الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي التَّعَارُض
(وغالبه) أَي التَّعَارُض (فِي) أَخْبَار (الْآحَاد) فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى وَجه ذكره بعْدهَا، و (هُوَ) أَي التَّعَارُض لُغَة (التمانع) بطرِيق التقابل، تَقول عرض لي كَذَا إِذا استقبلك بِمَا يمنعك مِمَّا قصدته، وَسمي السَّحَاب عارضا لمَنعه شُعَاع الشَّمْس وحرارتها (وَفِي الِاصْطِلَاح اقْتِضَاء كل من الدَّلِيلَيْنِ عدم مُقْتَضى الآخر، فعلى مَا قيل) وَالْقَائِل غير وَاحِد من الْمَشَايِخ كفخر الْإِسْلَام (لَا يتَحَقَّق) التَّعَارُض (إِلَّا مَعَ الوحدات) الثمان، وحدة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَبِه، وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَالْإِضَافَة وَالْقُوَّة، وَالْفِعْل وَالْكل والجزء، وَالشّرط، قيل ووحدة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، ومرجع الْكل إِلَى وحدة النِّسْبَة كَمَا عرف فِي الْمنطق، فالتعارض (لَا يتَحَقَّق فِي) الْأَدِلَّة (الشَّرْعِيَّة للتناقض) أَي لِأَنَّهُ يسْتَلْزم التَّنَاقُض، والشارع منزه عَنهُ لكَونه أَمارَة الْعَجز، وَقد يُقَال لَا نسلم أَن عدم تحقق التَّعَارُض بِدُونِ تحقق الوحدات فِي نفس الْأَمر يسْتَلْزم عدم تحَققه فِي الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة، إِذْ التَّنَاقُض إِنَّمَا يلْزم لَو اعْتبر فِيمَا صدق عَلَيْهِ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ كَونه فِي نفس الْأَمر من الله سُبْحَانَهُ وَلَيْسَ كَذَلِك: إِذْ كل مَا ثَبت عِنْد الْمُجْتَهد إفادته لحكم شَرْعِي فَهُوَ دَلِيل شَرْعِي، غَايَة الْأَمر أَنه إِذا تَيَقّن تحقق الوحدات بَين دَلِيلين علم أَن أَحدهمَا لَيْسَ مِنْهُ تَعَالَى فَإِن قلت مُرَاده نفي التَّعَارُض بَين الْأَدِلَّة الَّتِي أَقَامَهَا الله تَعَالَى فِي نفس الْأَمر، قلت هَذَا مُسلم لكنه قَلِيل الجدوى لِأَنَّهُ مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَلَا سَبِيل لنا إِلَى معرفَة خصوصياتها، نعم يقطع بِكَوْن ذَات الدَّلِيل مِنْهُ تَعَالَى كالكتاب، لَكِن كَون هَذَا الْخُصُوص دَلِيلا لخُصُوص هَذَا الحكم بِشَيْء آخر وَالْقطع بِهِ نَادِر وَلَا يسْتَشْكل على قَوْلهم (وَمَتى تَعَارضا) أَي الدليلان (فيرجح) أَحدهمَا (أَو يجمع) بَينهمَا أَو (مَعْنَاهُ) تَعَارضا (ظَاهرا) وَذَلِكَ (لجهلنا) بالمراد أَو بالمتقدم مِنْهُمَا (لَا) أَنَّهُمَا تَعَارضا (فِي نفس الْأَمر، وَهُوَ) أَي كَون المُرَاد بِهِ وَهَذَا هُوَ (الْحق فَلَا يعْتَبر) تحقق الوحدات الْمَذْكُورَة فِيهِ بِحَسب نفس الْأَمر بل بِحَسب مَا يفهمهُ ظَاهرا الْعقل، لِأَن المبوب لَهُ صُورَة الْمُعَارضَة لَا حَقِيقَتهَا (وَلَا يشْتَرط تساويهما) أَي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين (قُوَّة وَيثبت) التَّعَارُض (فِي) دَلِيلين (قطعيين وَيلْزمهُ) أَي التَّعَارُض فِي قطعيين (محملان) لَهما إِذا لم يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر (أَو نسخ أَحدهمَا) بِالْآخرِ إِن علم ذَلِك (فَمَنعه) أَي التَّعَارُض (بَينهمَا) أَي القطعيين (وإجازته فِي الظنيين) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَعلله الْعَلامَة الشِّيرَازِيّ بِأَنَّهُ يلْزم الْجمع بَين النقيضين إِن عمل بهما أَو لم يعْمل بِشَيْء مِنْهُمَا أَو التحكم إِن عمل بِأَحَدِهِمَا دون الآخر، ثمَّ
قَوْله مَنعه مُبْتَدأ خَبره (تحكم) إِذْ حَقِيقَة التَّعَارُض لَا تتَصَوَّر فِي شَيْء مِنْهُمَا وَصورته تجْرِي فيهمَا على السوية (والرجحان) لأحد المتعارضين القطعيين أَو الظنيين إِنَّمَا يكون (بتابع) أَي بِوَصْف تَابع لذَلِك الرَّاجِح كَمَا فِي خبر الْوَاحِد الَّذِي يرويهِ عدل فَقِيه مَعَ خبر الْوَاحِد الَّذِي يرويهِ عدل غير فَقِيه (مَعَ التَّمَاثُل) أَي تساويهما فِي الْقطع وَالظَّن فَلَا رُجْحَان بِغَيْر التَّابِع وَبِدُون التَّمَاثُل (وَمِنْه) أَي من قبيل المتماثلين السّنة (الْمَشْهُورَة مَعَ الْكتاب حكما) أَي من حَيْثُ وجوب تَقْيِيد مطلقه وَتَخْصِيص عُمُومه وَجَوَاز نسخه بهَا وَإِن لم يكن بَينهمَا تماثل من حَيْثُ اكفار جاحده على مَا هُوَ الْحق كَمَا سلف (فَلَا يُقَال النَّص رَاجِح على الْقيَاس) لِأَن رجحانه عَلَيْهِ بِاعْتِبَار ذَاته بِكَوْنِهِ قَطْعِيا لَا بِاعْتِبَار وصف تَابع وَأَيْضًا لَا مماثلة بَينهمَا (بِخِلَاف عَارضه) أَي الْقيَاس النَّص (فَقدم) النَّص فِيهِ لِأَن المُرَاد صُورَة التَّعَارُض وَقد سبق أَنه لَا يشْتَرط تَسَاوِي المتعارضين قُوَّة (إِذْ حكمه) أَي التَّعَارُض (النّسخ إِن علم الْمُتَأَخر وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعلم الْمُتَأَخر (ف) الحكم (التَّرْجِيح) لأَحَدهمَا على الآخر بطريقه إِن أمكن (ثمَّ الْجمع) بَينهمَا بِحَسب الْإِمْكَان إِذا لم يُمكن التَّرْجِيح لِأَن أَعمال كليهمَا فِي الْجُمْلَة أولى من إلغائهما مَعًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُمكن شَيْء مِمَّا ذكر (تركا) أَي المتعارضان ويصار (إِلَى مَا دونهمَا) من الْأَدِلَّة (على التَّرْتِيب إِن كَانَ) أَي وجد مَا دونهمَا فَإِن كَانَ المتروكان من الْكتاب يُصَار إِلَى الْكتاب إِن وجد، وَإِلَّا فَإلَى السّنة وَإِلَّا لم يُوجد فَإلَى قَول الصَّحَابِيّ اتِّفَاقًا إِذا لم يكن الحكم مِمَّا يدْرك بِالرَّأْيِ وَكَذَا فِيمَا يدْرك بِهِ فِي الْمُخْتَار عِنْد المُصَنّف وَغَيره ثمَّ إِلَى الْقيَاس (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُوجد دون المتعارضين دَلِيل آخر أَو وجد وَمَعَهُ معَارض كَذَا (قررت الْأُصُول) فِي التَّلْوِيح بعد قَوْله وَإِلَّا يتْرك الْعَمَل بالدليلين، وَحِينَئِذٍ إِن أمكن الْمصير من الْكتاب إِلَى السّنة وَمِنْهَا إِلَى الْقيَاس، وَقَول الصَّحَابِيّ يُصَار إِلَيْهِ، وَألا يُقرر الحكم على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل وُرُود الدَّلِيلَيْنِ، وَهَذَا معنى تَقْرِير الْأُصُول انْتهى. (أما) التَّعَارُض (فِي القياسين) إِذا احْتِيجَ إِلَى الْعَمَل (فبأيهما شهد قلبه) أَي أَيهمَا أدّى تحري الْمُجْتَهد إِلَيْهِ يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ (إِن) ظهر أَنه (لَا تَرْجِيح) لأَحَدهمَا على الآخر وَلَا يسقطان لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْعَمَل بِلَا دَلِيل شَرْعِي إِذْ لَا دَلِيل بعد الْقيَاس يرجع إِلَيْهِ كَذَا قَالُوا، وَيعْمل بِشَهَادَة الْقلب، لِأَن لقلب الْمُؤمن نورا يدْرك مَا هُوَ بَاطِن كَمَا أُشير إِلَيْهِ بقوله صلى الله عليه وسلم
" اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ الشَّافِعِي رحمه الله يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ من غير تحر (وَقَول الصحابيين بعد السّنة قبل الْقيَاس كالقياسين) فِي أَنه يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ (فَلَا يصارعنهما) أَي عَن قوليهما المتعارضين (إِلَى الْقيَاس) وَهَذَا فِيمَا يُمكن فِيهِ الرَّأْي فَإِنَّهُ إِذا لم يُوجد فِيهِ مَا يرجح أحد الْقَوْلَيْنِ يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يُصَار إِلَى الْقيَاس لاحْتِمَال
كَونه بِالسَّمَاعِ وَإِن كَانَ بِالرَّأْيِ فرأيهم أقرب إِلَى الصَّوَاب كَمَا عرفت، وَأَيْضًا يكون الْحَاصِل أَنهم أَجمعُوا على قَوْلَيْنِ فَلَا يجوز إِحْدَاث ثَالِث، وَأما مَا لَا يُمكن فِيهِ الرَّأْي فَهُوَ فِي حكم الْمَرْفُوع. وَلما بَين التَّرْتِيب أَرَادَ بَيَان كَيْفيَّة الْجمع بقوله (وَالْجمع فِي العامين بِحمْل كل) مِنْهُمَا (على بعض) من أفرادهما بِحَيْثُ لَا يجْتَمع حكمان فِي مَحل وَاحِد كاقتلوا الْمُشْركين إِذا أُرِيد الحربيون وَلَا تقتلُوا الْمُشْركين إِذا أُرِيد بِهِ الذميون (أَو) يحمل على (الْقَيْد) أَي على قيد غير قيد الآخر كإذا لم يَكُونُوا ذمَّة فِي الأول، وَإِذا كَانُوا ذمَّة فِي الثَّانِي (وَكَذَا) الْجمع (فِي الخاصين) يحمل كل على قيد غير قيد الآخر (أَو يحمل أَحدهمَا على الْمجَاز) وَالْآخر على الْحَقِيقَة (و) الْجمع (فِي الْعَام وَالْخَاص) إِذا تَعَارضا (وَلَا مُرَجّح للعام) على الْخَاص (كإخراج من تَحْرِيم) تَمْثِيل لمرجح الْعَام فَإِن مُقْتَضى حكم الْعَام إِذا كَانَ خُرُوج أَفْرَاده عَن التَّحْرِيم، وَمُقْتَضى الْخَاص دُخُول أَفْرَاده المندرجة تَحت الْعَام فِي التَّحْرِيم كَانَ الْعَمَل بِالْعَام مُوَافقا لما هُوَ الأَصْل فِي الْأَفْعَال: وَهُوَ الْإِبَاحَة وبالخاص مُخَالفا لَهُ (وَلَا الْخَاص) أَي وَلَا مُرَجّح لَهُ على الْعَام (كمن اباحة) أَي إِخْرَاج من إِبَاحَة: يَعْنِي فِي جَانب الْعَام ليَكُون عكس الأول، وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله. كإخراج إِخْرَاج الْخَاص من تَحْرِيم، وَمعنى قَوْله من إِبَاحَة أَيْضا إِخْرَاجه مِنْهَا فالمنظور حِينَئِذٍ تَقْدِيم الْمحرم على الْمُبِيح (فبالخاص) يَعْنِي إِذا لم يكن مُرَجّح فِي أَحدهمَا ونسلك مَسْلَك الْجمع فَالْعَمَل بالخاص (فِي مَحَله) أَي الْخَاص وَهُوَ مَا يَشْمَلهُ الْخَاص من جملَة أَفْرَاد الْعَام (وَالْعَام) أَي وَالْعَمَل بِالْعَام (فِيمَا سواهُ) أَي سوى مَحل الْخَاص (فيتحد الْحَاصِل مِنْهُ) أَي من الْجمع بَين الْعَام وَالْخَاص على هَذَا الْوَجْه (وَمن تَخْصِيص الْعَام بِهِ) أَي بالخاص (مَعَ اخْتِلَاف الِاعْتِبَار) تسميه الشَّافِعِيَّة تخيص الْعَام بالخاص بِنَاء على قاعدتهم، وَالْحَنَفِيَّة الْجمع بَينهمَا بِالْحملِ الْمَذْكُور على أصلهم، وَأما إِذا وجد مُرَجّح فِي أحد الْجَانِبَيْنِ فيرجح ذَلِك الْجَانِب (وَقد يخال) أَي يظنّ (تقدم الْجمع) بَينهمَا على التَّرْجِيح عِنْد الْحَنَفِيَّة (لقَولهم الْأَعْمَال أولى من الإهمال وَهُوَ) أَي أعمالهما (فِي الْجمع) لَا التَّرْجِيح: إِذْ فِيهِ إبِْطَال لأَحَدهمَا (لَكِن الاستقراء خِلَافه) أَي يدل على خلاف مَا يدل عَلَيْهِ ظَاهر القَوْل الْمَذْكُور أَلا ترى أَنه (قدم عَام استنزهوا) الْبَوْل (على) خَاص (شرب العرنيين أَبْوَال الْإِبِل) بِإِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقد سبق فِي مبَاحث الْعَام (لمرجح التَّحْرِيم) لشربها، لَا يُقَال كَون الأَصْل الْإِبَاحَة يرجح الْخَاص الْمَذْكُور، لِأَن ذَلِك فِيمَا لم يكن فِيهِ الدَّلِيل السمعي غير مَا فِيهِ الْمُعَارضَة قَائِما فِي جَانب الْحُرْمَة (مَعَ إِمْكَان حمله) أَي عَام استنزهوا الْبَوْل (على) مَا (سوى) بَوْل (مَا يُؤْكَل) كَمَا ذهب إِلَيْهِ مُحَمَّد وَأحمد، وللتداوي فَقَط كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف (و) قدم (عَام مَا سقت) أَي فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثريا الْعشْر (على خَاص الأوسق) أَي لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة
أوسق صَدَقَة (لمرجح الْوُجُوب) للعشر فِي كل مَا سقته السَّمَاء أَو سقى سيحا أَو كثر (مَعَ إِمْكَان نَحوه) أَي نَحْو حمل الْعَام الأول بِأَن يحمل على مَا كَانَ خَمْسَة أوسق فَصَاعِدا كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا (وَكَيف) يقدم الْجمع على التَّرْجِيح (وَفِي تَقْدِيمه مُخَالفَة مَا أطبق عَلَيْهِ الْعُقُول من تَقْدِيم الْمَرْجُوح على الرَّاجِح) الْمَرْجُوح الْجمع، وَالرَّاجِح الْعَمَل بِمَا هُوَ رَاجِح بمرجح تَوْضِيحه أَن الْعَام مثلا إِذا كَانَ مرجحا على الْخَاص وَأَنت جمعت بَينهمَا وحملت الْعَام على مَا سوى الْخَاص كَانَ ذَلِك مرجوحا لمقْتَضى الْخَاص وتركا لرعاية مُوجب الْعَام وَهُوَ الِاسْتِغْرَاق المستلزم لاندراج الْخَاص تَحت حكم الْعَام (وَتَأْويل) أَخْبَار (الْآحَاد) الْمُعَارضَة ظَاهر الْكتاب (عِنْد تَقْدِيم الْكتاب) عَلَيْهَا (لَيْسَ مِنْهُ) أَي من الْجمع بَين المتعارضين (بل اسْتِحْسَان حكما للتقديم) للْكتاب عَلَيْهَا مِنْهُ الِاسْتِحْسَان على مَا سَيَأْتِي يُطلق على مَعْنيين: أَحدهمَا الْقيَاس الْخَفي بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِيَاس ظَاهر، وَالثَّانِي كل دَلِيل فِي مُقَابلَة الْقيَاس الظَّاهِر نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة، فَالْقِيَاس الظَّاهِر أَن يتْرك الْخَبَر الْمَذْكُور رَأْسا لمعارضة الْكتاب، وَالْقِيَاس الْخَفي أَن لَا يتْرك بِالْكُلِّيَّةِ لكَونه خبر عدل وَالْأَصْل عدم إهدار مَا صدر من الشَّارِع، فَالْمَعْنى أَن التَّأْوِيل الْمَذْكُور مَبْنِيّ على الِاسْتِحْسَان حَال كَونه حكما لتقديم الْكتاب على ظَاهر السّنة لَا حكما للْجمع بَينهمَا (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي تَقْدِيم النَّص على الظَّاهِر تَعَارضا فِيمَا وَرَاء الْأَرْبَع) من النِّسَاء بِاعْتِبَار ملك النِّكَاح للأحرار (أَي) قَوْله تَعَالَى - {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} - فَإِن ظَاهر فِي حل الْأَكْثَر من الْأَرْبَع لصدق - مَا وَرَاء ذَلِكُم - عَلَيْهِ (ومثنى الخ) أَي قَوْله تَعَالَى - {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} - فَإِنَّهُ نَص على قصر الْحل على الْأَرْبَع على مَا بَين فِي مَحَله (فيرجح النَّص) على الظَّاهِر (وَيحمل الظَّاهِر عَلَيْهِ) أَي النَّص وَقَوْلهمْ مُبْتَدأ خَبره (اتِّفَاق مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة (عَلَيْهِ) فيرجح أَي على تَقْدِيم التَّرْجِيح على الْجمع لعدم رِعَايَة جَانب الظَّاهِر وأعمال النَّص بقصر الْحل على الْأَرْبَع (وَلَو خالفوا) أَي الْحَنَفِيَّة هَذَا الأَصْل (كغيرهم) وَقدمُوا الْجمع على التَّرْجِيح (منعناه) أَي منعنَا قَوْلهم الْأَعْمَال أولى من الإهمال على الْإِطْلَاق، إِذْ الْأَعْمَال الَّذِي يسْتَلْزم تَقْدِيم الْمَرْجُوح على الرَّاجِح مُخَالف لما أطبق عَلَيْهِ الْعُقُول وَهُوَ غير جَائِز فضلا عَن كَونه أولى (وَمِنْه) أَي من التَّعَارُض فِي الْكتاب (مَا) أَي التَّعَارُض الَّذِي (بَين قراءتي آيَة الْوضُوء من الْجَرّ) لِابْنِ كثير وَابْن عَمْرو وَحَمْزَة (وَالنّصب) للباقين (فِي أَرْجُلكُم) فِي قَوْله تَعَالَى - {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم} - (المقتضيتين مسحهما) أَي الرجل وَهُوَ ظَاهر قِرَاءَة الْجَرّ (وغسلهما) وَهُوَ ظَاهر قِرَاءَة النصب (فيتخلص من هَذَا
التَّعَارُض (بِأَنَّهُ تجوز بمسحهما) المفاد بعطفها على مَدْخُول امسحوا (عَن الْغسْل) مشاكلة كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(قَالُوا اقترح شَيْئا نجد لَك طبخه
…
قلت اطبخوا لي جُبَّة وقميصا)
لَا يُقَال يلْزم الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي لفظ وَاحِد أَي امسحوا لِأَن مُوجب الْعَطف تَقْدِير امسحوا فِي جَانب الْمَعْطُوف على مَا تقرر فِي مَحَله (والعطف فيهمَا) أَي عطف أَرْجُلكُم فِي الْقِرَاءَتَيْن (على رءوسكم) وَقيل فَائِدَة التَّعْبِير عَن غسلهمَا بِالْمَسْحِ الْإِشَارَة إِلَى ترك الْإِسْرَاف، لِأَن غسلهمَا مَظَنَّة لَهُ، لكَونه يصب المَاء عَلَيْهِمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: اغسلوهما غسلا خَفِيفا شَبِيها بِالْمَسْحِ كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن كَون الْقَصْد من غسل الْأَعْضَاء تحسينها على مَا عرف، وَأَن الرجلَيْن تحسينهما يحْتَاج إِلَى زِيَادَة الْمُبَالغَة فِي الْغسْل يَأْبَى عَن التَّوْجِيه الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا لزم صرف الْعبارَة إِلَى التجويز 0 لتواتر الْغسْل) لَهما (عَنهُ صلى الله عليه وسلم إِذْ قد (أطبق) على (من حكى وضوءه) من الصَّحَابَة (ويقربون من ثَلَاثِينَ عَلَيْهِ) أَي على غسله صلى الله عليه وسلم رجلَيْهِ، وَقد أسعف المُصَنّف بِذكر الِاثْنَيْنِ وَعشْرين فِي شرح الْهِدَايَة، وَقَالَ الشَّارِح: بلغت الْجُمْلَة أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ، وَيمْتَنع عِنْد الْعقل تواطؤ هَذَا الجم الْغَفِير من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْكَذِب فِي أَمر ديني، على أَن الْمسْح أَهْون على النَّفس (وتوارثه) أَي ولتوارث غسلهمَا (من الصَّحَابَة) أَي قد أَخذنَا عسلهما عَمَّن أدركناهم وهم كَذَلِك إِلَى الصَّحَابَة وهم عَن صَاحب الْوَحْي فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى نَص معِين (وانفصال ابْن الْحَاجِب) أَي تجاوزه (عَن) تَوْجِيه (الْمُجَاورَة) أَي جر الأرجل بالمجاورة لقَوْله برءوسكم (إِذْ لَيْسَ) الْجَرّ بهَا (فصيحا) لعدم وُقُوعه فِي الْقُرْآن، وَلَا فِي كَلَام فصيح اسْتغْنَاء عَنْهَا (بتقارب الْفِعْلَيْنِ) أَي امسحوا واغسلوا (وَفِي مثله) أَي تقاربهما (تحذف الْعَرَب) الْفِعْل (الثَّانِي وَتعطف مُتَعَلّقه على مُتَعَلق) الْفِعْل (الأول) فَيجْعَل مُتَعَلق الْفِعْل الثَّانِي (كَأَنَّهُ مُتَعَلّقه) أَي الْفِعْل الأول كَقَوْلِهِم مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا، وعلفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا، إِذْ الأَصْل ومعتقلا رمحا وسقيتها مَاء بَارِدًا، وَالْآيَة من هَذَا الْقَبِيل (غلط) خبر انْفِصَال (إِذْ لَا يُفِيد) مَا ذكر تقَارب الْفِعْلَيْنِ إِلَى آخِره (إِلَّا فِي اتِّحَاد إعرابهما) أَي إِلَّا إِذا كَانَ إِعْرَاب المتعلقين وَاحِدًا كَمَا سَيَأْتِي فِي سَيْفا ورمحا وتبنا وَمَاء (وَلَيْسَت الْآيَة مِنْهُ) أَي مِمَّا اتَّحد فِيهِ إِعْرَاب الْفِعْلَيْنِ فَلَا ينحيه من الْجوَار، وَفِي نُسْخَة (فَلَا يخرج عَن الْجوَار، وَمَا قيل) على مَا فِي التَّلْوِيح (فِي) حق (الْغسْل) من أَنه (الْمسْح) وَزِيَادَة (إِذْ لَا إسالة) وَهِي معنى الْغسْل (بِلَا إِصَابَة) وَهِي معنى الْمسْح (فينتظمه) أَي الْغسْل الْمسْح (غلط) يظْهر (بِأَدْنَى تَأمل) إِذْ الإسالة مُعْتَبرَة مَعَ الْإِصَابَة فِي الْغسْل وَعدمهَا
مُعْتَبر فِي الْمسْح وَاللَّفْظ لَا يَنْتَظِم عدم مُسَمّى لَا ضِدّه (وَلَو جعل) الْعَطف (فيهمَا) أَي الْقِرَاءَتَيْن (على وُجُوهكُم) وَقد كَانَ من حَقه النصب (و) لَكِن (الْجَرّ) لأرجلكم (للجوار) برءوسكم (عورض بِأَنَّهُ) أَي الْعَطف (فيهمَا) أَي الْقِرَاءَتَيْن (على رءوسكم وَالنّصب) بالْعَطْف (على الْمحل) أَي مَحل رءوسكم كَمَا هُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين من النُّحَاة من أَن مَحَله النصب (ويترجح) هَذَا (بِأَنَّهُ) أَي الْعَطف على الْمحل (قِيَاس) مطرد فِي الفصيح من الْكَلَام مَعَ اعْتِبَار الْعَطف على الْأَقْرَب وَعدم وُقُوع الْفَصْل بالأجنبي (لَا الْجوَار) أَي لَيْسَ الْجوَار بِقِيَاس بِلَا حق شَاذ (و) مِنْهُ مَا بَين (قراءتي التَّشْدِيد فِي يطهرن) لِحَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَعَاصِم من قَوْله تَعَالَى - {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} - (الْمَانِعَة) من قربانهن (إِلَى الْغسْل، التَّخْفِيف) فِيهِ للباقين الْمَانِعَة من قربانهن (إِلَى الطُّهْر فَيحل) القربان (قبله) أَي الْغسْل (بِالْحلِّ الَّذِي انْتهى مَا عَارضه من الْحُرْمَة فَتحمل تِلْكَ) أَي فيتخلص من هَذَا التَّعَارُض بِحمْل قِرَاءَة التَّشْدِيد (على مَا دون الْأَكْثَر) من مُدَّة الْحيض الَّتِي هُوَ الْعَادة لَهَا ليتأكد جَانب الِانْقِطَاع بهَا أَو بِمَا يقوم مقَامه (وَهَذِه) أَي قِرَاءَة التَّخْفِيف (عَلَيْهِ) أَي على أَكثر مُدَّة الْحيض، وَهُوَ الْعشْر عندنَا لِأَن الِانْقِطَاع عِنْده مُتَيَقن، وَحُرْمَة القربان كَانَت بِسَبَبِهَا فَلَا يجوز تَحْرِيمه بعد ذَلِك إِلَى الِاغْتِسَال وَمنع الزَّوْج من حَقه، وَقد زَالَت عِلّة الْحُرْمَة، وَهِي الْأَذَى وَقد يُقَال أَن قَوْله تَعَالَى - {فَإِذا تطهرن} - بعد ذَلِك يَقْتَضِي تَأَخّر جَوَاز الْإِتْيَان عَن الْغسْل فَلَو كَانَ هَهُنَا قِرَاءَة أُخْرَى أَعنِي إِذا تطهرن كَانَ تَوْجِيه الْجمع بَين الْقِرَاءَتَيْن وَاحِدًا وَهُوَ الطُّهْر مَعَ الِاغْتِسَال، وَالْجَوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وتطهرن بِمَعْنى طهرن) فَإِن تفعل يَجِيء بِمَعْنى فعل من غير أَن يدل على صنع (كتكبر) وتعظم (فِي صِفَاته تَعَالَى) إِذْ لَا يُرَاد بِهِ صفة أُخْرَى تكون بإحداث الْفِعْل (وَتبين) بِمَعْنى ظهر (مُحَافظَة على حَقِيقَة يطهرن بِالتَّخْفِيفِ) وَأورد عَلَيْهِ أَنه يلْزم على هَذَا تَعْمِيم الْمُشْتَرك إِن كَانَ يطهرن حَقِيقَة فِي الِانْقِطَاع كَمَا فِي الِاغْتِسَال وَالْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز إِن كَانَ مجَازًا فِي الِانْقِطَاع وَأجِيب بِأَن قَوْله تَعَالَى - {فَإِذا تطهرن} - إِن قرئَ مَعَ قِرَاءَة التَّشْدِيد يُرَاد بِهِ الِاغْتِسَال، وَإِن قرئَ مَعَ قِرَاءَة التَّخْفِيف يُرَاد بِهِ الِانْقِطَاع وَالْجمع بَينهمَا إِنَّمَا يمْنَع فِي إِطْلَاق وَاحِد لَا اطلاقين فَتَأمل (وَكِلَاهُمَا) أَي المجملين الْمَذْكُورين (خلاف الظَّاهِر) إِذْ فِي كل مِنْهُمَا إِرَادَة خُصُوصِيَّة لَا تفهم من ظَاهر اللَّفْظ (لكنه) أَي حمل قِرَاءَة التَّخْفِيف على مُجَرّد الِانْقِطَاع على الْأَكْثَر (أقرب) من حملهَا على الِاغْتِسَال نظرا إِلَى الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة (إِذْ لَا يُوجب) حملهَا على ذَلِك (تَأَخّر حق الزَّوْج) فِي الْوَطْء (بعد الِانْقِطَاع بارتفاع الْعَارِض الْمَانِع) من القربان، وَهُوَ الْحيض. قَوْله بارتفاع صلَة الِانْقِطَاع
يَعْنِي الْعلم بالانقطاع قطعا لانْتِهَاء مدَّته (مَعَ قيام الْمُبِيح) وَهُوَ الْحل الثَّابِت قبل عرُوض هَذَا الْمَانِع، بِخِلَاف الْحمل على الِاغْتِسَال فَإِنَّهُ يُوجب ذَلِك (و) مِنْهُ مَا (بَين آيتي اللَّغْو) فِي الْيَمين، وَهِي عِنْد أَصْحَابنَا وَأحمد الْحلف على أَمر يظنّ أَنه كَمَا قَالَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة كل يَمِين صدرت من غير قصد فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبل، وهما قَوْله تَعَالَى - {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} - وَالْأُخْرَى مثلهَا إِلَّا أَنه ذكر فِيهَا - {بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} - بدل {بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} (تفِيد إِحْدَاهمَا) وَهِي الأولى (الْمُؤَاخَذَة بالغموس) وَهِي الْحلف على أَمر مَاض أَو حَال يتَعَمَّد الْكَذِب بِهِ (لِأَنَّهَا) أَي الْيَمين الْغمُوس (مكسوبة) لِأَن تعمد الْكَذِب من كذب الْقلب وَعَمله (وَالْأُخْرَى) وَهِي الثَّانِيَة تفِيد (عَدمه) أَي لَا يُؤَاخذ بالغموس (إِذْ لَيست) الْغمُوس (معقودة) لِأَن العقد قد يكون لَهُ حكم فِي الْمُسْتَقْبل شرعا كَالْبيع وَنَحْوه والغموس لَيست كَذَلِك (فَدخلت) الْغمُوس (فِي اللَّغْو) الْمُقَابل للمعقودة، وَإِنَّمَا سمي بِهِ (لعدم الْفَائِدَة الَّتِي تقصد الْيَمين لَهَا) شرعا وَهِي تَحْقِيق الْبر فَلَا يكون مؤاخذا بهَا (وَخرجت) أَي الْغمُوس (مِنْهُ) أَي اللَّغْو (فِي) الْآيَة (الْأُخْرَى) وَدخلت فِي المكسوبة (بشمول الْكسْب إِيَّاهَا) أَي الْغمُوس (وأفادت ضدية اللَّغْو للكسب) أَي أفادت الْآيَة ضديته للتقابل بَينهمَا (فَهُوَ) أَي اللَّغْو هَهُنَا (السَّهْو) فتعارضتا فِي الْغمُوس بِاعْتِبَار الْمُؤَاخَذَة وَعدمهَا وَبِاعْتِبَار الاندراج فِي اللَّغْو وَعَدَمه (والتخلص) بِهَذَا الِاعْتِبَار (عِنْد الْحَنَفِيَّة بِالْجمعِ) بَينهمَا (بِأَن المُرَاد بالمؤاخذة) الثَّابِتَة للغموس (فِي) الْآيَة (الأولى) الْمُؤَاخَذَة (الأخروية) وَهِي المُرَاد (و) المُرَاد بالمؤاخذة المنفية عَن الْغمُوس (فِي) الْآيَة (الثَّانِيَة) الْمُؤَاخَذَة (الدُّنْيَوِيَّة بِالْكَفَّارَةِ) فَلم يتحد مُتَعَلق المؤاخذتين فَلَا تعَارض (أَو) المُرَاد بِاللَّغْوِ فِي الْآيَتَيْنِ الْخَالِي عَن الْقَصْد وبالمؤاخذة (فيهمَا) أَي الْآيَتَيْنِ الْمُؤَاخَذَة (الأخروية) والغموس دَاخِلَة فِي المكسوبة لَا فِي المعقودة فالآية الأولى أوجبت الْمُؤَاخَذَة على الْغمُوس (و) الْآيَة (الثَّانِيَة ساكتة عَن الْغمُوس وَهِي) أَي الْغمُوس (ثَالِثَة) وَالْيَمِين منقسمة على أَقسَام ثَلَاثَة، وَالْمَذْكُور فِيهَا حكم الْقسمَيْنِ مِنْهَا، وَلما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ كَون المُرَاد من الْمُؤَاخَذَة الأخروية لَا يُوَافق قَوْله تَعَالَى - فكفارته - إِلَى آخِره لِأَنَّهُ لَا مُؤَاخذَة دنيوية دَفعه بقوله (أَي يُؤَاخِذكُم فِي الْآخِرَة بِمَا عقدتم) عِنْد الْحِنْث (فطريق دَفعه) أَي طَرِيق دفع الْعقَاب الْحَاصِل بِهِ (وستره إطْعَام) عشرَة مَسَاكِين، نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَن وَجه الْمُؤَاخَذَة فِي هَذَا مَا يتضمنه من سوء الْأَدَب على الشَّرْع إِلَى آخر مَا ذكر وَحَاصِله الْمُؤَاخَذَة بِمُجَرَّد الْيَمين وَإِن لم يَحْنَث وَحمل الْيَمين على الْحلف على شرب الْخمر بعد تَحْرِيمهَا، وَسُوء الْأَدَب إقدامه على مثل
هَذَا، وَلَا يخفى مَا فِيهِ وَالله أعلم بِصِحَّة هَذَا النَّقْل، وَقد يشْتَبه على بعض الطّلبَة كَلَام المدرسين (وَاحْتج) الْمُجيب (الأول) الْقَائِل بِأَن المُرَاد بالمؤاخذة فِي الأولى الأخروية، وَفِي الثَّانِيَة الدُّنْيَوِيَّة فَلَا تكون الْغمُوس وَاسِطَة بَين اللَّغْو والمنعقدة كَمَا يَقُول الْمُجيب الثَّانِي (بِأَن الْمَفْهُوم من) قَول الْقَائِل (لَا يُؤَاخذ بِكَذَا لَكِن) يُؤَاخذ (بِكَذَا عدم الْوَاسِطَة) يَعْنِي إِذا قصد الْمُتَكَلّم بَيَان حكم حَقِيقَة يتَحَقَّق فِي ضمن أَفْرَاد كَثِيرَة بِاعْتِبَار الْمُؤَاخَذَة وَعدمهَا مثلا. فَقَالَ: يُؤَاخذ بِهَذَا الْقسم مِنْهَا وَلَا يُؤَاخذ بِذَاكَ فالمتبادر من هَذَا الْبَيَان أَن لَا يبْقى شَيْء مِنْهَا خَارج من الْقسمَيْنِ، وَإِلَّا لم يكن الْبَيَان وافيا فَيلْزم كَون الْغمُوس فِي اللَّغْو أَو المعقودة وَلَيْسَت بمعقودة فَلَزِمَ دُخُولهَا فِي اللَّغْو فَلَزِمَ أَن لَا يكون المُرَاد بالمؤاخذة المنفية عَن اللَّغْو الأخروية فَيتَعَيَّن الدُّنْيَوِيَّة وَهِي الْكَفَّارَة (وَعند الشَّافِعِي) المُرَاد بالمؤاخذة (فيهمَا) أَي الْآيَتَيْنِ (الدُّنْيَوِيَّة وَهِي) أَي الْغمُوس (دَاخِلَة فِي المعقودة) عِنْده بِنَاء على حمل العقد على عقد الطّلب وعزمه كَقَوْلِه الشَّاعِر:
(عقدت على قلبِي بِأَن يكتم الْهوى
…
)
(كَمَا) هِيَ دَاخِلَة (فِي المكسوبة فَلَا تعَارض) بَين الْآيَتَيْنِ لاتِّفَاقهمَا على الْمُؤَاخَذَة فِي الْغمُوس (وَدفعه) أَي دُخُولهَا فِي المعقودة (بِأَن حَقِيقَة العقد) إِنَّمَا تكون (بِغَيْر الْقلب) لِأَن العقد فِي الأَصْل ربط الشَّيْء بالشَّيْء وَذَلِكَ فِيمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاء لما فِيهِ من ربط أحد الْكَلَامَيْنِ بِالْآخرِ، أَو ربط الْكَلَام بِمحل الحكم وَلَيْسَ فِي عزم الْقلب شَيْء مِنْهُمَا، وَصرف الْكَلَام عَن الْحَقِيقَة بِغَيْر ضَرُورَة لَا يجوز (قد يمْنَع) على صِيغَة الْمَجْهُول (بِأَنَّهُ) أَي العقد (أَعم) من أَن يكون فِي الْأَعْيَان أَو الْمعَانِي فَيعم المصطلح وَعقد الْقلب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (يسند إِلَى الْأَعْيَان فيراد) بِهِ (الرَّبْط) لبعضها بِبَعْض (وَإِلَى الْقلب فعزمه) أَي فيراد بِهِ عزم الْقلب (وَكثر) إِطْلَاق العقد عَلَيْهِ (فِي اللُّغَة) وَفِي التَّلْوِيح أَن إِطْلَاقه عَلَيْهِ فِي اللُّغَة أشهر من العقد المصطلح فَإِنَّهُ من مخترعات الْفُقَهَاء وَأجِيب بِأَن العقد فِيمَا لَهُ حكم فِي الْمُسْتَقْبل صَار حَقِيقَة شَرْعِيَّة قَالَ تَعَالَى - {أَوْفوا بِالْعُقُودِ} - وَالْأَمر بالإيفاء لَا يَصح إِلَّا فِيمَا لَهُ حكم فِي الْمُسْتَقْبل (بل) الأولى فِي الْجَواب أَن يُقَال (الظَّاهِر) أَن المُرَاد بالمؤاخذة (فِي) الْآيَة (الأولى الأخروية للإضافة إِلَى كسب الْقلب) إِذْ الْغَالِب فِي الْمُؤَاخَذَة على عمل الْقلب والأخروية، على أَن الْغمُوس كَبِيرَة مَحْضَة لَا تناسب الْكَفَّارَة الدائرة بَين الْعباد والعقوبة، وَأَيْضًا فالمتبادر من الْمُؤَاخَذَة إِذا أطلقت أَن تكون بِحَسب الْآخِرَة (وَهَذَا) الْجمع بَين هَاتين الْآيَتَيْنِ (جمع من قبل الحكم) إِذْ الِاخْتِلَاف بَين الْآيَتَيْنِ إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَار الْمُؤَاخَذَة فِي الْغمُوس وَعدمهَا اللَّتَيْنِ كَانَا حكم الْآيَتَيْنِ فيتصرف فِي مفهومهما بتعميمه بِحَيْثُ انقسمت إِلَى الأخروية والدنيوية فَجعلت احداهما مَحل الْإِثْبَات وَالْأُخْرَى مَحل النَّفْي لِئَلَّا يتحد موردهما
فيرتفع التَّنَاقُض والتعارض (وَمِنْه) أَي الْجمع من قبل الحكم (توزيعه) أَي الحكم بإثباته فِي بعض مَحَله بِأحد الدَّلِيلَيْنِ ونفيه فِي بعضه بِالْآخرِ (كقسمة الْمُدَّعِي بَين المثبتين) كَمَا إِذا ادّعى رجلَانِ أَن هَذِه الدَّار ملكه كملا وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة وَلَا رُجْحَان لأَحَدهمَا على الْأُخْرَى فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تنصف بَينهمَا فقد أثبت الْملك لأَحَدهمَا فِي بعض الدَّار بِبَيِّنَة وَنفى ملكه عَن الْبَعْض الآخر بيينة الرجل الآخر، وَهَذَا هُوَ التَّوْزِيع فِي الحكم الَّذِي هُوَ الْملك (وَمَا قيل) أَي قيل هَذَا الْجمع وَهُوَ الْجمع فِي قِرَاءَة التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف (من قبل الْحَال) إِذْ حمل احداهما على حَالَة وَالْأُخْرَى على حَالَة أُخْرَى، وَعبر عَنهُ صدر الشَّرِيعَة بِالْمحل (و) قد (يكون) الْجمع بَين المتعارضين (من قبل الزَّمَان) إِمَّا (صَرِيحًا بِنَقْل التَّأَخُّر) لأَحَدهمَا عَن الآخر كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} ، وَقَوله تَعَالَى - {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} - فَإِن بَينهمَا تَعَارضا فِي حق الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا، وَجمع الْجُمْهُور بَينهمَا بِأَن أولات الْأَحْمَال الْآيَة (بعد وَالَّذين يتوفون) الْآيَة كَمَا صَحَّ عَن ابْن مَسْعُود، وَتقدم فِي الْبَحْث الْخَامِس فِي التَّخْصِيص يكون من قبل الزَّمَان (أَو حكما كالمحرم) أَي كتقديمه (على الْمُبِيح) إِذا تَعَارضا (اعْتِبَارا لَهُ) أَي الْمحرم (مُتَأَخِّرًا) عَن الْمُبِيح (كي لَا يتَكَرَّر النّسخ بِنَاء على أَصَالَة الْإِبَاحَة) فَيلْزم كَون الْمحرم الْمُقدم على الْمُبِيح نَاسِخا للْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة ومنسوخا بالمبيح الْمُتَأَخر عَنهُ بِخِلَاف الْعَكْس وَهُوَ ظَاهر، وَهَذَا مُخَالف لما سَيَأْتِي من أَن رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيْسَ بنسخ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتجوز بِهِ عَن تغير الحكم أَعم من أَن يكون ذَلِك الحكم إِبَاحَة أَصْلِيَّة أَو غَيرهَا، وَتقدم فِي المسئلة الثَّانِيَة من مسئلتي التنزل فِي فصل الْحَاكِم مَا فِيهِ من الْبَحْث والتحرير (وَلِأَنَّهُ) أَي تَقْدِيم الْمحرم على الْمُبِيح (الِاحْتِيَاط) إِذْ احْتِمَال ترك الْعَمَل بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمُبِيح أَهْون من احْتِمَال تَركه بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمحرم كَمَا فِي تَحْرِيم الضَّب بِمَا روى أَحْمد وَغَيره بِرِجَال الصَّحِيح عَن عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فنزلنا أَرضًا كَثِيرَة الضباب فأصبنا مِنْهَا فذبحنا فَبَيْنَمَا الْقُدُور تغلي بهَا خرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِن أمة من بني إِسْرَائِيل فقدت، وَإِنِّي أَخَاف أَن تكون هِيَ فاكفئوها فكفأناها، وَإِنَّا لجياع، وروى الْجَمَاعَة إِلَّا التِّرْمِذِيّ مَا دلّ على أَنه أكل مِنْهُ فَلم ينْدر عَنهُ وَلم يكن مَعَه معتذرا بِأَنَّهُ يعافه لعدمه بِأَرْض قومه (وَلَا يقدم الْإِثْبَات) لأمر عَارض (على النَّفْي) كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْكَرْخِي وَالشَّافِعِيَّة (إِلَّا أَن كَانَ) النَّفْي لَا يعرف بِالدَّلِيلِ بل (بِالْأَصْلِ) وَهُوَ كَون الأَصْل فِي الْعَوَارِض الْعَدَم والانتفاء فَإِن الْإِثْبَات بِالدَّلِيلِ يقدم عَلَيْهِ (كحرية) مغيث (زوج بَرِيرَة لِأَن عبديته كَانَت مَعْلُومَة فالإخبار بهَا) أَي بعبديته كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة أَن
النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَيرهَا وَكَانَ زَوجهَا عبدا (بِالْأَصْلِ) أَي بِنَاء على أَن رقبته لم تَتَغَيَّر فَهَذَا نفي لحريته بِنَاء على مَا كَانَت عَلَيْهِ فالإخبار بحريَّته حِين إعْتَاقهَا كَمَا فِي كتب السّير بِنَاء على مَا ثَبت عِنْد المخبرين بِمَا دلّ على حدوثها بعد العبدية إِثْبَات مقدم على النَّفْي الْمَذْكُور (فَإِن) كَانَ النَّفْي (من جنس مَا يعرف بدليله عَارضه) أَي الْإِثْبَات لتساويهما حِينَئِذٍ بِاعْتِبَار مُوجب الْعلم (وَطلب التَّرْجِيح) لأَحَدهمَا بِوَجْه آخر (كالإحرام فِي حَدِيث مَيْمُونَة رضي الله عنها وَهُوَ مَا فِي الْكتب السِّتَّة عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما تزوج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَة وَهُوَ محرم، زَاد البُخَارِيّ وَبنى بهَا وَهُوَ حَلَال، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ تزوج نَبِي الله مَيْمُونَة وهما محرمان فَإِنَّهُ (نفي لأمر) عَارض وَهَذَا الْحَد الطَّارِئ (يدل عَلَيْهِ هَيْئَة محسوسة) من التجرد وَرفع الصَّلَوَات وَغَيرهمَا (فساوى رِوَايَة) مُسلم وَابْن مَاجَه عَن يزِيد بن الْأَصَم حَدَّثتنِي مَيْمُونَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم (تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال) قَالَ وَكَانَت خَالَتِي وَخَالَة ابْن عَبَّاس، وَزَاد فِيهِ أَبُو يعلى بعد أَن رَجعْنَا إِلَى مَكَّة، وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان عَن أبي رَافع " تزوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال وَبنى بهَا وَهُوَ حَلَال، وَكنت الرَّسُول بَينهمَا "(وَرجح نفي ابْن عَبَّاس على) إِثْبَات (ابْن الْأَصَم وَأبي رَافع) بِقُوَّة السَّنَد وبضبط الروَاة وفقههم خُصُوصا ابْن عَبَّاس. قَالَ الزُّهْرِيّ: وَمَا يدْرِي ابْن الْأَصَم أَعْرَابِي بوال على سَاقه أنجعله مثل ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ الَّذين رووا أَنه صلى الله عليه وسلم تزوج بهَا وَهُوَ محرم أهل علم وَثَبت من أَصْحَاب ابْن عَبَّاس مثل سعيد بن جُبَير وَعَطَاء وَطَاوُس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَجَابِر بن زيد وَهَؤُلَاء كلهم فُقَهَاء، وَالَّذين نقلوا عَنْهُم عَمْرو بن دِينَار وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَعبد الله بن أبي نجيح وَهَؤُلَاء أَئِمَّة يعْتد برأيهم (هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحل اللَّاحِق) للْإِحْرَام (وَأما على إِرَادَة) الْحل (السَّابِق) على الْإِحْرَام (كَمَا فِي بعض الرِّوَايَات) فِي موطأ مَالك عَن سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ بعث النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَبَا رَافع مَوْلَاهُ ورجلا من الْأَنْصَار فزوجاه مَيْمُونَة بنت الْحَارِث وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ قبل أَن يخرج، وَفِي معرفَة الصَّحَابَة للمستغفري قبل أَن يحرم (فَابْن عَبَّاس مُثبت) لِلْأَمْرِ الْعَارِض وَهُوَ الْإِحْرَام (وَيزِيد) بن الْأَصَم (ناف) لَهُ (فيترجح) حَدِيث ابْن عَبَّاس (بِذَات الْمَتْن) أَي متن الحَدِيث لِأَن الْمُثبت فِي حد ذَاته يرجع على النَّافِي لاشْتِمَاله على زِيَادَة الْعلم (وَلَو عَارضه) أَي نفي يزِيد إِثْبَات ابْن عَبَّاس لكَون نَفْيه مِمَّا يعرف بدليله لِأَن حَالَة الْحل أَيْضا تعرف بِالدَّلِيلِ أَيْضا وَهِي هَيْئَة الْحَلَال (فِيمَا قُلْنَا) أَي فيرجح حَدِيث ابْن عَبَّاس بِمَا قُلْنَا من قُوَّة السَّنَد وَفقه الرَّاوِي ومزيد ضَبطه كَذَا ذكر الشَّارِح، وَلَا يخفى
عَلَيْك أَن المُصَنّف لم يقل هَهُنَا هَذِه المرجحات الْمَذْكُورَة اللَّهُمَّ أَن يُقَال قَوْله من جنس مَا يعرف بدليله عَارضه وَطلب التَّرْجِيح يُشِير إِلَى الْمَذْكُورَات وَغَيرهَا إِجْمَالا (وَعرف) من هَذَا (أَن النَّافِي رَاوِي الأَصْل) أَي الْحَالة الْأَصْلِيَّة فالمثبت رَاوِي خِلَافه (فَإِن أمكنا) أَي كَون النَّفْي بِنَاء على الدَّلِيل، وَكَونه بِنَاء على الْعَدَم الْأَصْلِيّ (كبحل الطَّعَام) أَي كالإخبار بِهِ (وطهارة المَاء) فَإِن كلا مِنْهُمَا (نفي يعرف بِالدَّلِيلِ) بِأَن ذبح شَاة وَذكر اسْم الله عَلَيْهَا وَغسل إِنَاء بِمَاء السَّمَاء أَو بِمَاء جَار لَيْسَ لَهُ أثر نَجَاسَة وملأه بِأَحَدِهِمَا وَلم يغب عَنهُ أصلا وَلم يُشَاهد وُقُوع نَجَاسَة فِيهِ (وَالْأَصْل) أَي يعرف بِالْأَصْلِ بِأَن يعْتَمد على أَن الأَصْل فِي المذبوحة الْحل وَلم يعلم ثُبُوت حُرْمَة فِيهَا، وَفِي المَاء الطَّهَارَة وَلم يعلم وُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ (فَلَا يُعَارض) الْإِخْبَار بهما (مَا) أَي الْإِخْبَار (بحرمته) أَي الطَّعَام (ونجاسته) أَي المَاء (وَيعْمل بهما) أَي بِالْحلِّ فِي الطَّعَام وَالطَّهَارَة فِي المَاء (إِن تعذر السُّؤَال) للمخبر عَن مُسْتَنده لِأَن الِاسْتِصْحَاب إِن لم يصلح دَلِيلا يصلح مرجحا فيرجح خبر النَّافِي بِهِ كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن اعْتِبَاره مرجحا إِنَّمَا يتم أَن تَسَاويا والتساوي هَهُنَا مَحل نظر إِذْ الْمُثبت يعْتَمد الدَّلِيل قطعا واعتمادنا فِي علية مَشْكُوك الِاحْتِمَال اعْتِمَاده على الأَصْل فَتَأمل. فَالْوَجْه أَن يُفَسر قَوْله بهما بِالْحُرْمَةِ والنجاسة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَعَذَّر السُّؤَال (سُئِلَ) الْمخبر (عَن مبناه) أَي مبْنى خَبره (فَعمل بِمُقْتَضَاهُ) فَإِن تمسك الْمخبر بِظَاهِر الْحَال، وَالْأَصْل فِي الشَّاة الْحل، وَفِي المَاء الطَّهَارَة، وَلم يعلم مَا ينافيهما فخبر الْحُرْمَة والنجاسة يعْمل بِهِ لكَونه عَن دَلِيل، وَإِن تمسك بِالدَّلِيلِ كَانَ مثل الْإِثْبَات فَيَقَع التَّعَارُض وَيجب الْعَمَل بِالْأَصْلِ (وَمثل الْحَنَفِيَّة تَقْرِير الْأُصُول) لمتعلق المتعارضين إِذا لم يكن بعدهمَا دَلِيل يُصَار إِلَيْهِ (بسؤر الْحمار) أَي الْبَقِيَّة من المَاء الَّذِي شرب مِنْهُ فِي الْإِنَاء (تعَارض فِي حل لَحْمه وحرمته المستلزمتين لطهارته) أَي سؤره (ونجاسته الْآثَار) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر " نهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم خَيْبَر عَن لُحُوم الْحمر " وَهُوَ يدل على تَحْرِيمهَا وَحُرْمَة الشَّيْء مَعَ صلاحيته للغذاء إِذا لم تكن للكرامة آيَة النَّجَاسَة ونجاسة اللَّحْم تَسْتَلْزِم نَجَاسَة اللعاب لِأَنَّهُ متحلب مِنْهُ وَهُوَ يخالط المَاء فَيكون نجسا، وَفِي سنَن أبي دَاوُد، وَعَن غَالب بن أبجر قَالَ أصابتنا سنة فَلم يكن لي فِي مَالِي إِلَّا شَيْء من حمر، وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حرم لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة فَأتيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقلت يَا رَسُول الله أصابتني السّنة وَلم يكن فِي مَالِي مَا أطْعم أَهلِي إِلَّا سمان حمر وَأَنَّك حرمت لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة. فَقَالَ: أطْعم أهلك من سمين حمرك فَإِنَّمَا حرمتهَا من أجل جوَار الْقرْيَة، وَهَذَا يدل على حلهَا وَهُوَ يسْتَلْزم طَهَارَتهَا وطهارة السؤر (فقرر حَدِيث الْمُتَوَضِّئ بِهِ) أَي بسؤره على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل التوضئ (وطهارته) أَي طَهَارَة السؤر على