المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ غلط الغالط في هذا الأصل - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ بدعة القدرية والمرجئة

- ‌ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل

- ‌ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما

- ‌ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم

- ‌ يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ

- ‌ كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء

- ‌نحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ

- ‌ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل

- ‌ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ

- ‌ هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام

- ‌ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ

- ‌ لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ

- ‌التوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه

- ‌ الحلفُ بغير الله من باب الشرك

- ‌أوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ

- ‌ مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري

- ‌ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين

- ‌ فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ

- ‌المشركون أعداءُ إبراهيم

- ‌تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها

- ‌هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح

- ‌من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلَاّ بعمله فقد خرق الإجماع

- ‌ علامة الفاجر الكذبُ والفجور

- ‌ عِمارةُ المساجد بالصَّلوات الخمس وقراءةُ القرآن

- ‌ نفي الإيمان وإثباته باعتبارين:

- ‌ بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر

- ‌ حكاية مسلم بن يسار

- ‌كلُّ معبودٍ سوى الله باطل

- ‌الإمام إذا كان مُخطئًا في نفسِ الأمر كان بمنزلةِ الناسي

- ‌ غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل

- ‌ طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر

- ‌ الرسول بَيَّنَ للناسِ الأدلةَ العقليةَ

- ‌ من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجبُه النظَرُ المعقولُ

- ‌من تَركَ الجهادَ عذَّبه الله عذابًا أليمًا بالذُّلّ وغيره

- ‌أقلُّ ما يجب على المسلمين أن يُجاهِدوا عدوَّهم في كلِّ عام مرةً

- ‌ في الحركة في سبيل الله أنواعٌ من الفوائد:

- ‌ الإيمان لا يَتِمُّ إلاّ بالجِهاد

- ‌الجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة

- ‌ الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنِّه أنه يُقتل قسمان:

- ‌ الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر

- ‌أفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبرّ وأتقى

- ‌ جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين

- ‌جنس الجهاد أفضل من جنس الحج

- ‌ رَهْبانية هذه الأمة: الجهادُ في سبيل الله

- ‌إن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك، فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك

- ‌ ما أتلَفَه أهلُ البَغْي على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال، لا يَجبُ عليهم ضمانُه

- ‌ما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه

- ‌ يُجزِئ دفعُ الزكاة إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها

- ‌لهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق(1)متنوعة:

- ‌ ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به

الفصل: ‌ غلط الغالط في هذا الأصل

صلاة المأموم تَصِحُّ خلفَ إمام تجبُ عليه الإعادة؛ فخلف إمام لا تجب عليه الإعادة أولى.

وذلك أن صلاة المأموم إن لم تكن مرتبطة بصلاة الإمام، بل كلٌّ منهم يصلِّي لنفسه؛ فلا محذور. وإن كانت مرتبطة؛ فالإمام معفوٌّ عنه في موارد الاجتهاد، فصلاته أيضًا باجتهادٍ صحيحةٌ عند المأموم.

وإنما‌

‌ غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل

بحيث يَتوهَّمُ أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وليس كذلك، فإنه إذا صلى باجتهاده السائغ؛ لم يكن في هذه الحال محكومًا ببطلان عبادته، بل بصحتها، كما يُحكَم بصحة حكمه في موارد الاجتهاد حتى يُمْنَع نقضُه.

فأما فعلُ المحظورات ناسيًا فأسهل، فإن أكثر الأئمة -مثل مالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه- لا يرون الكلام في الصلاة ناسيًا يُبطِلُ الصلاة، ولا يوجب الإعادة، فالإمام إذا فعلَ محظورًا متأولاً؛ فالمخطئ كالناسي. وإذا لم تجب الإعادة عليه فكيف لا يصح الائتمامُ به؟

= هذا الدعاء كما في حديث ابن عباس الذي رواه مسلم (125، 126).

وأخرج ابن ماجه (2045) عن ابن عباس مرفوعَا: "إنّ الله وضعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرِهوا عليه". وقد رُوِي من طرقٍ، وأعلَّه أحمد وأبو حاتم. انظر تفسير ابن كثير (2/ 677).

ص: 276

وقد روى البخاري في صحيحه

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم". وهذا نص صريح في أنّ الإمام إذا أخطأ كان خطؤُه عليه لا على المأموم، والمجتهد غايتُه أن يكون أخطأ بتَرْكِ واجب اعتقدَ أنه ليس واجبًا، أو فِعْلِ محظورٍ اعتقدَ أنه ليس محظورًا. ولا يَحِلُّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالفَ هذا الحديثَ الصحيح الصريحَ بعدَ أن يَبلُغَه.

وقد روى الإمام أحمد

(2)

وأبو داود

(3)

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أمَّ الناسَ فأصابَ الوقتَ وأتمَّ الصلاةَ فله ولهم، ومن انتقصَ من ذلك شيئًا فعليه ولا عليهم".

وروى ابن ماجه

(4)

عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإمام ضامنٌ، فإن أحسنَ فله ولهم، وإن أساءَ - يعني: فعليه ولا عليهم".

وهذه السنة الصحيحة الصريحة قد اتصلَ بها الإجماعُ القديمُ، وعُمِلَ بها زمنَ القرون الثلاثة الفاضلة في جميع الأمصار، فإنه قد كان في عهد الصحابة من يقرأ البسملةَ سرًّا، ومن يقرأ بها جهرًا،

(1)

برقم (694).

(2)

4/ 145، 154، 156، 201.

(3)

برقم (580). ورواه أيضًا ابن خزيمة (1513) وابن ماجه (983).

(4)

برقم (981).

ص: 277

ومن لا يَقرأ بها سرًّا ولا جهرًا، وكلٌّ منهم يُصلِّي خلفَ الآخر وإن كان يُرجِّح قولَه.

ومن أجودِ ما احتجَّ به من يَرى الجهرَ بالبسملة حديثُ معاوية

(1)

، لما قَدِمَ المدينةَ فتَرك قراءةَ البسملة في الركعة الأولى في أولِ الفاتحة وأولِ السورة، حتى هَتَفَ به الصحابةُ فقرأها في الركعة الثانية. وقد اعتمد الشافعي على هذا الأثر في "الأم"، وفيه إجماع أولئك الصحابة على الصَّلاةِ خلفَه وإن كان قد تركَ ذلك، وإن كانوا قد أنكروا تركَه.

ومن قال من المتفقهة أتباعِ المذاهب: إنه لا يَصِحُّ اقتداؤه بمن يخالفُه إذا فَعَلَ أو ترك شيئًا يقدح في الصلاة عند المأموم؛ فقَوْدُ مقالتِه يُوقِعُه في مذاهب أهل الفرقة والبدعة، من الروافض والمعتزلة والخوارج، الذين فارقوا السنة، ودخلوا في الفرقة والبدعة.

ولهذا آل الأمرُ ببعض الضالّين إلى أنه لا يُصلِّي خلفَ من يَرفَعُ يديه في المواطن الثلاثة، والآخر لا يرى الصلاة خلفَ من ترك الرفعَ أول مرة، وآخر لا يصلي خلف من يتوضأ من المياه القليلة، وآخر لا يصلي خلف من لا يتحرز من يسير النجاسة المعفو عنها عنده، إلى أمثال هذه الضلالات التي توجب أيضًا أن لا يُصلِّي أهلُ

(1)

أخرجه الشافعي في "المسند"(1/ 74) و"الأم"(1/ 94) والحاكم في "المستدرك"(1/ 233) عن أنس بهذا. ورواه الشافعي أيضًا من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه بهذا الخبر.

ص: 278

المذهب الواحد بعضُهم خلف بعض، ولا يُصلِّي التلميذ خلف أستاذه، ولا يصلي أبو بكر خلف عمر، ولا عليٌّ خلف عثمان، ولا يصلِّي المهاجرون والأنصار بعضُهم خلف بعض.

ولا يخفى على مسلمٍ أن هذه من مذاهب أهل الضلال، وإن غَلِطَ فيها بعضُ الناس. فهذه الفتوى لا تحتمل بسطَ هذا الأصل العظيم الذي هو جماع الدين.

والواجب على ولاة الأمور المنعُ من هذه البدع المُضِلَّة، وتأديب من يُظهِر شيئًا من هذه المقالات المنكرة، وإن غلط فيها غالطون، فموارد النزاع إذا كان في إظهارها فساد عام؛ عُوقِبَ مَن يُظهِرها، كما يُعاقَب من يشرب النبيذ متأولاً، وكما يُعاقَب البغاةُ المتأولون، لكفِّ الجماعة، وان الناس

(1)

بعضهم عن البعض.

وهذه الأصول الثلاثة التي يشتمل عليها هذا الواجب: (أن موارد الاجتهاد معفوّ فيها عن الأئمة، وأن الاجتماع والائتلاف مما تجب رعايته، وأن عقوباتِ المعتدين متعينة) هي من أجلِّ أصول الإسلام.

وقد أخرجا في الصحيحين

(2)

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عامَ الخندق: "لا يُصلِّينَّ أحدٌ

(1)

كذا في الأصل.

(2)

البخاري (946، 4119). ورواه مسلم (1770) بلفظ: "لا يُصلينّ أحدٌ الظهرَ إلاّ في قريظة". انظر كلام الحافظ عليه في "الفتح"(7/ 408 - 409).

ص: 279

العصرَ إلاّ في بني قريظةَ"، فأدركتْهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلِّي إلاّ في بني قريظةَ، فصَلَّوا بعد الغروب، وقال آخرون: لم يُرِد منّا توقيتَ الصلاة، فصلَّوا في الطريق. فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فلم يَعِبْ على واحدةٍ من الطائفتين. فقد أقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهادهم في حياتِه، فبعدَ وفاتِه أولى وأحرى. والحمد لله وحدَه.

(تمت الفُتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي الشافعي، غَفَر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين).

ص: 280

رسالة إلى السلطان الملك المؤيَّد

ص: 281

بسم الله الرحمن الرحيم

من أحمد بن تيمية إلى المولى السيِّد السلطانِ الملكِ المؤيَّد، أيده الله بتكميل القوتينِ النظريةِ والعلميةِ، حتى يُبلِّغَه أعلى مراتب السعادةِ الدنيويةِ والأخرويةِ، ويجعلَه ممن أتمَّ عليهِ نِعَمَه الباطنَةَ والظاهرة، وأعطاه غايةَ المطالب الحميدةِ في الدنيا والآخرة، وجعلَه معَ الذين أنعمَ عليهم من النبيين والصدِّيقينَ والشهداءِ والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

ففي الهُدَى كمالُ القوةِ العلمية، وفي الرَّشادِ كمالُ القوة العملية، وبهما أخبرَ أنه أرسلَ رسولَه حيثُ قال:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28))

(1)

.

فالهدى يتضمنُ كمالَ القوة العلمية، ودينُ الحق يتضمنُ كمالَ القوةِ العملية.

وقد نزهه عن ضدِّ ذلك في مثلِ قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4))

(2)

.

فنزَّهَه عن "الضلالِ" المناقضِ للهدى، وهو النقص في القوة العلمية، وعن "الغَيّ" المناقضِ للرشاد، وهو النقص في القوة العملية.

(1)

سورة التوبة: 33، سورة الفتح: 28، سورة الصف:9.

(2)

سورة النجم: 1 - 4.

ص: 283

ثم أخبرَ بكمالِه فيهما بقوله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)) وهو هَوى النفس المُفسِدُ للقوة العملية، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) وهو أعلى مراتبِ إعلامِ اللهِ لعبادِه، وإن كان أهلُه متفاضلين فيه.

فكمال التنزُّهِ عن الخطأ للأنبياء صلواتُ الله عليهم وسلامُه، وهم فيه متفاضلون، كما قال تعالى:(وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ)

(1)

، وقال تعالى:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)

(2)

.

وقد استوعبَ سبحانَه أنواعَ جنسِ تكليمه لعباده في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)

(3)

، فجعل ذلك ثلاثة أنواع:

الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء يَقَظَةً ومنامًا، فإنّ رؤيا الأنبياءِ وحي.

والتكليم من وراءِ حجاب، كما كلَّمَ موسَى بن عمرانَ حيثُ نادا وقَرَّبَه نَجِيًّا.

والتكليم بإرسال رسول يُوحي بإذنِه ما يشاءُ هو تكليمُه بواسطةِ إرسال الملَكِ، كما قال تعالى:(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18))

(4)

، أي علينا أن نجمعَه في قلبك، ثمَّ علينا أن نقرأه

(1)

سورة الإسراء: 55.

(2)

سورة البقرة: 253.

(3)

سورة الشورى: 51.

(4)

سورة القيامة: 17 - 18.

ص: 284

بلسانك. وهذا على أظهر القولين، وهو أن "قَرَأ" بالهمزة من الظهور والبيان، وقولهم: مَا قَرَأَتِ الناقةُ بسَلَا جَزُوْرٍ قَطُّ، أي ما أَظهرتْه، بخلاف "قَرَى يَقْرِيْ" فإنه من الجَمع، ومنه سُمِّيتِ القريةُ قريةً، والمَقْرَاةُ مُجتمع الماء.

فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) أي قرأناه بواسطةِ جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18)). وهذا كقوله تعالى: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ)

(1)

، وإنما ذلك بتوسُّط قراءةِ جبريلَ وتلاوته، كقوله:(أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ)

(2)

. فإنّ هذا قد جعله سبحانَه أحدَ أنواع الجنس العامّ المقسوم، وهو تكليمُ الله لعبادِه، ولهذا قال عُبادةُ بن الصامت: رؤيا المؤمنِ كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في منامِه.

وأدنَى مراتب ذلك الوحي المشترك: الذي يكون لغير الأنبياء، كقوله:(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)

(3)

، وقوله:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)

(4)

.

وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجَه في النبوة من الفلاسفةِ مَن أدرجَه، كابن سِينا وأمثالِه، فإنّ أرسطو وأتباعَه القدماءَ ليس لهم في النبوةِ كلامٌ، إذْ كان أرسطو هو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني

(1)

سورة القصص: 3.

(2)

سورة الشورى: 51.

(3)

سورة المائدة: 111.

(4)

سورة القصص: 7.

ص: 285

الذي يُؤَرَّخ له التاريخ الرومي، وبه يُؤَرِّخ كثير من اليهودِ والنصارى، وكان قبل المسيح عليه السلام بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ. وبعدَ المسيح بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ كان قُسْطَنْطِينُ الذي أقامَ دينَ النصارى بالسيف، وفي عهدِه أحدثوا الأمانةَ وتعظيمَ الصليب واستحلالَ الخنزير والقولَ بالتثليثِ والأقانيمِ بمَجْمَعِهِم الأوّل المسَمَّى بمجمعِ نِيْقِيَة.

وهذا الإسكندر المقدوني هو الذي ذهبَ إلى أرضِ الفُرْسِ وغَيَّر ممالِكَهم، وليس هو ذا القَرنين المذكور في القرآن، الذي بَنَى سَدَّ يأجوجَ ومأجوجَ، فإنّ هذا كانَ متقدمًا على ذلك، وكان موحدًا مسلمًا.

والمقدوني لم يَصِل إلى تلك الأرض، وكان هو وقومُه مشركين يعبدون الهياكلَ العُلْوِيةَ والأصنامَ الأرضيةَ، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلتْ إليهم دعوةُ المسيحِ عليه الصلاة والسلام، فأسلمَ منهم من أسلمَ، وكانوا متبعينَ لدينِ المسيحِ الحقِّ، إلى أنْ بُدِّلَ منه ما بُدِّلَ.

وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائرِ البحر، لم يَصِلْ إليهم من أخبار إبراهيم وآل إبراهيم -كموسى بن عمران وغيرِه- ما عَرَفوا به حقيقةَ النبوة، ولهذا كان أرسطو أوَّلَ من قالَ بقِدَمِ الأفلاكِ من هؤلاء، بخلافِ مَن قبلَه كأفلاطونَ وشيخِه سُقراطَ، وشيخِ سقراط فيثاغورسَ، وشيخ فيثاغورسَ انبدقلس، فإنّ هؤلاء كانوا يقولون بحدوث صورة الفلك، ولهم في المبادئ كلام طويل قد بَسطناهُ في الكتاب الكبير

(1)

الذي ذكرنا فيه مقالاتِ العالَم في مسألة

(1)

لعله يقصد به "درء تعارض العقل والنقل"، فقد أطال فيه الكلام على مسألة حدوث العالم والردّ على حجج الرازي، وخاصة في المجلدين الثاني والثالث منه.

ص: 286

حدوثِ العالم وقِدَمِه، فإنها منشأُ نزاع الأولين والآخرين في أقوالِ الربّ وأفعالِه، وعنها تنازعَ أهلُ المللَ من المسلمين وأهلِ الكتاب في كلام الربّ: هل هو قديمُ النوع أو العينِ؟ وهل هو قائمٌ به أو مباينٌ لهَ؟ وهل يتكلمُ بقدرته ومشيئتِه أو هو لازمٌ له لزومَ الحياة؟

وكذلك تنازعوا في دوامِ الحدوثِ ووجودِ ما لا يتناهَى منها في الماضي والمستقبلِ: هل هو ممتنعٌ في الماضي والمستقبل؟ كما يقوله الجهمُ وأبو الهذيل، أو هو جائز في المستقبل ممتنعٌ في الماضي؟ كما يقوله كثير من المتكلمين، أم هو جائز فيهما، كما يقوله أئمةُ أهلِ الملل وأئمة الفلاسفة، لكنَّ أئمةَ أهلِ المللِ لا يُجوِّزون ذلك إلا في قديم واحدٍ، لا يُجوزون أن يكون شيئانِ كل منهما قديم أزليّ يقومُ به حوادثُ لا بدايةَ لها ولا نهايةَ، فيكون ما لا يتناهَى لا في الماضي ولا في المستقبل قابلاً لأن يُزادَ عليه.

وهذا المحالُ إنما يَلْزَمُ مَن قال بقِدَمِ الأفلاك، وأما أئمة أهلِ السنة -كالصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ومَن سَلَك سبيلَهم من أئمة المسلمين- فهؤلاءِ أَتَوا بخلاصةِ المعقولِ والمنقول، إذْ كانوا عالمين بأنَّ كلاًّ من الأدلة السمعية والعقلية حق، وأنَّها متلازمةٌ، فمن أعطَى الأدلةَ العقليةَ اليقينية حَقَّها من النظرِ التام عَلِمَ أنها موافِقة لِمَا أخبرتْ به الرسُلُ، ودَلتْهُ على وجوب تصديقِ الرسُل فيما أخبروا به. ومَن أعطَى الأدلَّةَ السمعيةَ حقَّها مَن الفهم عَلِمَ أنَّ اللهَ أرشدَ عِبادَه في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية، التي بها يُعلَم وجودُ الخالقِ وثبوتُ صَفاتِ الكمالِ له، وتنزُّهُه عن النقائصِ وعن أن يكون له مِثْل في شيء من صفاتِ الكمال، و [التي تَدُلُّ] على

ص: 287