الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّحَابَة فِي ذَلِك، وَرُبمَا ترك رَأْيه برأيهم كَمَا وَقع فِي حَرْب بدر وَالْخَنْدَق، ثَانِيهمَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الإِمَام الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب مَا أَفَادَهُ المُصَنّف بقوله. (وَالْمُخْتَار) أَنه (حجَّة إِن كَانَ اتِّفَاق أهل الِاجْتِهَاد وَالْعَدَالَة) لِأَن الْأَدِلَّة السمعية على حجيته لَا تفصل. وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي أَمر الْحَرْب وَغَيره إِن كَانَ عَن وَحي فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ عَن رَأْي وَكَانَ خطأ فَهُوَ لَا يقر عَلَيْهِ. وَفِي الْمِيزَان ثمَّ على قَول من جعله إِجْمَاعًا هَل يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْعَصْر الثَّانِي كَمَا فِي الْإِجْمَاع فِي أُمُور الدّين أم لَا؟ إِن لم يتَغَيَّر الْحَال يجب وَإِن تغير لَا يجب (بِخِلَافِهِ) أَي الْإِجْمَاع (على المستقبلات من أَشْرَاط السَّاعَة) وقيدها الشَّارِح بالحسيات (وَأُمُور الْآخِرَة لَا يعْتَبر إِجْمَاعهم عَلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ إِجْمَاع) لأَنهم لَا يعلمُونَ الْغَيْب (بل) يعْتَبر (من حَيْثُ هُوَ مَنْقُول) عَمَّن أعلم بِالْغَيْبِ (كَذَا للحنفية). وَفِي التَّلْوِيح أَن الِاسْتِقْبَال قد لَا يكون مِمَّا لم يُصَرح بِهِ الْمخبر الصَّادِق، بل استنبطه الْمُجْتَهد من نصوصه فَيُفِيد الْإِجْمَاع قطعيته، وَدفع بِأَن الْحسي الاستقبالي لَا مدْخل للِاجْتِهَاد فِيهِ. فَإِن ورد بِهِ نَص فَهُوَ ثَابت بِهِ وَلَا اجتياج إِلَى الاجماع، وَإِن لم يرد فَلَا مساغ للِاجْتِهَاد فِيهِ: هَذَا وَلَا يتَمَسَّك بِالْإِجْمَاع فِيمَا تتَوَقَّف صِحَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ كوجود البارئ تَعَالَى، وَصِحَّة الرسَالَة، وَدلَالَة المعجزة على صدق الرَّسُول للُزُوم الدّور، لِأَن صِحَة الْإِجْمَاع متوقفة على النَّص الدَّال على عصمَة الْأمة عَن الْخَطَأ الْمَوْقُوف على ثُبُوت صدق الرَّسُول الْمَوْقُوف على دلَالَة المعجزة على صدقه الْمَوْقُوف على وجود البارئ وإرساله، فَلَو توقفت صِحَة هَذِه الْأَشْيَاء على صِحَة الْإِجْمَاع لزم الدّور وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
الْبَاب الْخَامِس
من الْأَبْوَاب الْخَمْسَة من الْمقَالة الثَّانِيَة فِي أَحْوَال الْمَوْضُوع
(الْقيَاس) خبر لمبتدأ مَحْذُوف الْمُضَاف: أَي أَحْوَال الْقيَاس من قبيل حمل الْمَدْلُول على الدَّال مجَازًا، فَإِن الْبَاب عبارَة عَن جُزْء من الْكتاب (قيل هُوَ) أَي الْقيَاس (لُغَة التَّقْدِير) وَهُوَ أَن يقْصد معرفَة قدر أحد الْأَمريْنِ بِالْآخرِ كَمَا يُقَال قسمت الثَّوْب بالذراع: أَي قدرته بِهِ (والمساواة) يُقَال فلَان لَا يُقَاس بفلان: أَي لَا يساوى بِهِ (وَالْمَجْمُوع) أَي مَجْمُوع التَّقْدِير والمساواة فَلهُ ثَلَاثَة معَان، التَّقْدِير، والمساواة فَقَط، وَالْمَجْمُوع، وَفَسرهُ بقوله (أَي يُقَال: إِذا قصدت الدّلَالَة على مَجْمُوع ثُبُوت الْمُسَاوَاة عقيب التَّقْدِير قست النَّعْل بالنعل) أَي قدرته بِهِ فساواه (وَلم يزدْ الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْأُصُولِيِّينَ كفخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ والنسفي
(على التَّقْدِير، واستعلام الْقدر) أَي طلب معرفَة مِقْدَار الشَّيْء نَحْو (قست الثَّوْب بالذراع والتسوية) بَين أَمريْن (فِي مِقْدَار) سَوَاء كَانَت حسية نَحْو (قست النَّعْل بالنعل) أَو معنوية، وَإِلَى هَذَا التَّعْمِيم أَشَارَ بقوله وَلَو معنويا (وَلَو) كَانَت أمرا (معنويا) آتى بلو الوصلية إِشَارَة إِلَى أَن إِطْلَاق التَّسْوِيَة على الحسية أولى، ثمَّ لما ذكر الْمَعْنَوِيّ أَرَادَ أَن يعرفهُ تعريفا بالمثال، فَقَالَ (أَي) يُقَال (فلَان لَا يُقَاس بفلان) بِمَعْنى (لَا يقدر) بفلان (أَي لَا يساوى) لما ذكر أَن الْأَكْثَر لم يزِيدُوا فِي تَفْسِير الْقيَاس لُغَة على مُجَرّد التَّقْدِير أَرَادَ إدراج الْمعَانِي الَّتِي تفهم من موارد اسْتِعْمَال لفظ الْقيَاس فِي اللُّغَة الْمشَار إِلَيْهَا بالتقدير والمساواة وَالْمَجْمُوع فِيمَا سبق تَحت مَفْهُومه الْكُلِّي، ففسر الْقيَاس فِي الْمِثَال بالتقدير، ثمَّ فسر التَّقْدِير بالمساواة تَنْبِيها على الِاتِّحَاد بَينهمَا وَلم يُفَسر بِمثلِهِ فِي الْمِثَال الَّذِي قبله للظهور، ثمَّ زَاد فِي التَّصْرِيح بقوله (فَردا مَفْهُومه) أَي مَفْهُوم التَّقْدِير خبر للمبتدأ، أَعنِي قَوْله استعلام الْقدر وَمَا عطف عَلَيْهِ وَهُوَ التَّسْوِيَة (فَهُوَ) أَي الْقيَاس إِذن (مُشْتَرك معنوي) فِي اللُّغَة، يَعْنِي مَوْضُوع بِإِزَاءِ معنى كلي يعم كل وَاحِد من تِلْكَ الْمعَانِي الْمَذْكُورَة، وَهُوَ الَّذِي عبر عَنهُ بالتقدير. وَمُلَخَّصه مُلَاحظَة الْمُسَاوَاة بَين شَيْئَيْنِ سَوَاء كَانَ بطرِيق الاستعلام أَو لَا (لَا) مُشْتَرك (لَفْظِي) فيهمَا فَقَط أَو فِي الْمَجْمُوع أَيْضا (وَلَا) حَقِيقَة فِي التَّقْدِير (مجَاز فِي الْمُسَاوَاة كَمَا قيل) فِي البديع التَّقْدِير يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ يُضَاف أَحدهمَا إِلَى الآخر بالمساواة فيستلزمهما، وَاسْتِعْمَال لفظ الْمَلْزُوم فِي لَازمه شَائِع: لِأَن التواطؤ مقدم على الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز إِذا أمكن وَالْحَاصِل أَن الْمَفْهُوم فِي الشَّرْح العضدي اشْترك بَين الْمعَانِي الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، ومختار المُصَنّف أَنه مُشْتَرك معنوي بَينهمَا كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَام بَعضهم. (وَفِي الِاصْطِلَاح) على قَول الْجُمْهُور (مُسَاوَاة مَحل) من محَال الحكم (لآخر) أَي لمحل آخر (فِي عِلّة حكم لَهُ) أَي لذَلِك الْمحل الآخر (شَرْعِي) صفة لحكم، احْتِرَاز عَمَّا لَيْسَ بشرعي كالعلة الْعَقْلِيَّة (لَا تدْرك) تِلْكَ الْعلَّة (من نَصه) أَي ذَلِك الْمحل الآخر (بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة) بِأَن تفهم تِلْكَ الْعلَّة من النَّص كل من يفهم مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ بل يحْتَاج فهمها إِلَى تَأمل واجتهاد (فَلَا يُقَاس فِي اللُّغَة) كَأَن يعدى اسْم الْخمر إِلَى النَّبِيذ بِأَن يخال كَون المخامرة الْمُشْتَركَة بَينهمَا عِلّة فِي تَسْمِيَتهَا (وَإِطْلَاق حكمه) أَي الأَصْل بِأَن لَا يُقيد بِقَيْد شَرْعِي (يدْخلهُ) أَي الْقيَاس فِي اللُّغَة كَمَا يدْخل الْقيَاس فِي الْعقلِيّ الصّرْف لصدق مَا عداهُ من أَجزَاء التَّعْرِيف عَلَيْهِ والاقتصار على مُسَاوَاة فرع لأصل فِي عِلّة حكمه) أَي الأَصْل كَمَا فِي مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب والبديع (يفْسد طرده) أَي مانعية التَّعْرِيف لانتقاضه (بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة) كدلالة النَّهْي عَن التأفيف على النَّهْي عَن الضَّرْب، لِأَن فِيهِ مُسَاوَاة فرع هُوَ الضَّرْب لأصل هُوَ التأفيف فِي عِلّة حكم التأفيف، وَهُوَ الْحُرْمَة المعللة بالأذى (وَاسم الْقيَاس) أَي إِطْلَاقه (من
بَعضهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (عَلَيْهِ) أَي على مَفْهُوم الْمُوَافقَة (مجَاز للُزُوم التَّقْيِيد بالجلي) أَي التزموا فِي إِطْلَاق الْقيَاس عَلَيْهِ أَن يقيدوه بالجلي فيقولوا الْقيَاس الْجَلِيّ وَهَذَا التَّقْيِيد على سَبِيل اللُّزُوم عَلامَة الْمجَاز على مَا عرف (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مجَازًا (فعلي) تَقْدِير إِطْلَاقه على مَا نَحن فِيهِ وعَلى مَفْهُوم الْمُوَافقَة على سَبِيل (النواطؤ) بِأَن يكون للْقِيَاس فِي الِاصْطِلَاح مَفْهُوم عَام يشملهما (بَطل اشتراطهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (عدم كَون دَلِيل حكم الأَصْل شَامِلًا لحكم الْفَرْع) لِأَنَّهُ على تَقْدِير التواطؤ ينْدَرج فِي الْقيَاس، وَدَلِيل حكم الأَصْل فِيهِ شَامِل لحكم الْفَرْع وَلَا شكّ أَن اشْتِرَاط مَا يخرج من بعض أَفْرَاد الْمُعَرّف فِي التَّعْرِيف بَاطِل (و) بَطل (إطباقهم على تَقْسِيم دلَالَة اللَّفْظ إِلَى مَنْطُوق وَمَفْهُوم) أَي اتَّفقُوا على أَن مَدْلُول اللَّفْظ يَنْقَسِم اليهما وَلم يَخْتَلِفُوا فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وغن اخْتلفُوا فِي مَفْهُوم الْمُخَالفَة، وَكَون مَفْهُوم الْمُوَافقَة من مَدْلُول اللَّفْظ منَاف لكَونه من الْقيَاس لِأَنَّهُ مُقَابل للْكتاب وَالسّنة والاجماع الَّتِي مَدْلُول اللَّفْظ شرعا عبارَة عَن مدلولها (وَلَو) كَانَ لفظ الْقيَاس مُشْتَركا (لفظيا) بَين مَا هُوَ قِيَاس اتِّفَاقًا، وَبَين مَفْهُوم الْمُوَافقَة (فالتعريف) الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ (لخُصُوص أحد المفهومين) يَعْنِي مَا يُقَابل الْمَفْهُوم وَكلمَة لَو إِشَارَة إِلَى أَن اشتراكه لَيْسَ بِمُسلم (وَأورد عَلَيْهِ) أَي على هَذَا التَّعْرِيف (الدّور) أَي استلزامه الدّور (فَإِن تعقل الأَصْل وَالْفرع فرع تعقله) أَي الْقيَاس، فَيكون تعقلهما مَوْقُوفا على تعقله، وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل هُوَ الْمَقِيس عَلَيْهِ، وَالْفرع هُوَ الْمَقِيس، وَإِذا كَانَا جزءين من تَعْرِيفه لزم أَن يتَوَقَّف تعقله على تعقلهما فَيلْزم الدّور (وَأجِيب بِأَن المُرَاد) بِالْأَصْلِ وَالْفرع (مَا صدق عَلَيْهِ) مفهومهما الْكُلِّي من أَفْرَاده. وَفِي بعض النّسخ مَا صدقا عَلَيْهِ وحاصلهما وَاحِد (وَهُوَ) أَي مَا صدق مفهومهما عَلَيْهِ (مَحل) مَنْصُوص على حكمه، وَمحل غير مَنْصُوص على حكمه، وَإِنَّمَا فسر مَا صدق عَلَيْهِ بقوله مَحل لِئَلَّا يرد أَن تَفْسِير الأَصْل بِمَا صدق عَلَيْهِ الأَصْل، وَالْفرع بِمَا صدق عَلَيْهِ الْفَرْع لَا يدْفع الدّور، لِأَن تعقل فَرد الشَّيْء من حَيْثُ هُوَ فَرده مُسْتَلْزم لتعقله، وَأما تعقله لَا من حَيْثُ أَنه فَرده، بل يعنون آخر كالمحلية مثلا لَا يستلزمه (وَهُوَ) أَي هَذَا المُرَاد (خلاف) مُقْتَضى (اللَّفْظ) لِأَن الْمُتَبَادر من إِطْلَاق الْوَصْف إِرَادَة الذَّات من حَيْثُ أَنَّهَا متصفة بِهِ، فإرادتها مُجَرّدَة عَنهُ ملحوظة بعنوان آخر خلاف مُقْتَضَاهُ (وَقُلْنَا) فِي الْجَواب عَن الدّور إِن كل وَاحِد من الأَصْل وَالْفرع (ركن) فِي الْقيَاس وركن الشَّيْء يذكر فِي تَعْرِيفه، وَلَا يتَوَقَّف تعقل الرُّكْن على تعقله، بل الْأَمر بِالْعَكْسِ. وَلَا نسلم أَن يُلَاحظ الأَصْل وَالْفرع فِي التَّعْرِيف بعنوان الْمَقِيس عَلَيْهِ والمقيس وَإِن كَانَا فِي نفس الْأَمر مصداقين لَهما. وَفِي بعض النّسخ فليذكره بعد قَوْله ركن: أَي فليذكر صَاحب التَّعْرِيف الرُّكْن
ويكفيه أَن يُلَاحظ الأَصْل بِاعْتِبَار أصالته من حَيْثُ ثُبُوت الحكم نصا، وَالْفرع بِاعْتِبَار كَونه مُلْحقًا بذلك الأَصْل من حَيْثُ الحكم (ويستغنى) بِمَا قُلْنَا (عَن الدُّف) الْمَذْكُور (المنظور) فِيهِ بِمَا ذكر من خلاف اللَّفْظ (ثمَّ إِن عمم) التَّعْرِيف تعميما يحققه (فِي) الْقيَاس (الْفَاسِد) كتحققه فِي الصَّحِيح (زيد) لتَحْصِيل هَذَا التَّعْمِيم (فِي نظر الْمُجْتَهد) الْجَار وَالْمَجْرُور فِي مَحل الرّفْع بقوله زيد: أَي زيد هَذَا اللَّفْظ (لتبادر) الْمُسَاوَاة (الثَّابِتَة فِي نفس الْأَمر من) لفظ (الْمُسَاوَاة) إِن لم يزدْ، لِأَن الْمُتَبَادر من النّسَب إِذا أطلقت أَن تكون بِحَسب نفس الْأَمر وَكَونهَا بِحَسب نظر الْعقل خلاف الْمُتَبَادر (وَعنهُ) أَي عَن تبادرها عِنْد الْإِطْلَاق (لزم المصوبة) أَي الْقَائِلين بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب (زيادتها) أَي زِيَادَة الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة أُرِيد بالمضاف الْمَعْنى المصدري، وبالمضاف إِلَيْهِ معنى الْمَفْعُول (لِأَنَّهَا) أَي الْمُسَاوَاة عِنْدهم (لما لم تكن إِلَّا) الْمُسَاوَاة (فِي نظره) أَي الْمُجْتَهد، إِذْ كل مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَهُوَ عين حكم الله تَعَالَى عِنْدهم وَلَيْسَ لله تَعَالَى فِي كل حَادِثَة حكم معِين فِي نفس الْأَمر تَارَة يُوَافقهُ مَا فِي نظر الْمُجْتَهد، وَتارَة لَا يُوَافقهُ (كَانَ الْإِطْلَاق) للمساواة عَن الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة (كقيد مخرج للأفراد) أَي أَفْرَاد الْمُعَرّف كلهَا (إِذْ يُفِيد) الْإِطْلَاق (التَّقْيِيد) أَي تَقْيِيد الْمُسَاوَاة (بِنَفس الْأَمر وَافق نظره) أَي نظر الْمُجْتَهد (أَولا) يُوَافق وَلَا شَيْء من أَفْرَاد الْقيَاس بِحَيْثُ يصدق عَلَيْهِ أَنه مُسَاوَاة فِي نفس الْأَمر مَعَ قطع النّظر عَن نظر الْمُجْتَهد لما عرفت، وَإِنَّمَا قَالَ كقيد لِأَنَّهُ فِي نفس الْأَمر لَيْسَ بمخرج بل يتَوَهَّم أَن يكون مخرجا لِأَن نفس الْأَمر فِي الْمسَائِل الاجتهادية عِنْدهم عبارَة عَمَّا هُوَ فِي نظر الْمُجْتَهد فَيصدق على كل فَرد أَنه فِي نفس الْأَمر مُسَاوَاة (وَمن نفي كَونه) أَي الْقيَاس (فعل مُجْتَهد بِاخْتِيَار الْمُسَاوَاة) فِي تَعْرِيفه فَإِنَّهَا صفة إضافية قَائِمَة بالمنتسبين الْفَرْع وَالْأَصْل (فَأبْطل التَّعْرِيف ببذل الْجهد الخ) مُتَعَلق بأبطل: أَي فِي اسْتِخْرَاج الْحق على مَا نقل عَن بَعضهم (بِأَنَّهُ) أَي بذل الْمُجْتَهد (حَال القائس) لَا الْقيَاس (مَعَ أعميته) فَإِنَّهُ مُتَحَقق فِي استنباط كل حكم من الْأَحْكَام سَوَاء كَانَ بطرِيق الْقيَاس أَو بِدلَالَة النُّصُوص إِلَى غير ذَلِك، والتعريف بالأعم لَا يُفِيد الْعلم بالمعرف. (ثمَّ اخْتَار فِي) مقَام (قصد التَّعْمِيم) فِي التَّعْرِيف على وَجه يعم الصَّحِيح وَالْفَاسِد قَوْله (تَشْبِيه) فرع بِأَصْل بدل الْمُسَاوَاة، فَقَالَ هُوَ تَشْبِيه فرع بِالْأَصْلِ فِي عِلّة حكمه، لِأَنَّهُ قد يكون مطابقا لحُصُول الشّبَه، وَقد لَا يكون لعدمه، وَقد يكون الْمُشبه يرى ذَلِك وَقد لَا يرَاهُ على مَا ذكر فِي الشَّرْح العضدي (نَاقض) نَفسه، فَإِن التَّشْبِيه أَيْضا فعل الْمُجْتَهد كَمَا أَن بذل الْمُجْتَهد فعله (وَدفعه) أَي التَّنَاقُض (بِأَن المُرَاد تَشْبِيه الشَّارِع) لَا تَشْبِيه الْمُجْتَهد حَتَّى يكون فعله وَهُوَ ببذل جهده لمعْرِفَة تَشْبِيه الشَّارِع فَإِن وَافق أصَاب وَإِلَّا أَخطَأ (قد يدْفع) هَذَا
الدّفع (بِأَن شَرعه تَعَالَى) الحكم (فِي كل الْمحَال) وَاقع (ابْتِدَاء) فَيلْزم أَن يكون دفْعَة وَاحِدَة، وَإِلَّا لم يكن الِابْتِدَاء فِي الْكل فَلم يبْق احْتِمَال تقدم الأَصْل على الْفَرْع ثمَّ إِلْحَاقه بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا بِنَاء على التَّشْبِيه) بِأَن أثبت الحكم فِي مَحل ابْتِدَاء ثمَّ أثبت فِي مَحل آخر لشبهه بِالْأولِ فِي المناط (وَإِن وَقع) التشريع الدفعي فِي حق الْمحل الأول مَقْرُونا (بذلك الشّبَه) فِي نفس الْأَمر لكنه لَا مدْخل لَهُ فِي تشريع الحكم فِي الْفَرْع، لِأَن الْكل ابتدائي (وَأكْثر عباراتهم تفِيد) كَون الْقيَاس (فعله) أَي فعل الْمُجْتَهد (فَمَا أمكن رده) من تِلْكَ الْعبارَات بِضَرْب من التَّأْوِيل (إِلَى فعله) تَعَالَى على وَجه يسوغ مثله فِي الاستعمالات (فَهُوَ) أَي فَذَلِك الرَّد (مخلص) لذَلِك التَّعْرِيف من عدم الصِّحَّة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُمكن الرَّد إِلَى فعله تَعَالَى كَمَا فِي بعض تِلْكَ الْعبارَات (لم يَصح) ذَلِك التَّعْرِيف الَّذِي لم يُمكن فِيهِ الرَّد الْمَذْكُور (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس (دَلِيل نَصبه الشَّارِع نظر فِيهِ مُجْتَهد أَولا كالنص) أَي كَمَا أَن النَّص من الْكتاب وَالسّنة دَلِيل نَصبه الشَّارِع نظر فِيهِ مُجْتَهد أَولا لَا، وَمَا كَانَ وجوده أمرا مفروغا عَنهُ بِنصب الشَّارِع بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِيهِ وجود الْمُجْتَهد وَعَدَمه لم يكن فعلا للمجتهد وَهُوَ ظَاهر. فقد استبان لَك مِمَّا ذكرنَا أَن مَا قيل من أَنه لَا يلْزم من مُجَرّد هَذَا أَن لَا يكون فعلا للمجتهد وَهُوَ ظَاهر بِدَلِيل أَن الْإِجْمَاع دَلِيل نَصبه الشَّارِع مَعَ أَنه فعل الْمُجْتَهدين لجَوَاز أَن يَجْعَل الشَّارِع فعل الْمُكَلف مناطا لحكم شَرْعِي كَلَام سَاقِط، على أَن كَون الْإِجْمَاع فعل الْمُجْتَهدين غير مُسلم، إِذْ الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة إِنَّمَا هُوَ تِلْكَ الْهَيْئَة الاجتماعية الْحَاصِلَة من آرائهم، وَكَون كل وَاحِد من تِلْكَ الآراء فعل الْمُكَلف مَحل بحث لكَونه من مقولة الكيف، وَإِن كَانَ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ وَهُوَ الِاجْتِهَاد فعله كَمَا سَيَأْتِي فضلا عَن تِلْكَ الْهَيْئَة اللَّازِمَة لِاجْتِمَاعِهِمْ على وَجه الِاسْتِيعَاب (فَمن الثَّانِي) أَي مِمَّا لَا يُمكن رده إِلَى كَونه فعل الله تَعَالَى (تَعديَة الحكم من الأَصْل الخ) أَي إِلَى الْفَرْع بعلة متحدة لَا تدْرك بِمُجَرَّد اللُّغَة (لصدر الشَّرِيعَة) فَإِنَّهُ لَا يُوصف بِكَوْنِهِ معديا حكم أصل إِلَى فرع فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن يكون عبارَة عَن جعله تَعَالَى حكم الأَصْل مَقْرُونا بعلة تصلح لِأَن تكون سَببا تقدمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهد قُلْنَا يأباه مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله. (ثمَّ فَسرهَا) أَي صدر الشَّرِيعَة مَعْطُوف على مُقَدّر تَقْدِيره عرفه بهَا. ثمَّ فَسرهَا (بِإِثْبَات حكم مثل) حكم (الأَصْل) فِي الْفَرْع فَإِنَّهُ تَصْرِيح بحدوث حكم الْفَرْع بعد حكم الأَصْل بطرِيق التَّعْدِيَة والإلحاق، (وَأورد) على هَذَا التَّعْرِيف (مَا سَنذكرُهُ) قَرِيبا فِي حكم الْقيَاس (فَأفَاد أَنَّهَا) أَي التَّعْدِيَة (فعل مُجْتَهد وَلَيْسَت) التَّعْدِيَة (بِهِ) أَي بِفعل الْمُجْتَهد، وَهَذِه الْعبارَة تدل على وجود التَّعْدِيَة غير أَنَّهَا لَيست بِفِعْلِهِ بل هِيَ فعل الشَّارِع إِذْ لَا ثَالِث يكون فعلا لَهُ، وَقد عرفت شرع الحكم فِي كل الْمحَال ابْتِدَاء. فاحتيج إِلَى تَأْوِيل، وَمَا ذكرنَا
آنِفا يصلح لِأَن يكون تَأْوِيله، وسيشير إِلَى تَأْوِيل، ثمَّ بَين عدم كَونهَا فعل الْمُجْتَهد بقوله (إِذْ لَا فعل لَهُ) أَي للمجتهد فِي ذَلِك (سوى النّظر فِي دَلِيل الْعلَّة) بِعَدَمِ مُلَاحظَة كَون الأَصْل مُعَللا (و) سوى النّظر فِي (وجودهَا) أَي الْعلَّة فِي الْفَرْع (ثمَّ يلْزمه) أَي النّظر فِي دَلِيل الْعلَّة ووجودها فِي الْفَرْع إِذا أدّى إِلَيْهَا وَإِلَى وجودهَا (ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع بخلقه تَعَالَى) إِيَّاه مُتَعَلق باللزوم (عَادَة) أَي لُزُوما عاديا لَا عقليا بِحَيْثُ يَسْتَحِيل عدم حُصُوله (فَلَيْسَتْ التَّعْدِيَة سواهُ) أَي سوى ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع، وَالظَّن كَيفَ، وَلَيْسَ بِفعل (وَهُوَ) أَي الظَّن الْمَذْكُور (ثَمَرَة الْقيَاس لَا نفس الْقيَاس) وَهَذَا يدل على أَن الْقيَاس هُوَ النّظر الْمَذْكُور، وَقد صرح فِيمَا قبل أَن الْقيَاس دَلِيل نَصبه الشَّارِع نظر فِيهِ مُجْتَهد أَولا، فبينهما تدافع، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن النّظر الْمُؤَدِّي إِلَى تعْيين الْعلَّة ووجودها فِي الْفَرْع نتيجة نصب الشَّارِع، وَالظَّن الْمَذْكُور نتيجة النّظر الْمَذْكُور ونتيجة نتيجة الشَّيْء نتيجة لذَلِك الشَّيْء فَتَأمل (وَمثله) أَي مثل تَعْرِيف صدر الشَّرِيعَة فِي عدم إِمْكَان الرَّد إِلَى فعله تَعَالَى (قَول القَاضِي أبي بكر: حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم فِي إِثْبَات حكم لَهما الخ) أَي أَو نَفْيه عَنْهُمَا بِأَمْر جَامع بَينهمَا من إِثْبَات حكم أَو صفة أَو نفيهما، إِنَّمَا قَالَ مَعْلُوم على مَعْلُوم دون شَيْء على شَيْء ليشْمل الْمَعْدُوم والمستحيل أَيْضا، وعمم الحكم ليتناول الوجودي نَحْو قتل عمد عدوان، فَيجب الْقصاص كَمَا فِي الْمَحْدُود، والعدمي نَحْو قَتِيل تمكن فِيهِ الشُّبْهَة فَلَا يُوجب الْقصاص كالعصا الصَّغِيرَة، وَفصل فِي الْجَامِع ليعم الحكم الشَّرْعِيّ نَحْو العدوانية، وَالْوَصْف الْعقل نَحْو العمدية، ونفيهما كَمَا يُقَال فِي الْخَطَأ لَيْسَ بعمد وَلَا عدوان: فَلَا يجب الْقصاص كَمَا فِي الصَّبِي، (وَفِيه زِيَادَة إِشْعَار بِأَن حكم الأَصْل) أَيْضا (بِالْقِيَاسِ) يَعْنِي شَارك صدر الشَّرِيعَة فِي عدم إِمْكَان الرَّد لِأَن الْحمل الْمَذْكُور هُوَ التَّعْدِيَة الْمَذْكُورَة فِي الْمَآل، وَزَاد عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِشْعَار (وَأجِيب بِأَن الْمَعْنى) أَي معنى إِثْبَات حكم لَهما أَنه (كَانَ حكم الأَصْل) قبل الْقيَاس هُوَ (الظَّاهِر فَظهر) أَن الْقيَاس (فيهمَا) أَي فِي الأَصْل وَالْفرع جَمِيعًا وَالْحَاصِل أَن ثُبُوت الحكم فيهمَا بِحَسب نفس الْأَمر مُتَحَقق قبل الْقيَاس، وَأما ظُهُوره عِنْد الْمُكَلّفين فَفِي الأَصْل مُتَحَقق قبل الْقيَاس، أَعنِي النّظر وَالِاجْتِهَاد، وَفِي الْفَرْع يتَحَقَّق بعده، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بِإِظْهَار الْقيَاس إِيَّاه) أَي حكم الأَصْل (فِي الْفَرْع) وَإِضَافَة الْإِظْهَار إِلَى الْقيَاس مجازية من قبيل إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى السَّبَب. (وَمن الأول) أَي مِمَّا يُمكن رده إِلَى فعله تَعَالَى (تَقْدِير الْفَرْع بِالْأَصْلِ فِي الحكم وَالْعلَّة فَإنَّك علمت أَن التَّقْدِير يُقَال) أَي يُطلق لُغَة (على التَّسْوِيَة فَرجع) التَّقْدِير الْمَذْكُور (إِلَى تسويته تَعَالَى محلا بآخر) أَي بِمحل آخر (على مَا ذكر) آنِفا من (أَنَّهُمَا) أَي المحلين (المُرَاد بهما) أَي بالفرع وَالْأَصْل (وَيقرب مِنْهُ) أَي من هَذَا التَّعْرِيف
فِي إِمْكَان الرَّد إِلَى فعله تَعَالَى (قَول أبي مَنْصُور) الماتريدي (إبانة مثل حكم أحد الْمَذْكُورين بِمثل علته فِي الآخر) فَالْمُرَاد بالمذكورين الأَصْل وَالْفرع، ومذكورية الأَصْل ظَاهر لكَونه مَنْصُوصا عَلَيْهِ من حَيْثُ الحكم، وَأما مذكورية الْفَرْع فباعتبار أَن ذكر الأَصْل مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِحكم مُعَلل بعلة مَوْجُودَة فِي الْفَرْع يسْتَلْزم ذكر الْفَرْع ضمنا بِأحد الْمَذْكُورين الأَصْل وَالْآخر الْفَرْع. وَإِنَّمَا قَالَ بِمثل علته لِأَن الْعلَّة الْمَوْجُودَة فِي الْفَرْع لَيست عين الْعلَّة الْمَوْجُودَة فِي الأَصْل لكَون كل مِنْهُمَا عرضا شخصيا قَائِما بمحله الشخصي كَمَا أَن حكم كل وَاحِد مِنْهُمَا كَذَلِك (فتصحيحه) أَي التَّعْرِيف الْمَذْكُور (بإبانة الشَّارِع) أَي بِحمْل الْإِبَانَة على إبانة الشَّارِع لَا على إبانة الْمُجْتَهد، وَهَذَا التَّوْجِيه وَقع (بِخِلَاف قَوْلهم) أَي جمع من الْحَنَفِيَّة (أَنه) أَي اخْتِيَار الْإِبَانَة (لإِفَادَة أَن الْقيَاس مظهر للْحكم لَا مُثبت) لَهُ (بل الْمُثبت هُوَ الله سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى ثمَّ أَشَارَ إِلَى رد مَا قَالُوا بقوله (لِأَن) الْأَدِلَّة (السمعية) من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع (حِينَئِذٍ) أَي حِين لوحظ هَذَا الْمَعْنى (كلهَا كَذَلِك) أَي مظهرة للْحكم فِي الْحَقِيقَة لَا مثبتة لَهُ لأئها (إِنَّمَا تظهر الثَّابِت من حكمه) تَعَالَى (وَهُوَ) أَي حكمه أَو الثَّابِت من حكمه الْخطاب (النَّفْسِيّ) لكَونه مندرجا فِي كَلَامه النَّفْسِيّ. (ثمَّ) يرد (عَلَيْهِ) أَي على تَعْرِيف الماتريدي (أَن إبانته) أَي الْمُجْتَهد على مَا هُوَ الظَّاهِر، أَو الشَّارِع على التَّصْحِيح (الحكم) مفعول إبانته (لَيْسَ نفس الدَّلِيل) الَّذِي هُوَ الْقيَاس، وَلَا بُد من صِحَة الْحمل بَين الْمُعَرّف والمعرف (بل) ذَلِك أَمر (مُرَتّب على النّظر الصَّحِيح فِيهِ) أَي فِي الدَّلِيل عَادَة، وكلامنا إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْرِيف نفس الدَّلِيل الَّذِي هُوَ الْقيَاس (وَيجب حذف مثل فِي) قَوْله (مثل حكم) أحد الْمَذْكُورين (لِأَن حكم الْفَرْع هُوَ حكم الأَصْل) فَإِن حكم الْخمر والنبيذ مثلا شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الْحُرْمَة، وخصوصية الْمحل غير مَنْظُور فِي كَونهَا حكما (غير أَنه نَص عَلَيْهِ فِي مَحل) وَهُوَ الأَصْل (وَالْقِيَاس يُفِيد أَنه) أَي الحكم ثَابت (فِي غَيره) أَي فِي غير ذَلِك الْمحل وَهُوَ الْفَرْع (أَيْضا) نقل عَن المُصَنّف هَهُنَا، يَعْنِي أَن حكم كل من الأَصْل وَالْفرع وَاحِد لَهُ إضافتان إِلَى الأَصْل بِاعْتِبَار تعلقه بِهِ، وَإِلَى الْفَرْع كَذَلِك فَلَا يَتَعَدَّد فِي ذَاته بِتَعَدُّد الْمحل، بل هُوَ وَاحِد لَهُ تعلق بكثيرين كَمَا أَن الْقُدْرَة شَيْء وَاحِد مُتَعَلق بالمقدورات (وَكَذَا) يجب حذف (مثل فِي بِمثل علته) فَإِن الْعلَّة المثيرة للْحكم فِي الأَصْل بِعَينهَا المثيرة لَهُ فِي الْفَرْع (ومبنى هَذَا الْوَهم) وَهُوَ أَنه لَا بُد من ذكر مثل فِي كلا هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ على كثير (حَتَّى قَالَ مُحَقّق) وَهُوَ القَاضِي شَارِح الْمُخْتَصر (لَا بُد أَن يعلم عِلّة الحكم فِي الأَصْل، وَثُبُوت مثلهَا فِي الْفَرْع، إِذْ ثُبُوت عينهَا) فِي الْفَرْع (لَا يتَصَوَّر لِأَن الْمَعْنى) المتحقق (الشخصي لَا يقوم بمحلين، وَبِذَلِك) أَي بِالْعلمِ بعلة الحكم فِي الأَصْل
وَثُبُوت مثلهَا فِي الْفَرْع (يحصل ظن مثل الحكم فِي الْفَرْع، وَبَيَان وهمهم أَن الحكم وَهُوَ الْخطاب النَّفْسِيّ جزئي حَقِيقِيّ لِأَنَّهُ) أَي الْخطاب النَّفْسِيّ (وصف مُتَحَقق فِي الْخَارِج قَائِم بِهِ تَعَالَى فَهُوَ وَاحِد لَهُ متعلقات كَثِيرَة) شارة إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ أهل الْحق من أَنه تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام قديم وَاحِد بالشخص قَائِم بِذَاتِهِ لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت هُوَ بِهِ طَالب بِهِ مخبر، فَالْكَلَام النَّفْسِيّ من حَيْثُ إِضَافَته إِلَى فعل العَبْد من حَيْثُ الطّلب اقْتِضَاء، أَو تَخْيِير، وَمن حَيْثُ أَنه حكم بتعلق شَيْء بِشَيْء كالسببية والشرطية إِلَى غير ذَلِك يُسمى خطابا نفسيا، وَهَذِه إِضَافَة على وَجه الْعُمُوم ينْدَرج تَحْتَهُ أَنْوَاع وأصناف وأشخاص من الْإِضَافَة، فالتعلقات الْكَثِيرَة عبارَة عَن تِلْكَ الإضافات (وَمَا ذكر) من أَن الْمَعْنى الشخصي لَا يقوم بمحلين (إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَة قيام الْعرض الشخصي بِالْمحل كالبياض الشخصي الْقَائِم بِالثَّوْبِ الشخصي يمْتَنع أَن يقوم) هَذَا الْبيَاض الشخصي الْمَذْكُور حَال كَونه متلبسا (بِعَيْنِه) أَي بتعينه الشخصي (بِغَيْرِهِ) صلَة للْقِيَام، أَي بِغَيْر ذَلِك الثَّوْب الشخصي الْمَذْكُور، وصفات الله تَعَالَى لَيست من مقولة الْعرض وَلَا يُقَاس بهَا، على أَنه لَو سلم كَونهَا مثل الْأَعْرَاض فِي اسْتِحَالَة قِيَامهَا بمحلين لَا ينفع الواهم الْمَذْكُور، لِأَن الْخطاب الْمَذْكُور لَا يقوم إِلَّا بِذَاتِهِ المقدسة، غَايَة الْأَمر أَن لَهُ تعلقات وإضافات بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيرهَا لَا أَنه قَائِم بِالْغَيْر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والكائن هُنَا) أَي فِي الْخطاب النَّفْسِيّ الْمُتَعَلّق بالمحال المتعددة إِنَّمَا هُوَ (مُجَرّد إضافات مُتعَدِّدَة لوَاحِد شخصي) هُوَ الْخطاب النَّفْسِيّ (وَكَذَلِكَ لَا يمنعهُ الشخصية) أَي مثل هَذَا الْقدر وَهُوَ أَن يكون بِاعْتِبَار الإضافات لَا يمنعهُ شخصية الْمَعْنى الْقَائِم بالشخص (فالتحريم الْمُضَاف إِلَى الْخمر بِعَيْنِه لَهُ إِضَافَة أُخْرَى إِلَى النَّبِيذ وَمثله مِمَّا لَا يُحْصى) من الْمعَانِي الشخصية المتكثرة بِاعْتِبَار التعلقات (كالقدرة الْوَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المقدورات لَيست) الْقُدْرَة (قَائِمَة بهَا) أَي بالمقدورات (بل) قَائِمَة (بِهِ تَعَالَى، وَلها إِلَى كل مَقْدُور إِضَافَة يَعْتَبِرهَا الْعقل، وَكَذَا الْوَصْف) الَّذِي هُوَ عِلّة الحكم فِي الأَصْل وَالْفرع وَاحِد وَلَا يلْزم مِنْهُ قيام شخص بمحلين (إِذْ لَيْسَ) الْوَصْف (المنوط بِهِ) الحكم (الْوَصْف الجزئي، بل) هُوَ الْوَصْف (الْكُلِّي، وَهُوَ) أَي ذَلِك الْكُلِّي (بِعَيْنِه ثَابت فِي الْمحَال) الأَصْل وَالْفرع بِاعْتِبَار أَفْرَاد كل مِنْهُمَا، فَإِن الْخمر مثلا مَفْهُوم تحتهَا جزئيات لَا تحصى، وَكَذَا النَّبِيذ (فمناط حُرْمَة الْخمر الْإِسْكَار مُطلقًا لَا إسكار الْخمر، وَلِأَنَّهُ) أَي إسكار الْخمر مَعْطُوف على الْمَعْنى: أَي لما ذكرنَا أَن المنوط بِهِ كلي ثَابت بِعَيْنِه فِي الْمحَال، وَلِأَنَّهُ (قَاصِر عَلَيْهِ) أَي على الأَصْل الَّذِي هُوَ الْخمر (فتمتنع التَّعْدِيَة) لكَونه قاصرا على الأَصْل كَمَا سَيَأْتِي (وَهَذَا) أَي كَون المناط فِي حُرْمَة الْخمر كليا (لِأَنَّهُ) أَي المناط إِنَّمَا هُوَ الْأَمر (الْمُشْتَمل على الْمَفَاسِد واشتماله) عَلَيْهَا (لَيْسَ بِقَيْد كَونه إسكار كَذَا)
أَي الْخمر مثلا (بل) بِاعْتِبَار أَنه (إسكار) مُطلق (وَهُوَ) أَي الْإِسْكَار الْمُطلق (بِعَيْنِه ثَابت فِي الْمحَال) كلهَا (وعَلى هَذَا كَلَام النَّاس) فِيهِ تَعْرِيض بِأَن مَا ابتدعه هَؤُلَاءِ خلاف كَلَام النَّاس (وَإِنَّمَا يحصل من العلمين) أَي الْعلم بعلة الحكم فِي الأَصْل وَالْعلم بثبوتها فِي الْفَرْع (ظن) للْحكم فِي الْفَرْع لَا قطع (لجَوَاز كَون خُصُوص الأَصْل شرطا) للْحكم فِيهِ (و) كَون خُصُوص (الْفَرْع مَانِعا) مِنْهُ، وَلَا يخفى أَن هذَيْن الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يُنَافِي وَاحِد مِنْهُمَا الْعلم بعلية الْوَصْف، إِذْ لَيْسَ المُرَاد من الْعلم بعليته الْقطع بِكَوْنِهِ عِلّة تَامَّة بِحَيْثُ لَا يحْتَاج فِي إِثْبَات الحكم إِلَى شَرط. وَدفع مَانع، على أَن الظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْعلمِ مُطلق التَّصْدِيق فَيشْمَل الظَّن (وَأورد على عكس التَّعْرِيف) الْمَذْكُور وَهُوَ مُسَاوَاة مَحل لآخر فِي عِلّة حكم شَرْعِي إِلَى آخِره (أَمْرَانِ: الأول قِيَاس الْعَكْس) وَهُوَ إِثْبَات نقيض حكم الشَّيْء فِي شَيْء آخر بنقيض علته فَإِنَّهُ قِيَاس، وَلَا يصدق عَلَيْهِ التَّعْرِيف لعدم الْمُسَاوَاة فِيهِ بَين الأَصْل وَالْفرع فِي الحكم وَالْعلَّة وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِنَّهُ) أَي قِيَاس الْعَكْس (مُثبت لنقيض حكم الأَصْل فِي الْفَرْع كَقَوْل حَنَفِيّ) لإِثْبَات وجوب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب كَمَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة، أَو فِي مطلقه كَمَا فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة (لما وَجب الصَّوْم شرطا للاعتكاف بنذره) أَي الصَّوْم مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول مثلا: نذرت الِاعْتِكَاف صَائِما (وَجب) الصَّوْم للاعتكاف (بِلَا) شَرط (نذر) للصَّوْم مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول نذرت الِاعْتِكَاف من غير ذكر الصَّوْم إِن كَانَ الْمُدعى إِثْبَات وجوب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب، أَو بِأَن يعْتَكف من غير نذر إِن كَانَ الْمُدعى إِثْبَات وجوب الصَّوْم فِي مطلقه (كَالصَّلَاةِ لما لم تجب شرطا لَهُ) أَي الِاعْتِكَاف (بِالنذرِ) أَي بِنذر الصَّلَاة مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول نذرت الِاعْتِكَاف مُصَليا من غير ذكر الصَّلَاة أَو يعْتَكف من غير نذر (لم تجب بِغَيْر نذر) للصَّلَاة مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول نذرت الِاعْتِكَاف، ثمَّ أَرَادَ أَن يبين الأَصْل وَالْفرع وَالْعلَّة وَالْحكم فِي الْقيَاس الْمَذْكُور، فَقَالَ (ومضمون الشَّرْط) يَعْنِي وجوب الصَّوْم شرطا للاعتكاف بنذره على مَا سبق وَعدم وجوب الصَّلَاة شرطا للاعتكاف بِالنذرِ (فِي الأَصْل الصَّلَاة) عطف بَيَان للْأَصْل (وَالْفرع) عطف على الأَصْل: أَي ومضمون الشَّرْط فِي الْفَرْع (الصَّوْم) عطف بَيَان وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مَضْمُون الشَّرْط عبارَة عَن المضمونين المتخالفين مُتَحَقق فِي كل من الأَصْل وَالْفرع وَاحِد مِنْهُمَا (عِلّة) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي مَضْمُون الشَّرْط (لمضمون الْجَزَاء) يَعْنِي وجوب الصَّوْم بِلَا نذر، وَعدم وجوب الصَّلَاة بِغَيْر نذر والتوزيع هَهُنَا كالتوزيع فِي مَضْمُون الشَّرْط (فيهمَا) أَي فِي الأَصْل وَالْفرع، فقد عرفت أَن حكم الأَصْل يُخَالف حكم الْفَرْع وَأَن عِلّة الحكم فِي الأَصْل تخَالف عِلّة الحكم فِي الْفَرْع، وَعرفت أَن قَول المُصَنّف مُثبت لنقيض حكم
الأَصْل فِيهِ مُسَامَحَة لِأَن وجوب الصَّوْم بِلَا نذر لَيْسَ بنقيض عدم وجوب الصَّلَاة بِلَا نذر لعدم اتِّحَاد النِّسْبَة (أُجِيب بِأَن الِاسْم) أَي اسْم الْقيَاس (فِيهِ) أَي فِي قِيَاس الْعَكْس (مجَاز وَلذَا) أَي ولكونه مجَازًا (لزم تَقْيِيده) أَي تَقْيِيد الِاسْم الْمَذْكُور عِنْد إِطْلَاق علته بِقَيْد الْعَكْس: فَيُقَال قِيَاس الْعَكْس، وَلَا يُطلق الْقيَاس وَيُرَاد بِهِ، وَهَذَا عَلامَة كَونه مجَازًا فِيهِ (أَو) الِاسْم فِيهِ (حَقِيقَة و) لَا نسلم عدم صدق التَّعْرِيف عَلَيْهِ لانْتِفَاء (الْمُسَاوَاة) بل الْمُسَاوَاة فِيهِ (حَاصِلَة ضمنا) وَبَيَان ذَلِك من وَجْهَيْن. أَحدهمَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لِأَن المُرَاد) فِي الْمِثَال الْمَذْكُور مثلا (مُسَاوَاة الِاعْتِكَاف بِلَا نذر الصَّوْم) وَهُوَ الْفَرْع (لَهُ) أَي للاعتكاف المتلبس (بنذره) أَي الصَّوْم وَهُوَ فِي الأَصْل (فِي حكم هُوَ) أَي فِي ذَلِك الحكم (اشْتِرَاط الصَّوْم) فعلى هَذَا التَّقْدِير الْفَرْع وَالْأَصْل وَالْحكم وَالْعلَّة غير مَا ذكر أَولا من أَن الْفَرْع هُوَ الصَّوْم، وَالْأَصْل هُوَ الصَّلَاة، وَالشّرط وَالْعلَّة هُوَ مَضْمُون الشَّرْط، وَالْحكم مَضْمُون الْجَزَاء، وَسَيَجِيءُ أَن الْعلَّة فِي هَذَا التَّقْدِير الِاعْتِكَاف (بِمَعْنى) أَنه (لَا فَارق) بَين الاعتكافين فرقا يَقْتَضِي اخْتِلَافهمَا فِي حكم اشْتِرَاط الصَّوْم الْجَارِي فِي قَوْله بِمَعْنى إِمَّا مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة لمصدر مَنْصُوب بِلَفْظ المُرَاد أَي إِرَادَة متلبسة بِهَذَا الْمَعْنى أَو بمساواة، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة فَإِنَّهُ سَبَب للْحكم بعلية الِاعْتِكَاف الْمُوجبَة للمساواة وَحَاصِله إِلْغَاء الْفَارِق وَهُوَ النّذر لِاسْتِوَاء وجوده وَعَدَمه كَمَا فِي الصَّلَاة فَمَا يبْقى مَا يصلح للعلية فِي الأَصْل سوى الِاعْتِكَاف، وَهَذَا يُسمى تَنْقِيح المناط كَمَا سَيَأْتِي (أَو بالسبر) بِالْمُوَحَّدَةِ عطف على قَوْله بِمَعْنى، وَهُوَ على مَا سَيَأْتِي حصر الْأَوْصَاف ثمَّ حذف بَعْضهَا فَيتَعَيَّن الْبَاقِي، وَيَكْفِي عِنْد مَنعه بحثت فَلم أجد غَيرهَا، وَالْأَصْل الْعَدَم (عِنْد قَائِله) أَي الَّذِي يقبل إِثْبَات الْعلَّة بمسلك السبر ظرف للإرادة الْمَذْكُورَة بِاعْتِبَار تلبسها بالسبر أَو للمساواة (مِنْهُم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (أَي) تَفْسِير للسبر فِي الْمِثَال الْمَذْكُور (هِيَ) أَي الْعلَّة لوُجُوب الصَّوْم هِيَ صُورَة النّذر، و (أما الِاعْتِكَاف، أَو هُوَ) أَي الِاعْتِكَاف (بِنذر الصَّوْم أَو غَيرهمَا) أَي غير الِاعْتِكَاف الْمُجَرّد والمقترن بِالنذرِ (وَالْأَصْل عَدمه) أَي عدم غَيرهمَا، وَلَا يعدل عَن الأَصْل بِغَيْر مُوجب (وَالنّذر ملغي) من حَيْثُ كَونه (فارقا) بَين الاعتكافين فِي وجوب الصَّوْم وَعَدَمه (أَو وَصفا للسبر) مَعْطُوف على قَوْله فارقا لما ذكر فِي إِثْبَات وجوب الصَّوْم بعلة الِاعْتِكَاف مسلكين: أَحدهمَا تَحْقِيق المناط الْمشَار إِلَيْهِ بقوله لَا فَارق، وَالثَّانِي السبر الْمُفَسّر بِمَا ذكرُوا احْتَاجَ فِي كل مِنْهُمَا إِلَى إِلْغَاء خُصُوصِيَّة النّذر ذكر على سَبِيل اللف والنشر والالغاء من حَيْثُ كَونه وَصفا للسبر، وَمعنى إِلْغَاء النّذر وَصفا للسبر أَنه لَا يصلح لِأَن يكون وَصفا مؤثرا فِي علته مَا يبْقى من أَوْصَاف السبر بعد حذف مَا سواهُ (بِالصَّلَاةِ) مُتَعَلق بملغي: أَي بِسَبَب عدم
وجوب الصَّلَاة بنذرها مَعَ الِاعْتِكَاف فَلَو كَانَ للنذر تَأْثِير فِي وجوب مَا اقْترن بالاعتكاف عِنْد انْعِقَاده لَوَجَبَتْ الصَّلَاة المقترنة بالاعتكاف مُصَليا (فَهِيَ) أَي الْعلَّة (الِاعْتِكَاف) فَقَط، فَعلم أَن الصَّلَاة لم تذكر للْقِيَاس عَلَيْهَا بل لبَيَان إِلْغَاء مَا يتَوَهَّم كَونه فارقا وَالْوَجْه الثَّانِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو الصَّوْم) بالْخبر عطفا على الِاعْتِكَاف فِي قَوْله مُسَاوَاة الِاعْتِكَاف: أَي وَلِأَن المُرَاد مُسَاوَاة الصَّوْم (مَعَ نَذره) أَي مَعَ نذر الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف فَهُوَ الْفَرْع (بِالصَّلَاةِ) المتلبسة أَو (بِالنذرِ) فِي الِاعْتِكَاف، فَهِيَ الأَصْل (فِي حكم هُوَ عدم إِيجَاب النّذر) قرن بالاعتكاف من الصَّوْم أَو الصَّلَاة فَإِنَّهُمَا متساويان فِي عدم إِيجَاب النّذر إِيَّاه وَإِن اخْتلفَا فِي الْوُجُوب وَعَدَمه، وَلم يذكر الْعلَّة لعدم إِيجَابه فِي الصَّلَاة ولعلها كَونهَا عبَادَة مَقْصُودَة لذاتها فَلَا تجب شرطا لما هُوَ مثلهَا بل دونهَا (وَهُوَ) أَي الحكم المفاد للْقِيَاس على هَذَا التَّقْدِير (ملزوم الْمَطْلُوب) لَا عينه (وَهُوَ) أَي الْمَطْلُوب (أَن وُجُوبه) أَي الصَّوْم (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر النّذر وَغَيره مِمَّا يصلح عِلّة لوُجُوب الصَّوْم منحصر فِي الِاعْتِكَاف لما عرفت وَالِاعْتِكَاف مَوْجُود فِي اعْتِكَاف لم ينذر فِيهِ الصَّوْم فَيجب الصَّوْم فِيهِ لوُجُود الْعلَّة، فقد علم بذلك أَن الْقيَاس تَارَة لَا ينْتج غير الْمَطْلُوب بل ملزوم لملزوم الْمَطْلُوب فَتدبر (وَالْأَوْجه كَونه) أَي قِيَاس الْعَكْس (مُلَازمَة وَقِيَاسًا) لبيانها أَي حَقِيقَة مركبة من شَرْطِيَّة وَقِيَاس مَذْكُور لبيانها، فالشرطية نَحْو (لَو لم يشرط الصَّوْم للاعتكاف) الْمُطلق (لم يشرط) الصَّوْم لَهُ (بِالنذرِ) وَالْقِيَاس مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (كَالصَّلَاةِ) يَعْنِي أَن الصَّوْم كَالصَّلَاةِ فِي كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا بِحَيْثُ يتَفَرَّع على عدم اشْتِرَاطه للاعتكاف الْمُطلق عدم اشْتِرَاطه للاعتكاف الْمُقَيد بِالنذرِ، وَهَذِه قَضِيَّة حملية إِحْدَى مقدمتي الْقيَاس الْمَذْكُور لبَيَان الْمُلَازمَة. وَالْأُخْرَى مَا أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله (لم تشرط فَلم تشرط بِهِ) أَي حَيْثُ لم تشْتَرط الصَّلَاة للاعتكاف الْمُطلق لم تشْتَرط للاعتكاف الْمُقَيد بِالنذرِ، وَهَذِه قَضِيَّة حملية إِحْدَى مقدمتي الْقيَاس الْمَذْكُور الْمُطلق أَمر مُقَرر فَألْحق بهَا الصَّوْم فِي هَذَا الْمَعْنى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي معنى الْقرْبَة الْمُوجبَة للاعتكاف زِيَادَة الثَّوَاب من غير فَارق، لَكِن يبْقى هَهُنَا مناقشة وَهُوَ أَن انْتِفَاء الاشتراطين فِي الصَّلَاة مُسلم لَكِن تفرع أَحدهمَا على الآخر غير مُسلم، وَالِاسْتِدْلَال مَبْنِيّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّوْجِيه أوجه (لعمومه) أَي هَذَا التَّوْجِيه مَا ذكر من قَول الْحَنَفِيّ وَغَيره فَيعم (قَول شَافِعِيّ فِي تَزْوِيجهَا) أَي الْحرَّة الْعَاقِلَة الْبَالِغَة (نَفسهَا يثبت الِاعْتِرَاض) للأولياء (عَلَيْهَا) فَادّعى أَولا عدم لُزُوم صِحَة تَزْوِيج الْمَرْأَة نَفسهَا لثُبُوت اعْتِرَاض الْوَلِيّ عَلَيْهَا. ثمَّ بَين الْمُلَازمَة بقوله كَالرّجلِ إِلَى آخِره، وتلخيص الْبَيَان نَحن وجدنَا صِحَة تَزْوِيج النَّفس فِي الرجل مَعَ عدم ثُبُوت
الِاعْتِرَاض فَعرفنَا أَن الصِّحَّة لَا تفارق عدم ثُبُوته، فَحَيْثُ انْتَفَى عدم ثُبُوته حكمنَا بِعَدَمِ الصِّحَّة. وَلَا يخفى ضعفه، لِأَن اجْتِمَاع الصِّحَّة مَعَ عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض لَا يُفْضِي أَن لَا تُفَارِقهُ الصِّحَّة لجَوَاز أَن يجْتَمع مَعَ نقيضه أَيْضا (فَلَا يَصح مِنْهَا كَالرّجلِ لما صَحَّ مِنْهُ) تَزْوِيج نَفسه (لم يثبت) الِاعْتِرَاض لَهُم (عَلَيْهِ فمضمون الْجَزَاء) وَهُوَ عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض (فِي الأَصْل وَهُوَ) فِي الأَصْل (الرجل عِلّة للْحكم مَضْمُون الشَّرْط) بِالْجَرِّ على الْبَدَل من الحكم، أَو عطف بَيَان وَهُوَ صِحَة تَزْوِيج النَّفس حَال كَون مَضْمُون الشَّرْط (قلب الأَصْل) أَي عكس مَا هُوَ الأَصْل فِي بَيَان الْمُلَازمَة (وَالْوَجْه) الْوَجِيه (قلبه) أَي قلب الْقلب بِأَن يُقَال لما لم يثبت الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ صَحَّ مِنْهُ، فَيُقَال حِينَئِذٍ فمضمون الشَّرْط فِي الأَصْل عَلَيْهِ لمضمون الْجَزَاء على طبق مَا مر أَولا فِي تَقْرِيره، وَلما كَانَ الْمَقْصُود من هَذِه التوجيهات تَحْصِيل الْمُسَاوَاة بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عِلّة الحكم، وَكَانَ الْفَرْع وَالْأَصْل فِي الصُّورَة الأولى الِاعْتِكَاف بِلَا نذر الصَّوْم وَالِاعْتِكَاف بنذره وهما متساويان فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ الِاعْتِكَاف. وَفِي الثَّانِيَة الْمَرْأَة وَالرجل، وَالْعلَّة فِي الأَصْل عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض، وَهُوَ غير مُتَحَقق فِي الْفَرْع أَرَادَ أَن يبين وَجه مساواتهما، فَقَالَ (والمساواة فِي هَذَا) الْقلب من قِيَاس الْعَكْس حَاصِلَة (على تَقْدِير مَضْمُون الْجَزَاء) يَعْنِي عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض (الْمَقِيس عَلَيْهِ) صفة لمضمون الْجَزَاء على سَبِيل التَّجَوُّز لِأَن الْمَقِيس عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ الرجل غير انه ملحوظ ومعتبر فِي جَانِبه كَأَنَّهُ متمم لَهُ وَتَقْدِيره عبارَة عَن وُقُوعه جَزَاء لشرط مَفْرُوض كَمَا يُشِير إِلَيْهِ بقوله (وَتَقْدِيره) أَي مَضْمُون الْجَزَاء (فِي الْمِثَال) الْمَذْكُور (لَو صَحَّ) مِنْهَا تَزْوِيج النَّفس (لما ثَبت الِاعْتِرَاض) عَلَيْهَا كَالرّجلِ لما لم يثبت الِاعْتِرَاض صَحَّ مِنْهُ تَزْوِيج النَّفس (فَعدم الِاعْتِرَاض تساوى) الْمَرْأَة الَّتِي هِيَ الْفَرْع (بِهِ) أَي بِسَبَب عدم الِاعْتِرَاض (الرجل) بِالنّصب على أَنه مفعول تساوى بِنَاء (على التَّقْدِير) وَالْفَرْض لصِحَّة نِكَاحهَا فَعدم الِاعْتِرَاض ملحوظ فِي جَانب الْفَرْع، أَعنِي الْمَرْأَة، وَفِي جَانب الأَصْل وَهُوَ الرجل، وَإِن كَانَ فِي الأول بِحَسب الْفَرْض، وَفِي الثَّانِي بِحَسب نفس الْأَمر فَصَارَ عدم الِاعْتِرَاض عِلّة لصِحَّة التَّزْوِيج وَعدم صِحَّته فِي الأَصْل وَالْفرع وجودا وعدما (والمساواة) الْمَذْكُورَة (فِي التَّعْرِيف وَإِن تبادر مِنْهُ) أَي من إِطْلَاقهَا (مَا) أَي الْمُسَاوَاة الكائنة (فِي نفس الْأَمر كَمَا تقدم) آنِفا، لَكِن بِحَسب أصل الْوَضع (هِيَ) أَي الْمُسَاوَاة (أَعم مِمَّا) أَي من الْمُسَاوَاة الكائنة بِنَاء (على التَّقْدِير) وَالْفَرْض، وَمِمَّا فِي نفس الْأَمر فليحمل مَا فِي التَّعْرِيف على مَا يَقْتَضِيهِ أصل الْوَضع، وَالْمَقْصُود من هَذَا الإطناب إِدْخَال قِيَاس الْعَكْس فِي تَعْرِيف الْقيَاس الْمُطلق وَلَو بِضَرْب من التَّكْلِيف، لَا تَصْحِيح قِيَاس الْعَكْس، فَلَا نطول الْكَلَام بِبَيَان وُجُوه ضعفه، وَجَوَاب الْحَنَفِيَّة
عَن هَذِه الْمُلَازمَة عدم تَسْلِيم عِلّة ثُبُوت الِاعْتِرَاض لعدم صِحَة تَزْوِيج النَّفس لجَوَاز أَن يكون تَزْوِيجهَا صَحِيحا، وَيكون ثُبُوت الِاعْتِرَاض لدفع ضَرَر الْعَار عَن الْوَلِيّ وَأَيْضًا الشَّافِعِي يَقُول بِعَدَمِ صِحَة تَزْوِيجهَا نَفسهَا مُطلقًا، وَثُبُوت الِاعْتِرَاض لَيْسَ إِلَّا فِي غير الْكُفْء فَلَا تفِيد هَذِه الْعلَّة مدعاه مُطلقًا.
(الثَّانِي) من الْأَمريْنِ الموردين على عكس التَّعْرِيف (قِيَاس الدّلَالَة) وَهُوَ (مَا) أَي الْقيَاس الَّذِي (لم تذكر) الْعلَّة (فِيهِ بل) ذكر فِيهِ (مَا يدل عَلَيْهَا) من وصف ملازم لَهَا (كَقَوْل الشَّافِعِي فِي الْمَسْرُوق يجب) على السَّارِق (رده) حَال كَونه (قَائِما) وَإِن انْقَطَعت الْيَد فِيهِ (فَيجب ضَمَانه) عَلَيْهِ حَال كَونه (هَالكا) وَإِن قطعت الْيَد فِيهِ (كالمغصوب) فَإِنَّهُ يجب رده قَائِما وضمانه هَالكا، فَإِن الْعلَّة فِيهِ الْيَد العادية، وَفِي الْحَقِيقَة قصد الشَّارِع حفظ مَال الْغَيْر وَهِي مُشْتَركَة بَينهمَا (وَأجِيب بِأَن الِاسْم فِيهِ) أَي لفظ قِيَاس الدّلَالَة (مجَاز) وَلِهَذَا لم يُطلق عَلَيْهِ إِلَّا مُقَيّدا بِقَيْد الدّلَالَة، وإفادة علاقَة الْمجَاز بقوله (لاستلزام الْمَذْكُور فِيهِ) من الْوَصْف الملازم كَمَا ذكر (الْعلَّة). وَالْمُعْتَبر فِي حَقِيقَة الْقيَاس ذكر الْعلَّة بِعَينهَا (وَمِنْهُم من رده) أَي قِيَاس الدّلَالَة (إِلَى مُسَمَّاهُ) أَي قِيَاس الْعلَّة، وَجعله من أَفْرَاده كردهم قِيَاس الْعَكْس إِلَيْهِ (بِأَنَّهُ) أَي قِيَاس الدّلَالَة (يتَضَمَّن الْمُسَاوَاة فِيهَا) أَي الْعلَّة، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي حَقِيقَة الْقيَاس وتضمنه بِاعْتِبَار مَا ذكر فِيهِ مِمَّا يدل على الْعلَّة على وَجه يفهم مِنْهُ مُسَاوَاة الْفَرْع الأَصْل فِي الْعلَّة (فَقِيَاس النَّبِيذ) فِي وجوب الْحَد لشربه (على الْخمر برائحة المشتد) الَّتِي تدل على الْعلَّة: أَي الْإِسْكَار، فَإِن الرَّائِحَة تدل على مشاركتها فِي الاشتداد الَّذِي يلازم الْإِسْكَار (يتَضَمَّن ثُبُوت الْمُسَاوَاة) بَينهمَا (فِي الْإِسْكَار. وَلَا يخفى أَن الْقيَاس حِينَئِذٍ) أَي حِين كَانَت الْعلَّة متضمنة (غير الْمَذْكُور) وَهَذَا إِذا شَرط فِي الْقيَاس أَن تكون الْمُسَاوَاة فِيهِ مدلولا صَرِيحًا.
(وأركانه) أَي أَجزَاء الْقيَاس (لِلْجُمْهُورِ) أَي لقَوْل الْجُمْهُور أَرْبَعَة: الأول الْوَصْف (الْجَامِع. و) الثَّانِي (الأَصْل) وَهُوَ إِمَّا (مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ) وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من الْفُقَهَاء والنظار (أَو حكمه) أَي حكم الْمحل الْمَذْكُور، وَعَلِيهِ طَائِفَة (أَو دَلِيله) أَي دَلِيل حكم الْمحل الْمَذْكُور، وَعَلِيهِ المتكلمون (ومبناه) أَي مبْنى الْخلاف الْمَذْكُور فِي تَفْسِير الأَصْل (على أَن الأَصْل مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره) وكل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة يصلح لهَذَا الْمَعْنى (و) بِنَاء (عَلَيْهِ) أَي على أَن الأَصْل مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره (قيل) وَالْقَائِل: الإِمَام الرَّازِيّ (الْجَامِع فرع حكم الأَصْل) لِأَنَّهُ لَوْلَا حكم الأَصْل لما فتش عَن الْعلَّة المثيرة لَهُ وَتَحْصِيل الْجَامِع بِوَاسِطَة التفتيش والفحص عَنهُ (أصل حكم الْفَرْع) خبر بعد خبر لقَوْله الْجَامِع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْلَا وجود الْجَامِع فِي الْفَرْع لم يكن لحكم الْفَرْع وجود، فالجامع فرع من وَجه وأصل من وَجه
آخر (إِلَّا أَنه) أَي كَون الْجَامِع بِهَذِهِ الصّفة (يخص) الْعِلَل (المستنبطة) من حكم الأَصْل لَا المنصوصة، لَكِن الْأَغْلَب غير المنصوصة، وَلَا يبعد أَن يُقَال: المنصوصية أَيْضا لَهَا نوع فرعية لِأَنَّهُ لَو لم يكن حكم الأَصْل لما نَص الشَّارِع على عليته. (و) الثَّالِث (حكم الأَصْل). (و) الرَّابِع (الْفَرْع) وَهُوَ (الْمحل الْمُشبه) على القَوْل بِأَن الأَصْل هُوَ الْمُشبه بِهِ (أَو حكمه) أَي حكم الْمُشبه على القَوْل بِأَن الأَصْل هُوَ حكم الْمُشبه بِهِ، ثمَّ أَخذ يبين قَول غير الْجُمْهُور، فَقَالَ (وَظَاهر قَول فَخر الْإِسْلَام: وركنه مَا جعل علما على حكم النَّص) مِمَّا اشْتَمَل عَلَيْهِ النَّص (وَجعل الْفَرْع نظيرا لَهُ فِي حكمه بِوُجُودِهِ فِيهِ) إِلَى هُنَا مقول قَوْله وَجعل الْفَرْع، الضَّمِير فِي لَهُ وَحكمه للنَّص، وَفِي بِوُجُودِهِ لما، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة، وَفِي فِيهِ للفرع: يَعْنِي ركن الْقيَاس وَهُوَ الْوَصْف الَّذِي جعل عَلامَة وأمارة على حكم يدل عَلَيْهِ النَّص بِحَيْثُ يَدُور عَلَيْهِ الحكم وجودا وعدما، وَجعل الْفَرْع مماثلا للنَّص الَّذِي هُوَ مَحل الحكم فِي الحكم بِسَبَب وجود ذَلِك الْوَصْف فِي الْفَرْع، وَإِنَّمَا قَالَ علما لِأَن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى والعلل أَمَارَات، وَوَافَقَهُ القَاضِي أَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَالْجُمْهُور على أَن الحكم مُضَاف إِلَى الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع، ومشايخ الْعرَاق وَأَبُو زيد والسرخسي وفخر الْإِسْلَام على أَنه فِي الْمَنْصُوص مُضَاف إِلَى النَّص. وَفِي الْفَرْع إِلَى الْعلَّة. وَفِي قَوْله مِمَّا اشْتَمَل إِشَارَة إِلَى أَنه يشْتَرط أَن يكون ذَلِك الْوَصْف من الْأَوْصَاف الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا النَّص، (أَنه) أَي ركن الْقيَاس (الْعلَّة الثَّابِتَة فِي المحلين) الأَصْل وَالْفرع، فَقَوله: أَنه إِلَى آخِره خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي ظَاهر قَول فَخر الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا قَالَ ظَاهر قَوْله نظرا إِلَى الْمُتَبَادر من إِضَافَة الرُّكْن إِلَى الضَّمِير للاستغراق مَعَ احْتِمَال أَن لَا يكون ركن سواهُ، وَالْمرَاد بالركن مَا لَيْسَ بِخَارِج عَنهُ لَا الْجُزْء فَلَا يرد أَنه لَا يتَصَوَّر أَن يكون للماهية جُزْء وَاحِد للتنافي بَين العينية والجزئية، وَبِمَا ذكرنَا انْدفع أَن كَلَام فَخر الْإِسْلَام صَرِيح فِي الْمَقْصُود لَا ظَاهر، لَكِن بَقِي شَيْء أَن مَا ذكره أَفَادَ ركنية الأَصْل وَالْفرع وَلم يدل على عدم ركنية حكم الأَصْل، وَقد يُقَال كَمَا أَن طرفِي الْمُسَاوَاة خارجان عَنْهَا كَذَلِك مَا فِيهِ الْمُسَاوَاة خَارج عَنْهَا (وَالْمرَاد ثُبُوتهَا) وَالْمرَاد بِالْعِلَّةِ فِي قَوْله أَنه الْعلَّة الثَّابِتَة ثُبُوتهَا فيهمَا لأنفسهما، إِذْ لَا وَجه لجعل الْقيَاس عبارَة عَن الْوَصْف الْجَامِع إِذْ هُوَ مَعَ قطع النّظر عَن ثُبُوته فِي الأَصْل وَالْفرع لَيْسَ من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة فَإِن قلت الدَّلِيل الشَّرْعِيّ مَا يُمكن التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى الحكم، وَالْوَصْف هَكَذَا قلت مَا ذكرت موصل بعيد، وَمَا ذكرنَا موصل قريب، وترجيح الْبعيد على الْقَرِيب لَيْسَ من دأب أهل الْعلم، وَلذَلِك اخْتَار الْمُحَقِّقُونَ الْمُسَاوَاة فِي تَعْرِيف الْقيَاس، وَأَرَادَ المُصَنّف إرجاع كَلَام فَخر الْإِسْلَام إِلَى مَا اختاروه، فَقَالَ (وَهُوَ) أَي ثُبُوتهَا فيهمَا (الْمُسَاوَاة) يَعْنِي الْفَرْع وَالْأَصْل فِي الْعلَّة وَالْحكم على سَبِيل الْمُسَامحَة من قبيل تَفْسِير الْمَلْزُوم
باللازم، إِذْ ثُبُوتهَا فيهمَا يسْتَلْزم (الْجُزْئِيَّة) المحققة فِي خصوصيات الأقيسة (لَا) الْمُسَاوَاة (الْكُلية) الَّتِي تعم الأقيسة كلهَا (لِأَنَّهَا) أَي الْمُسَاوَاة الْكُلية (مَفْهُوم الْقيَاس الْكُلِّي الْمَحْدُود والركن) الَّذِي نَحن بصدد تَعْيِينه هُوَ (جزؤه) أَي الْقيَاس المتحقق فِي حَقِيقَته حِين يدْخل (فِي الْوُجُود) الْخَارِجِي فِي ضمن الْفَرد وَإِذا لم يكن للْقِيَاس ركن غير الْمُسَاوَاة كَانَ جزئيته بِاعْتِبَار حَقِيقَته الخارجية المركبة فِي الْمَاهِيّة والتشخص (وَقد يخال) أَي يظنّ أَن قَول فَخر الْإِسْلَام أوجه فِي تعْيين الرُّكْن من قَول الْجُمْهُور بعد اخْتِيَار الْمُسَاوَاة (لظُهُور أَن الطَّرفَيْنِ) أَي طرفِي كل نِسْبَة (شَرط) تِلْكَ (النِّسْبَة) وَذَلِكَ (كالأصل وَالْفرع) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسَاوَاة الْمَشْرُوطَة بهما (هُنَا) أَي فِيمَا نَحن فِيهِ (لَا أَرْكَانهَا) مَعْطُوف على شَرط، يَعْنِي أَن الطَّرفَيْنِ شَرط النِّسْبَة لَا أَرْكَان النِّسْبَة (فهما) أَي الأَصْل وَالْفرع (خارجان عَن ذَات) هَذِه (النِّسْبَة المتحققة خَارِجا) يَعْنِي الْمُسَاوَاة الْمَذْكُورَة (والركنية بِهَذَا الِاعْتِبَار) أَي ركنية الشَّيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَاهِيّة إِنَّمَا تكون بِاعْتِبَار وجودهَا فِي الْخَارِج فِي ضمن الْفَرد، وَإِذا نَظرنَا إِلَى الْمُسَاوَاة الْجُزْئِيَّة الَّتِي هِيَ فَرد الْمُسَاوَاة الْمُطلقَة وجدنَا الأَصْل وَالْفرع خَارِجين عَنْهَا شرطين لَهَا، نعم إِن نَظرنَا إِلَى مَفْهُوم الْمُسَاوَاة الْمُطلقَة وجدناهما داخلين فِي الْمَفْهُوم من حَيْثُ التَّصَوُّر، لَكِن الركنية لَيست بِهَذَا الِاعْتِبَار (ثمَّ اسْتمرّ تمثيلهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (مَحل الحكم الأَصْل) بِالنّصب عطف بَيَان لمحل الحكم (بِنَحْوِ الْبر وَالْخمر) فِي قِيَاس الذّرة والنبيذ عَلَيْهِمَا فِي حكمهمَا (تساهلا) وتسامحا (تعورف) صفة التساهل: أَي صَار متعارفا بَينهم (وَإِلَّا) وَإِن لم يكن تمثيلهم بنحوهما بطرِيق التساهل وقصدوا الْحَقِيقَة (فَلَيْسَ) مَحَله أَي الحكم (فِي) نفس الْأَمر على (التَّحْقِيق إِلَّا فعل الْمُكَلف لَا الْأَعْيَان) الْمَذْكُورَة (فَفِي نَحْو النَّبِيذ الْخَاص) أَي المشتد الْمُسكر (محرم كَالْخمرِ: الأَصْل شرب الْخمر وَالْفرع شرب النَّبِيذ وَالْحكم الْحُرْمَة) وَفِي قِيَاس الذّرة الأَصْل بيع الْبر ببر أَكثر مِنْهُ، وَالْفرع بيع الذّرة كَذَلِك وَهَكَذَا. (وَحكمه) أَي الْقيَاس (وَهُوَ الْأَثر الثَّابِت بِهِ) أَي (الْقيَاس ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع أَيْضا) أَي آض ثُبُوت الحكم وَعَاد عودا، فَلَيْسَ قَوْله أَيْضا بِاعْتِبَار الظَّن لِأَنَّهُ قد يكون حكم الأَصْل قَطْعِيا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الحكم مُطلقًا الظَّن لجَوَاز كَون خُصُوص الأَصْل شرطا فِيهِ وَالْفرع مَانِعا (وَهُوَ) أَي ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع (معنى التَّعْدِيَة وَالْإِثْبَات وَالْحمل) الْمَذْكُور فِي عِبَارَات الْقَوْم فِي تَعْرِيف الْقيَاس، وَقد سبق نقل التَّعْدِيَة عَن الشَّرِيعَة، ثمَّ تَفْسِيره إِيَّاهَا بِإِثْبَات حكم مثل الأَصْل، وَحمل مَعْلُوم على مَعْلُوم عَن القَاضِي أبي بكر (فتسميته) أَي ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع (تَعديَة اصْطِلَاح) مِمَّن سموا (فَلَا يُبَالِي بإشعاره) أَي الِاسْم الْمَذْكُور، وَهُوَ لفظ التَّعْدِيَة (لُغَة) أَي من حَيْثُ مَعْنَاهُ