الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"المؤمنُ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ على دِمائهم وأموالِهم، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى الله عنه، والمسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لِسانِهِ ويِده".
و
الجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة
…
(1)
سبيل الله، ويفرق بينهما النِّيّة واتِّباع الشَّريعة. كما في "السنن"
(2)
عن مُعاذٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغَزْوُ غَزْوَانِ: فأمَّا مَن ابتغَى وَجْهَ الله، وأطاعَ الإمامَ، وأنفق الكَرِيمَةَ واجتنبَ الفسادَ؛ فإنّ نَوْمَه
(3)
[ونُبْهَهُ] كُلّه أجر. وأما مَن غَزَا فَخْرًا ورياءًا وسُمعة، وعَصَى الإمام، وأفسدَ في الأرضِ؛ فإنه لم يَرْجِع بالكَفَافِ".
وفي الصحيحين
(4)
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! الرجل يُقاتِلُ شَجَاعة ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال:"مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيلِ الله". وقد قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)
(5)
.
وهذه المسألة هي في الرجل أو الطائفة يُقاتل منهم أكثر من ضِعْفَيْهم
(6)
، إذا كان في قتالِهم منفعة للدِّين، وقد غَلَبَ على ظنِّهم
(1)
هنا بياض في الأصل، والكلام بعده غير متصل.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 234) والدارمي (2422) وأبو داود (2515) والنسائي (6/ 49، 7/ 155).
(3)
في الأصل: "يومه".
(4)
البخاري (123 ومواضع أخرى) ومسلم (1904).
(5)
سورة البقرة: 193.
(6)
في الأصل: "ضعيفهم" تحريف.
أنهم يُقْتَلُون، كالرجل يَحْمِلُ وَحْدَهُ على صف الكفَّار ويَدْخُل فيهم، ويُسَمِّي العلماء ذلك الانغماس في العدوّ؛ فإنه يَغِيبُ فيهم كالشيء يَنْغَمِسُ فيه فيما يَغْمُره.
وكذلك الرجل يَقْتُل بعضَ رُؤَساء الكُفار بين أصحابه، مثل أن يَثِب عليه جَهْرة إذا اخْتَلَسَه، ويرى أنه يَقْتُله ويُقتَل
(1)
بعد ذلك.
والرجل يَنْهزِم أصحابه فيُقاتِل وحده أو هو وطائفةٌ معه العدوَّ، وفي ذلك نِكَاية في العَدو، ولكن يظنُّون أنهم يُقْتَلُون.
فهذا كُلُّه جائزٌ عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرِهم، وليس في ذلك إلا خلاف شاذّ. وأمَّا الأئمة المُتَبّعَون كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد نصُّوا على جواز ذلك. وكذلك هو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما.
ودليلُ ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة.
أما الكتاب فقد قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207))
(2)
. وقد ذُكِرَ أن سبب نزول هذه الآية أن صُهَيبًا خَرَجَ مُهاجرًا من مكة إلى المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلَحِقَه المشركون وهو وحدَهُ، فنَثَل كِنانتَه، وقال: والله لا يأتي رجلٌ منكم إلا رَمَيْتُه. فأراد قتالهمِ وحدَه، وقال: إنْ أَحْبَبْتُم أنْ تَأخُذوا مالي بمكة فخُذُوه، وأنا أدُلُّكم عليه. ثم قَدِمَ
(1)
في الأصل: "يغتفل"، ولعل الصواب ما أثبته أو "يُعتَقل".
(2)
سورة البقرة: 207.
على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"رَبح البَيع أبا يَحْيَى"
(1)
.
ورَوَى أحمد
(2)
بإسنادِه أن رَجُلاً حَمَلَ وحدَه على العدو، فقال الناس: أَلْقَى بيَدِهِ إلى التَهْلُكة، فقال عمر: كلاّ بل هذا مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)).
وقولَه تعالى: (يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيع نفسه، يُقال: شراه وباعَه سواء، واشتراه وابتاعَه سواء، ومنه قوله:(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ)
(3)
أي باعوه. فقوله: (يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيعُ نفسَه لله تعالى ابتغاءَ مرضاته، وذلك يكون بأن يبذل نفسه فيما يُحبُّه الله ويرضاه، وإن قُتِلَ أو غَلَبَ على ظنِّه أنه يُقْتَل. كما قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112))
(4)
.
وهذه الآية وهي قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
(1)
انظر تفسير الطبري (2/ 186 - 187) وابن كثير (2/ 525).
(2)
لم أجده في "مسنده". وانظر المصدرين السابقين.
(3)
سورة يوسف: 20.
(4)
سورة التوبة: 111 - 112.
وَأَمْوَالَهُمْ) تدلُّ على ذلك أيضًا، فإنَّ المشترِي يسلم إليه ما اشتراه، وذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله وطاعته، وإن غَلَبَ على ظنِّه أن النفس تُقْتَل والجواد يُعقَر، فهذا من أفضل الشهادة، لما روى البخاري في "صحيحه"
(1)
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِن أيَّامٍ العملُ الصالحُ فيها [أَحَبُّ] إلى الله مِن هذه الأيَّامِ" يعني أيام العَشْرِ. قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: "ولا الجهادُ في سبيلِ الله إلا رجل خَرَجَ بنفسِهِ ومالِه ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بشيءٍ". وفي رواية
(2)
: "يعقر جواده وأهريق دمه".
وفي "السنن"
(3)
عن عبد الله بن حُبْشيٍّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أيُّ العمل أفضلُ؟ قال: "طُولُ القِيام". قيل: أَيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: "جَهْدُ المُقْلِّ". قيل: فأيُّ الهِجْرَةِ [أفضلُ؟ قال: "مَن هَجَرَ ما حَرَّمَ الله عليه".
قيل: فأيُّ الجهاد أفضلُ؟] قال: "مَن جاهَدَ المشركينَ بنفسِه ومالِه".
قيل: فأيُّ القتلِ أشرفْ؟ قال: "مَن أهريقَ دمُه وعُقِرَ جوادُه".
وأيضًا فإنَّ الله سبحانه قد أخبر أنه أَمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يَقْتُل ولدَه في محبَّة الله وطاعتِه؟ وقَتْلُ الإنسان ولدَه قد يكون أَشَقَّ عليه من تَعْريضِه نفسه للقتل، والقتالُ في سبيل الله أحَبُّ إلى
(1)
برقم (969) نحوه. واللفظ المذكور عند أحمد (1/ 224، 346) وأبي داود (2438) والترمذي (757) وغيرهم.
(2)
أخرجها الطبراني في "الصغير"(889).
(3)
أخرجه أحمد (3/ 411) والدارمي (1431) وأبو داود (1325، 1449) والنسائي (5/ 58، 8/ 94).
الله مِمَّا ليس كذلك.
والله سبحانه أمر إبراهيم بذبح ابنه قُربانًا ليَمْتَحِنه بذلك، ولذلك نسخ ذلك عنه لمَّا عَلِمَ صِدْق عَزْمِه في قتلِه؛ فإن المقصود لم يكن ذبحه لكن ابتلاءُ إبراهيم.
والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذلِ أنفسِهم؛ ليُقْتَلوا في سبيل الله ومحبَّة رسوله؛ فإن قُتِلُوا كانوا شهداء، وإن عاشُوا كانوا سُعداء.
كما قال: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)
(1)
.
وقد قال لبني إسرائيل: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)
(2)
. أي ليَقْتُل بعضكم بعضًا. فألقَى عليهم ظلمة، حتى جَعَلَ الذين لم يعبدوا العِجْل يقتلون الذين عَبَدوه.
فهذا الذي كان في شرعِ مَن قبلَنا من أَمْرِهِ بقَتْل بعضهم بعضًا قد عَوَّضَنا الله بخيرٍ منه وأنفع؛ وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوَّهم، وتعريضهم أنفسهم لأن يُقتلوا في سبيله بأيدي عدوِّهم لا بأيدي بعضهم بعضًا، وذلك أعظم درجة وأكثر أجرًا. وقد قال تعالى:(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68))
(3)
.
(1)
سورة التوبة: 52.
(2)
سورة البقرة: 54.
(3)
سورة النساء: 66 - 68.
وأيضًا فإنَّ اللهَ أمر بالجهادِ في سبيلِه بالنَّفْسِ والمال مع أنَّ الجهاد مَظنَّة القتل، بل لابُدَّ منه في العادة مِن القتل. وذَمَّ الذين يَنْكُلُون عنه خوف القتل، وجَعَلهم منافقين، فقال تعالى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) إلى قوله: (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)
(1)
. وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17))
(2)
.
فأخبر سبحانه أنَّ الفِرَار مِن الموتِ أو القتل لا ينفع، بل لابُدَّ أنْ يموتَ العبدُ، وما أكثرَ مَن يَفِرّ فيموت أو يُقْتَل، وما أكثرَ مَن ثَبت فلا يُقْتَل
(3)
.
ثمَّ قال: ولو عِشتْمُ لم تُمَتَّعوا إلا قليلاً ثمَّ تموتوا. ثمَّ أخبر أنَّه لا أحدَ يعصمهم مِن الله إن أرادَ أنْ يرحمهم أو يعذَبهم، فالفرار مِن طاعتِه لا يُنَجِّيهم. وأخبر أنه ليس لهم مِن دون الله وليّ ولا نصير.
وقد بيَّنَ في كتابه أنَّ ما يُوجبُه الجُبْنُ مِن الفرار هو من الكبائر الموجبةِ للنَّار، فقال:(إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
(1)
سورة النساء: 77 - 78.
(2)
سورة الأحزاب: 15 - 17.
(3)
بعده في الأصل بعض الآيات السابقة والكلام المذكور في هذه الفقرة، فحذفناه.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16))
(1)
.
وأخبرَ أن الذين يخافون العدوَّ خوفًا منَعَهم من الجهاد منافقون، فقال:(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57))
(2)
.
وفي الصحيحين
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه عَد الكبائر؛ فذكر الشرك بالله، وعُقُوق الوالدين، والسِّحر، واليمين الغَمُوس، وقذف المُحْصنات الغافلات المؤمنات. وذكر منها الفرار من الزَّحْف في الصَّفَّيْن.
[و] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شَرُّ ما في المَرْء: شُحٌّ هالِعٌ، أو جُبْنٌ خالِعٌ"
(4)
.
وأما دلالةُ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فمن وجوه كثيرة:
منها: أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها.
فعُلِمَ أنَّ القوم يُشْرَع لهم أن يُقاتِلوا من يَزِيدون على ضِعْفِهم، ولا فرقَ في ذلك بين الواحد والعدد، فمُقَاتَلة الواحد للثلاثة كمُقَاتَلة الثلاثة للعَشَرة.
(1)
سورة الأنفال: 15 - 16.
(2)
سورة التوبة: 56 - 57.
(3)
البخاري (2766، 6857) ومسلم (89) عن أبي هريرة.
(4)
أخرجه أحمد (2/ 302، 320)، وأبو داود (2511).
وأيضًا فالمسلمون يوم أُحُد كانوا نحوًا من رُبُع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها، وكان المسلمون نحو السّبعمائة أو قريبًا منها.
وأيضًا فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقَدْرِهِم مرَّات، فإنّ العدوّ كان أكثرَ من عشرة آلاف، وهم الأحزابَ الذين تَحَزَّبوا عليهم من قريش وحلفائِها وأحزابِها الذين كانوا حول مكة وغَطَفان وأهل نجد، واليهود الذين نَقَضُوا العهد وهم بنو قريظة جيران أهل المدينة، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفَيْن.
وأيضًا فقد كان الرجل وحْدَهُ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يَحمِلُ على العدو بِمَرْأى من النبي صلى الله عليه وسلم ويَنْغمسُ فيهم، فيُقَاتل حتى يُقْتل. وهذا كان مشهورًا بين المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه.
وقد روى البخاري في صحيحه
(1)
عن أبي هريرة قال: بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عشرةَ رَهْطٍ عَيْنًا، وأمَّرَ عليهم عاصمَ بنَ ثابتٍ الأنصاريَّ جَدَّ عاصمِ بنِ عمر بن الخطابِ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهَدْأَةِ بين عُسْفَانَ ومكة ذُكِرُوا لِحي مِن هُذيلٍ يُقال لهم بَنُو لِحْيَانَ، فنَهَدُوا إليهم بقريب مِن مائة رجلٍ رام -وفي روايةٍ: مائتي رجل- فاقْتَفوا آثارَهم، حتى وجدوا مأكَلَهم التمر في منزل نزلوه فقالوا [هذا] تَمْرُ يَثْرِبَ.
فلما أحسَّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع -وفي رواية إلى فَدْفَدٍ، أي إلى مكان مرتفع- فأحاط بهم القومُ، فقالوا لهم:
(1)
برقم (3045 ومواضع أخرى).
انزلوا فأَعْطُوا أيديكم ولكم العَهْدُ والميثاقُ، لا يُقْتَلُ منكم أحدٌ. فقال عاصم بنُ ثابتٍ: أيها القوم! أمَّا أنا فلا أنزلُ على ذِمَّةِ كافرٍ، اللهمَّ أخْبرْ عَنَّا نبيَّكَ صلى الله عليه وسلم. فرموهم بالنَّبْلِ فقتلوا عاصمًا في سبعةٍ. ونزل إليهَم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خُبَيْبٌ وزيد بنُ الدَّثِنَة، ورجلٌ آخر. فلما استمكنوا منهمِ أطلقوا أوتار قسِيِّهم فربطوهم بها. قال الرجل الثالثُ: هذا أوَّلُ الغدْرِ، والله لا أصَحبكم، لي بهؤلاء أُسوةٌ؛ يريد القَتْلَى. فجَرَّروه وعالجوه؛ فأبي أنْ يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدَّثِنَة حتى باعوهما بمكة بعد وقعةِ بدرٍ. فابتاع بنو الحارث بن عامرِ بن نوفلِ بن عبد منافٍ خبيبًا، وكان خبيبٌ هو قَتَلَ الحارثَ بنَ عمرو يومَ بدر. ولبث خبيبٌ عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله. فاستعار مِن بعض بنات الحارث موسى يسْتَحِدُّ بها، فأعارتْه فدَرج بُنَي لها وهي غافلة حتى أتاه [قالت: فوجدتُه] مُجْلِسَه على فخِذِه والموسى بيَدِه؛ قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعةً عرفَها خبيب. فقال: أتخْشَيْنَ أن أَقْتُلَه؟ ما كنتُ لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيتُ أسيرًا خيرًا من خبيب، فوالله لقد وجدتُه يومًا يأكل قِطْفًا من عنبٍ في يدِه، وإنه لمُوثَق في الحديد وما بمكة مِن ثمرٍ. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحَرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خبيبٌ: دعوني أُصلِّي ركعتين. فتركوه فركع ركعتين. فقال. والله لولا أنْ تحْسَبُوا أنَّ ما بي جَزَع لزدتُ، اللهمَّ أَحْصِهِم عددًا، واقتُلْهم بدَدًا، ولا تُبْقِ منهم أحدًا. قال:
فَلَسْت أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
…
عَلَى أَيِّ جنب كَانَ لله مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلهِ وإِنْ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سَنَّ لكلِّ مسلمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاة. وأخبَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابة يوم أُصيبوا خبرَهم. وبعث ناس من قريشٍ إلى عاصم بن ثابت حين حُدِّثوا أنَّه قد قُتل أن يؤتى بشيءٍ منه يُعْرَفُ، وكان قَتَلَ رجلاً مِن عظمائِهم. فبعث الله لعاصم مثلَ الظلَّةِ [مِن الدَّبْر]، فحَمَتْهُ من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئًا.
فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المئةَ أو المئتين، ولم يستأسِروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتِّباعهم حتى قتلوه. وهؤلاء من فُضَلاء المؤمنين وخيارهم.
وعاصم هذا هو جدّ عاصم بن عمر، وعاصم بن عمر جدّ عمر بن عبد العزيز
(1)
؛ فإنَّ عمر بن الخطاب كان قد نَهَى الناس أن يَشُوبَ أحد اللَّبنَ بالماء للبيع
(2)
، فبينما عمر ذات ليلةٍ يَعُسّ إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قُومي فَشُوبي اللبن. فقالت: إنَّ أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك. فقالت: وما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت: لا والله
(1)
يقصد بالجدّين هنا الجدَّين للأم.
(2)
بعده في الأصل عبارة لعلها من كتابة أحد القراء على الهامش، فدخلت في الأصل، وهي:(وكذلك في مراسيل الحسن: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لأنه يُفْضِي إلى غِشٍّ لا يَعْلَم به المُشْتَري؛ فإن البائع وإن أَخْبَر المُشتري بأنه مغشوش؛ لكنه لا يتميَّز قدر الغِشّ، ولهذا نهى العلماء عن مثل ذلك).
لا نُطِيعه في العلانية ونَعْصِيه في السِّر. فَعَلَّمَ عمر على [الباب]
(1)
، فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت، فإذا به أهل بيت عاصم هذا الأمير
(2)
المُسْتَشْهَد، والمرأة المُطيعة ابنته، فخَطَبَها وتزوَّجَها
(3)
.
وقد رُوِي أنه زوَّجها ابنه عاصم هذا، وإن كان عمر قبل ذلك تزوَّج ابنة عاصم هذا فولدت له عاصمًا ابنه، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم.
وأيضًا ففي السنن
(4)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَجِبَ ربُّنا مِنْ رَجُلَيْنِ: رجلٍ ثارَ عن وِطائِه مِن بينِ حَيِّهِ وأهله إلى صلاتِه، فيقولُ الله عز وجل لملائكتِه: انظروا إلى عبدي، ثارَ عن فِراشِهِ ووِطائِه مِن أهله وحَيِّهِ إلى صلاتِهِ، رَغْبَةً فيما عندي وشَفَقًا ممَّا عندي. ورجلٍ غَزَا في سبيلِ الله، فانْهَزَمَ مع أصحابه، فعَلِمَ ما عليه في الانهزام وما له في الرُّجُوعِ، فرجع حتى يُهرِيقَ دَمُهُ. فيقولُ اللهُ لملائكتِه: انظروا إلى عبدي رَجَعَ رَغْبةً فيما عندي وشفقًا ممَّا عندي حتى يُهرِيقَ دمه".
فهذا رجل انْهَزَمَ هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قُتِل.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله يَعْجَب منه؛ [و] عَجَبُ الله من الشيء يدلُّ
(1)
هنا بياض في الأصل.
(2)
في الأصل: "أمير المؤمنين".
(3)
انظر "طبقات ابن سعد"(5/ 331).
(4)
أخرجه أحمد (1/ 416) وأبو داود (2536) عن ابن مسعود.
على عِظَم قَدْرِه، وأنَّه لخروجه عن نظائرِه يعظم درجته ومنزلته.
وهذا يدلُّ على أن مثل هذا العمل محبوب لله مَرْضيٌّ، لا يُكتفَى فيه بمجرّد الإباحة والجواز؛ حتى يقال: وإن جاز مُقاتَلة الرجل حيث يَغْلب على ظَنِّه أنه يُقْتَل فَتَرْكُ ذلك أفضل.
بل الحديث يدلُّ على أنَّ ما فعله هذا يُحِبُّه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يُقْتَلُ فيه الرجل كثيرًا أو غالبًا، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرَّم، فإنَّه مع هذه التوبة جاهَدَ هذه المجاهدة الحسنة.
قال الله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110))
(1)
.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المُهاجِر مَن هَجَرَ ما نَهَى الله عنه"
(2)
.
فمن فَتنهُ الشيطان عن طاعة الله لمَّ هَجَرَ ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان داخلاً في هذه الآية. وقد يكون هذا في شريعتِنَا عِوضًا عمّا أُمِرَ به بنو إسرائيل في شريعتهم لما فُتِنوا بعبادة العِجْل بقوله: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)
(3)
.
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)) إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ .. )
(4)
.
(1)
سورة النحل: 110.
(2)
سبق تخريجه (ص 344).
(3)
سورة البقرة: 54.
(4)
سورة النساء: 64 - 66.
وذلك يدل على أن التائب قد يُؤمَرُ بجهادٍ تعرض به نفسه للشَّهادة.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ)
(1)
. وقد قالوا: إنَّ ما أَمَرَ به من مُصابرة الضعف
(2)
في هذه الآية ناسخٌ لما أَمَرَ به قبل ذلك من مُصابرة عشرة الأمثال.
قيل: هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المُصابرة لما زاد على الضِّعف، ليس في الآية أن ذلك لا يُسْتَحَبُّ ولا يجوز.
وأيضًا فلفظُ الآية إنما هو خبرٌ عن النَّصر مع الصَّبر، وذلك يتضمن وجوب المُصابرة للضَعف، ولا يتضمَّن سقوطَ ذلك عما زاد عن الضِّعف مطلقا، بل يقتضي أن الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه، فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون ظالمين لم يجب عليهم أن يُصابِروا أكثر من ضعفيهم، وأما إذا كانوا هم المظلومين وقتالُهم قتال وَقَعَ عن أنفسهم فقد تجب المصابرةُ كما وجبت عليهم المُصابرة يوم أُحد ويوم الخندق، مع أنَّ العدو كانوا أضعافهم. وذَمَّ الله المُنْهَزِمين يوم أُحد والمُعْرِضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران والأحزاب، بما هو ظاهر معروف.
(1)
سورة الأنفال: 65 - 66.
(2)
في الأصل: "الضعيف" تحريف.
وإذا كانت الآية لا تنفي وجوبَ المُصابرة لِمَا زاد على الضِّعفين في كل حال، فأنْ لا تنفِي الاستحبابَ [و] الجوازَ مُطلقًا أوْلَى وأحْرَى.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)
(1)
.
وإذا قاتل الرجل في موضع فغَلَبَ على ظنه أنه يُقْتَل فقد أَلْقَى بيده إلى التهلكة.
[قيل]: تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا ما زال الصحابة والأئمة يُنْكِرون على من يتأوَّل الآية على ذلك، كما ذكرنا أنَّ رجلاً حَمَلَ وحْدَه على العدو، فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر ابن الخطاب: كلَاّ ولكنه مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ)
(2)
.
وأيضًا فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي
(3)
من حديث يزيد ابِن أبي حبيب -عالمِ أهل مصرَ من التابعين- عن أسلم أبي عِمرانَ قال: غزَوْنا بالمدينة نُريدُ القُسطنطينيَّةَ وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والرُّومُ مُلصقُو ظهورهم بحائطِ المدينة، فحَمَلَ رجلٌ على العدوِّ؛ فقال الناس: لا إلهَ إلا الله! يُلْقِي بيدِه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نَزَلَتْ هذه الآية فينا معشر الأنصار، لمَّا نَصَرَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأَظْهَرَ الإسلامَ قلنا: هَلُمَّ نُقِمْ في أموالِنا ونُصلِحْها، فأنزل الله عز وجل:
(1)
سورة البقرة: 195.
(2)
سورة البقرة: 207.
(3)
أخرجه أبو داود (2512) والنسائي في الكبرى (299، 1029) والترمذي (2972).
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)
(1)
. فالإلقاءُ بالأيدي إلى التهلكة أن نُقِيمَ في أموالِنا ونُصْلِحَها ونَدَعَ الجهادَ. قال أبو عمران: فَلَمْ يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفِنَ بالقسطنطينية. قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
وأبو أيوب من أجل السابقين الأولين من الأنصار قَدْرًا، وهو الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيتِه لما قَدِمَ مهاجرًا من مكة إلى المدينة. ورَهْطُه بنو النَّجَّار هم خير دور الأنصار، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، وقَبْرُه بالقسطنطينية. قال مالك: بلغني أنَّ أهلَ القسطنطينية إذا أجدبوا كَشَفوا عن قبرِه فيَسْتَقُون.
وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدوّ مُلقيًا بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله، ضدّ ما يتوهمه هؤلاء الذين يُحَرفون كلام الله عن مواضعِه؛ فإنهم يتأوَّلون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. والآية إنما هي أمر بالجهاد في سبيل الله، ونهي عما يَصُدّ عنه.
والأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمة؛ وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) إلى قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ
(1)
سورة البقرة: 195.
(2)
أخرجه البخاري (3789 ومواضع أخرى) ومسلم (2511) عن أبي أسيد.
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)) إلى قوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195))
(1)
.
فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل الله، فلا تُناسب ما يُضادُّ ذلك من النهي عمَّا يكمل به الجهاد وإن كان فيه تعريض النَّفس للشهادة، إذ الموت لابُدَّ منه، وأفضل الموت موت الشهداء. فإن الأمر بالشيء لا يُناسب النَّهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يُضِلّ عنه؛ والمناسب لذلك ما ذُكِرَ في الآية من النَّهي عن العُدوان، فإنَّ الجهاد فيه البلاء للأعداء؛ والنُّفُوس قد لا تقف عند حدُود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، فقال:(وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)). فنَهَى عن العدوان؛ لأن ذلك أمر بالتقوى، والله مع المتقين كما قال:(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)). وإذا كان الله معهم نَصَرَهم وأَيَّدَهم على عدُوِّهم فالأمر بذلك أيسر، كما يَحْصُل مقصود الجهاد به.
وأيضًا فإنه في أول الآية قال: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وفي آخرها قال:(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)) فدل ذلك على ما رواه أبو أيوب من [أنَّ] إمساك المال والبخل عن إنفاقِهِ في سبيل الله والاشتغال به هو التهلكة.
(1)
سورة البقرة: 190 - 195.
وأيضًا فإنَّ أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلَّم فيها برأيه، وهذا من ثابت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حجَّة يجب اتباعها.
وأيضًا فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فِعْل ما نَهَى الله عنه. فإذا ترك العباد الذي أُمِرُوا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه من عِمَارة الدنيا، هلكوا في دنياهم بالذلّ وقَهْرِ العدو لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، وردِّه لهم عن دينهم، وعجْزِهم حينئذ عن العمل بالدِّين. بل وعن عِمَارة الدنيا وفُتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه. قال تعالى:(وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217))
(1)
. إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة.
فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكًا عظيمًا باستيلاء العدو عليها وتَسَلُّطه على النفوس والأموال. وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يُشاهده الناس، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار.
وأما المؤمن المجاهد فهو كما قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52))
(2)
. فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين: إما النصر والظَّفَر وإما
(1)
سورة البقرة: 217.
(2)
سورة التوبة: 52.