الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكل هذا لا يجوز لأحد أن يُصدقَ بشيء منه، بل هذا مما يُعلم كذبه من وجوه متعددة، فإن من لم يتنبَّه إلا بهذا يكون من أفجر الناس، فكيف يقال لمن وصفه الله بالعفة والتقوى ما لا يوصف به إلاّ من هو أفجر الناس؟
قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24))
(1)
. وما ذُكر يقتضي أنه لم يُصرف عنه إلا الجماع، وإلا فقد فَعَلَ مقدماته وحرص عليه، وهذا كالفاعل، ولو حصل لمشرك دون هذا لامتنع من الفاحشة بدون ذلك، بخلاف امتناع يوسف، مع كمال الدواعي فإن هذا لا يُعرفُ لغيره، فإن التي راودته سيدته التي تملكه، وقد استعانت عليه بعد ذلك بالنساء وحبسوه على ذلك بضع سنين، وهو شاب غريب، وزوجها لم ينهها ولم يعاقبها، ولم ينصر يوسف عليها، وهو في بلد غربة ليس هناك أهله الذين يستحي منهم، بل لو أتاها لم يَعْلَم أَحَدٌ من الناس.
وما يُذكر من
حكاية مسلم بن يسار
(2)
أنه رأى يوسف، قال:"أنا يوسف الذي هممتُ، وأَنتَ مسلم الذي لم تَهُمَّ! ". فمُسلم رآه بحسبِ حاله، وفيه دليل على صلاح مُسلم، وإلا فأين حال هذا من حال يوسف؟، تلك امرأة بدوية ظلمته في بريةٍ ولا حُكمَ لها عليه، وهو شيخ كثير العبادة، فدواعي الزنا منصرفةٌ عنه، وموانعه موجودة، بخلاف يوسف؛ فإن دواعي البشرية كانت تامةً في حقه موجودة،
(1)
سورة يوسف: 24.
(2)
ذكرها المؤلف في "مجموع الفتاوى"(15/ 144).
وصوارف السوء كانت منتفية، وإنما صُرِفَ عنه السوء والفحشاء بإخلاصه، وترك ما همَّ به لما رأى برهان ربه. وهَمُّهُ الذي تركَه كُتِبَ له به حسنات كاملة، ولو تساوت القضيتان لكان هو أفضل، فكيف وبينهما من الفرقان ما لا يخفى إلا على العُميان؟
وكثير من المؤمنين يُطلب منه الفاحشة، ويراودُه من يراوده ويمتنع، لكن لا تجتمع معه هذه الأمور ولا يكون معهودًا هذا الضمير
(1)
، ولا يصبر على حبس بضع سنين= يختار ذلك على فِعل ما طُلب منه في خلوة عن الوطء لم يمتنع عن مقدماته، ويوسف صرف الله عنه السوء والفحشاء فلم يفعل كبيرة ولا صغيرة، ولا أَمَرَتْهُ نفسُه بسوء، بل كان ممن رحم الله، فلم تكن نفسُه أمَّارةً بسوءٍ، بل امرأة العزيز هي التي كانت نفسها أمَّارة بالسوء؛ فإنها راودته، وقَدَّتِ القميص، وكَذَبَتْ عليه، واستعانت بالنساء ثم حبسته، ولهذا قالت:(أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)
(2)
أي: في مغيبته عني.
وقد بُسِطَ الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبُيِّنَ أن قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) هو من تمام كلام امرأة العزيز، وكما دلَّ على ذلك القرآن في غير موضع
(3)
.
(1)
كذا في الأصل.
(2)
سورة يوسف: 51 - 52.
(3)
انظر "مجموع الفتاوى"(15/ 138 - 156)، ففيه رسالة للمؤلف في هذا الموضوع، ولكنها ناقصة الأول.
ومن قال إنه من كلام يوسف فقد قال باطلاً، والنقولات في ذلك عن ابن عباس ضعيفة بل موضوعةٌ. ولو قُدِّرَ أنه قال ذلك فبعضُ ما يُخبره هذا وعبد الله بن عمرو من الإسرائيليات كله مما سمعوه من أهل الكتاب، فلا يجوز الاحتجاج به.
والصاحب والتابع فقد يَنقُلُ عنهم ما لم يَتبَيَّن [له أنه كذِبٌ، فإن تبيَّنَ]
(1)
لغيره أنه كَذِبٌ لم يجز نقله إلا على وجه التكذيب، كما قال كثير منهم: إن الذبيح إسحاق، ودلائل الكتاب والسنة وغير ذلك أنه إسماعيل
(2)
، وأمثال ذلك.
وكثير من السلف يروي أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إما مسندة وإما مرسلة، فإن كان لم يعلم أنها كذب فيجوز له روايتها، وإن كان غيره ممن عَلِمَ أنها كذب لا يجوز له روايتها. وعامة ما ينقله سلفنا من الإسرائيليات إذا لم يكن عن نبينا صلى الله عليه وسلم فهو دون المراسيل عن نبينا صلى الله عليه وسلم بكثير؛ فإن أولئك النقلة من أهل الكتاب، والمدة طويلة، وقد عُلِم الكذبُ فيهم والله أعلم.
(1)
زيادة يستقيم بها السياق.
(2)
انظر كلام المؤلف في "مجموع الفتاوى"(4/ 331 - 336). وللقاضي أبي بكر بن العربي والسيوطي والفراهي رسائل مستقلة في هذا الموضوع.
فصل في قوله صلى الله عليه وسلم: أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد:
ألَا كلُّ شَيءَ مَا خَلَا اللهَ باطِلُ
فصل في قوله صلى الله عليه وسلم: أصدقُ كلمةٍ قالَها شاعر كلمةُ لَبيد:
ألَا كلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا الله باطِلُ
فقد جَعَلَ هذه الكلمةَ أصدقَ كلمةٍ قالَها شاعر، وهذا كقوله:(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ)
(1)
، وقال:(فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)
(2)
، ونحو ذلك يتناولُ كلَّ معبودٍ من دون الله من الملائكة والبشرِ وغَيرِهم من كل شيء، فهو باطل، وعبادتُه باطلةٌ، وعابدُه على باطلٍ، وإن كان موجودًا كالأصنام.
و"الباطل" يُرادُ به: الذي لا يَنفع عابدَه، ولا ينتفع المعبودُ بعبادتِه. فكلُّ شيء سِوى اللهِ باطل بهذا الاعتبار، حتى الدرهم والدينار، كما في الدعاء المأثور:"أشهدُ أنّ كلَّ معبودٍ من لَدُنْ عرشِك إلى قرارِ أرضِك باطل إلاّ وَجْهَك الكريم"
(3)
، فإنّ كلَّ نفسٍ لابُد لها أن تألَهَ إلهًا هو غايةُ مقصودِها، فكلُّ ما سِوى اللهِ باطل، وهو ضالّ عن عابِدِه، كما أخبرَ بذلك في كتابِه.
(1)
سورة الحج: 62.
(2)
سورة يونس: 32.
(3)
أخرجه ابن قدامة في "التوابين"(ص 50 - 56) من حديث ابن عباس في حديث إسرائيلي طويل.
و"الضلال" يُراد به الهلاك، كما قال تعالى:(وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
(1)
قالوا: معناه هَلكْنا وصِرْنَا تُرابًا. وأصلُه من قوله: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن، إذا هَلَكَ فيه وتَلَاشَى. فإذا كان الضَّالُّ في الشيء هالكًا فيه، فالضالُّ عنه هالك عنه. ولهذا قال:(ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
(2)
أي: هَلَكَ وذهبَ، وهو بمعنى بَطَلَ.
فكلُّ معبودٍ سِوى الله فهو باطل وضالّ، يُضِلُّ عابدَه ويَضِل عنه، ويَذهبُ عنه، وهالكٌ عنه، إلا وجهَ الله. فعبادةُ ما سِواه فاسدةٌ وباطلٌ وضلال، والمعبود سواه فاسدٌ.
قال مجاهد في قوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)
(3)
قال: إلاّ ما أرِيدَ به وجهُه. وقال سفيان الثوري: إلاّ ما ابتُغِيَ به وجهُه. كما يقال: ما يَبقَى إلاّ الله والعملُ الصالحُ. وفي الحديث: "الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذِكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم"
(4)
. فأيّ شيء قصدَه العبدُ وتوجَّه إليه بقلبِه أو رَجَاه أو خافَه أو أحبَّه أو توكَّل عليه أو والاه، فإنّ ذلك هالكٌ مُهلِلك، ولا ينفعُه إلاّ ما كان لله.
(1)
سورة السجدة: 10.
(2)
سورة الكهف: 104.
(3)
سورة القصص: 88. وانظر أقوال المفسرين في تفسير ابن كثير (6/ 2682) و"فتح الباري" (8/ 505).
(4)
أخرجه الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وهذا بخلاف قوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27))
(1)
، فإنّه حَصرَ كلَّ مَن عليها ولم يَستثنِ، مع أنَّ هذا المعنى يَدلُّ عليه، فإنّ جميعَ الأعمال تَفنَى، ولا يَبقَى منها شيء يَنفَعُ صاحبَه إلاّ ما كانَ لوجهِ ذي الجلال والإكرام، كما قال مالك: ما كان لله فهو يبقَى، وما كانَ لغيرِ الله لا يدومُ ولا يَبقَى.
وقال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)
(2)
، ولهذا قيل: الناس يقولون: قيمةُ كل امرئٍ ما يُحسِنُ، وأهلُ المعرفةِ يقولون: قيمةُ كلِّ امرئ ما يطلب. ومما رُوِي عن بني إسرائيل: "يقول الله: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، ولكنّي إنما أنظر إلى همتِه".
وقد رُوِي أنّ الله سبحانَه يقول
(3)
: "إنّ أدنَى ما أنا صانعٌ بالعالمِ إذا أحبَّ الدنيا أن أَمنعَ قلبَه حلاوةَ ذِكري". وتصديقُ ذلك في القرآن: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)
(4)
، وقال:(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)
(5)
. وفي الصحيح
(6)
حديثُ الثلاثة الذين أوّل ما سُعِّرتْ بهم النارُ، ذكر منهم العالم الذي يقول: تعلَّمتُ العلمَ فيك وعلمتُه فيك، فيُقال له:
(1)
سورة الرحمن: 26 - 27.
(2)
سورة النحل: 96.
(3)
ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 671) بلا إسناد. قال العراقي في "تخريج الإحياء"(4/ 56): غريب لم أجده.
(4)
سورة النجم: 29 - 30.
(5)
سورة الروم: 7.
(6)
مسلم (1905) عن أبي هريرة. وزيادة خبر معاوية عند الترمذي (2382).
كذبتَ، بل أردتَ أن يقال فلانٌ عالمٌ، وقد قيل، ثمّ يُؤمر به فيُسحَب إلى النار. ومعاويةُ لمّا سمعَ هذا الحديثَ بكَى وقال: صدقَ الله وبلَّغَ رسولُه، ثمَّ قرأ قولَه:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16))
(1)
.
وكذلك في الحديث في السنن
(2)
: "مَن طَلَب علمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله، لا يَطلبُه إلاّ لِيُصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يَرِحْ رائحةَ الجنَّة". وفي الحديث الآخر
(3)
: "من طَلَبَ علمًا -أو قال: من تعلَّم علمًا- ليُجارِيَ به العلماءَ ويُمارِيَ به السُّفَهاءَ، ويتأكَّلَ به الدنيا، ويَصْرِفَ به وجوهَ الناسِ إليه، لقيَ الله وهو عليه غَضبانُ".
وفي رواية: "لم يَجِدْ عَرْفَ الجنةِ".
وهذا باب واسعٌ قد بُسِطَ في غير هذا الموضع، وتكلَّمنا فيه على آية هود وآية سبحانَ وآية الشورى وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار في ذمِّ العالمِ وغيرِه المريد للدنيا والقَالَةِ، وبَيَّنا فيه أماراتِ ذلك، وبَيَّنا أن الدينَ كلَّه لله، وأن الله أغنى الشركاء عن الشركِ، وأن الصحابة والسلف كانوا أخوفَ الخلق في هذا المقامِ الخطِر.
والمقصود أن هذا العالم لمّا لم يكن مقصودُه إلاّ الدنيا بما عَلِمَه
(1)
سورة هود: 15 - 16.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 338) وأبو داود (3664) وابن ماجه (252) عن أبي هريرة.
(3)
أخرجه الترمذي (2654) عن كعب بن مالك، وابن ماجه (253) عن ابن عمر، وابن ماجه (260) أيضًا عن أبي هريرة. وفي أسانيدها ضعف.
من العلم وبما يُعلِّمه، وذلك مما يُبْتَغَى به وجهُ الله، لم يكن له عند الله قيمةٌ، ولم يكن للعلم في قلبه حلاوة، ولم يَرْتَعْ في رياضِ الجنَّة في الدنيا، وهي مجالس الذكر، فلم يَرِحْ رائحة الجنة. فالأولُ طلبَ العلم لكسب الأموال والجاهِ، فكان عقوبتُه أن لا يجدَ رائحةَ الجنَّة.
والثاني طَلَبه لمقاصدَ مذمومةٍ من المباهاةِ والمماراةِ وصَرْفِ وجوهِ الناس، فكان جنسُ مطلوبِه محرَّمًا، فلقيَ الله وهو عليه غَضبان.
والأول جنسُ مطلوبِه مباحٌ، فلم يجد رائحةَ الجنةِ في الدنيا، فلم يَرتَعْ في رياضِها، فقلبُه محجوبٌ عنها بما فيه من طلب الدنيا.
وفي حديث مكحولٍ المرسل
(1)
: "مَن أخلصَ لله العبادةَ أربعين صباحًا تفجَّرتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبه على لسانه". وحُكِي عن أبي حامدٍ قال: أخلصتُ لله أربعين صباحًا فلم يُفَجَّرْ لي شيءٌ، فذكرتُ ذلك لبعضِ أهل المعرفة، فقال: إنك لم تُخلِصْ لله، وإنما أخلصتَ للحكمة.
وكذلك الحكاية المشهورة عن الحسن
(2)
في ذلك الرجلِ الذي كان يَتعبَّدُ ليراهُ الناسُ ولِيُقَال، فكان الناسُ يَذُمُّونَه، ثمَّ أخلصَ لله ولم يُغَيِّر عملَه الظاهر، فألقَى الله له المحبةَ في قلوب الناس، كما قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96))
(3)
.
(1)
أخرجه المروزي في "زيادات الزهد"(1014) وابن أبي شيبة في "المصنف"(13/ 231) وهنّاد بن السري في "الزهد"(678) مرسلاً. ورُوِي موصولا ولا يصحّ، انظر "الضعيفة" للألباني (38).
(2)
انظر تفسير ابن كثير (5/ 2254).
(3)
سورة مريم: 96.