الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها
(1)
. ورُبَّ صائمٍ حظه من صيامِه الجوعُ والعَطَشُ
(2)
؛ وليس بمنزلة المفطر، بل وإن لم يحصل له ثواب فهل يرفع عنه عقاب الترك؟ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا
بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر
. وذلك أن الإيمان الواجب لابد أن يكون الله ورسوله أحب إلى صاحبه مما سواهما، ولابد أن يخشى الله ويخافه، فمن لا يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يخشى الله تعالى فهذا ليس بمؤمن، بل قال تعالى:(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)
(3)
. وقال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81))
(4)
.
فبين سبحانه أنه لا يوجدُ مؤمن يوادُّ المحاد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن المؤمنَ لا يمكنُ أن يتولى الكافر، والمودةُ والموالاةُ تتضمن المحبة، فدلَّ ذلك على أنه لابد في الإيمان من محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مما ينافي
(1)
كما في حديث عمار بن ياسر الذي أخرجه أحمد (4/ 321) وأبو داود (796) والنسائي في الكبرى (525). وهو حديث حسن.
(2)
كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه أحمد (2/ 373) وابن خزيمة (1997).
(3)
سورة المجادلة: 22.
(4)
سورة المائدة: 81.
محبة من حادَّ الله ورسوله، ولهذا لا تكون موالاة الله ورسوله إلا بمعاداة من عادى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. كقول إبراهيم والذين معه:(قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)
(1)
.
وفي الصحيحين
(2)
أنه قال: "والذي نفسي بيدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِهْ والناسِ أجمعين".
وفي صحيح البخاري
(3)
أن عمر بن الخطاب قال: "والله يا رسول الله لأنتَ أحبُّ إليَّ مِن كلِّ شيء إلا من نفسي! ". قال: "لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليكَ من نفسِكَ". قال: "فلأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي". قال: "الآن يا عمر".
بل أبلغ من ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24))
(4)
. فهذا وعيد لمن كان أهله الذين يحبهم وأمواله التي يحبها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله. فكيف إذا كان الصور المحرمة والمال المحرم ومكاره كثيرة، فكيف إذا كان هذا وهذا؟ وهو أحب إليه من الله
(1)
سورة الممتحنة: 4.
(2)
البخاري (15) ومسلم (44) عن أنس.
(3)
برقم (6632).
(4)
سورة التوبة: 24.
ورسوله بدون الجهاد.
فَعُلِمَ أن الزاني والشارب أبعد عن كون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما من هؤلاء التاركين للجهاد، وإن كانوا يحبون الله ورسوله، لكن لم يقل له: إنها أحب إليه مما سواهما، ولا إنه مُتَّصِف بذلك وقتَ الشّرب، فقد يتصف العبد بالأحبِّية في حال دون حال، ولابد في الإيمان مِن أنْ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة؛ فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول: إمّا قول القلب الذي هو علمه
(1)
، أو معنى غير العلم عند من يقول ذلك. وهذا قول الجهمية ومن تَبعهم كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب واللَسان كالقول المشهور عن المرجئة؛ ولم يجعلوا عمل القلب مثل حب الله ورسوله ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل.
وغلطوا غلطًا آخر غَلِطَت الجهمية فيه أعظم، وهو أنهم ظنوا القلب يقوم به الإيمان قيامًا لا يظهر على الجوارح. فظنوا أن [الإنسْان]
(2)
يقوم بقلبه تصديق تام للرسول، ومحبة تامة للرسول، وهو مع هذا يشتمه ويلعنه ويَضْربه من غير إكراه، فصاروا لا يجعلون شيئًا من الأعمال الظاهرة مستلزمًا للكفر الباطن، بل يقولون: نحن نحكم بكفره ظاهرًا، وقد يكون في الباطن من أولياء الله.
(1)
في الأصل: "عمله". والمثبت يقتضيه السياق.
(2)
في الأصل: "الإسلام". والمثبت يقتضيه السياق.
وغلطوا غَلْطة ثالثة فقالوا: كل من حكم الشارع بكفره في الظاهر
(1)
فذلك دليل على أنه لم يكن مصدقًا في الباطن.
وهذا مكابرة ظاهرة، فصاروا يقولون: إن إبليس وفرعون وعلماء اليهود وأمثال هؤلاء هم في الباطن جاحدون لوجود الخالق لأنه ثبت أنهم ليسوا مؤمنين في الباطن. والإيمان عندهم مجرد علم القلب، فاحتاجوا إلى نفي هذا.
والتحقيق أن الإيمان الباطن المنجي من عذاب الله لابد فيه من قول القلب، وعمل القلب، فلابد فيه من حب الله ورسوله، ولهذا أطلق أكثر السلف القول بأن الإيمان قول وعمل.
وإذا كان القلب فيه تصديق للرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة تامة له فلابد أن يظهر ذلك على الجسد، فإن الإرادة الجازمة مع وجود القدرة تستلزم وجود المقدور، والمحبة الجازمة تتضمن الإرادة الجازمة لتعظيم الرسول وتوقيره. فإذا كان قادرًا على ذلك امتنع أن يصدر منه موالاةُ من عادى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف يصدر منه شتمه وضربه وقتله طائعًا غير مكره؟
وإذا كان كذلك فمعلوم أن الذنوب كالزنا والسرقة وشرب الخمر تتضمن شهوة ذلك ومحبته، فحب الشهوات من الصور والمطاعم والأموال يُوقِعُه في الزنا والشرب والسرقة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
:
(1)
في الأصل: "الباطن"، وهو مخالف للسياق.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 291، 392، 442) والبخاري في الأدب المفرد (289،=
"أَكْثَر ما يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الأجوفان: الفَمُ والفَرْجُ، وأكثر ما يُدخِل الناسَ الجنَّة: تقوى الله وحسنُ الخلق".
والمحبوب المشتهَى يصرف عنه طلب ما هو أحب إلى المرء منه، ويصرف عنه خوف ما يكون دفعه أحب إلى النفس من ذلك المشتهى.
فمن أحبَّ امرأة فأتاه من هو أحبُّ إليه منها، وقيل لا يُعطى هذه إلا بترك تلك اشتغل بها عنها، فإن أُعطي من المال ما هو أحب إليه منها، أو من الأولاد ما هو أحب إليه منها، على طريق المعاوضة، اشتغل عنها بالضدين اللذين لا يجتمعان، إذا كان أحدهما أحب إليه تَرَكَ الآخر لأجله.
وكذلك إذا خاف من مقامه معها ضربًا، أو حبسًا، أو أخذ مالٍ، أو عزلاً، كان دفع هذا المكروه أحب إليه منها المغرمُ
(1)
، وأما المحب الذي لا يؤثر عليها شيئًا من هذه المحبوبات، ولا دفع هذه المكروهات فهذا لا يتركها لذلك. وإذا كان كذلك فالمؤمن المحب لله ورسوله الذي يحبَ الله ورسوله أعظم من كل شيء، والله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والذي يخشى الله ويخافه إذا عصاه هو في حال حصول حبه التام وخوفه في قلبه لا يفعل شيئًا
= 294) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) عن أبي هريرة. قال الترمذي: صحيح غريب.
(1)
كذا في الأصل.
من ذلك، بل حب الله ورسوله الذي وجد حلاوته وهو أحب إليه من هذه المنهيات التي يبغضها الله ورسوله، ومتى وقع فيها نقص ذلك الحب وتلك اللذة الإيمانية.
فلو كانت اللذة الإيمانية الكاملة موجودة
(1)
لما قَدّم عليها لذة تَنقُصها وتزيلها، ولهذا يجد العبد في قلبه إذا كان مخلصًا لله واجدًا لحلاوة العبادة والذكرِ والمعرفةِ الصارف قلبَه عن هذه المحرمات فلا يلتفت إليها، كالمشغول بالجوهر إذا لاحت له قشور البصل، بخلاف ما إذا عَدِمَ هذه الحلاوة الإيمانية، فإنه حينئذٍ يميل إلى شيءٍ من المحرمات، وكذلك إذا كان في قلبه خوف الله التام وهو مؤمن، فإن هذا المحرم سبب يفضي به إلى عذاب الله وعقابه، بل إلى سخطه وغضبه والبعد عنه، فمتى خاف زوالَ محبوب أحبَّ إليه من ذلك، أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك لم [يعد إلى]
(2)
هذه المحرمات.
فالذنب تارة يُعدَم لعدم المقتضي، وتارة لوجود المانع، والثاني هو الغالب، فإنه الداعي في النفس، والأول موجود إذا حَصَلَ في القلب من حلاوة الإيمان وطيبه ما يغنيه عن الذنب لم يبق له داعِ، كالجائع الذي أكل من الطعام الطَّيب ما يُغنيه عن الرديء، فإذا شبع لم يبق له داع، بل إذا كان قادرًا على هذه كان مكتفيًا عن ذلك.
وكذلك العطشان، والنفس مطلوبها ما يَسرُّها ويلذها، فإذا وجدت اللذة والسرور التام في أمر لم تشتغل عنه بما هو دونه في اللذة.
(1)
في الأصل: "مأخوذة".
(2)
في الأصل: "لم يبعد".
والإنسان إنما يفعل السيئات القبيحة إما لجهله بقبحها، وإما لحبه الداعي له إلى ذلك، وهو يتضمن حاجته إلى ذلك، فإن المشتهي للشيء من مطعوم أو منكوح أو منظور أو غير ذلك يجد في قلبه فاقة إليه وحاجة إليه، فإذا لم يحصل له بقي في ألمٍ يؤذيه بحسب شهوته، فإذا استغنى بما يزيل عنه الشهوة والحاجة لم يبق عنده داع يدعوه إلى ذلك. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
: "إذا أَعْجَبَتْ أحَدَكم امرأة فليأتِ أهلَه، فإن معها مثل ما معها". وفي الدعاء المأثور
(2)
: "اللهمَّ أَغْنِنَا بحلالِك عن حرامك، وبفضلِك عمَّن سواك".
والناس إذا وقعوا في البدع والمعاصي نقص عليهم إيمانهم، وإلا فمن كان عالمًا بالحق قاصدًا له أغناه ذلك عن أن يعتقد الباطل ويتبعه. ولهذا كانت الصحابة رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن الذنوب والبدع، لاستغنائهم بالعلم والإيمان بالله [وما] تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تجد أحدًا وقع في بدعةٍ إلا لنَقْصِ اتباعِه للسنة علمًا وعملاً. وإلا فمن كان بها عالمًا، ولها متبعًا لم يكن عنده داع إلى البدعة، فإن البدعة يقع فيها الجُهَّال بالسنة، وكذلك الزنا والسرقة وشرب الخمر، إنما يزني من عنده شهوة يطلب قضاءها.
فأما من قضى شهوته بما هو أحب إليه وفَتَرَتْ، فلا يبقى عنده داعٍ، ومن أحبَّ طلب شيء آخر فشهوته لم تُقْضَ بل قُضِيَ بعضها،
(1)
أخرجه مسلم (1403) عن جابر.
(2)
أخرجه الترمذي (3563) وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 153) عن علي. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقضاء الشهوة إنما هو حصول المطلوب كله، فممتنع معه أن يطلب ما يُحصل ما قد حَصَل.
وكذلك السارق إنما يسرق لِما عنده من إرادة المال، ولكن من الناس من لا يقف عند حدٍّ، بل لو حَصَلَ عنده أي شيء كان أحبَّ الزيادة، ولهذا يسرق وإن لم يكن ثَمَّ منافعُ أُخَر.
وكذلك شارب الخمر يشربها لما يطلب بها من حصول اللذة وزوال الغم، فإذا كانت اللذة الحاصلة بالصلاة وذكر الله أكمل وهي تصده عن ذلك لم يكن عنده داعٍ إليها.
ومما يُبيِّنُ هذا قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)
(1)
، مع قول الشيطان:(لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83))
(2)
، وقال تعالى في حق يوسف الصديق:(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24))
(3)
، فإن عباده تعالى هم الذين عبدوه وليس المراد كل من خلقه، فإن الشياطين عباد بهذا الاعتبار، بل هذا كقوله تعالى:(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)
(4)
، وقوله:(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)
(5)
، وقوله:(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ)
(6)
.
(1)
سورة الإسراء: 65.
(2)
سورة ص: 82 - 83.
(3)
سورة يوسف: 24.
(4)
سورة الفرقان: 63.
(5)
سورة الإنسان: 6.
(6)
سورة الجن: 19.
وفي الصحيحين
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عبدُ الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، إن أُعطِيَ رضي، وإن مُنِعَ سخط، تَعِسَ وانْتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش".
فعبدُ الله الذي هو عبدُه لابد أن يكون الله أحب إليه مما سواه، فإن الذين جعلوا لله أندادًا يحبونهم كحب الله مشركون لا مؤمنون، والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، ولابد أن يكون الله أخوف عندهم مما سواه، ومن كان كذلك صُرِفَ عنه السوء والفحشاء كما صُرِفَ عن يوسف.
بخلاف المشركين الذين جعلوا لله أندادًا يحبونهم كحُب الله، فهؤلاء ليسوا عباده، و (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)
(2)
، فالمشرك به لا يحصل له ما يقر عينه، ويغني قلبه عن الأنداد، بل هذا لا يحصل إلا بعبادة الله وحده. فإن الله سبحانه خلقَ عِبادَهُ حنفاء؛ وللسلف في "الحنيف" عبارات، قيل: المستقيم، كقول محمد بن كعب القرظي. والمتَّبع، كقول مجاهد. والمُخْلِص، كقول عطاء. وأما تفسيره بالمائل فهذا من قول بعض متأخري أهل اللغة، وهو مبسوط في موضع آخر
(3)
.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
: "كل مولود يولد على الفطرة". وفي رواية
(5)
:
(1)
أخرجه البخاري (2886، 2887) عن أبي هريرة. ولم أجده عند مسلم.
(2)
سورة الأنبياء: 22.
(3)
انظر "فصل في معنى الحنيف" ضمن هذه المجموعة.
(4)
أخرجه البخاري (1385) ومسلم (2658) عن أبي هريرة.
(5)
رواها ابن حبان في صحيحه (1/ 341) عن الأسود بن سريع.
"على فطرة الإسلام". فالقلب مخلوق حنيفا مفطورًا على فطرة الإسلام، وهو الإستسلام لله دون ما سواه. فهو بفطرته لا يريد أن يعبد إلا الله، فلا يطمئن قلبه ويحصل لذته وفرحه وسروره إلا بأن يكون الله هو معبوده دون ما سواه، وكل معبود دون الله يوجبُ الفساد، لا يَحْصُل به صلاح القلب وكماله وسعادته المقتضية لسَروره ولذته وفرحه، وإذا لم يحصل هذا لا يبقى طالبًا لما يلتذ به فيقع في المحرمات من الصُّوَر والشرب وأخذ المال وغير ذلك.
ولهذا لَمَّا كانت امرأة العزيز مشركة طالبةً للفاحشةِ، ويوسف شاب غريبٌ، فالداعي المطيع معه أقوى، لكن معه من الإيمان ما يَصدُّه عن ذلك، وتلك هي وقومها كانوا مشركين، ولهذا قال لهم:(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) إلى قوله: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)
(1)
.
وما نقلَه بعضُ المفسرين من أن زوجَها
(2)
كان لا يصل إليها، وأن يوسف تزوَّجَها بعد ذلك فوجدَها عذراءَ، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يُصدِّقَ به، فإن هذا لم يُخبِر
(1)
سورة يوسف: 37 - 40.
(2)
من هنا إلى حديث "إذا حدّثكم أهل الكتاب
…
" مضطربٌ في المخطوط غايةَ الاضطراب، وقد تأملتُ في هذه الفقرة حتى اهتديتُ إلى السياق الصحيح. ولا حاجة إلى نقل العبارات المضطربة.
بنَقْلِه أحدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو منقولٌ عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرُهم. وقد ثبتَ في الصحيح
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حَدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تُصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم". لا سيما وقد نقلوا في قصة يوسف أشياء تخالف القرآن، وتلك يجب القطع بأنها كذب، وأما ما لم يُعلم صدقه ولا كذبه يتوقف فيه.
وهذه الحكاية كذب؛ فإن هذا خلاف العادة الغالبة على بني آدم، وإنما يقع مثل هذا نادرًا ولو وقع لأخبر به.
والمراد لو كان الداعي لها مجرد الشهوة لِعَدَم الزوج لكان في الرجال كثرة، وإذا لم يحصل لها يوسف حصل لهَا غيرُه، ومعلوم أن الجائع والشَّبِقَ إذا طلب غلامًا يشتهيه فيتعذَّر عليه لم يصبر عن الجوع والشبق بل يتناول ما تيسَّر له، ولهذا يوجد صاحب الشبق يقضي شهوته بأخسَّ ما يمكن، فمن الرجال من يأتي بهيمةً وكلبًا وحمارًا وطيرًا، ومن النساء مَن تُمكِّن منها قردًا وحمارًا أو غير ذلك لغلبة الشهوة، ومن النساء من تتخذ آلة الرَّجلِ على صورة عضو الرجل عند تَعذر الرجال إلى أمثال ذلك، فكيف إذا حصل للمرأة رجل، وللرجل امرأة؟
فعُلِمَ أن المرأةَ هَوِيَتْ يوسف لجماله، لا لكون زوجها لا يأتيها.
(1)
البخاري (4485، 7362، 7542) عن أبي هريرة نحوه. واللفظ المذكور في حديث أبي نملة الأنصاري الذي أخرجه أحمد (4/ 136) وأبو داود (3644).
وكذلك ما ينقله بعضهم عن يوسف أنه حَلَّ سراويله، وأنه رأى صورة يعقوب وغير ذلك، كل ذلك من الأحاديث التي غالبها أن يكون من كَذِب اليهود. فإن الله تعالى قال:(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ)
(1)
. فقد أخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء فلم يفعل سوءًا ولا فحشاء، فإن ما صرفه الله عنه انصرف عنه. ولو كان يوسف قد أذنب لتاب، فإن الله لم يذكر ذنب نبي إلا مع التوبة، ولم يذكر عن يوسف توبة، فعُلِمَ أنه لم يُذنب في هذه القضية أصلا، والله أعلم. إنما أخبر عنه بالهمِّ وقد تركه لله فهو مما أثابه الله عليه.
وفي الصحيحين
(2)
عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: "إن الله كتب الحسناتِ والسيئات ثم بَيَّن ذلك، فمن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هَمَّ بها فعمِلها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله [له عنده حسنةً كاملةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعَمِلها كتبها الله له] سيئةً واحدةً"
(3)
.
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. وفي الحديث الآخر
(4)
قال: "يقول الله:
(1)
سورة يوسف: 24.
(2)
البخاري (6491) ومسلم (131).
(3)
الزيادة من الصحيحين ليتم السياق.
(4)
أخرجه مسلم (129) عن أبي هريرة.
اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جَرَّائي". أي: من أجلي. فالعبد إذا هَمَّ بالسيئة وتركها لله كان تركها لله حسنة كاملة، ولم يكن عليه إثم بذلك الهمِّ.
فيوسف الصديق لم يفعل قط سيئةً، بل هَمَّ وتَرَكَ ما هَمَّ به لَمَّا رأى برهان ربه، فكَتبَ الله له حسنة كاملة.
وبرهان ربه ما تبيَّن له به ما يوجب الترك، قال الله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202))
(1)
.
فالشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة، ويضعف نور الإيمان، ولهذا سماه طائفًا، أي: يطيف بالقلب مثل ما يطيف الخيال بالنائم، ويغيب عن القلب حينئذٍ من أمرِ الله ونهيِه ووعدِه ووعيدِه ما يناقض ذلك، فإذا كان العبد متقيًا لله أمدَّه الله تعالى بنور الإيمان، فذكر ما في الذنب من عذاب الله وسخطه، وما يفوته به من كرامة الله وثوابه.
والبرهان ببصيرة القلب، فيوسف الصديق أبصرَ برهانَ ربه بقلبه، فتركَ ما همَّ به كل ذلك.
وأما ما يُذكر أنه تمثلَ له يعقوبُ في صورة جبريل وأنه عضَّ يده، أو أن جبريل أو يعقوب مسحَ على ظهره، أو رأى أنه مكتوب
(2)
=
(1)
سورة الأعراف: 201 - 202.
(2)
انظر تفسير ابن كثير (4/ 1836).