هو قبل حيازته، أما بعدها فلا ريب أنَّه يملكه حائزه.
3 -
أما المياه المحوزة بالقِرَب والأواني والخزانات والبِرك فهي مياه مملوكة، لا يحل أخذها إلَاّ بإذن صاحبها، ولا يجب على صاحبه بذله إلَاّ لمضطرٍّ.
4 -
قال في الإقناع وشرحه: وإذا حفر بئرًا بأرض مَوَات لنفع المجتازين، فالناس مشتركون في مائها، والحافر لها كأحدهم في السقي والزرع والشرب؛ لأنَّه لم يخُصَّ بها نفسه، ولا غيره.
وإن حفرها ليرتفق هو بمائها لم يملكها، لأنَّه عازم بانتقاله عنها، وتركها لمن ينزل منزله، بخلاف الحافر للتملك فهو أحق بمائها ما قام فيها؛ لسبقه، وعليه بذل الفاضل من الماء، وبعد رحيله تكون لسابلة المسلمين، فإن عاد الحاضر إليها كان أحق بها من غيره.
5 -
يدل الحديمث رقم (673) على النَّهي عن بيع ضراب الفعل، ووجوب بذله مجانًا، ذلك أنَّ في أخذ الأجرة على هذه النطفة دناءة، وضعة نفس، فهو من الأمور التي ينبغي أن يجري فيها الإحسان، والتَّعاون بين الناس، وهذا مذهب جمهور العلماء.
674 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنْ بيعِ حَبل الحَبلَةِ -وَكَانَ بَيْعًا يَبْتَاعُهُ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ- كَانَ الرَّجلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إِلَى أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- حبل: بفتحتين، قال النووي: وإسكان الباء غلط، وهو مصدر أريد به الجنين الموجود في بطن أمه حين العقد، قال في المصباح: قال بعضهم الحبل مختص بالآدميات دون البهائم والشجر، فيقال فيه:"حمل" بالميم.
- الحَبلَة: بفتحتين، والمراد حمل الحمل أي إنتاج الجنين، فهو ولد الولد الذي في بطن الناقة، وأدخلت عليه الهاء للمبالغة.
- الجاهلية: يطلق هذا الاسم على الزمن الذي قبل الإسلام، وأصله مشتق من الجهل، لغلبته عليهم، أي الطيش وسرعة الغضب، والانفعال، والعدوان.
- الجَزُور: بفتح الجيم المعجمة، هو البعير ذكرًا كان أو أنثى، وجمعه جزر وجزائر.
- تُنتج الناقة: بضم التاء المثناة الفوقية وسكون النون، هذا الفعل على صيغة المبني للمجهول دائمًا، ومعناه إلى أن تلد، والناقة هي الأنثى من الإبل.
- تنتج التي في بطنها: فالمراد به النَّهي عن بيع النتائج، أي بيع أولاد أولادها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النَّهي عن بيع حبل الحبلة، فسَّره هنا بأن يبيع الرجل الجَزور بثمن مؤجل
(1) البخاري (2143)، مسلم (1514).
يحل عند حصول نتاج النتاج.
2 -
خصت هلذه الصورة من البيع؛ لأنَّها كانت بيعًا يبيع به أهل الجاهلية، فيجعلون أجل حل الدين بهذا التحديد.
3 -
أما تحريمه فقد جاء من أنَّه من بيوع الغررة لجهالة الأجل، وقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وقال صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، إلى أجل معلوم"[رواه البخاري].
ولأنَّ جهالة الأجل تفضي إلى الخصام والنزاع، والإسلام جاء بالمحبة والمودة والوئام.
4 -
فسَّر بعضهم بيع حبل الحبلة بأنَّه بيع نتاج النتاج.
وعلة التحريم هنا أعظم من الأولى، ففي هذا جهالة المبيع، فلا يعلم قدره ونوعه، وفيه جهالة الأجل؛ لأنَّه أجل غير محدد بزمن قد يطول وقد يقصر، وقد يتخلف فلا يوجد أصلاً.
5 -
النَّهي على كلا التفسيرين للتحريم، ويفيد فساد العقد المنهي عنه.
***
675 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ بيْع الوَلَاءِ، وَعَنْ هِبتَهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الوَلاء: بفتح الواو ممدودًا، هو لغةً: السلطة والنصرة، والمراد به هنا ولاء العتاقة، الذي سببه نعمة المعتِق على من أعتقه بالعتق، فهو لُحْمَة كلُحمة النسب، لا يباع ولا يورث، وإنما يورث بسببه، واللُّحمة بالضم القرابة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الولاء: عصوبة سببها نعمة المعتِق على عتيقه بالإعتاق، لأنَّ العبد كان في حال الرقّ كالمعدوم، فلا يملك ولا يتصرف، فلما أعتقه سيده صيَّره موجودًا كامل الوجود، كما أنَّ الولد كان معدومًا، والأب تسبب في وجوده، فكان للسيد فضل الإعتاق.
2 -
يرث به المعتق -بكسر التاء- ذكرًا كان أو أنثى، كما يرث به عصبته المتعصبون بأنفسهم، إذا لم يوجد للعتيق قرابة وارثة من النسب.
3 -
جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وابن حبان أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الولاءُ لُحْمَة كلُحمة النسب، لا يباع ولا يوهب".
فهو كالنسب لا يزول بالإزالة، ومن هذا فلا يتصور بيعه، ولا نقل الملك فيه بأي طريق، إذ لا يمكن ذلك، لأنَّه كالنسب الذي جاء فيه حديث:"لعن الله من انتسب إلى غير أبيه".
4 -
النَّهي في الحديث يفيد التحريم، ويقتضي فساد العقد المنهي عنه، فلا
(1) البخاري (6756)، مسلم (1506).
يصح، ولا ينفذ لو فعل.
5 -
النَّهي والتحريم ليس خاصًّا في صورتي البيع والهبة، وإنَّما هو محرَّم وفاسد بكل صورة من صور نقل الحق فيه.
***
676 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَن بيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بيْع الغَرَرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بيع الحَصاة: بفتح الحاء، واحد الحصى، من باب إضافة المصدر إلى نوعه، وليس من إضافة المصدر إلى مفعوله، وصفة بيع الحصاة: هو أن يقول البائع للمشتري: ارم هذه الحصاة، فأيَّ ثوب تقع عليه فعليك بكذا، أو أن يبيعه من أرضه ما انتهى إليه رمي الحصاة.
- الغرر: بفتحتين، من إضافة المصدر إلى نوعه، من غرَّ يغِر بالكسر، هو الخطر. قال ابن عرفة: بيع الغرر ما كان ظاهره يغرر، وباطنه مجهول، فهو مجهول العاقبة، وقد يكون جهل عاقبته إما لعدمه كبيع حبل الحبلة، وإما للعجز عنه كالجمل الشارد، أو المجهول المطلق، أو المعين المجهول قدره، أو جنسه، أو صفته، فالغرر يجمع وجوهًا كثيرة من المخاطر، وأصل الغرر النقصان، من قول العرب: غارت الناقة: إذا نقص لبنها، وغارت البئر: إذا قلَّ ماؤها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النَّهي عن بيع الحصاة، مما يقتضي تحريمه وعدم صحته.
2 -
للعرب في الجاهلية أنواع من صور البيع يتخذونها في أسواقهم، وأكثرها مما يغبن فيه البائع أو المشتري، ولذا حرمها الإسلام، فمنها بيع الحصاة، وله صور منها:
(1) مسلم (1513).
- أن يقول البائع للمشتري: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوبٍ وقعت فهو لك بكذا.
أن يقول البائع: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مباع منك بكذا، فيجعل الرمي بالحصاة نفسه بيعًا.
- أن يعترض القطيع من الغنم -مثلاً- فيأخذ حصاة، ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا.
- أن يقول: بعتك على أنَّك بالخيار إلى أن أرمى بهذه الحصاة، فإذا نبذتها وجب البيع.
- أو أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة.
وهكذا من الصور المتعددة، وكلها بيوعات جاهلية، فيها غررٌ، ومخاطرةٌ، وجهالةٌ، لذا جاء الإسلام بتحريمها.
3 -
الحديث يفيد النَّهي عن بيع الغرر، والنَّهي يقتضي التحريم، كما يقتضي فساد العقد.
4 -
الغرر: هو ما لا تعلم عاقبته من الخطر، مما طوي عنك علمه، وخفِي عليك أمره.
5 -
قد جاء النَّهي عن الغرر في أحاديث كثيرة.
6 -
قال النووي: النَّهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع العبد الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لا يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع ثوب من الأثواب، وشاة من الشياه، ونظائر ذلك، وكل ذلك باطلٌ؛ لأنَّه غرر كبير من غير حاجة.
7 -
قال شيخ الإسلام: وأما الغرر: فالأصل في ذلك أنَّ الله حرَّم في كتابه أكل
أموال الناس بالباطل، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، والغرر هو المجهول العاقبة، فمن أنواعه:
- بيع حَبَل الحَبَلَة.
- بيع الملاقيح.
- بيع المضامين.
- بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها.
- بيع الملامسة والمنابذة، ونحو ذلك من أنواعه وصوره.
والغرر ثلاثة أنواع:
- بيع المعدوم كحَبَل الحَبَلَة.
- بيع المعجوز عن تسليمه كالجمل الشارد.
- بيع المجهول المطلق، أو المجهول الجنس، أو المجهول القدر.
قال النووي: واعلم أنَّ بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة، وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، هي داخلة في النَّهي عن بيع الغرر، وللكن أفردت بالذكر ونهي عنها؛ لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ثبت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين تحريم الميسر، وهو نوعان:
الأول: المغالبات والرهان، فهذا كله حرام، لم يبح منه الشارع إلَاّ ما كان معينًا على طاعته، والجهاد في سبيله، بأخذ العوض على مسابقة الخيل، والركاب، والسهام.
الثاني: الميسر في المعاملات، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وهذا شامل للبيع بأنواعه، والإجارات، فالشيء الذي يشك في حصوله، أو تجهل حاله، وصفاته المقصودة داخل في الغررة لأنَّ أحد العاقدين إما أن يغنم،
أو يغرم، فهذا خطر كالرهان.
ولأجل هذه القاعدة اشترط الفقهاء في البيع أن يكون الثمن معلومًا، والمثمن معلومًا، لأنَّ جهالة أحدهما داخلة في الغرر.
* فوائد:
الأولى: ما تدعو الحاجة إليه من الغرر:
قال شيخ الإسلام: رخَّص الشارع فيما تدعو الحاجة إليه من الغرر، كبيع العقار بأساساته، والحيوان الحامل، والثمرة بعد بدو صلاحها، وبيع ما المقصود منه مغيَّب في الأرض، كالبصل والفجل ونحوهما قبل قلعه.
وتختلف مشارب الفقهاء في هذا:
فأبو حنيفة والشافعي أشد الناس قولاً في الغرر، وأصول الشافعي المحرَّمة أكثر من أصول أبي حنيفة.
أما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فإنَّه يجوز بيع هذه الأشياء، وجميع ما تدعو الحاجة إليه، أو يقل غرره، فيجوز بيع المقاثي جملة، وبيع المغيبات في الأرض، كالجزر والفجل والبصل ونحو ذلك، وأحمد قريب منه في ذلك.
والناس محتاجون إلى هذه البيوع، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع؛ لأجل نوع من الغرر.
وهو أصح الأقوال، وعليه يدل غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلَاّ به.
وكل من شدَّد في تحريم ما يعتقده غررًا فإنَّه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرَّمه الله، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال، ومفسدة التحريم لا تزول بالحيلة.
الثانية: التأمين التجاري:
تعريفه: هو عقد يُلزم فيه أحد الطرفين وهو "المؤمِّن" أن يؤدي إلى الطرف الآخر وهو "المؤمَّن له" عوضًا ماديًا يتفق عليه، يُدْفع عند وقوع الخطر، وتحقق الخسارة المبينة في العقد، وذلك نظير رسم يسمى "قسط التأمين" يدفعه المؤمَّن له حسب ما ينص عليها عقد التأمين، إذًا فالمتعاقدان هما:
- المؤمِّن: شركة أو هيئة.
- المؤمَّن له: دافع أقساط التأمين.
حكمه:
قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: التأمين مخالف للشريعة الإسلامية؛ لما يشتمل عليه من أمور هي:
1 -
غررٌ وجهالةٌ ومخاطرةٌ، مما يكون من قِبل أكل أموال الناس بالباطل.
2 -
يشبه الميسر؛ لأنَّه يستلزم المقامرة.
وبالجملة .. فكل من تأمل هذا العقد وجده لا ينطبق على شيء من العقود الشرعية، ولا عبرة بتراضي الطرفين، ولكن العبرة بتراضيهما إذا كانت معاملتهما قائمة على أساس من العدالة الشرعية.
* قرار هيئة كبار العلماء بشأن التأمين التجاري:
أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارًا عن التأمين التجاري برقم (55) وتاريخ 4/ 1397/4 هـ مطولاً، لا يتَّسع المقام لنقله كله، ولذا أكتفي بنقل فقرات منه، وللقاريء الرجوع إليه، جاء فيه ما يلي:
أولاً: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاجتماعية، المشتملة على الغرر الفاحش، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
ثانيًا: هو ضرب من ضروب المقامرة، لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغُرم بلا جناية، ومن الغُنم بلا مقابل أو مقابل، غير
مكافىء.
ثالثًا: من الرهان المحرم الذي لم يبح منه إلَاّ ما فيه نصرة للإسلام، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم الرهان في الخف والحافر والنَّصل، وليس التأمين من ذلك. اهـ ملخصًا.
* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن التأمين التجاري:
جاء فيه:
إنَّ عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت، الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري، عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرامٌ شرعًا.
* قرار الميجمع الفقهي الإسلامي بشأن التأمين بشتى صوره وأشكاله:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإنَّ المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة، بعدما اطَّلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعدما اطَّلع أيضًا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض، بتاريخ 4/ 4/ 1397 هـ من التحريم للتأمين بأنواعه.
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك، قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه، سواء كان على النفس، أو البضائع التجارية، أو غير ذلك من الأموال.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء، من جواز التامين التعاوني بدلاً من التأمين التجاري المحرَّم، والمنوه عنه آنفًا، وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة.
* تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين:
بناء على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شعبان 1398 هـ، المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد محمود الصواف، والشيخ محمد بن عبد الله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله.
وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها، وبعد المداولة أقرَّت ما يلي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه ..
أما بعد:
فإنَّ المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10/ شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي، نظر في موضوع التأمين بأنواعه، بعدما اطَّلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعدما اطَّلع أيضًا على ما قرَّره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتاريخ 4/ 4/ 1397 هـ بقراره رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه.
وبعد الدارسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع، عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا، تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه، سواء كان على النفس، أو البضائع التجارية، أو غير ذلك للأدلة الآتية:
الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية، المشتملة على الغرر الفاحش؛ لأنَّ المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطى، أو يأخذ، فقد يدفع قسطًا أو قسطين، ثم تقع الكارثة، فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلاً، فيدفع جميع الأقساط، ولا يأخذ شيئًا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ، بالنسبة لكل عقد
بمفردته، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم النَّهي عن بيع الغرر.
الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة، لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية، أو تسبب فيها ومن الغنم بلا مقابل، أو مقابل غير مكافيء فإنَّ المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارًا، ودخل في عموم النَّهي عن الميسر في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] والآية بعدها.
الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ، فإنَّ الشركة إذا دفعت للمستأمن، أو لورثته، أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ، واذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط، وكلاهما محرَّم بالنص والإجماع.
الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرَّمة، لأنَّ كلا منها فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلَاّ ما فيه نصرةٌ للإسلام، وظهورٌ لأعلامه بالحجة والسنان، وقد حصر النَّبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا سبق إلَاّ في خف أو حافر أو نصل"، وليس التأمين من ذلك ولا شبيهًا به، فكان محرَّمًا.
الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرَّم، لدخوله في عموم النَّهي في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعًا، فإنَّ المؤمن لم يحدث الخطر منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرَّد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه، مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، والمؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن، فكان حرامًا.
وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقًا، أو في بعض أنواعه، فالجواب عنه ما يلي:
(أ) الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح، فإنَّ المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام:
قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة.
وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة، وهذا محل اجتهاد المجتهدين.
والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالةٌ وغررٌ وقمارٌ وربًا، فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه؛ لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.
(ب) الإباحة الأصلية لا تصلح دليلاً هنا؛ لأنَّ عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها، وقد وجد، فبطل الاستدالال بها.
(ج)"الضرورات تبيح المحظورات" لا يصح الاستدلال به هنا، فإنَّ ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافًا مضاعفة مما حرَّمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعًا، تلجيء إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.
(د) لا يصح الاستدلال بالعرف، فإنَّ العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام، وفهم المراد من ألفاظ النصوص، ومن عبارات الناس في إيمانهم، وتداعيهم، وأخبارهم، وسائر ما
يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال، فلا تأثير له فيما تبين أمره، وتعين المقصود منه، وقد دلَّت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين، فلا اعتبار به معها.
(هـ) الاستدلال بأنَّ عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة، أو في معناها غير صحيح؛ فإنَّ رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وأنَّ رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظامًا مبلغ التأمين، ولو لم يدفع مورثهم إلَاّ قسطًا واحدًا، وقد لا يستحقون شيئًا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأنَّ الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبًا مئوية مثلاً، بخلاف التأمين، فربح رأس المال وخسارته للشركة، وليس للمتسأمن إلَاّ مبلغ التأمين، أو مبلغ غير محدد.
(و) قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به، غير صحيح، فإنَّه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما أنَّ عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة، بخلاف عقد ولاء الموالاة، فالقصد الأول فيه التآخى في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء، وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.
(ز) قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح، لأنَّه قياس مع الفارق ومن الفروق أنَّ الوعد بقرضٍ أو إعارةٍ، أو تحمل خسارةٍ مثلاً من باب المعروف المحض، فكان الوفاء به واجبًا، أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين، فإنَّها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي، فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر.
(ح) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم
يجب قياس غير صحيح؛ لأنَّه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق أنَّ الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين، فإنَّه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولًا الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع، ما دام تابعًا غير مقصود إليه.
(ط) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح، فإنَّه قياس مع الفارق، كما سبق في الدليل قبله.
(ي) قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح، فإنَّه قياس مع الفارق أيضًا، لأنَّ ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسؤلاً عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين، الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية، التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين، والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأنَّ ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقًا التزم به من حكومات مسؤولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونًا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره، وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.
(ك) قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح، فإنَّه قياس مع الفارق، ومن الفروق أنَّ الأصل في تحمل العاقلة لديه الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين المقاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون، وأسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة، لا تمت إلى
عاطفة الاحسان، وبواعث المعروف بصلة.
(ل) قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح؛ لأنَّه قياس مع الفارق أيضاً، ومن الفروق أنَّ الأمان ليس محلاًّ للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط، ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة، وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.
(م) قياس التأمين على الإيداع لا يصح؛ لأنَّه قياس مع الفارق أيضاً، فإنَّ الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين، فإنَّ ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن، ويعود إلى المستأمن بمنفعة، إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد، وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين، أو زمنه فاختلف في عقد الايداع بأجر.
(ن) قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح والفرق بينهما أنَّ المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض، والمقيس التأمين تجاري وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4/ 4/ 1397 هـ من جواز التأمين التعاوني بدلاً عن التأمين التجاري المحرَّم والمنوه عنه آنفاً للأدلة الآتية:
الأول: أنَّ التامين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤلية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحاً من أموال
غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم، والتعاون على تحمل الضرر.
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسأ، فليس عقود المساهمين ربوية، ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث: إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنَّهم متبرعون، فلا مخاطرة، ولا غرر، ولا مقامرة، بخلاف التأمين التجاري فإنَّه عقد معاوضة مالية تجارية.
الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشيء هذا التَّعاون، سواء كان القيام بذلك تبرعاً أو مقابل أجر معيَّن، ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية:
(أ) الالتزام بالفكر الاقتصادي الإسلامي الذي يترك للأفراد مسؤلية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية، ولا يأتي دور الدولة إلَاّ كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به، وكدور موجه، ورقيب، لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها.
(ب) الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله، ومن حيث الجهاز التنفيذي، ومسؤلية إدارة المشروع.
(ج) تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني، وإيجاد المبادرات الفردية، والاستفادة من البواعث الشخصية، فلا شكَّ أنَّ مشاركته الأهالي في الإدارة تجعلهم أكثر حرصاً ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها، مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاوني، إذ أنَّ تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل، كما أنَّ وقوعها قد يحملهم أقساطاً أكبر في المستقبل.
(د) أنَّ صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه، بل بمشاركة منها معهم فقط، لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية، وهلذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة، ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسؤولية.
ويرى المجلس أن يراعي في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني على الأسس الآتية:
الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فروع في كافة المدن، وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين: كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحي، وثانٍ للتأمين ضد العجز والشيخوخة .. إلخ.
أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين، وآخر للتجار، وثالث للطلبة، ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين .. إلخ.
الثاني: أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة، والبعد عن الأساليب المعقدة.
الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل، ويقترح ما يلزمها من الوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتَّفقت مع قواعد الشريعة.
الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس تختاره من الأعضاء، ويمثل المساهمين من يختارونه ليكونوا أعضاء في المجلس، ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها، واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل.
الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة.
ويؤيد مجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في
قراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمَّد وآله وصحبه.
…
والمجالس الثلاثة كلها أجازت البديل الشرعي؛ وهو "التأمين التعاوني". فعبارة مجمع الفقه الإسلامي المنبثقة من منظمة المؤتمر الإسلامي هي:
إنَّ العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي، هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون.
* قرار هيئة كبار العلماء بشأن التأمين التعاوني:
أنَّ التأمين التعاوني من عقود التبرعات، التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤلية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية، تُخصَّص لتعويض من يصيبه ضرر، وإمكان الاكتفاء به عن التأمين التجاري.
***
677 -
وَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اشْتَرَى طعَاماً فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فلا يبعه: هذه رواية مسلم، وقد تكررت فيه من عدة طرق، أما روايات البخاري، فكل الروايات التي اطَّلعت عليها فيه:"فلا يبيعه" ورواية مسلم بالجزم على أنَّ "لا" ناهية، ورواية البخاري بالرفع على أنَّها نافية، وكلتا الروايتين تؤدي إلى معنى واحد، إلَاّ أنَّ رواية النفي أبلغ.
- حتى يكتاله: المراد حتى يستوفيه بالكيل، والفرق بين الكيل والاكتيال إنما يستعمل إذا كان الكيل لنفسه، قال تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين] فالمراد بالاكتيال استيفاء الطعام المبيع بالكيل، فقد جاء في رواية البخاري:"من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" والرواية الأخرى للبخاري: "إذا ابتعت فاكتل" يعني اشتريت.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في الحديث نهي المشتري أن يبيع الطعام الذي اشتراه حتى يكتاله، ويستوفيه ممن باعه عليه.
2 -
الطعام عادة وغالباً لا يباع إلَاّ كيلاً، ولذا جعل الفقهاء هذا الحكم في كل بيع يحتاج قبضه إلى حق توفية، من الكيل، أو الوزن، أو العد، أو الذرع، فلا يصح بيعها إلَاّ بعد استيفائها من البائع بما تقبض به من أحد هذه
(1) مسلم (1528).
الطرق، قال شيخ الإسلام: وعلى هذا إجماع العلماء.
3 -
إذا بيع الطعام جزافاً فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّه يصح التصرف فيه قبل قبضه، لقول ابن عمر: مضت السنة أنَّ ما أدركته الصفقة حباً مجموعاً فهو من مال المشتري، فدلَّ على جواز التصرف فيه قبل قبضه.
ومذهب جمهور العلماء والرواية الأخرى عن أحمد: أنَّه لا فرق في الطعام بين الجزاف وغيره، واختاره شيخ الإسلام، وابن القيم.
4 -
قال الشيخ تقي الدين وابن القيم: علة النَّهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري عن تسلمه، وتسليمه للمشتري الثاني، لاسيَّما إذا رأى البائع أنَّ المشتري رَبحَ فإنَّه يسعى في رد البيع إما بجحد، أو احتيال الفسخ.
5 -
قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: وقد تواتر النَّهي عن بيع الطعام حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره.
6 -
قلتُ: من تلك الأحاديث:
- ما رواه أحمد من حديث حكيم بن حزام أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه".
- ما رواه أبو داود من حديث زيد بن ثابت "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلعة حيثُ تُبْتَاع، حتى يحوزها التجَّار إلى رِحالهم".
- ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله.
***
678 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عنْ بَيْعَتَينِ فِي بيَعَةٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ.
ولأِبِي دَاوُدَ: "مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أوْكَسُهُمَا، أَوِ الرِّبَا"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم، والترمذي وصححه ابن حبان وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي، وصححه ابن حزم في المحلى، كما صححه عبد الحق في أحكامه، وإسناده حسن.
وأما رواية أبي داود فقال المنذري عنها: في إسناده محمَّد بن عمرو بن علقمة، فقد تكلِّم فيه، ولكن وثَّقه النسائي.
قال في التلخيص: وفي الباب عن ابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود.
* مفردات الحديث:
- بيعتين في بيعة: صفته على الصحيح هي بيع العِينة، بأن يبيعه السلعة نسيئة، ثم يشتريها البائع من المشتري نقداً بأقل من ثمن النسيئة.
- أوكسهما: يقال: وكس فلانٌ يكسه وكساً نقصه، فالوكس النقصان، وأوكسهما اسم تفضيل، أي أقلهما وأنقصهما، والمعنى أنَّه إذا فعل ذلك فلا
(1) أحمد (9764)، النسائي (7/ 295)، الترمذي (1231)، أبو داود (3460)، ابن حبان (1109).
يخلو من أمرين: إما أن يمضي العقد وهذا هو الربا، وإما أن يأخذ الأقل.
- الربا: سيأتي معناه في بابه إن شاء الله.
* ما يؤخذ من الحديث:
النَّهي عن بيعتين في بيعة، ومقتضى النَّهي التحريم، وفساد العقد.
* اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في معنى "بيعتين في بيعة" فسَّره الحنابلة بأن يشترط أحد المتابيعين على الأخر عقداً آخر، كسلف وقرض، وبيع وإجارة وشركة، ونحو ذلك، كقول البائع للمشتري: بعتك كذا بكذا على أن تؤجرني دارك بكذا ونحو ذلك، فهذا الشرط يبطل العقد عندهم من أصله.
وحكمه البطلان؛ لأنَّه إذا فسد الشرط وجب رد ما يقابله من الثمن، وهو مجهول، فيصير الثمن مجهولاً.
وفسَّره بعضهم بأن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بألفين نسيئة، وبألف نقداً، فأيَّهما شئت أخذتَ به.
أما ابن القيم: فيقول: "البيعتان في بيعة" أن يبيعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم يشتريها منه بثمانين حالَّة، فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا.
وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنَّه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلَاّ رأس ماله، وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين، أو الربا، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، أما أخذه بمائة مؤجلة أو بثمانين حالة، فليس في هذا ربا ولا جهالة، وإنما خيَّره بأي الثمنين شاء.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الذي يدخل في النَّهي عن بيعتين في
بيعة مسألة العِينة وعكسها؛ لأنَّ فيه محذور الربا، وحيلة الربا.
وأما تفسير الحديث بأن يقول: بعتك هذا البعير بمائة على أن تبيعني الشاة بعشرة، فلا تدخل، لأنَّه لا محذور في ذلك.
***
679 -
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ والحَاكِمُ.
وَأَخْرَجَهُ فِي عُلُومِ الحَدِيثِ مِنْ رِوَايةِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرٍو المَذْكُورِ بِلَفْظ: "نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ".
وَمِنْ هَذَا الوَجْهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأوْسَطِ، وَهُوَ غَرِيبٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن بطرقه.
قال في التلخيص: رواه مالك بلاغاً، والبيهقي موصولاً من حديث عمرو بن شعيب، وصححه الترمذي، وله طرق أُخر عند النسائي والحاكم من طريق عطاء الخراساني عن عبد الله بن عمرو، ولكن قال النسائي: عطاء لم يسمع من عبد الله بن عمرو.
وفي البيهقي من حديث ابن عباس، وفي الطبراني من حديث حكيم بن حزام.
وقال الشوكاني: الحديث صححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان، وهو عندهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه ابن حزم في المحلى، والخطابي في المعالم، والطبراني في الأوسط.
(1) أحمد (2/ 174)، أبو داود (3504)، الترمذي (1234)، النسائي (7/ 288)، ابن ماجه (2188)، الحاكم (2/ 17)، الحاكم في المعرفة (128)، الطبراني في الأوسط (4361).
قال في المنتقى للمجد: قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحَّحه الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط جماعة من أئمة الحديث، ووافقه الذهبي، كما صححه ابن خزيمة وعبد الحق والمنذري وابن القيم.
* مفردات الحديث:
- سلف: بفتحتين، أي قرض، وهو شرعاً: دفع مال لمن ينتفع به، ويرد بدله.
- ربح: ربح في تجارته يربح ربحاً، أي كسب، فهو رابح، والربح اسم لما يربح، جمعه أرباح.
- ما لم يُضمن: مبني للمجهول، أي ما لم يُملك، ولم يُقْبض.
- ما ليس عندك: أي شيئاً ليس في ملكك حال العقد من المبيعات المُعيَّنات.
* ما يؤخذ من الحديث:
قال ابن القيم في تهذيب السنن: هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحِيل الربوية.
قلتُ: ففيه أربع فقرات، سنشرحها حسب ذكرها في الحديث إن شاء الله تعالى:
الأولى: "لا يحل سلف وبيع":
فُسِّر بعدة تفاسير، ولكن أحسنها وأقربها إلى الصواب ما يأتي:
قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه لا يجوز بيع وسلف، وهو أن يبيع الرجل السلعة على أن يقرضه قرضاً.
قال ابن القيم: لأنَّه ذريعة إلى أن يقرضه ألفاً، ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفاً وسلعة بثمانمائة، وأخذ منه ألفين، وهذا عين الربا، فلولا هذا البيع ما أقرضه، ولولا عقد القرض ما اشترى ذلك.
الثانية: "ولا شرطان في بيع":
فُسِّر بعدة تفاسير منها تفسير، الحنابلة، بأن يشترط المشتري على البائع
أن يفصل الثوب المبيع ويخيطه، فلا يصح، لأنَّه جمع بين شرطين، والحديث ينهى عن "شرطين في بيع".
وأحسن من هذا التفسير وغيره التفسير الآتي:
قال ابن القيم: الشرطان في بيع فُسِّر بقول البائع: خذ هذه السلعة بعشرة نقداً، وآخذها منك بعشرين نسيئة.
وهي مسألة العِينة بعينها، وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإذا كان مقصوده الدارهم العاجلة بالآجلة، فهو لا يستحق إلَاّ رأس ماله، وهو أوكس الثمنين، ولا يحتمل غير هذا المعنى، وهذا هو الشرطان في البيع.
وإذا أردت أن يتَّضح لك المعنى فتأمل نهيه عن:
- بيعتين في بيعة.
- وعن سلف وبيع.
- وعن شرطين في بيع.
فكلا الأمرين يتوصل به إلى الربا.
الثالثة: "ولا ربح ما لم يُضمَن":
فُسِّر بعدة تفاسير، ولكن أحسنها هو أن يبيع السلعة المعيَّنة المشتراة قبل قبضها ويربح فيها، فقد تقدم لنا أنَّ المشتري لا يصلح له أن يبيع السلعة المشتراة إلا بعد قبضها، لأنَّها لا تزال في ضمان البائع لو تلفت، فإذا باعها قبل قبضها فقد ربح في سلعة ليس عليه ضمانها لو تلفت، وهو لا يجوز، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"الخراج بالضمان"[رواه أحمد (23091)].
الرابعة: "ولا بيع ما ليس عندك":
يعني في ملكك، أو ولايتك، يُفسِّر هذه الجملة حديث حكيم بن حزام، وهو ما أخرجه النسائي (4534) قال: قلتُ: يا رسول الله!: يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، فأبتاعه له من السوق؟ فقال:"لا تبع ما ليس عندك".
لكن قال الإمام الخطابي: يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنَّه أجاز السلم، وهو بيع ما ليس عند البائع.
قال محرره: وهذه يغلط فيها كثير من طلاب العلم، يجعلون بيع الأعيان كبيع الموصوف في الذمة في الحكم، وهذا غير صحيح، فالمتعلق يختلف، فإنَّ متعلق الموصوف المعين عين المبيع، وأما متعلق الموصوف الذي لم يعين فهو الذمة.
ولذا قال في شرح الإقناع: ويصح البيع بالصفة وهو نوعان:
أحدهما: بيع عين معيَّنة، كبعتك عبدي التركي، ويذكر صفاته، فهذا ينفسخ العقد عليه بتلفه قبل قبضه، لزوال محل العقد.
الثاني: بيع موصوف غير معيَّن ويصفه بأن يقول: بعتك عبداً تركياً ثم يستقصي صفاته، فمتى سلَّم البائع إليه عبداً على غير ما وصفه له فردَّه المشتري على البائع، لم يفسد العقد برده؛ لأنَّ العقد لم يقع على عينه بخلاف النوع الأول.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الذي يمنع بيع الموصوف في الذمة ويحتج بحديث: "ولا تبع ما ليس عندك" احتجاجه فيه نظر، فالحديث يدل على منع بيع العين التي في ملك غيره، أما الموصوف في الذمة فلا أرى دخوله في هذا الحديث، وهو المذهب عند الأصحاب كلهم.
* قرار المجمع الفقهي بشأن القبض:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية، من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 -
20 آذار "مارس" 1990 م بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "القبض: صوره، وبخاصة المستجدة منها وأحكامها" واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرَّر:
أوَّلاً: قبض الأموال كما يكون حسيّاً في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتباراً وحكماً بالتخلية مع التمكين من التصرف، ولو لم يوجد القبض حسًّا، وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها.
ثانياً: أنَّ من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً:
1 -
القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية:
(أ) إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة، أو بحوالة مصرفية.
(ب) إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل.
(ج) إذا اقتطع المصرف بأمر العميل مبلغاً من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية، ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنَّه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلَاّ بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي.
2 -
تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه، وحجزه المصرف.
680 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عنْ أَبِيه عنْ جدِّه رضي الله عنه قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ العُرْبَانِ" رَوَاهُ مَالِكٌ، قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ بِهِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال في التلخيص ما خلاصته: الحديث له طرق تنتهي بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
فقد رواه مالك وأبو داود وابن ماجه، وفيه راوٍ لم يسم، قيل: هو عبد الله بن عامر الأسلمي، وقيل: هو ابن لهيعة وكل منهما ضعيف.
رواه الدارقطني والخطيب: وفيه الهيثم بن اليمان ضعَّفه الأزدي، وقال أبو حاتم صدوق.
ورواه البيهقي من طريق عاصم بن عبد العزيز عن الحارث بن عبد الرحمن بن عمرو بن شعيب.
ورواه عبد الرزاق مرسلاً عن زيد بن أسلم وقال: ضعيف مع إرساله.
* مفردات الحديث:
- العُربَان: بضم العين المهملة ثم راء ساكنة وباء مفتوحة وألف آخره نون، ويقال عربون وأربون، وعربان وأربان، وصفته: أن يعلق المشتري عقد البيع بأن يعطي البائع بعض الثمن، ويقول: إن أخذتُه فهذا من الثمن، وإن لم آخذه فهو للبائع.
(1) مالك (2/ 609).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
بيع العُربان: هو أن يشتري الرجل السلعة ثم يعطي البائع ديناراً أو درهماً من الثمن، فإن أمضى المشتري العقد وأخذ السلعة، فما دفعه فهو من الثمن، وإلَاّ فهو للبائع.
2 -
الحديث يدل على النَّهي عن هذه الصورة من العقد، والنَّهي عنها يقتضي فسادها، وهي مسألة خلافية.
3 -
وقد لخَّص الدكتور عبد الرزاق السنهوري رحمه الله في كتابه "مصادر الحق" أدلة القولين، وردَّ أدلة القائلين ببطلان بيع العربون، فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه: ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي:
أولاً: إنَّ الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون، ولأنَّ العربون اشتُرط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد، ولأنَّه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة، كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة، ومعها درهم.
ثانياً: أنَّ الإمام أحمد يجيز بيع العربون، ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر، وضعَّف الحديث المروي في النَّهي عن بيع العربون، واستند إلى القياس على صورة متَّفق على صحتها، هي أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً، قال أحمد: هذا في معناه.
ثالثاً: ونرى أنه يمكن الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون، فالعربون لم يُشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالمبيع، وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري، وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ
المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع، فإن لم يرجع فيها مضت الصفقة، وانقطع الخيار. اهـ.
* خلاف العلماء:
انفرد الإمام أحمد رحمه الله بالقول بصحة بيع العُربون، واستحقاق البائع إيَّاه في حال العدول عن الشراء، وخالفه الأئمة الثلاثة، فيرى المالكية والشافعية أنَّه باطل لهذا الحديث، بينما هو عند الحنفية فاسد، وليس بباطل حيث يفرقون بينهما.
قال ابن قدامة رحمه الله ما نصه: والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهماً أو غيره، على أنَّه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع، قال أحمد: لا بأس به، وفعله عمر رضي الله عنه.
قال في المنتهى وغيره: ويصح بيع العُربون، وفَعَله عمر، وأجازه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه أجازه، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها، ويرد معها شيئاً، وقال أحمد: هذا في معناه، واختار أبو الخطاب أنه لا يصح، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن؛ لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع العربون"[رواه ابن ماجه]، ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي.
* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن بيع العربون:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة المؤتمر الثامن ببندر
سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "بيع العربون"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرَّر ما يلي:
1 -
المراد ببيع العربون بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغاً من المال إلى البائع، على أنَّه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. ويجري مجرى بيع الإجارة؛ لأنَّها بيع المنافع، ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد "السلم"، أو قبض بالبدلين "مبادلة الأموال الربوية والصرف"، ولا يجري في المرابحة للأمر بالشراء في مرحلة المواعدة، ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة.
2 -
يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءاً من الثمن إذا تمَّ الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.
***
681 -
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "ابْتَعْتُ زَيْتاً فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْتُهُ لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحاً حسَناً، فَأَرَدْتُ أنْ أضْرِبَ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ حَتَّىَ تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظ لَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر، وله طرق جياد:
الأولى: عن نافع عنه مرفوعاً به أخرجه مالك، ومن طريق مالك أخذ البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد كلهم من طريق مالك عن نافع به، وتابعه جماعة عن نافع به.
الثانية: عن عبد الله بن دينار عنه به أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي والشافعي الطحاوي والبيهقي وأحمد من طرق عن ابن دينار به.
الثالثة: عن القاسم بن محمَّد عن ابن عمر، ورواه أبو داود والنسائي والطحاوي وأحمد من طريقين: الأولى: فيها مجهول، والثانية: فيها ابن لهيعة وهو ضعيف.
(1) أحمد (5/ 191)، أبو داود (3499)، ابن حبان (1120)، الحاكم (2/ 40).
أما الزرقاني فقال: من قال إنَّه حديث منقطع أو ضعيف فلا يلتفت إليه، فهو متصل، غير أنَّ فيه راوياً مبهماً.
* مفردات الحديث:
- زيْتاً: هو دهن الزيتون، ويطلق على دهن غيره، ولكنه المراد هنا.
- استوجبته: استوجب الشي: استحقه وعدَّه واجباً، واستلزمه.
- أضرب على يد الرجل: قال في اللسان: وفي حديث ابن عمر: فأردتُ أن أضرب على يده: أي أعقد معه البيع؛ لأنَّ من عادة المتبايعين أن يضرب أحدهما يده في يد الآخر عند عقد البيع.
- حيث ابتعته: حيث اشتريته، و"حيث" ظرف مكان، فالمعنى: المكان الذي اشتريته فيه.
- حتى تحُوزَه: يقال: حاز الشيء يحوز حوزاً وحيازةً: جمعه وضمَّه إلى نفسه، والمعنى: حتى تحرزه وتضمه إليك بنقله إلى مكانك.
- رحلك: رحل الإنسان مسكنه وما يستصحبه من أثاثٍ ومتاعٍ، وفي الحديث:"إذا ابتلَّت النعال فالصلاة في الرحال" أي المساكن.
- السِّلع: بكسر السين وفتح اللام، جمع سلعة، هو المتاع المبيع، والسلعة يطلق على جميع الأمتعة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّه لا يصح من المشتري أن يبيع ما اشتراه قبل أن يقبضه ويحوزه إلى مكانه.
2 -
تقدم أنَّ المشهور من مذهب الإمام أحمد أنَّ هذا الحكم خاص بالمبيع الذي يحتاج إلى حق توفية، وهو المكيل والموزون والمعدود والمزروع، أما ما لا يحتاج إلى حق استيفاء من المبيعات فيصح التصرف فيها قبل قبضها، على المشهور من مذهب الحنابلة.
أما جمهور العلماء: فالحكم عام في كل مبيع، فلا يجوز التصرف فيه حتى تقبض وتنقل، وتقدم في حديث رقم (677).
3 -
قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: تواتر النَّهي عن بيع الطعام حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره، لما يأتي:
- ما في البخاري (2137)، مسلم (1526)، من حديث ابن عمر قال:"كان الناس يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم النبَّي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم".
- ولأحمد (14773)، من حديث حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا اشتريت شيئاً فلا تَبِعه حتى تقبضه".
- ولأبي داود (3036) من حديث زيد بن ثابت: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تُبَاع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجَّار إلى رحالهم".
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أنَّه لا يجوز بيع أي سلعة اشتريت إلَاّ بعد قبض البائع لها واستيفائها.
قال ابن القيم: إنَّه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه بحال، وهو من محاسن الشريعة، وقال: ثبت المنع في الطعام بالنص، وفي غيره إما بقياس النظر أو بقياس الأولى.
***
682 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَبِيعُ الإِبْلَ بِالبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّارهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذا مِنْ هَذَا، وَأُعْطِي هَذا مِنْ هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا بَأْسَ أَن تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَفْتَرِقَا. وَبَيْنَكُمَا شَيءٌ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلَاّ من حديث سِماك بن حرب؛ وسماك فيه مقال، وقد أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من طرق عن حماد بن سلمة عن سِماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وأما الحاكم فقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي.
وصححه ابن حبان، وحسَّنه السبكي في تكملته لمجموع النووي، أما عن وقفه ورفعه، فقد رجَّح رفعه ابن الملقن وابن الهمام، بينما رجَّح ابن حجر وقفه.
* مفردات الحديث:
- الإبل: الجمال النُّوق، اسم جمْع لا واحد له من لفظه، الجمع آبال وأبيل.
- بالبقيع: بالباء الموحدة المفتوحة وكسر القاف بعدها ياء وآخرها عين مهملة، هو سوق الإبل في المدينة، ثم صار مقبرة المدينة منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى
(1) أحمد (2/ 33)، أبو داود (3354)، الترمذي (1242)، النسائي (7/ 81)، ابن ماجه (2262)، الحاكم (2/ 44).
اليوم، وبعض النسخ، "بالنقيع" بالنون المفتوحة والقاف المكسورة والياء التحتية الساكنة والعين المهملة، موضع غرب المدينة حماه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزال على حماه حتى الآن، ويبعد عن المدينة بـ (75) كلم، والراجح من رواتي الحديث أنَّه بالباء التحتية الموحدة.
- الدنانير: الدينار عملة ذهبية إسلامية، زنة الدينار مثقال، وقدره بالغرامات (4.25).
- الدراهم: الدرهم عملة فضية إسلامية وقدر الدرهم بالغرامات (2.975).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث دليل على أنَّه يجوز أن يقضي عن الذهب الفضة، وعن الفضة الذهب، وهذا من باب الصرف الذي عرَّفه الفقهاء بقولهم: المصارفة: بيع نقد بنقد اتَّحد الجنس أو اختلف.
2 -
يشترط لبقاء صحة الصرف أن لا يتفرقا من مجلس العقد وبينهما شيء، بل يقبض كل منهما ما عقد لعميله.
3 -
أن تفرقا من مجلس العقد قبل القبض بطل العقد فيما لم يقبض، وإن قبض بعضه دون البعض الآخر بطل العقد فيما لم يقبض فقط لفوات شرطه.
4 -
يجوز الصرف ولو لم يكن حاضراً في مجلس العقد إلَاّ أحد النقدين، والنقد الآخر في الذمة، بشرط أن لا يتفرقا وبينهما شيء.
وهذا هو المراد من حديث الباب، ذلك أنَّ الظَّاهر أنَّ النقدين غير حاضرين، وإنما الحاضر أحدهما فقط.
5 -
جاء في الحديث "بسعر يومها"، وهذا قيد غير مراد بالإجماع.
قال الخطابي: وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلَاّ "بسعر يومه" ولم يعتبر غيره السعر، فقد جاء في صحيح مسلم (1587)، في حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذَّهب بالذهب، والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيدٍ".
* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن تغير قيمة العملة:
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول "ديسمبر" 1988 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع "تغير قيمة العملة"، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأنَّ العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسَّلم وسائر أحكامها.
قرَّر ما يلي: العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل، وليس بالقيمة؛ لأنَّ الديون تقضي بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار، والله أعلم.
* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن موضوع التضخم وتغير قيمة العملة:
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ/ 23 - 28 سبتمر 2000، بعد اطلاعه على البيان الختامي للندوة الفقهية الاقتصادية لدراسة قضايا التضخم، بحلقاتها الثلاث بجدة، وكوالالمبور، والمنامة، وتوصياتها، ومقترحاتها، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع، وخبرائه، وعدد من الفقهاء.
قرَّر ما يلي:
أولاً: تأكيد العمل بالقرار السابق رقم (42)، ونصه:
العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة، لأنَّ الديون تقضي بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيًّا كان مصدرها
بمستوى الأسعار.
ثانياً: يمكن في حالة توقع التضخم التحوط عند التعاقد بإجراء الدين بغير العملة المتوقع هبوطها، وذلك بأن يعقد الدين بما يلي:
(أ) الذَّهب أو الفضة.
(ب) سلعة مثلية.
(ج) سلعة من السلع المثلية.
(د) سلعة عملات.
(هـ) عملة أخرى أكثر ثباتاً.
ويجب أن يكون بدل الدين في الصور السابقة بمثل ما وقع به الدين، لأنَّه لا يثبت في ذمة المقترض إلَاّ ما قبضه فعلاً.
وتختلف هذه الحالات عن الحالة الممنوعة، التي يحدد فيها العاقدان الدين الآجل بعملة ما، مع اشتراط الوفاء بعملة أخرى "الربط بتلك العملة" أو بسلعة عملات، وقد صدر في منع هذه الصورة قرار المجمع رقم:(75) رابعاً.
ثالثاً: لا يجوز شرعاً الاتفاق عند إبرام العقد على ربط الديون الآجلة بشيء مما يلي:
(أ) الربط بعملة حسابية.
(ب) الربط بمؤشر تكاليف المعيشة، أو غيره من المؤشرات.
(ج) الربط بالذهب أو الفضة.
(د) الربط بسعر سلعة معيَّنة.
(هـ) الربط بمعدل نمو الناتج القومي.
(و) الربط بعملة أخرى.
(ز) الربط بسعر الفائدة.
(ح) الربط بمعدل أسعار سلعة من السلع.
وذلك لما يترتب على هذا الربط من غرر كثير، وجهالة فاحشة، بحيث لا يعرف كل طرف ما له وما عليه، فيختل شرط المعلومية المطلوب لصحة العقود، وإذا كانت هذه الأشياء المربوط بها تنحو منحى التصاعد، فإنَّه يترتب على ذلك عدم التماثل بين ما في الذمة وما يطلب أداؤه، ومشروط في العقد، فهو رِبا.
رابعاً: الربط القياسي للأجور والإجارات:
(أ) تأكيد العمل بقرار مجلس المجمع رقم (75) الفقرة: أولاً: بجواز الربط القياسي للأجور تبعاً للتغير في مستوى الأسعار.
(ب) يجوز في الإجارات الطويلة للأعيان تحديد مقدار الأجرة عن الفترة الأولى، والاتفاق في عقد الإجارة على ربط أجرة الفترات اللاحقة بمؤشر معيَّن، شريطة أن تصير الأجرة معلومة المقدار عند بدء كل فترة.
* التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
1 -
بما أنَّ أهم أسباب التضخم هو الزيادة في كمية النقود التي تصدرها الجهات النقدية المختصة لأسباب متعددة معروفة، ندعو تلك الجهات إلى العمل الجاد على إزالة هذا السبب من أسباب التضخم الذي يضر المجتمع ضرراً كبيراً، وتجنب التمويل بالتضخم، سواء كان ذلك لعجز الميزانية، أم لمشروعات التنمية، وفي الوقت نفسه ننصح الشعوب الإسلامية بالالتزام الكامل بالقيم الإسلامية في الاستهلاك، لتبتعد مجتمعاتنا الإسلامية عن أشكال التبذير والترف والإسراف، التي هي من النماذج السلوكية المولدة للتضخم.
2 -
زيادة التعاون الاقتصادي بين البلدان الإسلامية، وبخاصة في ميدان التجارة الخارجية، والعمل على إحلال مصنوعات تلك البلاد محل مستورداتها من البلدان الصناعية، والعمل على تقوية مركزها التفاوضي والتنافسي تجاه
البلدان الصناعية.
3 -
إجراء دراسات على مستوى البنوك الإسلامية لتحديد آثار التضخم على موجوداتها، واقتراح الوسائل المناسبة لحمايتها، وحماية المودعين والمستثمرين لديها من آثار التضخم، وكذلك دراسة واستحداث المعايير المحاسبية لظاهرة التضخم على مستوى المؤسسات المالية الإسلامية.
4 -
إجراء دراسة حول التوسع في استعمال أدوات التمويل والاستثمار الإسلامي على التضخم، وما له من تأثيرات ممكنة على الحكم الشرعي.
5 -
دراسة مدى جدوى العودة إلى شكل من أشكال ارتباط العملة بالذَّهب، كأسلوب لتجنب التضخم.
6 -
إدراكاً لكون تنمية الإنتاج وزيادة الطاقة الإنتاجية المستعملة فعلاً من أهم العوامل التي تؤدي إلى محاربة التضخم في الأجل المتوسط والطويل، فإنَّه ينبغي العمل على زيادة الإنتاج، وتحسينه في البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق وضع الخطط، واتِّخاذ الإجراءات التي تشجع على الارتفاع بمستوى كل من الادخار والاستثمار، حتى يمكن تحقيق تنمية مستمرة.
7 -
دعوة حكومات الدول الإسلامية للعمل على توازن ميزانياتها العامة، "بما فيها جميع الميزانيات العادية والإنمائية والمستقلة، التي تعتمد على الموارد المالية العامة في تمويلها"، وذلك بالالتزام النفقات وترشيدها وفق الإطار الإسلامي، وإذا احتاجت الميزانيات إلى التمويل فالحل المشروع هو الالتزام بأدوات التمويل الإسلامية القائمة على المشاركات والمبايعات والإجارات، ويجب الامتناع عن الاقتراض الربوي، سواء من المصارف والمؤسسات المالية، أم عن طريق إصدار سندات الدين.
8 -
مراعاة الضوابط الشرعية عند استخدام أدوات السياسة المالية، منها ما يتعلَّق بالتغيير في الإيردات العامة، أم بالتغيير في الإنفاق العام، وذلك
بتأسيس تلك السياسات على مباديء العدالة، والمصلحة العامة للمجتمع، ورعاية الفقراء، وتحميل عبء الإيراد العام للأفراد، حسب قدراتهم المالية المتمثلة في الدخل والثروة معاً.
9 -
ضرورة استخدام جميع الأدوات المقبولة شرعاً للسياستين المالية والنقدية ووسائل الإقناع، والسياسات الاقتصادية والإدارية الأخرى، للعمل على تخليص المجتمعات الإسلامية من أضرار التضخم، بحيث تهدف تلك السياسات لتخفيض معدل التضخم إلى أدنى حد ممكن.
10 -
وضع الضمانات اللازمة لاستقلال قرار المصرف المركزي في إدارة الشؤون النقدية، والتزامه بتحقيق هدف الاستقرار النقدي، ومحاربة التضخم، ومراعاة التنسيق المستمر بين المصرف المركزي والسلطات الاقتصادية، والمالية، من أجل تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي والنقدي، والقضاء على البطالة.
11 -
دراسة وتمحيص المشروعات والمؤسسات العامة، إذا لم تتحقق الجدوى الاقتصادية المستهدفة منها، والنظر في إمكانية تحويلها إلى القطاع الخاص، وإخضاعها لعوامل السوق وفق المنهج الإسلامي، لما لذلك من أثر في تحسين الكفاءة الإنتاجية، وتقليل الأعباء المالية عن الميزانية، مما يسهم في تخفيف التضخم.
12 -
دعوة المسلمين أفراداً وحكومات إلى التزام نظام الشرع الإسلامي، ومبادئه الاقتصادية، والتربوية، والأخلاقية، والاجتماعية.
توصية:
وأما الحلول المقترحة للتضخم فقد رأى المجمع تأجيلها وعرضها لدورة قادمة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
683 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْشِ" مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. (1)
ــ
* مفردات الحديث:
- النَّجش: بفتح النون وسكون الجيم بعدها شين معجمة، والنجش لغة، تنفير الصيد وإثارته من مكانه، يقال: نجشت الشيء أنجشته نجشاً: أي استثرته فالناجش الذي يحوش الصيد.
وتعريفه شرعاً: هو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، بل لنفع البائع، أو الإضرار بالمشتري، أو العبث.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه النَّهى عن النجش، وذلك بأن يزيد في ثمن السلعة المعروضة للبيع، لا ليشتريها بل ليضر المشتري بزيادة الثمن عليه، أو ينفع البائع بزيادة الثمن له، أو يقصد الأمرين، أو لا يقصد إلَاّ اللَّعب فقط.
2 -
النَّهي في الحديث للتحريم، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنَّ الناجش عاص بفعله.
3 -
المشهور من مذهب الإمام أحمد صحة العقد، ولكن إذا غبن المشتري في البيع غبناً يزيد عن العادة بزيادة الناجش، ثبت له الخيار بين الإمساك بثمنه الذي استقرَّ عليه العقد، وبين رده والرجوع بثمنه.
4 -
أما إذا كانت الزيادة في الثمن غير فاحشة.
فقال الوزير: اتَّفقوا على أنَّ الغبن في المبيع بما لا يفحش لا يؤثر في صحته.
(1) البخاري (2142)، مسلم (1516).
5 -
خيار الغبن في البيع له ثلاث صور:
إحداها: تلقي الركبان، فمن تلقاه فاشترى منه فأتى البائع السوق، فهو بالخيار بين أن يمضي البيع بثمنه الذي باع به، أو يفسخ البيع ويرد ثمنه.
الثانية: زيادة الناجش الذي لا يريد شراء، فتحرم زيادته، ويثبت للمشتري الخيار.
الثالثة: المسترسل وهو من جهل القيمة، ولا يُحسن المماكسة في الثمن، بل يسترسل إلى البائع، وينقاد له بحسن نية، فيثبت له الخيار، ولا أرش لمغبون مع إمساك مبيع في صور الغبن الثلاث؛ لأنَّ الشرع لم يجعل له إلَاّ أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه، أو يمسكه بالثمن الذي اشترى به.
6 -
قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: التحريم في الغبن ليس خاصًّا بالصور الثلاث، فهو في كثير من مبايعات الناس.
وقال الشيخ تقي الدين: من البيوع ما نهي عنه لما فيه من ظلم أحد المتبايعين للآخر، كبيع المُصرَّاة، والمعيب، والنجش، ونحو ذلك، فالشارع لم يجعلها لازمة كالبيوع الحلال، بل جعل الخيرة إلى المظلوم إن شاء أبطلها وإن شاء أجازها.
***
684 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالمُزَابَنَةِ، وَالمُخَابَرَةِ، وَعَنِ الثُّنْيَا إِلَاّ أَنْ تُعْلَمَ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ ابنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرج له الشافعي من طريق ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن جابر، وعن الشافعي رواه الطحاوي والبيهقي.
والحديث أصله في مسلم، وصححه الترمذي وابن حبان، وحسَّنه النووي في المجموع.
قال الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ولو عنعنه ابن جريج.
* مفردات الحديث:
- المحاقلة: بالحاء المهملة والقاف، مأخوذة من الحقل وهو الزرع، والمحاقلة: هي أن يبيع الحب المشتد في سنبله بحب من جنسه.
- المزابنة: الزبن لغة: الدفع بشدة، ومنه الحرب الزبون، والمزابنة شرعاً: هي شراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر، سميت بذلك، لما يكثر فيها من الخصام بين المتابعين.
- المخابرة: مشتقة من الخبَار بفتح الخاء، وهي الأرض اللينة، وهي المزارعة، وصفة المخابرة المنهي عنها: هو أن يعطي رب الأرض أرضه للمزارع، فيحرثها ويعمل عليها بجزء معيَّن من الزرع، كالذي على الجداول
(1) أحمد (4393)، أبو داود (3405)، الترمذي (1290)، النسائي (7/ 37).
والسواقي، أو بقعة معينة.
تنبيه: كل من المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة، على وزن مفاعلة.
- الثُّنيا: بالمثلثة المضمومة فنون ساكنة فمثناة تحتية آخر الحروف، مقصور على وزن دنيا، أي الاستثناء في الإقرار، وأصله من ثناه إذا رده، فكأنَّ البائع رد بعض المبيع إليه بالاستثناء، والمردود منها المجهول.
- إلَاّ أن تُعْلَم: عائد للثنيا فقط، أي أن يكون الاستثناء معلوماً، كأن يقول: بِعتك هذه الأغنام إلَاّ هذه.
***
685 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالمُخَاضَرَةِ، وَالمُلَامَسَةِ، وَالمُنَابَذَةِ، وَالمُزَابَنَةِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- المخاضرة: هو بيع الحبوب والثمار قبل بدو صلاحها، بدون شرط القطع في الحال.
- الملامسة: الأصل في باب المفاعلة المشاركة بين اثنين في الفعل، والملامسة: أن يقول لصاحبه: إذا لمست ثوبك، ولمست ثوبي فقد وجب البيع بغير تأمل. وفُسِّرت: بأن يقول البائع: أيَّ ثوب لمستُه فهو لك بكذَا.
- المُنابذة: مفاعلة من النبذ، وتستدعي الفعل بين اثنين، بأن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر بدون نظر، وفسِّرت: بأن يقول البائع: أيَّ ثوب نبذته فهو لك بكذا.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
لدينا في هذين الحديثين سبع صور من صور المعاملات الجاهلية هي: المحاقلة، والمخابرة، والمزابنة، والمخاضرة، والملامسة، والمنابذة، والثنيا إلَاّ أن تعلم.
2 -
الأصل في المعاملات الحل، والجواز، والبقاء على البراءة الأصلية، لكن هناك بيوعات كانت جارية زمن الجاهلية مشهورة لديهم، ثم جاء الإسلام فأبطلها؛ لأنَّها مبنية على الجهالة، والغرر، والمخاطرة، فهي مجهولة
(1) البخاري (2207).
العاقبة، فلا يعلم عن الغُنم أو الغُرم من نصيب أي العاقدين.
والإسلام جاء بالعدل بين الطرفين، بأن لا يُقْدم أحد الطرفين إلَاّ على علم وبصيرة بالعقد، وما يؤول إليه أمره فيه.
3 -
المُحَاقلة: بيع الحب بعد اشتداده في سنبله بحب من جنسه، فهذه الصورة جمعت محذورين الجهالة والربا، فأما الجهالة فإنَّ بيع الحب في سنبله مجهول غير معروف من حيث المقدار، ومن حيث الجودة والرداءة.
وأما الربا فبيع الحب بحب من جنسه بغير معياره الشرعي، وهذا يفضي إلى الجهالة، والضابط الشرعي:"أنَّ الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم".
- المخابرة: هي المخابرة الجاهلية المحرَّمة، فهم يُكرون الأرض للزراعة كراء جاهليًّا، بأن يكون لصاحب الأرض جانب من الزرع معيَّن، وللمزارع جانب آخر، وهذه مخابرة مجهولة؛ لأنَّه لا يعلم عاقبة الأمر، فربَّما صلح هذا، وتلف الآخر، فمنع من أجل جهالته وخطره.
والمخابرة الصحيحة أن يكون لصاحب الأرض أو المزارع، جزء مشاع معلوم، ليشتركا في الغُنم والغُرم، ويسلما من الجهالة.
5 -
المزابنة: فسَّرها الإمام مالك بأنَّها بيع كل مكيل لا يعلم كيله أو وزنه بشيء من جنسه، ومن ذلك بيع التمر على رؤوس النخل بتمر، فهذا يجمع أمرين ممنوعين:
أحدهما: الجهالة والمخاطرة التي لم تدع إليها حاجة.
الثانية: الربا، فإنَّ التمر على رؤوس النخل مجهول، فبيعه بتمر من جنسه لم يتحقق التماثل بينهما، فيفضي إلى ربا الفضل.
"والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الحكم".
6 -
المزابنة: رخَّص من بيعها ما تدعو الحاجة إليه بقيود تقلل من الملكية
المباعة، وتخفف من الجهالة في العرايا، وتلك القيود هي:
- أن يباع ما على رؤوس النخل بمثل ما يؤول إليه تمراً إذا جفَّ كيلاً.
- أن يكون أقل من خمسة أوسق، وهي (300) صاع.
- لمحتاج إلى الرُّطب.
- لا نقود معه يشتري بها.
- بشرط الحلول والتقابض قبل التفرق.
7 -
المخاضرة: هي بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها، لما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع".
8 -
الملامسة: هي أن يشتري الرجل الثوب، ولا ينشره ولا يتبين ما فيه.
9 -
المنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون ذلك بيعاً من غير نظر.
والمحذور الشرعي في هاتين الصورتين من البيع الجهالة المفضية إلى الخصام والشِّجار.
10 -
الثُّنْيا إلَاّ أن تعلم: وصورتها -مثلاً- أن يقول: بعتك هذه الشجرة إلَاّ بعضها، أو بعتك هذا القطيع من الغَنم إلَاّ عشراً غير مُعيَّنة.
فمثل هذه الأشياء مجهولة، واستثناء المجهول من المعلوم يصير الباقي مجهولاً، أما إذا كان المستثنى معلوماً فيجوز.
11 -
الإسلام دين محبة ومودة ووئام، يكره الخصومة، والشقاق، والعداوة، والبغضاء، ويدعو إلى ضمان البيوعات من الآفة.
وهذه البيوعات وأمثالها مجهولة يحصل فيها التغابن بين الطرفين المتعاملين، مما يفضي إلى نزاع أحدهما مع الآخر، فجاء الإسلام بمنعها وإبطالها، كما أنَّ الإسلام دين العدل والمساواة.
وهذه المعاملات تفضي إلى ظلم أحد الطرفين صاحبه، فالغابن يظلم
المغبون، ويأكل حقه بغير حقٍّ ولا مقابلٍ.
وقد جاء في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ".
فنسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين وولاتهم إلى الرجوع إلى هذا الدين العظيم، وإلى أحكامه العادلة، ليهتدوا إلى الصراط المستقيم، الذي يبلغ بهم رضا ربهم، وسعادتهم في دنياهم وأخراهم آمين.
***
686 -
وَعَنْ طَاوُوسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَلَقَّوا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: وَلَا يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَاراً" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ للبُخَارِيِّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا تلقوا: بفتح التاء والقاف، وأصله "لا تتلقوا" بتاءين فحذفت إحداهما، أي لا تستقبلوا الذين يحملون السِّلع إلى البلد للشراء منهم قبل قدومهم البلد، ومعرفة السعر.
قال ابن عبد البر: وأما قوله: "لا تلقوا الركبان" فقد روي هذا المعنى بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد.
- الركبان: بضم الراء المهملة وسكون الكاف، جمع راكب، هم الجماعة من أصحاب الإبل في السفر، فهو في الأصل يطلق على راكب الإبل خاصة، ثم اتَّسع فيه فأطلق على كل من ركب دابة.
والمراد بهم هنا الذين يجلبون إلى البلدان المواشي، والطعام وغيره لبيعها، سواء كانوا ركباناً أو مشاة، جماعة أو واحداً، ولكن عبر بالغالب.
- حاضر: حضَرَ المكان يحضر حضوراً: شهد، فالحاضر هو المقيم في المدن والقرى.
- باد: بدا بألف من دون همزة يبدو بدْواً: سكن البادية، فالبادي: هو المقيم في البادية، أي الصحراء، جمعه بادون.
(1) البخاري (2158)، مسلم (1521).
- سِمْسَاراً: بكسر السين المهملة وسكون الميم وفتح السين الأخرى آخره راء، وأصل السمسار هو القيم بالأمر والحافظ له، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره، فمعناه هو الوسيط بين البائع والمشتري "الدلَاّل"، والمعنى منطبق عليه على الصحيح، سواء كان متولياً البيع، أو متولياً الشراء للمشتري.
قال البخاري: قال ابن سيرين عن أنس: "لا يبع له شيئاً، ولا يبتاع له شيئاً".
***
687 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَلَقَّوا الجَلَبَ، فَمَنْ تُلُقِّيَ فَاشْتُرِيَ مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالخِيَارِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الجلب: بفتحتين، مصدر المجلوب، يقال: جلب الشيء: جاء به من بلد إلى بلد للتجارة.
- سيده: المراد به جالب السلعة.
- الخيار: أي يختار أحد الخيارين، إما أن يختار إمضاء البيع، أو فسخه.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديثان فيهما فقرتان لبيان نوعين من المعاملات المحرَّمة، قوله:"لا تلقوا الركبان" والرواية الأخرى: "لا تلقوا الجلب"، معناه النَّهي عن استقبال القادمين إلى البلد لبيع بضائعهم فيه، حينما يتلقاهم السماسرة والدلالون خارج السوق الذي تباع فيه السلع، إما ليشتروا منهم بضائعهم على جهل من القادمين بقيمها في السوق، وإما ليتولى السماسرة بيعها عن أصحابها على الناس.
2 -
مذهب جمهور العلماء تحريم تلقيهم، والشراء منهم، وتركهم يبيعون سِلَعَهُم بأنفسهم على الناس.
3 -
علة التحريم أمران:
الأول: غبن القادمين بشراء سلعتهم منهم بأقل من قيمتها في السوق.
(1) مسلم (1519).
الثاني: التضييق على الناس المحتاجين المستفيدين، وذلك باستقصاء جميع ثمنها، فقد جاء في مسلم والسنن عن جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".
4 -
الفقرة الثانية: "فمن تُلقي، فاشتُري منه، فإذا وصل البائع السوق فهو بالخيار" ففيه إثبات الخيار للبائع بين إمضاء البيع، أو رده.
قال شيخ الإسلام: أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للركبان الخيار إذا تُلُقوا؛ لأنَّ فيه نوع تدليسٍ، وغشٍّ.
وقال ابن القيم: نهى عن ذلك لِما فيه من تغرير البائع، فإنَّه لا يعرف السعر، فيُشْترى منه بدون القيمة، ولِذا أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار إذا دخل السوق.
جاء في حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: الحديث وإن كان ظاهره الإطلاق، فيقيد بما هو جارٍ متسامحٌ فيه، من التغابن اليسير.
والعقد صحيح؛ لأنَّ النَّهي قُصِر على التلقي، ولم يقل: لا تشتروا، ولا نزاع في ثبوت الخيار للبائع من الغبن غبناً يخرج عن العادة.
5 -
الإسلام يراعي المصالح العامة، فيقدمها على المصالح الخاصة، ولذا فإنَّ تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، فيه مصلحة خاصة للمتلقي الحاضر، ولكن لما كانت مصلحة أهل البلد -بشرائهم السلع رخيصة- قدمت على انتفاع الواحد.
6 -
قال شيخ الإسلام: من البيوع ما نهي عنه لِمعنىً فيه، من ظلم أحد المتبايعين للآخر، كبيع المصراة، والمعيب، والنجش، ونحو ذلك، والشارع لم يجعلها لازمة كالبيوع الحلال، بل جعل الخيرة إلى المظلوم، إن شاء أبطلها، وإن شاء أجازها، فإنَّ الشارع لم ينه عنها لحق مختص بالله، كما نهى عن الفواحش، ونكاح المحرَّمات، والمطلقة ثلاثاً، وبيع الربا.
وبعض الناس يحسب أنَّ هذا النوع من جملة ما نهي عنه، والنَّهي يقتضي
الفساد، فأفسدوا بيع النجش، والبيع على أخيه، وبيع المدلس، والتحقيق أنَّ هذا النوع لم يكن النَّهي عنه فيه لحق الله، بل لحق الإنسان.
* خلاف العلماء:
ذهب جمهور العلماء إلى صحة شراء متلقي الركبان، للحديث رقم (686)، ولأنَّ النَّهي لا يعود إلى نفس العقد، ولا إلى ركنه، أو شرطه، وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان.
واختلفوا في ثبوت الخيار إذا قدم السوق.
فذهب الشافعي وأحمد إلى ثبوته إذا غبن البائع غبناً يخرج عن العادة؛ للحديث رقم (686)، ولأنَّ هذا ضرر نزل به ولا يمكن تلافيه بغير الخيار.
وذهب أبو حنيفة إلى عدم الخيار، والقول الأول أصح.
واختلفوا في صحة بيع من باع على بيع أخيه، أو اشترى على شرائه.
فذهب أحمد والظاهرية إلى أنَّ البيع والشراء غير صحيحين للنَّهي، والنَّهي يقتضي الفساد.
وذهب الثلاثة إلى صحة البيع، لأنَّ النَّهي لا يعود إلى نفس العقد، بل إلى أمر خارجٍ عنه.
واختلفوا في صحة بيع الحاضر للبادي.
فالمشهور عند أحمد البطلان بشروط أربعة:
1 -
أن يكون بالناس حاجة إلى السلعة.
2 -
أن يقدم البائع لبيع سلعته بسعر يومها.
3 -
أن يكون جاهلاً بسعرها.
4 -
أن يقصده الحاضر لبيعها.
ودليلهم: أنَّ النَّهي يقتضي الفساد.
وذهب جمهور العلماء إلى صحة البيع، مع التحريم لمخالفته النَّهي.
688 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، ولَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا" متَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: "لَا يَسُومُ المُسْلِمُ عَلى سَوْمِ المُسْلِمِ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا يبيع: يروى برفع الفعل على أنَّ "لا" نافية، وبالجزم على أنَّها ناهية.
- خِطبة: بكسر الخاء، طلب الزواج من المرأة، أو من ولي أمرها.
- لِتَكْفأ: من كفأ الإناء إذا كبَّه، وقلبه، وأفرغ ما فيه.
- سوم: مصدر سام يسوم سوماً وسُواماً، أي عرض السلعة، وذكر ثمنها.
* ما يؤخذ من الحديث:
في هذا الحديث ستة أمور منهىٌّ عنها:
1 -
"أن يبيع حاضر لبادٍ ولا تناجشوا"، وهذان تقدما.
2 -
الثالث: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه".
ومعناه: أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك خيراً منها بمثل ثمنها، ليفسخ البيع، ويعقد معه.
ومثله الشراء على شرائه، وذلك بأن يقول مثلاً لمن باع سلعة بتسعة: أنا أشتريها منك بعشرة، فهو في معنى البيع المنهي عنه، فالبيع يشمل البيع والشراء.
(1) البخاري (2140)، مسلم (1515).
3 -
قال الفقهاء: ومحل ذلك في خيار المجلس، وخيار الشرط، واختار الشيخ، وابن القيم، وابن رجب، وكثير من المحققين التحريم، ولو فات زمن الخيار؛ لأنَّ ذلك يورث العداوة بين المسلمين، وربَّما حمل من أُعطي الزيادة على التحيل على فسخ عقد البيع.
4 -
قال في شرح الزاد: ويبطل العقد في البيع على بيعه، والشراء على شرائه، دون السوم على سومه فيحرم، ولا يبطل العقد إذا أجري.
5 -
قال الشيخ تقي الدين: ومثل تحريم البيع على بيع أخيه سائر العقود، وطلب الولايات ونحوها لأنَّه ذريعة إلى التباغض والتعادي.
6 -
الرابع: "السوم على سومه".
ومعناه: أن يتَّفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول الآخر لمالك المبيع: استرده، فأنا أشتريه بأكثر، أو يقول للمستام: رده؛ لأبيعك خيراً منه بثمنه، أو مثله بأرخص منه.
قال الحافظ: ليس المراد السوم في السلعة التي تباع في السوق بالمزايدة، فهذه لا تحرم بالاتفاق لما في الصحيحين من قصة المدبَّر "من يشتريه مني".
* قرار مجمع الفقه الإسلام بشأن موضوع "عقد المزايدة":
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، برناوي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "عقد المزايدة"، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
وحيث إنَّ عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر، وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات، دعت لضبط طريقة التعامل به، ضبطاً يحفظ حقوق المتعاقدين، طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، كما اعتمدته المؤسسات والحكومات، وضبطته بتراتيب إدارية، ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد.
قرَّر ما يلي:
1 -
عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء، أو كتابة للمشاركة في المزاد، ويتم عند رضا البائع.
2 -
يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه، إلى بيع، وإجارةٍ، وغير ذلك، وبحسب طبيعته إلى اختياري، كالمزادات العادية بين الأفراد، وإلى إجباري، كالمزادات التي يوجبها القضاء، وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة، والهيئات الحكومية، والأفراد.
3 -
أنَّ الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي، وتنظيم، وضوابط، وشروط إدارية، أو قانونية، يجب أن لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
4 -
طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعاً، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يَرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة.
5 -
لا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول "قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية" لكونه ثمناً له.
6 -
يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي، أو غيره مشاريع استثمارية؛ ليحقق
لنفسه نسبة أعلى من الربح، سواء كان المستثمر عاملاً في عقد مضاربة مع المصرف، أم لا.
7 -
النَّجش حرام، ومن صوره:
(أ) أن يزيد في ثمن السلعة مَن لا يريد شراءها، ليغري المشتري بالزيادة.
(ب) أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها، ويمدحها؛ ليغر المشتري، فيرفع ثمنها.
(ج) أن يدَّعي صاحب السلعة، أو الوكيل، أو السمسار، ادعاء كاذباً أنَّه دُفِع فيها ثمن معيَّن؛ ليدلس على من يسوم.
(د) ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعاً اعتماد الوسائل السمعية، والمرئية، والمقروءة، التي تذكر أوصافاً رفيعة لا تمثل الحقيقة، أو ترفع الثمن لتغر المشتري، وتحمله على التعاقد. والله أعلم.
7 -
الخامس: "أن يخطب على خِطبة أخيه".
ومعناه: أن يخطب الرجل على خِطبة أخيه المسلم بلا إذن الأول، وقد أجمع العلماء على تحريم ذلك، فإن تزوج والحال هذه فقد عصى الله اتفاقاً، ويصح النكاح عند جمهور العلماء، ولم يبطله إلَاّ داود الظاهري.
8 -
ذكر الفقهاء حالات يجوز فيها الخِطبة على الخِطبة، منها:
- أن يكون الثاني استأذن الأول، فأذِن له إذناً صريحاً.
- أن يكون الثاني غير عالم بخِطبة الأول.
- أن ترد خِطبة الأول.
- أن يترك الخاطب الأول، ويُعرض عن الخِطبة.
ففي هذه الصور لا إثم على الخاطب الثاني إذا خطب.
9 -
السادس: "أن تسأل المرأة طلاق الزوجة الأخرى".
ومعناه: أن يخطب الرجل المرأة، فتشترط عليه طلاق زوجته،
والمشهور من مذهب الحنابلة صحة هذا الشرط ولزومه إذا شُرط، وعللوا ذلك بأنَّ لها حظًّا ومنفعة من هذا الشرط.
والقول الثاني في المذهب: أنَّ الشرط ليس صحيحاً، وهو اختيار الشيخ تقي الدين؛ لأنَّه لا يحل اشتراطه، ولو شرطته فهو لاغ، لما في الصحيحين أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل".
10 -
قوله: "لتكفأ ما في إنائها" تمثيل يقصد به التنفير، وتبشيع هذه الصورة التي تحرم بها الزوجة الجديدة رزق الزوجة الأولى، ونفقتها، وعشرتها مع زوجها.
11 -
قوله: "على بيع أخيه" و"خِطبة أخيه" أي في الإسلام، فالعقيدة أقوى رابطة بين المسلم والمسلم:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، ثم في هذا التعبير تقريب بين المسلم والمسلم مما لا ينبغي معه أن يشاحنه وينافسه على ما هو أولى، وأخص به.
***
689 -
وَعَنْ أَبِي أَيُّوب الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ فرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، والحاكم، وَلَكنْ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
رواه أحمد، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، وقد حسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم، وفي إسناده المعافري مختلف فيه.
قال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال البخاري: فيه نظر، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: أرجو أنَّه لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات.
وللحديث شاهدان أحدهما: عن علي، ورجال إسناده ثقات، والثاني: عن أبي موسى، وإسناده لا بأس به.
قال الشوكاني عن حديث علي: رجال إسناده ثقات، كما قال الحافظ، وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن القطان، وأما حديث أبي موسى فإسناده لا بأس به.
…
(1) أحمد (22413)، الترمذي (1283)، الحاكم (2/ 55).
690 -
وَعنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَبِيعَ غُلَامَيْنِ أخَوَيْنِ، فبِعْتُهُمَا فَفرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال: أدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا، وَلَا تَبِعْهُمَا إِلَاّ جَمِيعاً" رَوَاهُ أَحمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَات، وَقَدْ صَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وابنُ القَطَّانِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن لشواهده.
قال المؤلف: رواه أحمد، ورجاله ثقات، وقد صححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن أبي حاتم، والحاكم، والطبراني، وابن القطان.
وقال في التلخيص: حديث علي: أنَّه فرَّق بين جارية وولدها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، ورد البيع" رواه أبو داود، وأُعِلَّ بالانقطَاع بين ميمون بن أبي شبيب، وعلي بن أبي طالب، ورواه الحاكم وصحَّح إسناده.
ورجَّحه البيهقي لشواهده، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديث رقم (689) يدل على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها من الأرقاء، سواء كان ذلك عن طريق البيع، أو إزالة الملك بغيره.
2 -
عموم الحديث يفيد تحريم التفريق بينهما، ولو بعد البلوغ، قال في شرح الإقناع: يحرم، ولا يصح أن يفرق بين ذي رحم ببيع، أو قسمة، أو هبة، أو نحوها، ولو بعد البلوغ، لعموم حديث أبي أيوب، فألحقوا ذوي الأرحام
(1) أحمد (721)، ابن الجارود (575)، الحاكم (2/ 125).
بالوالدة والولد، وبعض العلماء قصَر تحريم التفريق على ما في النص، ولم يعده إلى غيره.
3 -
الحديث رقم (690) يفيد عدم صحة العقد الذي تضمن التفريق، فإنَّ عليًّا رضي الله عنه باع الغلامين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بردهما، ولم يعتبر البيع.
4 -
استثنى العلماء العتق وافتداء الأسير، فأجازوا التفريق فيهما، قال في شرح الإقناع:"إلَاّ بعتق فيجوز عتق أحدهما دون الآخر، أو افتداء أسير مسلم بكافر، فيجوز التفريق بينهما للضرورة"
5 -
مثل هذه الأحكام الإسلامية الحكيمة الرحيمة، يستدل بها على ما في الإسلام من رحمةٍ ورأفةٍ ونظرات كريمة لهذا الإنسان، الذي حتمت عليه ظروفه أن يكون التصرف فيه بأيدي المسلمين، فلم تَحُل عداوته للإسلام وأهله، ووقوفه في وجه دعوتهم، أن يقسوا عليه، ويعذبوه، ويهينوه، كما تفعل كثير من الدول بأسراهم، وإنما الإسلام يعاملهم بكل معاني الرحمة واللطف، واحترام الشعور.
وسيأتي في باب العتق أوفى من هذا إن شاء الله تعالى.
6 -
في الحديث أنَّ العقود التي تجري على خلاف المقتضى الشرعي أنَّها لاغية، غير معتبرة، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعتبر عقد البيع في الغلامين لازماً معتبراً، وإنما اعتبره فاسداً لا ينفذ بمقتضاه حكم.
***
691 -
وَعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "غَلَا السِّعْرُ فِي المَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَال النَّاس: يَا رَسُولَ الله! غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى الله تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ، وَلَا مَالٍ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ النَّسَائِيَّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح بمجموع طرقه.
قال في التلخيص: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والبزَّار من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس، وإسناده على شرط مسلم، وقد صححه ابن حبان والترمذي.
وللحديث شواهد:
1 -
حديث أبي هريرة: عند أحمد وأبي داود، وإسناده حسن.
2 -
حديث أنس أيضاً: عند ابن ماجه والبزار، وإسناده حسن أيضاً.
3 -
حديث علي: عند البزار.
4 -
حديث ابن عباس: عند الطبراني في الصغير.
* مفردات الحديث:
- غلا السعر: يغلوا، الاسم الغَلاء بالفتح والمد، ومعناه ارتفاع السعر عن الثمن
(1) أحمد (13545)، أبو داود (3451)، الترمذي (1314)، ابن ماجه (2200)، ابن حبان (4914).
المعتاد ارتفاعًا كثيرًا.
- السعر: بكسر السين المهملة، وسكون العين المهملة، وهو ما يُقَوَّم عليه الثمن.
- سعر لنا: أمر من التسعير، هو أن يلزم ولي أمر المسلمين، أو نائبه الناس سعرًا مقدرًا محدودًا، يتبايعون به بلا زيادة، ولا نقصان.
- القابض: القابض للأرزاق المضيِّق بحِكمته وعدله.
- الباسط: الباسط للأرزاق، والموسع فيها بحكمته وفضله.
ومثل هذه الأسماء المتقابلة معانيها لا ينبغي أن يوصف الله تعالى بها إلا مقرونًا أحد الوصفين بالَاخرة لأنَّ الكمال المطلق هو من اجتماع الوصفين معًا.
- بمظلمة: بفتح الميم وكسر اللام، هو ما يؤخذ بغير حق، وبفتح اللام مصدر ظلم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
زادت أسعار المواد الغذائية في المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله بسبب القحط، وقلة الأمطار، وانقطاع السبل فيما بين المدينة والشام، التي ترد منها الأغذية.
فجاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحدد قِيَمًا للأرزاق، ويجعل للتجَّار سعرًا معيَّنًا، وربحًا محددًا لا يزيدون عنه، فالنَّبي صلى الله عليه وسلم أرجع الأمور إلي أصلها، بأنَّ الله تعالى هو المتصرف، فهو القابض المضيق على عباده، الباسط الموسع رزقهم بحكمته التي اقتضت ذلك.
وأنَّ التحجير على الناس، والحد من تصرفهم ظلمٌ لهم، وإني لأرجو الله تعالي أن يتوفَّاني في هذه الدنيا إلى الرفيق الأعلى، وليس أحد منكم يطلبني بمَظْلَمَةِ في دم، ولا مال.
2 -
ففي هذا تحريم التسعير على الناس في أسواقهم وبيوعهم.
3 -
فيه تعظيم ظلم الناس في دمائهم وأموالهم، وأنَّ خطره عظيم يوم القيامة، حيث لا وفاء إلَاّ من الأعمال الصالحة.
4 -
فيه إثبات تفرد الله تعالى بالملك والتصرف، فلا شريك له في ذلك، وأنَّ تصرفه بخلقه هو على وفق الحكمة في حال السعة والرخاء، وفي حال الضيق والشدة، فكلها حِكمة عالية، تناسب الحال الحاضرة للمخلوقين.
5 -
فيه إثبات الجزاء الأخروي، وأنَّه حق، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
6 -
إذا كان تحديد السعر على الناس ظلمًا تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك بالحكومات التي تدعي الإسلام، وتسلب أموال الرعية باسم الاشتراكية، وتأميم موارد رزقهم، ثم ترهقهم بالضرائب والرسوم والتعريفات الجمركية، التي ألحقت الفقر والفاقة بالمستهلكين من رعاياهم، ومع هذا لم تزدهم هذه الأعمال إلَاّ فقرًا وديونًا، واستعمارًا للدول الغنية.
قال ابن القيم: التسعير منه ما هو محرَّم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بشيء لا يرضونه، أو منعهم مما أباح لهم فهو حرام.
وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز بل واجب، وجِماع الأمر أنَّ مصلحة الناس إذا لم تتم إلَاّ بالتسعير سعَّر عليهم بتسعير العدل، وإذا اندفعت حاجتهم، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
قال الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ: الذي يظهر لنا وتطمئن إليه نفوسنا ما ذكره ابن القيم، من أنَّ التسعير منه ما هو ظلم، ومنه ما هو عدل جائز.
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب، فالتسعير جائز بشرطين:
أحدهما: أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس.
ثانيًا: أن يكون الغلاء لقلة العرض، أو كثرة الطلب.
فمتى تحقق فيه الشرطان كان عدلًا، وضربًا من ضروب رعاية المصلحة العامة، كتسعير اللحوم، والخبز، والأدوية، ونحو هذه الأمور.
* قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن تحديد أرباح التَّجار:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمَّد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ، 10 إلى 15 كانون الأول "ديسمبر" 1988 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع "تحديد أرباح التجَّار"، واستماعه للمناهشات التي دارت حوله. قرَّر:
أولًا: الأصل الذي تقرره النصوص، والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في بيعهم وشرائهم، وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم، في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها، عملًا بمطلق قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معئنة للربح يتقيد بها التجَّار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة، وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق، والقناعة، والسماحة، والتيسير.
ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته، كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار، الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلَاّ حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار، ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإنَّ لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة، التي تقضي على تلك العوامل، وأسباب الخلل، والغلاء، والغبن الفاحش. والله أعلم.
***
692 -
وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَايَحْتكِرُ إِلَّا خَاطِىءٌ" رَوَا مُسْلِمٌ (1)
ــ
* مفردات الحديث:
- لا يحتكر إلَاّ خاطيء: من الاحتكار، وهو شراء الطعام وأقوات الناس للتجارة، وحبسه ليتربَّص به الغلاء، هذا هو تعريفه اللغوي، وقد اشترط الفقهاء له شروطًا ستأتي في الكلام على فقه الحديث إن شاء الله تعالى.
- والخاطىء: آخره همزة، قال الراغب: الخطأ العدول عن الجهة، وذلك إضراب، فلفظته مشتركة مترددة بين معان، ومن تلك المعاني أن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، قلت: وهو المراد هنا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الاحتكار هو شراء السلعة للتجارة، وحبسها لتقل في السوق فتغلو ويرتفع سعرها على المشترين.
2 -
قسَّم العلماء الاحتكار إلى نوعين:
أحدهما: محرَّم، وهو الاحتكار في قوت الآدميين، لِما روى الأثرم عن أبي أمامة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم:"نهى أن يحتكر الطعام"، وهذا النوع هو المراد من الحديث، بأنَّ صاحبه خاطىء، أي عاصٍ آثمٌ مرتكبٌ للخطيئة.
الثاني: جائز، وهو في الأشياء التي لا تعم الحاجة إليها، كالأدم، والزيت، والعسل، والثياب، والحيوان، وعلف البهائم، ونحو ذلك.
(1) مسلم (1605).
3 -
قال في شرح الإقناع: ويُجْبر المُحتكر على البيع كما يبيع الناس، دفعًا للضرر، فإن أبى أن يبيع ما احتكره من الطعام، وخيف التلف بحبسه على الناس، فرَّقه الإمام على المحتاجين إليه، ويردون مثله عند زوال الحاجة.
4 -
قال شيخ الإسلام: عِوَض المثل كثير الدوران في كلام العلماء، وهو أمر لابد منه في العدل، الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة، فهو من أركان الشريعة، فقيمة المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل ونحو ذلك محتاج إليه فيما يُضْمن بالإتلاف بالنفوس، والأبضاع، والمنافع، والأموال، وما يضمن بالعقود الفاسدة، والصحيحة أيضًا، وهو متَّفق عليه بين المسلمين، بل وبين أهل الأرض، وهو معنى القسط، الذي أرسل الله به الرسل، وأنزل فيه الكتب، وهو مقابلة الحسنة بمثلها، والسيئة بمثلها، وهو مثل المسمى "العرف والعادة".
فالمسمَّى في العقود نوعان:
1 -
نوع اعتاده الناس وعرفوه، فهو العوض المعروف المعتاد.
2 -
نوع نادر لفرط رغبة، أو مضرة، أو غيرها، ويقال فيه:"ثمن المثل" فالأصل فيه اختيار الآدميين، وإرادتهم، ورغبتهم.
***
693 -
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُصَرُّوا الإِبلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ شَاءَ امْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: "فَهُوَ بالخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ".
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَلَّقَهَا البُخَارِيُّ: "وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعامٍ، لَا سَمْرَاءَ" قَالَ البُخَارِيُّ: وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا تُصَرُّوا الإبل: بضم المثناة الفوقية وفتح الصاد المهملة وتشديد الراء المضمومة، مأخوذ من التصرية، يقال: صرى يصري اللبن في ضرعها، ومعناه يرجع إلى الجمع، والمصراة اسم مفعول، هي التي تُرْبط أخلافها؛ ليجتمع لبنها للتدليس على المشتري، قال ابن دقيق العيد: لم تأت رواية بحذف الواو من تصروا، قال البخاري: أصل التصرية حبس اللبن في الضرع لذوات الظلف.
- فمَن ابتاعَها: أي من اشترى المصراة، فالبيع والشراء يطلق أحدهما على الآخر، والغالب أنَّ البائع باذل السلعة، والمشتري باذل الثمن.
- فهو بخيْر النَّظرين: يقال: نظر في الأمر ينظر نظرًا تدبره وفكر فيه؛ ليختار بين الإمساك أو الرد، فإن شاء أمسكها، وإن شاء ردَّها.
- بعد أن يحلبها: وروي بكسر "إن" فتكون شرطية، ويحلبها مجزوم، وحلب
(1) البخاري (2148)، مسلم (1524).
يحلب حلبًا من باب قتل.
- بعد: قال الكرماني: بعد هذا النَّهي، أو بعد صر البائع، والثاني أوجه.
- صاعًا من تمر: المراد به الصاع النبوي، وقدره بالموازين الحاضرة هو (3000) غرامًا من البر الجيد.
وصاعًا من تمر: منصوب بفعل مقدر، تقديره: وردَّ معها صاع تمر.
- لَا سمْرَاء: بفتح فسكون، هي قمح مخصوص، فهي الحنطة الشامية، قال العيني: وكانت أغلى ثمنًا من البر الحجازي، وقال ابن الأثير في النهاية: السمراء هي الحنطة، ومعنى نفيها: أي لا يلزم أن يعطي الحنطة لأنَّها أغلى من التمر بالحجاز.
***
694 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "مَنِ اشْتَرى شَاةً مُحَفَّلَةً فردَّها، فَلْيُردَّ مَعَهَا صَاعًا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَزَادَ الإسْمَاعِيلِيُّ: "مِنْ تَمْرٍ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مُحفَّلة: بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الفاء الموحدة، يقال: حفل اللبن في الضرع اجتمع.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الإسلام يريد بناء المعاملات على الصدق والأمانة والنصح، وينهى عن الخداع والتغرير، والتدليس لما يجره من غش يترتب عليه العداوة والبغضاء، وأكل أموال الناس بالباطل.
2 -
نهى في هذين الحديثين عن التدليس، وذلك بترك اللبن في ضروع بهيمة الأنعام عند إرادة بيعها، حتى يجتمع، فيظنه المشتري عادة لها، فيشتريها بما لا تستحقه من ثمن، ويكون البائع قد غشَّ المشتري وظَلَمَه.
3 -
النَّهي يقتضي التحريم؛ لأنَّه أكل لأموال الناس بالباطل.
4 -
البيع صحيح، لقوله:"إن رضيهَا أمسكها" ولكن له الخيار بين الإمساك الرد، إذا علم بالتصرية، سواء علمه قبل الحلب أو بعده.
5 -
أن أمسكها فهو بثمنها الذي عليه العقد، وإن ردها رد معها صاعًا من تمر بدلًا من اللبن الذي اشتريت وهو في ضرعها، إذا حلبها المشتري، أما اللبن الحادث بعد حلبه التصرية فلا يرد عنه شيئًا؛ لأنَّ الخراج بالضمان.
(1) البخاري (2149).
6 -
يفيد الحديث أنَّ كل بيع فيه التدليس فهو محرَّم، وأنَّ المدلس عليه بالخيار.
7 -
مدة خيار المشتري بالرد أو الإمساك ثلاثة أيام منذ علِم بالتصرية.
8 -
أما البائع فالعقد لازم في جانبه، لأنَّه لا يوجد من قِبله ما يفسد العقد، ويوجب الرد.
* خلاف العلماء:
ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، إلى رد صاع من تمر عن لبن المصراة عند ردها إلى البائع لحديث الباب.
وذهب أبو حنيفة وأتباعه إلى أن يردها، ولا يرد معها شيئًا، واللبن للمشتري بدل علفها، واعتذروا عن الأخذ بالحديث بأئَه مخالف لقياس الأصول، وهو أنَّ اللبن مثلي، فيقتضي الضمان بمثله.
والجواب أنَّ خبر الشارع الثابت هو الأصل الذي يجب الرجوع إليه.
قال الخطابي: الحديث إذا صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس إلَاّ التسليم له، وكل حديث أصل برأسه، ومعتبر بحكمه في نفسه، فلا يجوز أن يعترض عليه بسائر الأصول المخالفة، أو يتذرع إلى إبطاله بعدم النظير له، وقلة الأشباه في نوعه.
والأصل إنما صارت أصولًا لمجيء الشريعة بها، وليس ترك الحديث بسائر الأصول، بأولى من تركها له.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث مُجمع على صحته، واعتلَّ من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها.
***
695 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ علَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أصَابِعُهُ بلَلًا، فَقَال: مَا هَذا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أصَابتهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ الله! قالَ: أفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَام كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ، فَلَيْسَ مِنِّي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- صُبْرَة: بضم الصاد المهملة، وسكون الباء الموحدة.
الصبرة: هي الكومة المجموعة من طعام وغيره، سميت صبرة، لإفراغ بعضها على بعض، وضم بعضها إلى بعض.
- بلَلًا: بفتحتين، الندى والرطوبة.
- أصابتْه السماء: أي المطر النازل من السماء.
- غشَّ: الغِش بكسر الغين، وأصله من الغشش: وهو الماء المكدر، والغش ضد النصح، فهو الغدر والخديعة، فهو غاش، وجمعه غُشَّاش وغَشَشَة.
- فَليس مني: قال النووي: كذا بالأصول بياء المتكلم، ومعناه ليس ممن اهتدى بهدي، واقتدى بحسن طريقتي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث دليل على تحريم غش الناس في البيع، وسائر المعاملات.
2 -
أنَّ الواجب على البائع إذا كان طعامه أو غيره من السلع معيبًا، أو رديئًا، أن
(1) مسلم (102).
يجعله هو الأعلى؛ ليشاهده المشتري، فلا يُقْدِم في الشراء إلَاّ على علم وبصيرة.
3 -
يدل على جواز بيع الرديء والمعيب إذا رآه الناس، وعلموا به، ورضوا شراءه.
4 -
وأما قوله: "من غشَّ فليس مني" فقد اختلف العلماء في تفسيره.
قال سفيان بن عيينة: نمسك عن تأويله، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر.
وقال النووي: معناه ليس ممن اهتدى واقتدى بعلمي، وحسن طريقتي، وشيخ الإسلام يرى استحقاقه الوعيد لو لم يقم بالشخص ما يدفعه أو يخففه من أعمال.
5 -
هذا البيع من التدليس الذي يجعل للمشتري الخيار في إمساك المبيع، أو رده على البائع، والرجوع بثمنه.
6 -
ومما يؤسف له أنَّ أكثر معاملات الناس الآن جارية على هذا، لا يرون فيه بأسًا، ولا يخشون من عمله عقابًا، مما سبب منع القطر والقحط، ونزع البركة.
7 -
الغش محرم في كل عمل وصنعة ومعاملة، فهو محرَّم في الصناعات، ومحرَّم في الأعمال المهنية، ومحرَّم في المعاملات، ومحرَّم في العقود، ومحرَّم بما تحت يد الإنسان من أعمال حكومية، أو أعمال للناس.
فالغش يدخل في عموم ما يقوم به الإنسان، فإن نصَحَ فيه، وأخلص فيما وجب عليه، أَكَلَ رزقًا حلالًا، وإن خان وغش، ظلم نفسه، وظلم غيره، وأكل حرامًا.
696 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَن أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَبَسَ العِنَبَ أَيَّامَ القِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، فَقَد تَقَحَّمَ النَّارَ عَلى بَصِيرَةٍ" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
قال الحافظ: إسناده حسن.
قال في التلخيص: أخرجه الطبراني عن محمَّد بن أحمد بن أبي خيثمة بإسناده عن بريدة مرفوعًا.
* مفردات الحديث:
- حَبس العنب: أبقى العنب حينما جاء وقت قطافه حتى يكون زبيبًا.
- القِطَافَ: بكسر القاف وفتحها هو أوان قطف الثمر من الشجر.
- تقحَّم النار علن بصيرة: بفتح التاء والقاف وتشديد الحاء آخره ميم، رمى بنفسه في النار على علم بالسبب الموجب لدخوله.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الخمرة تتخذ من أشياء كثيرة، لكن أكثر ما يتَّخذونها من الزبيب، فمن ترك العنب فلم يقطفه إبان قطافه ليصير زبيبًا، فيبيعه على الذين يتَّخذون منه خمرًا، فقد عمل السبب الذي يوجب له دخول النار.
وذلك على علم منه بذلك وبصيرة، لأنَّه أقدم على المحرَّم عالمًا به.
2 -
عموم الحديث يدل على تحريم ذلك، لو كان المشتري ممن يُقَرُّون على
(1) الطبراني في الأوسط (5356).
شربها، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذلك أنَّ الكفار مخاطبون، ومسؤولون عن أصول الشريعة وفروعها، وأوامرها ونواهيها.
3 -
قال شيخ الإسلام: يحرم ذلك، ولو غلب على ظنه ذلك بالقرائن، وهو ظاهر نص أحمد، وصوَّبه في الإنصاف.
4 -
قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
قال ابن القيم: قد تظاهرت أدلة الشرع على أن القصود في العقود معتبرة، وأنَّها تؤثر في صحة العقد وفساده، وفي حله وحرمته.
5 -
يقاس على ذلك كل ما أعان على معصية كآلات اللهو، وتأجير الحوانيت، لمن يبيع فيها خمرًا، أو دخانًا، أو تأجير بيته لمن يتَّخذه للبِغَاء والفساد، أو يعمل في مؤسسات تعمل في الربا، وغير ذلك من الأمور الكثيرة، فإنَّه يحرم ذلك عليه إذا تيقن الأمر، أو غلب على ظنه بطرقٍ أُخر.
6 -
هناك أشياء يصلح أن تستعمل في الخير، ويصلح أن تستعمل في الشر، مثل الراديو والتلفاز، وأشرطة التسجيل، ونحو ذلك، فهذه لا تحرم؛ لأنَّها كما أنَّه يوجد فيها مفسدة، فإنَّه يوجد فيها مصلحة، أو مصالح، ووجود المفسدة والمصلحة في الشيء الواحد كثير جدًا، فمثل هذا لا يعطى حكم الحرمة مطلقًا، وإنما تعطى حكم الحرمة إذا علمتَ، أو غلب على ظنك أنَّ هذا المشتري لم يشتره إلَاّ للأمر المحرَّم.
***
697 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَضَعَّفَهُ البُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ القَطَّانِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال المؤلف: رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبَّان، والحاكم، وابن القطان.
وضعَّفه البخاري وأبو داود ضعَّفه البخاري؛ لأنَّ فيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ذاهب الحديث.
قال في التلخيص: صححه ابن القطان، وقال ابن حزم: لا يصح.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.
قال الألباني: ورجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، غير مخلد بن خفاف.
وقد وثقه ابن حبَّان، وقال ابن حجر: مقبول بالمتابعة، وقد توبع في هذا الحديث، وقد تلقاه العلماء بالقبول.
* مفردات الحديث:
- الخراج: بفتح الخاء ثم راء مخففة، الغلة والكرا، أي الفوائد والمنافع الحاصلة من العين المباعة.
(1) أحمد (3091)، أبو داود (3508)، الترمذي (1285)، النسائي (7/ 254)، ابن ماجه (2442)، ابن الجارود (627)، ابن حبان (1125)، الحاكم (2/ 15).
- بالضمان: بفتح الضاد الكفالة، والباء متعلقة بمحذوف، والتقدير: منافع المبيع، تكون للمشتري في مقابلة الضمان اللازم عليه بتلف المبيع، ونفقته ومؤنته.
قال ابن الأثير في النهاية: الباء بالضمان متعلقة بمحذوف، وتقديره، الخراج مستَحق بسبب الضمان.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تمام الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة من "أنَّ رجلًا اشترط غلامًا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكان عنده ما شاء الله، ثم رده من عيب وجده، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم برده بالعيب، فقال المقضي عليه: قد استعمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان".
2 -
الخراج بالضمان: يعني أنَّ ما خرج من المبيع من غلة ومنفعة فهو للمشتري، عوضَ ما كان يَلْزَمُه من ضمان المبيع لو تلف، فالغلة إذًا تكون له في مقابل الغرم، ولأنَّ من تحمل الخسارة -لو حصلت- يجب أن يحصل على الربح، وتقدم قول ابن الأثير أنَّ الباء في "بالضمان" متعلقة بمحذوف، تقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي بسببه.
3 -
هذا الحديث الوجيز المفيد من جوامع الكلم لاشتماله على معانٍ كثيرةٍ، حتى أصبح، "قاعدةً" من قواعد الدين وأصوله، فتخرج عليها ما لا يحصى من المسائل، والصور الجزئية.
4 -
فمن ابتاع أرضًا فاستعملها، أو ماشيةً فحلبها أو نتجها، أو دابةً، أو سيارةً. فركبها وحمل عليها، ثم وجد بشيء من ذلك عيبًا فله أن يرد الرقبة، ولا شيء فيما انتفع به؛ لأنَّها لو تلفت ما بين مدة الفسخ والعقد لكانت في ضمان المشتري، فوجب أن يكون له الخراج.
قال في المنتهى وشرحه: ولا يَرُدُّ مشترٍ -ردَّ مبيعًا لعيبه- نماءً منفصلًا منه، كثمرة، وولد بهيمة، وله كسبه من عقد إلى ردٍّ؛ لحديث:"الخراج بالضمان" فلو هلك المبيع لكان من ضمانه.
5 -
في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، ولهم تفصيلات فيما يبقى للمشتري، وما يرده مع المبيع إذا رده على البائع، ولكن ما قررنا هنا هو مذهب الإمامين، الشافعي وأحمد، وهو الذي يدل عليه الحديث "الخراج بالضمان".
***
618 -
وَعَنْ عُرْوَةَ البَارِقِيِّ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أعْطَاهُ دِينارًا لِيَشْتَرِي بِهِ أُضحِيَّهً أوْ شَاةً، فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَّيْنِ، فَباعَ إِحْدَاهمَا بِدِيْنارٍ، فَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِيْنارٍ، فَدَعَا لَهُ بالبرَكةِ فِي بيعِهِ، فَكَانَ لَوِ اشْتَرَى تُرَابا لَرَبحَ فِيهِ" رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَاّ النَّسَائِيَّ، وَقدْ أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظهُ (1)، وَأَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. (2)
ــ
* درجة الحديث:
إسناده حسن.
قال المؤلف: رواه الخمسة إلَاّ النسائي، وأصله في البخاري.
قال في التلخيص: في إسناده سعيد بن زيد مختلف فيه، وقال المنذري والنووي: إسناده حسن صحيح، ومال كل من ابن القطان والخطابي والزيلعي إلى أنَّ الحديث منقطع، ذلك لأنَّ شبيب بن غرقدة يقول: إنَّ الحيَّ حدثوه، وقال ابن حجر في فتح الباري: الصواب أنَّه متَّصل، وفي إسناده مبهم، وهذا المبهم هو سعيد بن زيد بن درهم الأزدي، قال حرب: سمعتُ أحمد يثني عليه، وللحديث شاهد عند الترمذي عن حكيم بن حزام.
وأما الشاهد من حديث حكيم بن حزام فراويه عن حكيم هو حبيب بن ثابت، وقد ضعَّف الحديث الترمذي، والبيهقي، والخطابي، وقالوا: إنَّه
(1) أحمد (18549)، أبو داود (3384)، الترمذي (1257)، ابن ماجه (2402)، البخاري (3642).
(2)
الترمذي (1257).
منقطع، لأنَّ حبيب ابن ثابت لم يسمع من حكيم، وفيه راوٍ مجهول.
قُلتُ: وَهَذا في الكلام عن الشاهد، فلا يطعن في أصل الحديث.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز الوكالة فيما تدخله النيابة من الأعمال، كالبيع والشراء، فالنبي صلى الله عليه وسلم وكَّل عروة البارقي بشراء الشاة.
2 -
يدل الحديث على جواز تصرف الفضولي ونفاذ عقده بعد إجازة من تصرف له، ويصير التصرف لمن وقع له التصرف، وهذه رواية في مذهب الإمام أحمد.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ بيع الفضولي وشراءه صحيح، إذا أجازه من تصرف له.
أما المشهور من المذهب، فإنَّ تصرف الفضولي لا يصح، ولو أجازه من تصرف له، ولكن الرواية أصح إن شاء الله تعالى، وحديث عروة البارقي صريح في جوازها.
3 -
أنَّ شراء الشاة في هذا الحديث ليس تعيينًا لها أضحية فلا تبدل؛ لأنَّ الشراء يراد لأمور كثيرة، وإنما تتعيَّن بقوله: هذه أضحية، أو هذه لله؛ لأنَّها لو تعيَّنت بمجرد الشراء لم يجز بيعها، ولا هبتها؛ لتعلق حق الله تعالى بها.
4 -
بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ بهذا الرجل أن لا يخسر في صفقة، حتى لو اشترى ترابًا لربح فيه.
5 -
أنَّ الدعاء هو مكافأة لمن صنع للإنسان معروفًا، أو نفعه بشيء، أو أعطاه شيئًا.
6 -
أنَّ الفرح بحصول الدنيا وزيادتها لا تنافي الاتجاه إلى الله تعالى، ما دام أنَّ الدنيا ليست هي هم من نالها، وإنما يُسرّ بها لقضاء واجباته ونفقاته، ولم يحرص على تحصيلها وجمعها للتكاثر، والتباهي بها.
7 -
الحديث صريح في عدم تحديد الربح في البيع والشراء، وأنَّ هذا خاضع لنظام العرض والطلب في الأسواق، فهذا عروة ربح في بيعه الضعف، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت لجنة الفتوى في إدارة البحوث العلمية: الأصل في الأثمان عدم التحديد، سواء كانت في الحال أو المؤجل، فتترك لتأثير العرض والطلب، إلَاّ أنَّه ينبغي للناس أن يتراحموا فيما بينهم، وأن تسود بينهم روح السماحة في البيع والشراء، قال صلى الله عليه وسلم:"رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى".
* قرار مجمعى الفقه الإسلامي بشأن تحديد الأرباح:
إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى، 1409هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول "ديسمبر" 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تحديد أرباح التُّجار، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرَّر:
أولًا: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارا في بيعهم وشرائهم، وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم، في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها، عملًا بمطلق قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيَّد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة، وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة، والسماحة والتيسير.
ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته، كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغلال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار، الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلَاّ حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار، ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإنَّ لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة، التي تقضي على تلك العوامل، وأسباب الغلاء، والغبن الفاحش، والله أعلم.
***
699 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَنْعامِ حتَّى تَضَعَ، وَعنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا، وَعَنْ شِرَاءِ العَبْدِ وَهُو آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ المَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبضَ، وَعنْ ضَرْبه الغَائِصِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالبَزَّارُ، والدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ (1).
ــ
* درجة الحديث:
إسناده حسن.
قال البيهقي: وهذه المناهي داخلة في بيع الغرر الذي نهي عنه في الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: رواه ابن ماجه والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف؛ لأنَّه من حديث شهر بن حوشب، وقد تكلَّم فيه جماعة، كالنضر بن شميل والنسائي، وابن عدي وغيرهم، وقال البخاري: وشهر بن حوشب حسن الحديث، وقوى أمره، وروي عن أحمد أنَّه قال: ما أحسن حديثه.
* مفردات الحديث:
- آبق: أبق؛ بكسر الباء وفتحها وضمها في المضارع، هارب من سيده، وفرَّق الثعالبي بين آبق وهارب، فقال: آبق إذا هرب من غير كد، وهرب إذا فعل ذلك من كد.
- المغانم: جمع غنيمة، وهي ما استُولي عليه قهرًا من أموال الكفَّار المحاربين.
- ضربة الغائص: غاص في الماء غوصًا نزل تحته، وضربة الغائص، أي: نزلته في أعماق البحر؛ لاستخراج اللؤلؤ.
(1) ابن ماجه (2196)، الدارقطني (3/ 44).
700 -
وَعنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي المَاءِ فإِنَّهُ غَرَرٌ" رَوَاهُ أَحمَدُ، وأَشَارَ إِلى أنَّ الصَّوَابَ وقَفُهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث موقوف، وروي مرفوعًا، والموقوف له حكم المرفوع، والله أعلم.
قال في التلخيص: رواه أحمد مرفوعًا وموقوفًا من طريق يزيد بن أبي زياد عن المسيب بن رافع عنه.
قال البيهقي: فيه إرسال بين المسيب وعبد الله، والصحيح وقفه.
وقال الدارقطني: الموقوف أصح، وكذا قال الخطيب وابن الجوزي.
وفي الباب عن عمران بن حصين مرفوعًا رواه ابن أبي عاصم، وقال الهيثمي: رواه أحمد موقوفًا ومرفوعًا، والطبراني في الكبير كذلك، ورجال الموقوف رجال الصحيح، وفي رجال المرفوع شيخ أحمد، محمد بن السماك، ولم أجد من ترجمه، وبقيتهم ثقات اهـ.
وهو أيضًا داخل في حديث النَّهي عن بيع الغرر.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر".
والغرر ما طوي عنك علمه وخفي عليك باطنه، من مجهول، أو معدوم،
(1) أحمد (3494).
أو معجوز عن الحصول عليه، أو غير مقدور عليه، فهذا كله غرر.
قال الوزير: اتَّفقوا على أنَّه لا يجوز بيع الغرر.
2 -
البيوعات المذكورة في هذين الحديثين كلها بيوع غرر، ولذا نهى عنها الشارع الحكيم لما يجرّه الغرر والجهالة من مفسدتين كبيرتين:
الأولى: أنَّ الجهالة والغرر يسببان أكل أموال الناس بالباطل، فأحد العاقدين إما غانم بلا غرم، أو غارم بلا غُنم؛ لأنَّها رهان ومقامرة.
الثانية: إنَّ هذه العقود تجر العداوة والبغضاء، وتسبب الحقد والشحناء، والإسلام جاء للقضاء على هذه المفاسد.
3 -
البيوعات المذكورة في هذين الحديثين النَّهي عن تعاطيها يعود إلى ثلاثة أمور: إما لجهالتها، وإما للعجز عن تسليمها، وإما لعدمها حين العقد.
4 -
قوله: "شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع" وهو بيع الحمل في بطن أمه، فهذا هو بيع الملاقيح المنهي عنه، لأنَّه مجهول فهو من بيع الغرر، ولكن لو بيع الحمل مع أمه صحَّ؛ لأنَّه تابع وليس مستقلاً
والقاعدة الشرعية: "يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا" منطبقة على هذا.
5 -
قوله: "وعن بيع ما في ضروع بهيمة الأنعام" لأنَّه مجهول غير معلوم المقدار، فهو من بيع الغرر.
6 -
قوله: "وعن شراء العبد وهو آبق" وذلك لعدم القدرة على تحصيله وتسليمه، فهو من أنواع بيع الغرر، ومثله الجمل الشارد، والطير في الهواء، ونحو ذلك.
7 -
قوله: "وعن شراء المغانم حتى تقسم" لأنَّ نصيب الغانم مجهول المقدار، فإن كان باع معينًا من الغنيمة، فيزيد على الجهالة أنَّه باع ما لم يملكه، فقد باع ما ليس عنده.
8 -
قوله: "وعن شراء الصدقات حتى تقبض" وعلة النَّهي هي الجهل بالمقدار،
والعلة الأخرى أنَّه باع ما لم يملكه، فإنَّ مستحق الصدقة لا يملكها إلَاّ بعد قبضها بإذن المتصدق، كالهبة.
9 -
قوله: "عن ضربة الغائص" فضربة الغائص جَمَعَت من محاذير عدم صحة العقد: الجهل بقدر ما يحصله الغائص في ضربته التي يريد المشتري كسبها، وعدم ملك البائع لها حين العقد، ففيها غرر كبير.
10 -
قوله: "عن شراء السمك في الماء" وعلَّة النَّهي هنا أمران:
أحدهما: عدم القدرة على الحصول عليه، وتسليمه للمشتري.
الثاني: الجهل به، فإنَّ السمك بالماء الغمر مجهول غير معروف القدر، وغير معروف الحجم، وغير معروف النوع، فهو مجهول، فبيعه غرر كبير.
11 -
استثنى الفقهاء السمك إذا كان بماء مَحُوز، نحو بركة يسهل أخذه، والماء صافٍ يعلم فيه مقدار السمك وأحجامه، فإنَّه يجوز بيعه لإمكان أخذه ولمعرفته، فلا غرر في ذلك.
12 -
أما بعد: فباب الغرر باب واسع لا يحاط بجزئياته، ولا تحصى مفرداته، ولكن تحكُمه ضوابط شرعية تحدد أفراده، وتميز معالمه، وهو باب خطر من أبواب المعاملات، كان في زمن الجاهلية يتمثل في بيع الحمل، وبيع اللبن في الضرع، والجمل الشارد، وبيع الحصاة، والملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك، وما زالت جزئيات منه وأنواع، تظهر في كل زمان ومكان، حسب ما يناسب حالة أهله، حتى ظهر في زمننا أنواع منه خطرة جدًا، أفقرت بيوتًا تجارية كبرى، وقضت علما مستقبل وحياة أفراد فُتِنُوا بالميسر والقِمار، الذي ظهر بوسائله وأدواته الحديثة، ومؤسسات اليانصيب، وألعاب:"أُطرقْ بابَ الحظِّ بِعِنَادٍ"(1)، و"الوتري"، وغير ذلك مما نسمع عنها أنَّها سببت ثراء قوم بلا جهد، وفقر آخرين بالباطل، وكل هذا من
أعمال الشيطان، التي قال تعالى عنها:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] اللَّهمَّ بصِّر المسلمين في أمر دينهم.
* قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن موضوع عملية اليانصيب:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وعليه آله وصحبه وسلم
…
أما بعد:
فإنَّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة والتي بدأت يوم السبت 20 من شعبان 1415هـ، 21/ 1/ 1995م قد نظر في هذا الموضوع وهو عملية اليانصيب، وهي المعرَّفة في القانون بأنَّها "لعبة يسهم فيها عدد من الناس بأن يدفع كل منهم مبلغًا صغيرًا ابتغاء كسب النصيب، وهو عبارة عن مبلغ كبير، أو أي شيء آخر، يوضع تحت السحب، ويكون لكل مساهم رقم، ثم توضع أرقام المساهمين في مكان، ويسحب منها عن طريق الحظ رقم، أو أرقام، فمن خرج رقمه كان هو الفائز بالنصيب.
وبناء على هذا التعريف فإن عملية اليانصيب تدخل في القمار؛ لأنَّ كل واحد من المساهمين فيها، إما أن يغنم الينصب كله، أو يغرم ما دفعه، وهذا ضابط القمار المحرَّم.
والتدبير الذي تذكره بعض القوانين لجواز لعبة اليانصيب إذا كان بعض دخلها يذهب للأغراض الخيرية، يرفضه الفقه الإسلامي؛ لأنَّ القِمار حرام أيًّا كان الدافع إليه، فالمَيسر وهو قمار أهل الجاهلية كان الفائز فيه يفرق ما كسبه على الفقراء، وهذا هو نفع الميسر الذي أشار إليه القرآن، ومع ذلك حرمه؛ لأنَّ إثمه أكبر من نفعه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم أنزل سبحانه قوله
تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة] ثم يوصي المجلس بأن تقوم إدارة المجمع بإجراء دراسة ميدانية لأنواع الجوائز والمسابقات والتخفيضات، المنتشرة في وسائل الإعلام، والأسواق التجارية، ثم استكتاب عدد من الفقهاء والباحثين، وعرض الموضوع على المجلس في دورته القادمة إن شاء الله.
وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
***
701 -
وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعِمَ، وَلَا يُبَاعُ صُوفٌ عَلى ظَهْرٍ، وَلَا لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ" رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ فِي الأوْسَطِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي المَرَاسِيلِ لِعِكْرِمَةَ وهو الرَّاجِحُ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَلى ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ، وَرَجَّحَهُ البَيْهَقِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث مرسل صحيح، وروي بإسناد صحيح موقوفًا على ابن عبَّاس، لكن له حكم الرفع، إذ هو مما لا مجال للرأي فيه.
قال المؤلف: رواه الطبراني والدارقطني، وأخرجه أبو داود في المراسيل لعكرمة وهو الراجح، وأخرجه موقوفًا عن ابن عباس بإسنادٍ قوي، ورجَّحه البيهقي، قال في التلخيص: وللبزار بإسناد صحيح عن طاووس عن ابن عباس بلفظ: "نهى عن بيع الثمار حتى تطعم".
قال الهيثمي: رجاله ثقات.
* مفردات الحديث:
- ثمرة: بالمثلثة، وأكثر ما تطلق الثمرة على ثمرة النخل.
- تُطعِم: بضم المثناة الفوقية وكسر العين المهملة، يبدو صلاحها، يقال: أطعمت البسرة صار لها طعم، والطعم ما تدركه حاسة الذوق.
- الضَّرع: بفتح الضاد، جمعه ضروع مدر اللبن لذات الظلف، كما يسمى ثديًا للمرأة.
(1) الطبراني في الأوسط (3708)، الدارقطني (3/ 14)، أبو داود في المراسيل (182)، البيهقي (5/ 340).
702 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن بيعِ المَضَامِينِ وَالمَلَاقِيحِ" رَوَاهُ البَزَّارُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث مرسل صحيح، وروي بإسنادٍ قويٍّ موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما له حكم الرفع، والله أعلم.
قال في التلخيص: رواه إسحاق بن راهويه والبزَّار من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، وهو ضعيف.
وقد رواه مالك عن الزهري، وعن سعيد بن المسيب مرسلاً، قال الدارقطني: وصله عمر بن قيس عن الزهري، والصحيح قول مالك، وفي الباب عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق، وإسناده قوي. اهـ.
وهذا الموقوف له حكم الرفع، والله أعلم.
قال ابن القيم في زاد المعاد: الحديث صحيح.
وقال الحافظ عن الشاهد: إسناده قوي.
* مفردات الحديث:
- المضامين: المضامين: هي ما في أصلاب الفحول، وهي جمع مضمون.
- الملاقيح: جمع ملقوح، وهي ما في بطون النوق، ولقحت الناقة، قبلت ماء الفحل، فهي لاقح، وجمعها ملاقيح ولواقح.
(1) البزار (1267).
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
النَّهي عن بيع الثمرة من التمر، والعنب، والتين، وغيرها حتى يدخلها الطعم الحلو، ويبتدي فيها النضج، وتخف إصابة العاهات السماوية بها، وسيأتي الكلام عنها بأوسع من هذا.
2 -
النَّهي عن بيع الصوف على ظَهر الدابة، لأنَّه مجهول، فيفضي إلى الغرر والخصومة، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
والرواية الأخرى، جواز بيع الصوف على الظَّهر بشرط القطع في الحال؛ لأنَّ المدار على الجهالة، والصوف يشاهد، ويعرف، فلا جهالة فيه.
وهذا هو مذهب الإمام مالك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.
3 -
الملاقيح والمضامين: قال أبو عبيد: المضامين ما في أصلاب الفحول، والملاقيح: ما في بطون الأمهات من الأجنة.
قال شيخ الإسلام: ومن أنواع الغرر بيع الملاقيح والمضامين، فكل بيع غرر، فهو من الميسر الذي حرَّمه الله في القرآن.
4 -
بيع اللبن في الضرع تقدم أنَّه من الغرر.
***