الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقلنا ثالثًا: نحنُ قلنا: "هذه التأويلات باطلة"، أما كونُها سائغةً أو محرمةً فهذا لم نتعرضْ له في هذا الكلام، فقولكم "إن المعتبرين لم يمنعوا المعتبرين أن يتأولوا، وإنّ معتبرًا لم يُحرِّم التأويل الموصوف" كلامٌ لا يَمَسُّ كلامَنا ولا يُقابلُه، بل هو أجنبيٌّ عنه غيرُ متوجهٍ، فلا يستوجبُ الجواب. نعم، إن ادَّعيتم أن كل تأويل المتكلمين أو بعضه حق أو صوابٌ فهذا نقيضُ قولنا، ففَرقٌ بينَ صحةِ التأويل وفسادِه وبينَ حرمتِه وحِلِّيتِه، ألا تَرى أن الفقهاء في تأويلهم نصوصَ الأحكام يجوزُ لهم التأويلُ في الجملة، وإن كان كثيرٌ من تأويلِ بعضهم قد يَظهر أنه خطأ، كما يجوز للفقيه الاجتهادُ في الفتيا والقضاء، وإن كان قد يُحكَم ببطلان بعض الفتاوى والأقضية.
على أنّ
من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ
، فإن المتأول يقول: الله أراد بهذه الآية كذا، والآخر يقول: لم يُرِد هذا، والنفيُ والإثبات لا يجتمعان، اللهم إلاّ أن يقول قائلٌ: إن الله أراد من زيد أن يفهم هذا، وأراد من عمروٍ أن يفهم هذا، وهذا في الأمور الاعتقادية ما يكادُ يقوله إلا من يخالفه جمهورُ الناس، وإن كان قد قاله في العمليات طائفة من المتكلمين.
فإن قلتم: أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صِنفًا من الطوائف كالمتكلمين من أصحاب الأشعري مثلا، أو كافة المعتزلة أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك.
فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه ما من واحدٍ من هؤلاء إلاّ له تأويلاتٌ يُنكِرُها عليه
بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم، بل من هؤلاء [مَن] هو نفسه يُحرِّم التأويل أو يُبطِله تارةً، ويُسِيْغُه ويُصحِّحه أخرى لأصحاب الحديث.
أما المعتزلة فمن أكثر الناس في التأويل، وأهلُ الحديث وغيرهم من علماء المسلمين يُنكِرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريمًا وإبطالاً.
وأما أصحاب الأشعري فهم ثلاثة أصناف:
صنف يُحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين، ويُبطِل ذلك. وهذا هو الذي ذكره الأشعري في "الإبانة"، حكاه عن أهل السنة جميعهم، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن الباقلاني أفضلُ أصحابه
(1)
، وأبو علي بن شاذان، وذكره أبو بكر بن فورك في اليد وغيرها، وعليه الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني.
وصنف يُحرِّم التأويل، ولا يتكلم في صحته ولا فسادِه. وهذا الذي ذكره أبو المعالي الجويني في رسالته "النظامية"
(2)
، وهو قولُ أكثرِ المفوِّضة من المتكلمين.
وصنف يُبيحه للعلماء عند الحاجة، ومنهم من يُبيحه مطلقًا.
وهذا قولُ الجَويني في "إرشادِه"
(3)
وغيره، وجميعُ هؤلاء مختلفون في صحة بعض التأويلات وفسادها.
(1)
سبقت الإحالة إلى كتابي الأشعري والباقلاني فيما مضى.
(2)
ص 32 - 33.
(3)
ص 67 - 71.
فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريمًا وجوازًا، وصحةً وفسادًا.
وأما المعتزلة فهم وإن كانوا أكثر تأويلاً فإنهم مختلفون في عامة التأويلات صحةً وفسادًا، ومختلفون أيضًا في جنس كثير من التأويل، مثل اختلافهم في نصوص عذاب القبر ونعيمه: هل تُتأؤل أو تُجرَى على ظاهرها؛ وفي نصوص الصراط والميزان والحوض: هل تُتأوّل أو لا تُتأوّل، إلى غير ذلك. منهم من يُبيح تأويلَ ذلك ويصححه، ومنهم [مَن] يُحرِّمُه ويُبطِله.
وسأذكر إن شاء الله مذاهبَ الأمة في أجناس التأويلات، وإنما الغرض هنا أن من تعصَّب لفرقةٍ من أهل الكلام وجَعَلَهم هم المعتبرين دون غيرهم، بحيث يُبيح لهم التأويل ويَدَّعي أن أحدًا من المعتبرين لم يَحْظُره عليهم= لم يصحَّ له ذلك؛ إذ ما من طائفة إلاّ وقد حُرِّم وأنكِرَ عليها أنواع من التأويل.
الوجه الثاني: أن تعيينَ القائل طائفةً دون غيرِها وتسميتها بالمعتبرين لا يَخفَى أنه نوعٌ من التحكّم والتعصب، فإن مجرَّد [قول] القائل: أنا معتزلي أو أشعري، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله، بحيث يُباحُ له في الشرع بذلك ما كان محظورًا، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورًا عليه.
الوجه الثالث: أنّا قلنا: "تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل"، وذلك لا يُوجب أن يكون تأويلُ طائفة معينة باطلاً،
ولا يُوجب أن يكون تأويل معتبرٍ باطلاً، فلا يَرِدُ هذا علينا.
الوجه الرابع: أنّا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يُبيِّن ما عليه أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن شاء الله.
فهذا كلُّه في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سَنَده "لا نُسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين".
قولكم: "فإن نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ حَملناه على التأويل بغير دليل، أو على غير القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئة بعضهم" غير واردٍ لوجوهٍ:
أحدها: أن التأويل بغير دليلٍ وبغير قواعدَ لا يُبيْحه ولا يَسلكه أحدٌ من عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم، سواءَ كانوا كفّارًا أو مؤمنين، مستنة أو مبتدعة، فإن أشد الناس تأويلاً من الفلاسفة والباطنية إنما يتأولون -زَعَموا- لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم، ويزعمون أنهم يُجرونَها على القواعد العقلية والسمعية.
وأما المعتزلة فأمرهم في ذلك أظهر، فإنهم يزعمون أنهم فُرسان الكلام ودُعاة الإسلام، الحافظين
(1)
له بالقواعد العقلية والموارد السمعية، وأن مَن خالفَهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية والكُلاّبية والكرَّامية وغيرهم هم حَشْوُ الناس. وهم أهل فتنة واضطراب،
(1)
كذا في الأصل منصوبًا.
ثم بَين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به عليم، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم، وكلٌّ منهم إنما يتأوَّل بدليلٍ عنده وعلى القواعد العلمية.
بل الأشعرية ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في التأويل صحةً وفسادًا وحِلاًّ وحَظْرًا، والمتأوّل منهم إنما يتأول للدليل وعلى القواعد.
فإذا كان كلُّ متأوّل إنما تأوَّل بدليلٍ وعلى القواعد، فقد خالفَه غيره من أهل الحديث وغيرهم في التأويل، فكيف يمكن أن يُحمَل إنكارُهم على التأويل الخالي من الدليل والقواعد؟
فإن قلتم: إنما أنكروا التأويل الذي لا يَعضُده دليل صحيح، ولم يكن جاريًا على القواعد الصحيحة، وإن كان متأوِّلُه يزعم اعتضاده بدليل صحيح وقواعد صحيحة.
قلنا: فهكذا نقول في جميع تأويلات أهل الكلام المخالفة لأهل الحديث: إنها خاليةٌ عن دليلٍ صحيح وعن القواعد الصحيحة.
وإذا كان هذا مدّعيًا لم يَسُغْ أن يقال بموجبه إلاّ على سبيل الموافقة لنا، وإنما يسوغ أن يطالب ببيان خلوها عن الدليل والقواعد الصحيحة، أو أن يُبين المتأوّل اقترانَ تأويلِه بدليلٍ وقواعد ليبين فساد قوله.
الوجه الثاني: أن المنكرين للتأويل إبطالاً وتحريمًا صرَّحوا بذلك في أعيان التأويلات التي ادَّعى المتأولون اقترانَها بالدليل، وسنذكر إن شاء الله من ذلك بعضَ ما حَضَر. وصرَّحوا أيضًا بتحريم التأويل وإن زعمَ صاحبُه اقترانَه بدليل.
الوجه الثالث: أنّا لم نحكم إلاّ ببطلان تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث، فإذا قلتم بإبطال أو بتحريم التأويل الخالي عن الدليل والقواعد لم يكن هذا نفيًا لوجود ما أبطلناه، لأنه يمكن أن يقال: هذا التأويل الذي رفعناه خليٌّ عن الدليل والقواعد، فإنا أبطلنا نوعًا من التأويل، ووافقتم على إبطالِ نوع منه. فإن قلتم: هذه التأويلات جارية على الأدلة والقواعد، نازَعْناكم فيها.
فحاصله أن ما ذكرتموه لا يَصلُح مستندًا لمنع أن يكون أهل الحديث خالفوا المتكلمين في أعيان التأويلات.
الوجه الرابع: قولكم "إن التأويل المقرون بدليلٍ الجاري على القواعد العلمية صحيح"، لا نُنازِعُكم فيه، وإنما الشأنُ في تقريرِ الدليلِ المصحِّح للتأويل وتثبيتِ القواعد المحقِّقة له، فإنكم تعلمون أن جميع أهل التأويل من القبلة لهم قواعدُ يضعون تأويلاتهم عليها.
ثمَّ هذا القدر لا يَصلُح أن يكون سندًا لقولكم "لا نُسَلِّم أنّ أهلَ الحديث منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين" كما تقدم، والغرضُ هنا أنّ القول بالموجب لا يتوجه. وأما تقرير مذهب أهل الحديث فليس هذا موضعَه، لأنّا بعدُ في تحرير الدعوى وما يَرِدُ عليها.
قولكم: "لا أسلِّم أن معتبرًا حرَّم تأويلاً يَشهدُ العقلُ بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحرٍ لا يرضى بأَسْر التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرة الذي هو من أجلّ نعم الله على العبيد".
فنقول أوّلاً: مَن الذي حكى عن أحدٍ من الناس تحريمَ مثلِ
هذا؟ هذا شيء لم نذكره ولم نَقصِده، فمنعُه منعُ شيء أجنبي خارج عن كلامنا، وهذا منع لا توجيهَ له.
ونقول ثانيًا: نحن قررنا بطلانَ التأويل وفساده، لم نتعرض لتحريمه بنفي ولا إثبات، والكلام في صحة التأويل وفسادِه غيرُ الكلام في حله وحَظْرِه، ولا يلزم من عدم تحريم الاجتهاد والإفتاء والحكم أن يكون الاستدلال والفتيا والقضاءُ صحيحًا، كذلك لو فرضنا جواز الإقدام على هذه التأويلات لم يلزم أن تكون صحيحةً، بل جاز أن تكون باطلةً، يعني أنها غير مطابقة لمراد المتكلم، سواء كان آثمًا أو معفوًّا عنه أو مأجورًا.
ونقول ثالثًا: التأويل الذي نتكلم فيه هو صرفُ الكلام [من] الاحتمالِ الراجح إلى المرجوح لدليل يعتضد، كما تقدم بيانه.
وكلّ تأويل فإنما هو بيان مقصودِ المتكلم أو مرادُه بكلامه، ومعلومٌ أن العقل وحده لا يَشهد بمعرفةِ مقصود المتكلم ومرادِه، فإن دلالة الخطاب سمعية لا يستقلُّ بها العقلُ، نعم العقلُ أخذَ باستفادته هذه الدلالة، فإذا انضمَّ [إلى] المعقول العلمُ بلغة المتكلم وعادتِه في خطابه فقد يَحصُل بمجموع هذين العلمين العلمُ بتأويلِ كلامِه، نعم قد يُعلَم بالعقلِ وبأدلةٍ أخرى أن المتكلِّم لم يُرِد معنًى من المعاني، سواء قيل: إنه ظاهر اللفظ، أو قيل: إنه ليس بظاهره، كما يعلم أن الله لم يُرِد بقوله:(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)
(1)
أنها أوتيتْ مُلْكَ
(1)
سورة النمل: 23.
السماوات وملكَ سليمان وفَرْجَ الرجل ولحيتَه؛ ولم يُرِد بقوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)
(1)
أنها تُدمر السماوات والجنة والنار؛ ولم يُرِدْ بقوله: (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)
(2)
شمولَ ذلك للخالق بصفاتِه. ونعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)
(3)
يَدَيْنِ مثل يَدَي الإنسان، ولم يُرِد بقوله:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)
(4)
نفيَ الصفاتَ المذكورة في الكتاب والسنة.
فإذا كان العقلُ وحدَه يَشهد بصحة تأويلٍ، وإنما قد يَشهدُ بعدمِه، فالتأويل الذي يدَّعي صاحبُه أنه عَلِمَ بمجردِ العقل صحتَه تأويلٌ مردودٌ محرمٌ. نعم إن فَسَّرتم كلامَكم أن العقلَ بما استفاده من العلوم السمعية وغيرِها يعلم صحةَ التأويل، فهذا حقٌّ وإن لم يكن ظاهرُ اللفظ دالاًّ عليه، ونحن ما حكينا تحريمَ مثلِ هذا التأويل عن أحدٍ، ولا يَمنعُ تحريمَه كلامٌ آخر.
وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين، فإنّ الغرضَ تقريرُ الحقائق وتحصيلُ الفوائد، لا ما يَقصِده المبطلون من التجاهل والتعانُد.
ونقول رابعًا: قولكم "عند الحاجة إليه" موافقة لما يقوله كثير من الناس من [أنّ] التأويل اضطرَّ إليه العلماء، وبيانُ ذلك أنّا إذا علمنا بالأدلة العقلية والسمعية مثلاً انتفاءَ أمرٍ من الأمور، ورأينا بعضَ
(1)
سورة الأحقاف: 25.
(2)
سورة الأنعام: 102.
(3)
سورة ص: 75.
(4)
سورة الشورى: 11.
النصوص تقتضي إثباتَه ظاهرًا، احتجنا إلى تأويله، لأنا إن قلنا بمقتضى الدليلين لزِمَ الجمعُ بينَ النقيضين، وإن قلنا بنفيهما لزمَ انتفاءُ النقيضين، ثم فيه تعطيلُ الدليلَين من دلالتهما، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور، إذ غايتُه تعطيلُ دلالة أحدهما، فلابدّ من ثبوتِ أحدهما وانتفاء الآخر، ولا يجوز أن يُقدَّم الدليلُ المُثْبت لأنه ظاهر، والنافي قطعي، والقطعي لا يجوز تخلُّفُ مدلولَه عنه، بخلافِ الظنّي. فتعيَّنَ إثباتُ مدلولِ الدليل القطعي دون الظاهر.
ولأن القَطعي إذا كان عقليًّا، فلو رَجَّحنا عليه الظاهرَ السمعيَّ لَزِمَ القدحُ في ذلك الدليل العقليّ، والعقلُ أصل السَّمْع، فالقدحُ في العقلي القطعي قَدْحٌ في أصل السمعي، والقدحُ في الأصل قدح في فرعِه، فيصيرُ تقديمُ السمعي قدحًا في السمعي، وإثباتُ الشيء بما يقتضي نفيه محال. وإذا تعيَّن إثباتُ مدلولِ القطعي العقلي دون الظاهر السمعي، فنحنُ بين أمرين: إمّا أن نُفَوِّض معنى الظاهر إلى الله سبحانه وتعالى، مع علمنا بانتفاءِ دلالتِه الظاهرة، أو أن نؤوِّله على وجهٍ يسوغ في الكلام.
والقائلون بهذا التقرير يُسمُّون طريقَ المفوِّضة النفاة طريقَ السلف، وهو عندهم طريق أهل الحديث وأحدُ قولَي الأشعري وغيرِه من أهل الكلام. ثم هم في هذا على أقوالٍ:
فغُلاةُ المتكلمين يُحرِّمون هذا ويُوجبون التأويل، وذهب إلى هذا ابنُ عقيل في أحد أقوالِه، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية، ومن هؤلاء مَن يُفيد كلامُه بأنه يجب على العلماء دون العامة.
ومنهم من يُحرم التأويلَ، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه
(1)
.
ومنهم من يُحرِّمُه على أكثر الخلق إلاّ على القليل، كأبي حامد الغزالي
(2)
وغيره.
ومنهم من يُسوغِّ كلَّ واحدٍ من التفويض والتأويل، ويَعُدُّ هذا من العلوم التطوُّعية التي لا تجب ولا تحرم، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم والأحاديث الإسرائيليات، والأحاديث المتضمنة لأوصافِ الملائكة والجنّ ونحو ذلك، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضًا على الكفاية.
منعُكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم، فلا يحرم على العالم المتبحر لوجوهٍ:
أحدها: أن لا مُوجب لتحريمه، والأصل الإباحة، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل.
الثاني: أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مرادِ الله ورسوله، وجنس العلم خير من جنس الجهل، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا محرَّمًا؟
الثالث: أن المخالف للحق من الكفّار والمبتدعة إن لم نتأوَّل لهم هذه النصوص لَزِمَ سوءُ الظن بالرسول صلى الله عليه وسلم، ووقوعُ شبهة
(1)
في "العقيدة النظامية" كما سبق.
(2)
في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام".
الاختلاف في كلام الله وكلامِ رسوله، ونفورُ الناس عن القرآن والإسلام، ونفورُ أهل الباطل عن الحق. والتأويلُ هو أسرعُ إلى القبول وأدعَى إلى الانقياد، فأقلُّ أحوالِه أن يكون بمنزلةِ تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة، فإن التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم والإيمان ما لا يَحصُل بدونها، مع أن الحاجة لا تدعو إليها، فكيف بتأويل الخطاب الذي عارض ظاهرُهُ القواطع العقلية والسمعية.
الرابع: أن الطالب الذكي يَضيق صدرُه بأسْرِ التقليد، ويُحِبُّ أن يخرج إلى بُحْبُوحة العلم، فلا تقنَع نفسُه ويَرضَى عقلُه إلاّ بالوقوفِ على التأويل، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرفَ التأويل اطمأنّ قلبُه وانشرحَ صدرُه ورَضِيَ عقلُه، والبدنُ لو احتاجَ إلى طعام وشراب لغذاءٍ أو دواءٍ يَحصلُ له الضَّرَرُ بفَقدِه لأباحَهُ الله له، بل قد أباحَ الأكلَ في الصوم الواجب للمريض والمسافر إذا وَجَدَ مشقةً بالصوم، وأباحَ تركَ القيام في الصلاة إذا خافَ زيادةَ المرض أو لِطول البُرْء. فكيف لا يُبيحُ ما يَضرُّ عَدَمُه القلوبَ لِعقولها والنفوس لِوجودِها، ويَزِيد بعَدَمِه مرضُ القلب والدين، أو يتأخر بفَقْدِه الشفاءُ من مرضِ الكفرِ والنفاق. وكما أَن الأطعمة والأشربة تختلف شهوةُ الناس وحاجتُهم إليها باختلاف قُواهم وأمزاجهم، فرُبَّ مزاج يَقْرَمُ إلى اللحم ما لا يَقْرَمُه غيرُه، ومن كان مقيمًا بطَيْبَةَ إبَّان الجدادِ كانت شهوتُه إلى الرُّطَب بخلافِ شهوة سُكّان الشام، ومن كانت رياضتُه البدنية أقوى وأكثر -كالحمّالين والحرَّاثين- كانت حاجتهم إلى الطعام أشدَّ.
كذلك العلوم والطرق، فمن كان ذكيًّا كان شوقُه إلى دَرْكِ الأمور الدقيقة أشدَّ، ومن راضَ عقلَه بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافِها كانت حاجتُه إلى الازديادِ منها والوقوف عليها أشدَّ. والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما لا يحصل لغيرهم من المعرضين. وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يَستلزمُ الحاجةَ والشوقَ إلى أشياءَ، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك. ولهذا من لم يَرَ المطاعم الشهيَّة والمناظرَ البهيَّة لا يشتهيها كشهوةِ المبتلَى بها. فمن لم تَنفتِحْ عينُ بصيرتِه لصنوف المعارف، ولا توسَّعَتْ في قلبه أنواع المعالم، لا يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقَّادَة والمعارف المستفادة، ولا يَشتاق كاشتياقِهم. وهذا تقريرُ قولِ السائل -أيدهُ الله-:"لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسرِ التقليد".
الخامس: أن نعمة الله على عبادِه بنفوذ البصيرة من أفضل النِّعَم، وإدراك حقيقة مرادِ الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق، فكيف يحرم استعمال هذه النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلاّ أقبح من تحريم استعمال قُوَى الأبدان في دَفْع أعداءِ الدين وعبادةِ ربّ العالمين، وتحريم إنفاق الأموالِ في سبيَل الله. بل تحريمُ هذا تحريم لطلب الدرجاتِ العُلَى والنعيم المقيم، والله لا يُحرم مثلَ هذا، بل يَستحبُّه إن لم يُوجِبْه.
السادس: أن إبقاءَ النصوصِ المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين بنفيها ذريعةٌ إلى اعتقادِ موجبِها وتقلُّد مقتضاها. وتأويلُها
يَحْسِم هذه المادةَ، فيصير الأولُ مثلَ بناء الأسوار للأمصار، والثاني كتركِها بلا سوْرٍ. بل الأول بمنزلة كشفِ النساءِ الحِسان لوجوههن، والثاني كسَتْرِها، أو الأول بمنزلة تركِ المُرْدَانِ الصِّباحِ يُعاشِرون الأجانبَ، والثاني كصَوْنهم من هذه العِشرة. فإن لم يكن الثاني واجبًا أو مستحبًّا فلا أقلّ من أن يكون مباحًا.
وهذا معنى قولِ بعضِ الناسْ طريقةُ السلَف أسلمُ، وطريقةُ الخلفِ أَحْزَم وأَحْكَم؛ لأنّ طريقة أهل التأويل فيها مخاطر بالإخبار عن مُرادِ الله بالظنّ، الذي يجوز أن يكون صوابًا ويجوز أن يكون خطأً، وذلك قولٌ عليه بما لا يُعلم، والأصلُ تحريمُ القول عليه بالظنّ، وكان تركُها أسلم. وفي طريقة أهلِ التأويل حَسْمُ موادِّ الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة، فكانت أحْزَمَ وأحكمَ.
وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغَهم أن العدوَّ قاصدُهم، وبيتُ المالِ خالٍ، فهل يسوغُ أن يجمع من أموالهم ما يَبني به سُورَهم لحفظِهم من العدوّ إلى لحوق الذرى، واندفاع العدو بشدة البرد
(1)
المخاطرة بأخذِ الأموال بغيرِ طيب نفوسِ أصحابها، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال، والَحَزْم بضبطِ الدين عن الانحلال.
وهَبْ هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قومٌ الحظرَ، وقومٌ الوجوب، وقوم يُخيِّرون بين الأمرين، وقوم يُوجبون فعلَ الأصلح. ويختلفُ الأصلحُ باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص.
(1)
كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.
السابع: أن السلف تكلَّموا في تفسير القرآن كلِّه، وما رأيناهم حَرَّموا تفسير شيء منه، إلاّ أن يُنقَل عن أحدِهم أنه تَرَكَ القولَ فيه، أو حرَّم القولَ على غيرِه بغيرِ علم، أو تَركَه خَوفَ الخطأِ على سبيل الورع ونحوه. وكتبُ التفسير مشحونة بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرِها، فكيف يَدَّعِي هذا أن المعتبرين حَرَّموا ذلك؟
فهذا
(1)
تقرير لما ذكرتموه من قولكم: "لا نُسَلِّم أنَّ معتبرًا حِرَّم تأويلاً يَشهَدُ العقل بصحتِه عند الحاجة إليه، لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسْرِ التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرةِ الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العبيد".
وجوابه من وجوهٍ:
أحدها: ما تكلَّمنا في تحريم جنس التأويل وجوازه شيئًا، وإنما تكلمنا في صحته وفسادِه، فقلنا:"إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ [الحديث] باطلاً، وتيقَّن [أن] الحق مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا".
وسنبيِّنُ إن شاء الله بالنقول المستفيضة أن الخلاف وقعَ في أعيانٍ هل هي صحيحة أو فاسد، بل قد بيّنَّا في نفس تلك المناظرة
(1)
الكلام السابق في أربع صفحات من قوله (ص 79)"منعكم أن التأويل" إلى هنا تقريرٌ وتوضيحٌ من المؤلف لكلام الخصم، ثم بدأ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا تمامُه.
فسادَ تأويلِ اليدِ بما ذكروه فيها من التأويل
(1)
، ولم نتعرض للتحريم ولا للتحليل. وإذا كان أوَّلُ الكلام وأوسطُه وآخره إنما هو في صحة التأويل المعيَّن والمطلق وفسادِه، فالكلامُ في التحريمِ نفيًا وإثباتًا كلامٌ آخر ليس بواردٍ علينا. ولولا أنّا في هذا المقام غرضنا بيان عدمِ ورود الأسولةِ علينا بالكلية لذكرنا نصوصَ المختلفين، وإنما نؤخر ذلك إلى المقام الثاني إن شاء الله.
إن الأسولةَ تارةً تكون موجَّهةً واردةً، وتارةً لا تكون كذلك، والسؤال الواردُ منه [ما] يُوجبُ انقطاعَ المستدلّ، ومنه ما لا يُوجب انقطاعه، إن أجاب عن ضبط حدود النظر والمناظرة هُدِيَ إن شاء [الله] إلى الهدى والسَّداد، اللَّذَين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا بمسألتِهما من الله، والغرض الضبط العلمي الديني، لا الضبط العِنادي الذي مضمونُه الكلامُ بلا علمٍ أو عدمُ قصد الحقّ. وأما الاصطلاح المحضُ فأنتَ فيه بالخيار، ويَجِب أن تعرف حقيقة هذا النقل وتدين في قولهم:"الإسنادُ من الدين، لولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاءَ"
(2)
. فإن كان النقلُ مشهورًا -مثل أن يقال: مذهبُ أهل الحديث أنّ الله يُرى في الآخرة، والإيمان بالشفاعة، أو جمهورهم ونحو ذلك- لم يُطلَب في مثل هذا الإسنادُ. فإن نُقِلَ: مذهبُ أهلِ الحديث بأن الله يُرى هو الصحيح، فقد تضمنَ هذا نقلاً وحكمًا، فيجوز أن يُقالَ: لا نُسلِّم أنه هو الصحيح، وقد يقال أيضًا: من أين علمتم؟
(1)
انظر "مجموع الفتاوى"(6/ 362 - 372).
(2)
قاله عبد الله بن المبارك، كما روى ذلك عنه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 15).
فالمستدلُّ في الأدلة في خطاب أو كتابٍ إذا قال: مذهبُ فلانٍ كذا، لم يَرِدْ علمه لا مَنْع ولا معارضتُها، وقد يُعتَرضُ النقلُ بنقل آخر. وفي الحكم ورد عليه منعُ النقلِ ومعارضتُه بأن: مَن ذكرَ هذا؟ أو مَن حكاه؟ أو قد نَقَلَ فلان عنه بخلافِه. لكن فرق بين مَنع النقل وبين منع الحكم وبين منع الدلالة، فإن النقل لا يُمنَع منعًاَ محضًا إلَاّ أن يكون المانعُ يعلم انتفاءَ ذلك المنقول، مثل أن يعلم أن مذهب الشخص أو روايته بخلاف ذلك، كمن قال: سَمِعَ مالك ابنَ عمر يقولُ كذا، فحقول المعترضُ: ما سمعَ مالكٌ منه شيئًا. وأما إن كان صدقُه ممكنًا، فإن غَلَبَ على الظنّ خيرته وعدالتُه اكتفي بذلك.
(آخر ما وُجِد، والله أعلم. وليست كاملة).
قاعدة في الوسيلة
بسم الله الرحمن الرحيم
ما تقولُ السادةُ العلماءُ أئمةُ الدين وهُداةُ المسلمين رضي الله عنهم أجمعين- فيمن عابَ أقوالاً نَقَلَها جماعة من أكابرِ الأئمةِ وأعيانِ ساداتِ هذه الأمة:
أولها: ما أوردَه الشيخ أبو الحسين القُدوري الحنفي في كتابه الكبير في الفقه المسمَّى بشرح الكرخي
(1)
في باب الكراهية، وصورةُ اللفظ: "قال بِشرُ بن الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينبغي لأحدٍ أن يَدعُوَ الله إلاّ به، وأكرهُ أن يقولَ: بمَعَاقدِ العِز من عرشِك أو بحقِّ خَلْقِك. وهو قول أبي يوسف.
قال أبو يوسف: "بمعقدِ العزِّ من عرشك" هو الله، فلا أكرهُ هذا. وأكرهُ أن يقولَ: بحقِّ فلانٍ، أو بحقِّ أَنبيائك ورسلك، وبحقّ البيتِ والمشعرِ الحرام.
قال القدوري: المسألة بخلقِه لا تجوز، لأنه لا حقَّ للخلقِ على الخالق، فلا يجوز.
(1)
شرح مختصر الكرخي من أمهات الكتب في الفقه الحنفي، توجد نسخه الخطية في مكتبات تركيا والهند. انظر "تاريخ التراث العربي" (3:1/ 102).
والمسألة مذكورة في "نتائج الأفكار شرح الهداية" لقاضي زاده أفندي (10/ 64) و"الفتاوى الهندية"(5/ 318) وحاشية ابن عابدين (6/ 395 - 397).
وثانيها: ما ذكره الشيخ أبو القاسم القُشَيري في كتابه المسمَّى "التحبير في علم التذكير" المشتمل على تفسير معاني أسماء الله عز وجل، وصورةُ اللفظ أنه قال
(1)
: عَلِمَ الحقُّ سبحانَه أنه ليس لك أَسَام مرضية، فقال تعالى:(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)،
(2)
وَلأن تكون بأسماءِ ربك داعيًا خيرٌ لك من أن تكونَ بأسماء نفسك مَدْعِيًّا، فإنك إن كُنتَ بك كنتَ بمن لم يكن، وإذا كُنتَ به كنتَ بمن لم يَزَلْ، فشَتَّانَ بين وصفٍ وبين وصفٍ.
وقال
(3)
: مَن عرفَ اسمَ ربَه نَسِيَ اسمَ نفسِه، بل مَن صَحِبَ اسمَ ربِّه تَحَقَّق بروحِ أنْسِه قبلَ وصوله إلى دارِ قُدْسِه، بل مَن عرفَ اسمَ ربِّه سَمَتْ رتبتُه، وعَلَتْ في الدارينِ منزلتُه.
وثالثُها: ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه
(4)
المشهورة، وصورةُ اللفظِ أنه قال: لا يجوزُ التوسُّلُ في الدعاء بأحدٍ من الأنبياء والصالحين إلاّ برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صحَّ حديث الأعمى.
وزعمَ العائبُ لهذه الأقوالِ والطاعنُ على معانيها أنَّ فيها تنقُّصًا بعبادِ الله الصالحين، واستخفافًا بحرمةِ البيتِ والمشعر الحرام.
فهل في هذه الأقوال المذكورةِ تنقُّصٌ واستخفافٌ والحالةُ هذه أو لا؟
(1)
ص 23.
(2)
سورة الأعراف: 185.
(3)
التحبير (ص 22).
(4)
ص 83.
وهل يجوز ردُّها بمجرد رأي الإنسان وما جَرَتْ به عَوائدُ بعضِ أهل الزمانِ أم لا؟
وهل اشتهرَ عن الأئمة الأكابرِ المتبوعين خلافٌ لهذه الأقوال؟
وهل صحَّ حديثُ الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعِه
(1)
؟
وهل في صريح لفظِه ما يُبطِلُ الأقوالَ المذكورةَ ويُوجِبُ اعتقادَ خلافِها؟
وهل يجوز الحلفُ بغير الله تعالى؟ وإذا لم يَجُزْ هل يجوز التحليفُ والإقسامُ بغير الله؟
والرادُّ لهذه الأقوالِ المتقدمِ ذكرُها والطاعاتِ فيها، إذا لم يكن عنده دليل شرعي قاطع يدفعُها به، هل يُردَعُ عن ذلك ويُزْجَرُ؟
فأجاب رضي الله عنه
الحمد لله، ليس في شيء من هذه الأقوال تنقُّصٌ ولا استخفاف، لا بصالحي عبادِ الله ولا بشعائرِ الله، وإنما يكون متنقِّصًا من نقصَهم عن منزلتِهم التي جعلَهم الله بها، كمن لا يَرى حجَّ البيتِ قُربة وطاعةً لله، ولا يَرى الوقوفَ بعَرفةَ ومزدلفةَ ومِنًى، كما كان بعضُ أهلِ الجاهلية لا يَرَونَ الصفا والمروةَ من شعائرِ الله، وكان بعضهم يَخافُ -إذْ كانوا يُعظِّمونها في الجاهلية- أن لاتكون من شعائرِ الله
(1)
برقم (3578). وسيأتي الكلام عليه.
في الإسلام، فأنزلَ الله قولَه تعالى:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)
(1)
جوابًا للطائفتين، كما ثبت ذلك في الصحاح
(2)
.
وكمن لا يَرى تعظيمَ الهَدْي والضحايا التي قال الله فيها: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33))
(3)
.
وكمن لا يَرى تعظيمَ حُرُماتِ الله، فلا يُحرِّمُ صيدَ الحرم ونباتَه وسائرَ ما حرَّم الله تعالى من المحرّمات، فإنّ الواجبَ على الخَلقِ فِعلُ ما أمر الله به من العبادات، واجتنابُ ما حرَّمه من المحرَّمات، فإنَّ هذا وهذا من دين الله الذي بَعثَ به رُسُلَه، ولهذا قال الله تعالى:(وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)
(4)
.
ومن تمام تعظيم البيتِ أن يُعبَد اللهُ فيه كما شَرعَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فيُطَاف به، ويُستَلم الركنانِ اليمانيانِ، ويُقبَّل الحجرُ الأسودُ.
فلو قال قائلٌ: من تعظيمه استلامُ الركنينِ الشاميينِ، وتقبيلُ مَقام إبراهيم والمَسْحُ به، أو تقبيلُ غيرِ الحجرِ الأسودِ من جُدران الكعَبة، ونحو ذلك مما قد يَظنُّه بعضُ الناس تعظيما= كان هذا غلطًا. وإذا نهاهُ ناهٍ عن ذلك فقال: نَهْيُك لي عن هذا تنقُّصٌ واستخفاف بحرمة البيت، كان قد غَلِطَ غلطًا ثانيًا.
(1)
سورة البقرة: 158.
(2)
أخرجه البخاري (1643) ومسلم (1277) من حديث عائشة.
(3)
سورة الحج: 32 - 33.
(4)
سورة الحج: 30.
ولهذا لمّا طافَ ابنُ عباس ومعاويةُ بالبيت فكان ابن عباس لا يَستلم إلاّ الركنينِ اليمانيين، واستلم معاويةُ الأركانَ الأربعةَ، فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلاّ الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيتِ شيء مهجور، فقال له ابن عباس:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)
(1)
، فسَكتَ معاويةُ ووافقَ ابنَ عباس
(2)
.
فمعاويةُ احتجَّ بأنّ البيت كلَّه معظَّم لا يُهجَر منه شيء، فأجابَه ابن عباسٍ بأن العباداتِ يجبُ فيها اتباعُ ما شَرَعَه النبي صلى الله عليه وسلم لأمّتِه، ليس لأحدٍ أن يَشرعَ برأيه عبادةً لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر.
فوافقَه معَاويةُ، وعَلِمَ أنَ الصوابَ مع ابن عباسٍ.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين
(3)
أن عمر بن الخطاب لمّا قَبَّلَ الحجرَ الأسودَ قال: والله إني أعلَمُ أنكَ حجرٌ لا تَضرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُك لَمَا قَبَّلْتك.
بيَّن عمر -رضي [الله] عنه- أنّ العباداتِ مبناها على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذْ كان دينُ الإسلام مبنيًّا على أصلينِ:
أحدهما: أن لا يعبُد إلا الله، لا يُشرِك به شيئًا.
(1)
سورة الأحزاب: 21.
(2)
أخرجه بنحوه أحمد (1/ 217) من طريق مجاهد عن ابن عباس. وللحديث طرق أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (3/ 473، 474). وأصله عند البخاري (1608)، والجزء المرفوع منه فقط عند مسلم (1269).
(3)
البخاري (1597، 1605، 1610) ومسلم (1270).
والثاني: أن يَعبده بما شرع من الدين، لا يعبده بشَرْع مَن شرعَ مِن الدين ما لم يأذَن به الله، كالذين قال فيهم:(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)
(1)
.
فأخبرَ عمرُ أنا لم نُقبِّلْك نَرجو منفعتَك ونخافُ مَضرَّتَك، كما كان المشركون يفعلون بأوثانهم، بل نعلم أنك حجر لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أن الرسول قَبلك -وقد أمرنا الله باتباعِه، فصارَ ذلك عبادةً مشروعةً- لما قبَّلْتك، لسنا كالنصارى والمشركين وأهل البدع الذين يعبدون غيرَ الله بغيرِ إذن الله، بل لا نعبد إلاّ الله بإذن الله، كما قال لنبيه:(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46))
(2)
، فبيَّن أن رسوله يدعو إليه بما أذن فيه من الشَّرع، لا بما لم يأذن به، كالذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
وكذلك قال عمر
(3)
: فِيْمَ الرملُ الآن والإبداءُ عن المناكب؟ وقد أَطَّأَ الله الإسلامَ ونفَى الشركَ وأهلَه، ثم قال: لا نَدَعُ شيئًا كُنَّا نفعلُه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ فعلناه.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابَه في عمرة القضيةِ بالاضطباع وبالرمل ليُرِيَ المشركين قوتَهم، ولهذا لم يأمرهم بالرمل بين الركنين
(1)
سورة الشورى: 21.
(2)
سورة الأحزاب: 45 - 46.
(3)
أخرجه أبو داود (1887) عنه. وأصله عند البخاري (1605).
اليمانيين، لأن المشركين كانوا بقُعَيْقِعَانَ جَبَلِ المروةِ ينظرون إليهم
(1)
. ثمَّ إنه لما حَجِّ اضطَبَعَ ورَمَلَ من الحجر الأسود إلى الحجرِ الأسود، فجعلَ ذلك شرْعًا لأمتِه. فبيَّن عمرُ أنه لو لم يُشْرَع ذلك لما فَعَلْناه، لزوالِ السببِ الذي أوجبَه إذْ ذاك.
ومعلوم أن مكَّةَ -شرَّفَها الله- فيها شَعَائرُ الله، وفيها بيتُه الذي أوجبَ الحجَّ إليه، وأمرَ الناسَ باستقباله في صلاتهم، وحَرَّم صَيْدَه ونباتَه، وأثبتَ له من الفضائل والخصائص ما لم يثبتْه لشيء من البقاع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمكة: "والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضَ الله إلى الله -وفي رواية: وأحبُّ أرضِ الله إليَّ-، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ لما خَرَجتُ"
(2)
. قال الترمذي: حديث صحيح.
فإذا كان الله لم يَشرع أن يتمسَّح إلا بالركنين اليمانيينِ لكونهما على قواعدِ إبراهيم، ويُقبَّل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله في الأرض
(3)
، فلا يُقبَّل سائرُ جُدرانِ الكعبة، ولا يُقَبَّل مقامُ إبراهيم الذي هناك ولا يتمسَّح به، ولا يُقبَّل مقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يُصلي فيه ولا يُتَمسَّح به، ولا يُقبَّل قَبرُ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتمسَّح به= فمعلوم أن
(1)
كما في رواية ابن عباس المعلقة عند البخاري (4256)، ووصلها الإسماعيلي كما ذكر الحافظ في "الفتح"(7/ 510).
(2)
أخرجه أحمد (4/ 305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
(3)
أخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث"(2/ 96) وعبد الرزاق في المصنف (5/ 39).
موقوفًا على ابن عباس، وهو صحيح عنه. ويُروى مرفوعًا عن جابر وغيره، ولا يثبت رفعُه. انظر "الضعيفة"(223) و"جامع المسائل"(13/ 63).