المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ بدعة القدرية والمرجئة

- ‌ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل

- ‌ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما

- ‌ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم

- ‌ يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ

- ‌ كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء

- ‌نحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ

- ‌ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل

- ‌ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ

- ‌ هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام

- ‌ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ

- ‌ لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ

- ‌التوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه

- ‌ الحلفُ بغير الله من باب الشرك

- ‌أوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ

- ‌ مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري

- ‌ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين

- ‌ فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ

- ‌المشركون أعداءُ إبراهيم

- ‌تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها

- ‌هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح

- ‌من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلَاّ بعمله فقد خرق الإجماع

- ‌ علامة الفاجر الكذبُ والفجور

- ‌ عِمارةُ المساجد بالصَّلوات الخمس وقراءةُ القرآن

- ‌ نفي الإيمان وإثباته باعتبارين:

- ‌ بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر

- ‌ حكاية مسلم بن يسار

- ‌كلُّ معبودٍ سوى الله باطل

- ‌الإمام إذا كان مُخطئًا في نفسِ الأمر كان بمنزلةِ الناسي

- ‌ غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل

- ‌ طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر

- ‌ الرسول بَيَّنَ للناسِ الأدلةَ العقليةَ

- ‌ من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجبُه النظَرُ المعقولُ

- ‌من تَركَ الجهادَ عذَّبه الله عذابًا أليمًا بالذُّلّ وغيره

- ‌أقلُّ ما يجب على المسلمين أن يُجاهِدوا عدوَّهم في كلِّ عام مرةً

- ‌ في الحركة في سبيل الله أنواعٌ من الفوائد:

- ‌ الإيمان لا يَتِمُّ إلاّ بالجِهاد

- ‌الجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة

- ‌ الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنِّه أنه يُقتل قسمان:

- ‌ الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر

- ‌أفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبرّ وأتقى

- ‌ جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين

- ‌جنس الجهاد أفضل من جنس الحج

- ‌ رَهْبانية هذه الأمة: الجهادُ في سبيل الله

- ‌إن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك، فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك

- ‌ ما أتلَفَه أهلُ البَغْي على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال، لا يَجبُ عليهم ضمانُه

- ‌ما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه

- ‌ يُجزِئ دفعُ الزكاة إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها

- ‌لهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق(1)متنوعة:

- ‌ ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به

الفصل: ‌ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين

وهذا يزيد الذي وُلد في خلافة عثمان هو الذي تولّى الملك بعد أبيه معاوية، وهو الذي قُتِل الحسينُ في خلافته، وهو الذي جرى بينه وبين أهل الحرّة ما جرىَ. و‌

‌ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين

المهديين، بل هو خليفةٌ من الخلفاء الذين تولَّوا بعد الخلفاء الراشدين، كأمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس.

وهؤلاء الخلفاء لم يكنْ فيهم مَنْ هو كافر، بل كلهم كانوا مسلمين، ولكن لهم حَسَنات وسَيئات، كما لأكثر المسلمين، وفيهم مَنْ هو خير وأحسنُ سيرةً من غيره، كما كان سليمانُ بن عبد الملك الذي وَلّى عمر بن عبد العزيز الخلافة من بني أمية، والمهديُّ والمُهْتَدي، وغيرُهما من خلفاء بني العباس، وفيهم مَنْ كان أعظم تأييدًا وسلطانًا، وأقهرَ لأعدائه من غيره، كما كان عبدُ الملك والمنصورُ.

وأما عمرُ بن عبد العزيز فهو أفضل من هؤلاء كلهم عند المسلمين، حتى كان غيرُ واحد من العلماء كسُفيان الثَّورِيّ وغيره يقولون: الخلفاءُ خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمرُ ابن عبد العزيز. وإذا قيل:"سيرة العمرين" فقد قال أحمد بن حنبل وغيرُه: العُمران عمرُ بن الخطاب وعمرُ بن عبد العزيز. وأنكر أحمد على من قال: العمران أبو بكر وعمر.

وكان عمر بن عبد العزيز قد أحيا السُنَّة، وأمات البدعة، ونشر العدل، وقَمَعَ الظَّلَمَة مِنْ أهل بيته وغيرهم، وردَّ المظالم التي كان الحجاجُ بن يوسف وغيرُه ظلموها للمسلمين، وقمع أهلَ البدع - كالذين كانوا يسبّون عليًّا، وكالخوارج الذي كانوا يكفّرون عليا

ص: 146

وعثمان ومَن والاهما، وكالقدرية مثل غيلان القَدَريّ وغيره، وكالشيعة الذين كانوا يثيرون الفتن- بعلمه ودينه وعدله.

وأما غيره من الخلفاء فلم يبلغوا في العلم والدين والعدل مبلغه، ولكن كانوا مسلمين باطنًا وظاهرًا، لم يكونوا معروفين بكفرٍ ولا نِفاقٍ، وكان لهم حسناتُ كما لهم سيئات. وكثير منهم أو أكثرُهم له حسناتٌ يرحمُه الله بها، وتترجح على سيئاته، ومقاديرُ ذلك على التحقيق لا يعلمه إلاّ الله.

ويزيدُ هذا الذي ولي الملك هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية. وقد روى البخاري في "صحيحه"

(1)

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ له".

ومَن قال إنَّ يزيد هذا كان من الصحابة فهو كاذب مُفْتَرٍ، يُعَرَّفُ أنه لم يكن من الصحابة، فإن أصرَّ على ذلك عوقب عقوبةً تردعُه.

وأما من قال إنه كان من الأنبياء فإنه كافر مرتدٌّ يُستتاب، فإن تابَ وإلا قُتل.

ومَن جعله من الخلفاء الراشدين المهديين فهو أيضًا ضالٌّ مُبْتَدِعٌ كاذب.

ومَن قال أيضًا إنه كان كافرًا، أو إنَّ أباه معاوية كان كافرًا،

(1)

برقم (2924) عن أم حَرام بنت ملحان لا ابن عمر.

ص: 147

وإنه قتل الحسينَ تشفّيًا وأخذًا بثأر أقاربه من الكفار فهو أيضًا كاذبٌ مفترٍ، ومَن قال إنه تمثل لما أُتي برأس الحسين:

لمّا بدتْ تلك الحمولُ وأَشْرَفَتْ

تلكَ الرؤوسُ على رُبى جَيْرونِ

نَعَقَ الغُرابُ فقلتُ نُحْ أو لا تَنُح

فَلَقَدْ قضيْتُ مِنَ النَّبيّ دُيوني

(1)

أو "من الحسين ديوني".

والديوان الشعري الذي يُعزى إليه عامته كذب، وأعداءُ الإسلام كاليهود وغيرهم يكتبونه للقدح في الإسلام، ويذكرون فيه ما هو كذب ظاهر، كقولهم إنه أنشد

(2)

:

ليْتَ أَشْياخي ببَدْرٍ شَهِدُوا

جَزَعَ الخزْرجَ مِنْ وَقْعِ الأسَلْ

قَدْ قَتَلْنا الكَبْشَ مِنْ أَقْرَانِهم

وَعَدلْناهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ

وأنه تمثل بهذا ليالي الحرّة فهذا كذب.

وهذا الشعر لعبد الله بن الزّبَعْرَى أنشده عام أُحُدٍ لما قتل المشركون حمزة، وكان كافرًا ثم أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامُه، وقال أبياتًا يذكر فيها إسلامه وتوبته.

(1)

الشعر ليزيد في "تذكرة الخواص" لسبط ابن الجوزي (ص 261) والمصادر الشيعية، ولا شك أنه كذبٌ عليه.

(2)

ذكر ذلك محمد بن حميد الرازي وهو شيعي، ونقله عنه ابن الجوزي في "المنتظم"(5/ 343) وابن كثير في "البداية والنهاية"(11/ 558). والبيتان من قصيدة لعبد الله بن الزبعري في سيرة ابن هشام (2/ 136 - 137).

ص: 148

فلا يجوز أن يُغْلَى لا في يزيد ولا غيره، بل لا يجوز أن يتكلم في أحدٍ إلا بعلم وعدل.

ومن قال: إنه إمام ابنُ إمام، فإن أراد بذلك أنه تولّى الخلافة كما تولاها سائر خلفاء بني أمية والعباس فهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يوجب مدحَه وتعظيمَه، والثناء عليه وتقديمه، فليس كلُّ مَن تولّى أنه كان من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، فمجرّدُ الولاية على الناس لا يُمدحُ بها الإنسانُ ولا يستحقُّ على ذلك الثواب، وإنما يُمدحُ ويثابُ على ما يفعلُه من العدل والصدق، والأمرِ بالمعروف والنهْي عن المنكر، والجهاد وإقامة الحدودِ، كما يُذمُّ ويُعاقَبُ على ما يفعلُه من الظلم والكذب والأمرِ بالمنكر والنهْي عن المعروف وتعطيلِ الحدودِ، وتضييع الحقَوق، وتعطيلِ الجهاد.

وقد سُئل أحمد بن حنبل، عن يزيد أيُكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، أليس هو الذي فعل بأهل الحرَّة ما فعل؟

وقال له ابنه: إنَّ قومًا يقولون إنا نحب يزيد. فقال: هل يحبّ يزيد أحد فيه خير؟ فقال له: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟

ومع هذا فيزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولا حُمِلَ رأسه إلى بين يديه، ولا نكتَ بالقضيب على ثناياه، بل الذي جرى هذا منه هو عبيدُ الله بن زياد، كما ثبت ذلك في "صحيح البخاري"

(1)

، ولا طِيْفَ برأسه

(1)

برقم (3748) عن أنس.

ص: 149

في الدنيا، ولا سُبي أحد من أهل الحسين، بل الشيعة كتبوا إليه وغرّوه، فأشار عليه أهلُ العلم والنُّصْحِ بأن لا يقبلَ منهم، فأرسل ابنَ عمه مسلم بن عقيل، فرجع أكثرُهم عن كتبهم، حتى قُتل ابن عمه، ثم خرج منهم عسكر مع عمر بن سعد حتى قتلوا الحسين مظلومًا شهيدًا، أكرمه الله بالشهادة كما أكرم بها أباه وغيره من سلفه سادات المسلمين.

وكان بالعراق طائفتان: طائفة من النواصب تُبغِضُ عليًّا وتشتمه، وكان منهم الحجاج بن يوسف، وطائفة من الشيعة تُظهِر موالاة أهل البيت منهم المختارُ بن أبي عبيد الثقفي. وقد ثبتَ في "صحيح مسلم"

(1)

عن أسماء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سيكون في ثقيف كذّابٌ ومُبير" فكان الكذّاب هو المختارُ بن أبي عبيد الثقفي، والمبير هو الحجاجُ بن يوسف الثقفي.

وكان المختارُ أظهرَ أولاً التشيّعَ والانتصارَ للحسين، حتى قَتل الأمير الذي أمَرَ بقتل الحسين وأحضر رأسه إليه، ونكتَ بالقضيب على ثناياه: عُبيد الله بن زياد.

ثم أظهر أنه يوحى إليه، وأنّ جبريل يأتيه، حتى بعث ابنُ الزبير إليه أخاه مُصعبًا فقتله، وقتل خَلْقًا من أصحابه. ثم جاء عبد الملك ابن مروان فقتل مصعب بن الزبير. فصار النواصبُ والروافض في يوم عاشوراءَ حزبيْن، هؤلاء يتخذونه يوم مأتم ونَدْبٍ ونياحة،

(1)

برقم (2545).

ص: 150

وهؤلاء يتخذونه يوم عيدٍ وفرح وسرور. وكلّ ذلك بدعة وضلالة.

وقد ثبت في الصحيح

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".

وروى الإمام أحمد

(2)

عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"ما من مسلمِ يُصابُ بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدُمَتْ فيُحْدِثُ لها استرجاعًا إلا أعطاه من الأجر مثل أجره يوم أُصيب بها".

فدلّ هذا الحديث الذي رواه الحسين على أنّ المصيبة إذا ذُكِرتْ وإن قَدُم عهدُها فالسنّة أن يُسترجع فيها، وإذا كانت السنة الاسترجاع عند حدوث العهد بها فمع تقدّم العهد أولى وأحرى.

وقد قُتل غيرُ واحدٍ من الأنبياء والصحابة والصالحين مظلومًا شهيدًا، وليس في دين المسلمين أن يجعلوا يوم قتل أحدهم مأتمًا، وكذلك اتخاذُه عيدًا بدعة. وكلُّ ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء غير صومه فهو كذب

(3)

، مثل ما يُروى في الاغتسال يوم عاشوراء، والاكتحال، وصلاة يوم عاشوراء، ومثل ما يُروى:"مَن وسّع على أهله يوم عاشوراء وَسّع الله عليه سائر سنته"

(4)

. قال أحمد

(1)

أخرجه البخاري (1294، 1297، 1298، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود.

(2)

1/ 201. ورواه أيضًا ابن ماجه (1600).

(3)

انظر "جامع المسائل"(3/ 94 - 95) و"مجموع الفتاوى"(25/ 299 وما بعدها).

(4)

أخرجه البيهقي في "الشعب"(7/ 375) وابن عبد البر في "الاستذكار"(10/ 140) =

ص: 151

ابن حنبل: لا أصلَ لهذا الحديث. وكذلك طبخ طعام جديد فيه الحبوبُ أو غيرُها، أو ادّخارُ لحم الأضحية حتى يُطبخ به يوم عاشوراء.

كلُّ هذا من بدع النواصب، كما أن الأول من بدع الروافض.

وأهلُ السنّة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان، يتولّون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ويعرفون حقوق الصحابة وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسولُه، فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحاح

(1)

من غير وجهٍ أنه قال: "خيرُ القرون القرنُ الذي بُعِثتُ فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

وثبت عنه في الصحيحين

(2)

أنه قال: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه".

وثبت عنه في "صحيح" مسلم

(3)

عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ بغدير يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، وذلك منصرفَه

= عن جابر. قال الحافظ ابن حجر: هذا حديث منكر جدًّا. أنظر "اللآلئ المصنوعة"(2/ 63). وتكلم المؤلف عليه في "مجموع الفتاوى"(25/ 300 وما بعدها)، ونقل كلام أحمد في "منهاج السنة"(7/ 39).

(1)

أخرجه البخاري (2652، 3651، 6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651، 4628، 6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين.

(2)

البخاري (3673) ومسلم (2541) عن أبي سعيد، ومسلم (2540) عن أبي هريرة.

(3)

برقم (2408).

ص: 152

من حجّةِ الوداع. فقال: "يا أيها الناس! إني تاركٌ فيكم الثقَلَيْن أحدهما كتاب الله". فذكر كتاب الله وحضّ عليه، ثم قال:"وأهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بَيتي، أُذكّركُم الله في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: مَنْ أهلُ بيته؟ قال: الذين حُرِموا الصدقة: آل عليّ، وآل العبّاس، وآل جعفر، وآل عقيل. قيل له: كلُّ هؤلاء من أهل بيته؟ قال: نعم.

وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أنّ يزيد بن معاوية الذي تولّى على المسلمين بعد أبيه لم يكن من الصحابة، بل وُلد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ولكن عمّه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة، وهو من خيار طبقته من الصحابة، لا يُعرف له في الإسلام ما يُذَمُّ عليه، بل هو عند المسلمين خير من أبيه أبي سفيان، ومن أخيه معاوية. ولما مات يزيد بن أبي سفيان ولّى عمرُ أخاه معاوية مكانه، ثم بَقي متوليًّا خلافة عمر وعثمان، ثم لما قُتل عثمان وقعت الفتنةُ المشهورةُ.

وكان عليٌّ ومَنْ معه أولى بالحقّ مِنْ معاوية ومَنْ معه. كما ثبت في الصحيح

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تَمرقُ مارقةٌ على حينِ فُرْقَةٍ من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين". فمرقت الخوارج لما حصلت الفُرْقة، فقتلهم عليٌّ وأصحابه. فدلَّ على أنهم كانوا أولى بالحق

(1)

مسلم (1065) عن أبي سعيد.

ص: 153

من معاوية وأصحابه.

ثم لما قُتل عليّ وصالَحَ الحسنُ معاوية، وسلّم إليه الخلافة كان هذا من فضائل الحسن التي ظهر بها ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري

(1)

عن أبي بكرة قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ للحسن: "إن ابني هذا سيّد، وسيُصْلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".

ومات الحسن في أثناء مُلْكِ معاوية.

ثم لما مات معاويةُ تولّى ابنُه يزيد هذا، وجرى بعد موت معاوية من الفتن والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قال:"سيكون نبوّة ورحمة، ثم يكون خلافةُ نبوةٍ ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك عضوض"

(2)

.

فكانت نبوّةُ النبي صلى الله عليه وسلم نبوّة ورحمة، وكانت خلافةُ الخلفاء الراشدين خلافةَ نبوّةٍ ورحمة، وكانت إمارةُ معاوية مُلكًا ورحمة، وبعده وقع مُلكٌ عَضُوض.

وكان عليّ بن أبي طالب لما رجع من صِفّين يقول: لا تسبّوا معاوية، فلو قد مات معاوية لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها.

وكان كما ذكره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

(1)

برقم (3746).

(2)

أخرجه أحمد (4/ 273) والبزار في مسنده (1588) عن النعمان بن بشير.

وصححه الألباني في "الصحيحة"(5).

ص: 154

وقد روى مسلم في "صحيحه"

(1)

عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "النجومُ أمَنَة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمَنَة لأصحابي، فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أمَنَة لأمتي فإذا ذهبتْ أصحابي أتى أمتي ما يوعَدون".

وكان كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فإنّه لمّا توفي ارتدّ كثير من الناس، بل أكثر أهل البوادي ارتدّوا، وثبتَ على الإسلام أهلُ المدينة ومكة والطائف، وهي أمصار الحجاز التي كان لكل مصر طاغوت يعبدونه من الطواغيت الثلاثة المذكورة في قوله:(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22))

(2)

.

فكانت اللاّت لأهل الطائف، والعُزى لأهل مكة، ومَنَاةُ لأهل المدينة، حتى أذهب اللهُ ذلك وغيرَه من الشرك برسوله صلى الله عليه وسلم، فلما ارتدّ مَن ارتدّ عن الإسلام وقَعَ في أكثر المسلمين خوف وضَعْف، فأتاهم ما يُوعَدون، فأقام الله أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه وجعل فيه من الإيمان واليقين، والقوّةِ والتأييد، والعلمِ والشجاعة، ما ثبَّتَ الله به الإسلامَ، وقمع به المرتدّين، حتى عادوا كلهم إلى الإسلام، وقتل اللهُ مُسَيْلِمةَ الكذّاب المتنبي المدّعي للنبوة، وأقر جاحدو الزكاة بها.

ثم شرع في قتال فارس والروم: المجوس والنصارى، ففتح

(1)

برقم (2531).

(2)

سورة النجم: 19 - 22.

ص: 155

الله بعضَ الفتوح في خلافته.

ثم انتشرت الفتوحُ والمغازي في خلافة عمر بن الخطاب، ففي خلافته فُتحت الشام كلها، ومصر، والعراق، وبعض خراسان.

ثم فُتحت بعض المغرب وتمام خراسان وقبرص وغيرُها في خلافة عثمان.

ثم لما قُتل كان المسلمون مشتغلين بالفتنة، فلم يتفرغوا لقتال الكفّار وفتح بلادهم، بل استطال بعضُ الكفّار عليهم حتى احتاجوا إلى مداراتهم، وبذلوا لبعضهم مالاً. ولما اجتمعوا فتحوا في خلافة معاوية ما كان قد بقي مِن أرض الشام وغيرها. وكان معاوية أوّلَ الملوك. وكانت [ولايتُه] ولايةَ ملكٍ ورحمةٍ.

فلما ذهبت إمارة معاوية كثرت الفتن بين الأمة، ومات سنة ستين، وكان قد مات قبله عائشةُ والحسنُ وسعدُ بن أبي وقّاص وأبو هُريرة وزيدُ بن ثابت وغيرُهم من أعيان الصحابة، ثم بعده مات ابنُ عمر وابنُ عباس وأبو سعيد وغيرُهم من علماء الصحابة.

فحَدَثَ بعد الصحابة من البدع والفتنِ ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

وكان المسلمون لمَّا كانوا مجتمعين في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن لأهلِ البدع والفجورِ ظهور، فلما قُتلَ عثمان وتفرّق الناسُ ظهرَ أهلُ البدع والفَجور، وحينئذ ظهرتِ الخوارجُ، فكفَّروا عليَّ بن أبي طالب وعَثمانَ بن عفان ومن والاهما حتى قاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب طاعةً لله ورسوله وجهادًا في سبيله.

ص: 156

واتّفق الصحابةُ على قتالهم، لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في الجَمَلِ وصِفّين. وقد صحّ الحديثُ فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام أحمد بن حنبل من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري حديثهم من غير وجهٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وحدثَتْ أيضًا الشيعةُ، منهم مَنْ يفضل عليًّا على أبي بكر وعمر، ومنهم من يعتقد أنّه كان إمامًا معصومًا نصّ النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته، وأنّ الخلفاء والمسلمين ظلموه، وغاليتُهم يعتقدون أنّه إله أو نبيّ، والغاليةُ كفّار باتفاق المسلمين، فمن اعتقد في نبيٍّ من الأنبياء كالمسيح أنه إله، أو في أحدٍ من الصحابة كعليّ بن أبي طالب، أو في أحدٍ من المشايخ كالشيخ عَدِيّ أنّه إله، أو جعل فيه شيئًا من خصائص الإلهية فإنه كافرٌ يستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل.

وقد عاقب عليّ بن أبي طالب طوائف الشيعة الثلاثة فإنه حرق الغالية الذين اعتقدوا إلهيّته بالنار، وطَلَبَ قَتْلَ ابن سبإٍ لما بلغه أنّه يسبّ أبا بكر وعمر فهربَ منه. وروي عنه أنه قال: لا أُؤتَى بأحدٍ يُفضّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدتُه حدَّ المفتري

(2)

. وقد تواتر عنه أنه قال: خيرُ هذه الأمَّة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر

(3)

. ولهذا كان

(1)

جمع ابن كثير في "البداية والنهاية"(10/ 592 - 631) هذه الأحاديث وطرقها، وبيّن من خرجها من الأئمة بإسانيدهم.

(2)

أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة"(1/ 83).

(3)

قال المؤلف في "منهاج السنة"(1/ 308): "رُوِي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجها، ورواه البخاري وغيره". وهو عند البخاري برقم (3671) عن محمد بن الحنفية عن علي.

ص: 157

أصحابه الشيعة متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر عليه.

ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت المرجئة والقدريَّة، ثم في أواخر عصر التابعين حدثت الجهميَّة، فإنما ظهرت البدع والفتن لما خفيت آثار الصحابة. فإنهم خير قرون هذه الأمة وأفضلها، رضي الله عنهم وأرضاهم.

والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا.

(بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد).

ص: 158

فصل في اسمه تعالى "القيُّوم"

ص: 159

فصل في اسمه تعالى "القيُّوم"

وقد قرأ طائفةٌ "القَيَّام" و"القَيِّم"، وكلُّها مبالغاتٌ في القائم وزيادة

(1)

. قال الله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)

(2)

، (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)

(3)

. فهو قائمٌ بالقِسط وهو العدلُ، وقائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبت، وقيامُه بالقسط على كلِّ نفس يَستلزمُ قدرتَه، فدلَّ هذا الاسمُ على أنه قادر وأنه عادل.

وسنبيِّن أن عدلَه يستلزمُ الإحسانَ، وأن كلَّ ما يفعله فهو إحسانٌ للعبادِ ونعمةٌ عليهم. ولهذا يقول

(4)

عقيبَ ما يعدده من النعم على العباد: (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13))، وآلاؤه هي نِعَمُه، وهي متضمنةٌ لقدرته ومشيئته، كما هي مستلزمةٌ لرحمتِه وحكمتِه.

وأيضًا فلفظ "القيام" يقتضي شيئين: القوةَ والثبات والاستقرار، ويقتضي العدلَ والاستقامةَ، فالقائم ضدّ الواقع، كما أنه ضدّ الزائل،

(1)

انظر تفسير الطبري (3/ 109 - 110)، ففيه ذكر هذه القراءات وبيان أن معناها متقارب.

(2)

سورة آل عمران: 18.

(3)

سورة الرعد: 33.

(4)

في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة.

ص: 161

والمستقيم ضدّ المعوجّ المنحرف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

: "ما من قلب من قلوب العباد إلاّ وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه". (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)

(2)

، وقال:(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)

(3)

.

ومنه تقويم السَّهم والصفّ، وهو تعديله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أقيموا صفوفكم، فإنّ تسويةَ الصفّ من تمامِ الصلاة"

(4)

. وكان يُقوِّمُ الصَّفَّ كما يُقوَّم القِدْحُ

(5)

.

ومنه الصراط المستقيم والاستقامة، وهذا من هذا، كما قال تعالى:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)

(6)

من طريقة أهل التوراة.

وما يَهدِي إليه القرآن أقومُ مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبلَه]، وإن كان ذلك يَهدي إلى الصراطِ المستقيمِ، لكن القرآن يَهدي للتي هي أقوم. ولهذا ذكر هذا بعد قوله:(وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)

(7)

، ثم قال:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

(1)

أخرجه أحمد (4/ 182) وابن ماجه (199) عن النواس بن سمعان.، وله شاهد من حديث أم سلمة أخرجه الترمذي (3522) وقال: حديث حسن.

(2)

سورة آل عمران: 8.

(3)

سورة الصف: 5.

(4)

أخرجه البخاري (723) ومسلم (433) عن أنس بن مالك.

(5)

كما في حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه مسلم (436).

(6)

سورة الإسراء: 9.

(7)

سورة الإسراء: 2.

ص: 162

ولمّا كانَ القيامُ بالأمور بطريقةِ القرآن يَقتضي شيئين: القوة والثبات، مع العدل والاستقامة، جاء الأمرُ بذلك في مثل قوله:(كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه)

(1)

، و (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)

(2)

.

وقولُه: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)

(3)

يقتضي أنه يأتي بها تامّةً مستقيمةً، فإن الشاهد قد يَضعُفُ عن أدائها وقد يُحرِّفها، فإذا أقامَها كان ذلك لقوته واستقامته.

وكذلك إقامُ الصلاةِ يَقتضيْ إدَامتَها والمحافظةَ عليها باطنًا وظاهرًا، وأن يأتيَ بها مستقيمةً معتدلةً. ولمّا كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجلِ الجهاد قال:(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)

(4)

، فإن الرجل قد يصلّي ولا يقيمٍ الصلاة لنقصِ طمأنينتِها والسكينةِ فيها، فلا تكون صلاتُه ثابتة مستقرةً، أو لنقصِ خضوعِه لله وإخلاصِه له، فلا تكون معتدلةً، فإن رأسَ العدلِ عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، كما أن رأسَ الظلم هو الشرك، إذ كان الظلمُ وضعَ الشيء في غيرِ موضعه، ولا أظلم ممن وضعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها فعَبَدَ غيرَ الله، فعبادةُ الله أصلُ العدل والاستقامة. قال تعالى:(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)

(5)

، فأمرَ بإقامةِ الوجهِ له عند كلِّ مسجد،

(1)

سورة النساء: 135.

(2)

سورة المائدة: 8.

(3)

سورة الطلاق: 2.

(4)

سورة النساء: 103.

(5)

سورة الأعراف: 29.

ص: 163

وهو التوحيدُ وتوجيهُ الوجهِ إليه سبحانَه، فإنّ توجيهَه إلى غيرِه زَيغ. وبالإخلاصِ يكون العبدُ قائمًا، وبالشركِ زائغًا، كما قال:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)

(1)

، وقال:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)

(2)

.

وإقامتُه: توجيهُه إلى الله وحدَه، وهو أيضًا إسلامُه، فإن إسلام الوجهِ لله يَقتضِي إخضاعَه له وإخلاصَه له.

وفي القرآن إقامةُ الوجه، وفيه توجيهه لله وإسلامُه لله، وتوجيهُه وإسلامُه هو إقامتُه، وهو ضدُّ إزاغتِه. فلما كانت الصلاةُ تضمنت هذا وهذا، وهو عبادتُه وحدَه وإخلاصُ الدين له وتوجيه الوجه إليه، كما فيها هذا العدل، فلابُدَّ من هذا ولابُدَّ من الطمأنينةِ فيها، وهي إنما تكون مُقَامَةً بهذا، وهذا هو الخضوع، فإن الخشوع يجمعُ معنيَينِ: أحدهما الذلُّ والخضوعِ والتواضع، والثاني السكون والثبات. ومنه قوله تعالى:(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)

(3)

، ودوله:(خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ)

(4)

، وهو الانخفاض والسكون. ومنه خشوع الأرض، وهو سكونُها وانخفاضُها، فإذا أُنزِلَ عليها الماءُ اهتزَّتْ بدلَ السكون، ورَبَتْ بدلَ الانخفاض.

وقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)

(5)

، (قَوَّامِينَ لِلَّهِ)

(6)

. و"القَوَّام"

(1)

سورة الروم: 30.

(2)

سورة الروم: 43.

(3)

سورة القلم: 43.

(4)

سورة الشورى: 45.

(5)

سورة النساء: 135.

(6)

سورة المائدة: 8.

ص: 164

هو القَيَّام، فإنَّ "قَيَّام" و"قَيُّوم" أصلُه قَيْوَام وقَيْوُوم، ولكن اجتمعت الياء والواو وسبقتْ إحداهما بالسكون فقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ إحداهما بالأخرى، لأنّ الياءَ أخفُّ من الواو. قال الفراء

(1)

: وأهل الحجاز يصرفون الفَعَّال إلى الفَيْعَال، ويقولون للصوَّاغ: صَيَّاغ.

قلتُ: هذا إذا أرادوا الصفةَ، وهي ثباتُ المعنى للموصوف، عَدَلُوا عن "فَعَّال" إلى "فَيْعَال" كما في سائرِ الصفاتِ المعدولة، فإنّ مِن هذا قلبَ المضعَّف حرف عينه، والحروف المختلفة أبلغُ من حرفٍ واحد مشدَّد. وأما إذا أرادوا الفعلَ فهو كما قال تعالى:(كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، ولم يقل "قيَّامِينَ".

وقد قرأ طائفة من السلف: "الحيُّ القيَّام"، ولم يقرأ أحدٌ قطُّ:"كونوا قيَّامين بالقسط"، لأن المقصودَ أمرُهم أن يقوموا بالقسط، والأمرُ طلبُ فعل يُحدِثُه المأمورُ. بخلافِ الخبرِ عن الموصوف بأنه صَيَّاغ، فإنه خبرٌ عن صفةٍ ثابتةٍ له. ولهذا جاء في أسماء الله "القيَّام"، ولم يَجئْ "القَوَّام"، قرأ عمر بن الخطاب وغيرُ واحد "القيَّام"، وقرأ طَائفةٌ "القَيِّم". قال ابن الأنباري

(2)

: هي كذلك في مصحف ابن مسعود. ومِن دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين

(3)

: "ولك الحمدُ، أنتَ قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن".

(1)

"معاني القرآن"(1/ 190).

(2)

"الزاهر في معاني كلمات الناس"(1/ 186).

(3)

البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس.

ص: 165

ولما كان لفظ "القيام" يتضمن القوةَ والثبات، وقد يتضمن مع قيام الشيء بنفسِه إقامتَه لغيرِه، خُصَّ لفظ "القَوم" بالرجال دون النساء، فلا تُسمَّى النساءُ بانفرادِهنّ "قومًا"، ولكن قد يدخلن في اللفظ تبعًا. قال تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ

وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)

(1)

، فإنه قال:(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)

(2)

. ومنه قول الناظم:

ومَا أدرِيْ وظَنِّي كلُّ ظَنٍّ

أقَوْم آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ

(3)

ولمّا كان "القيام" يقتضي الثباتَ -وهو ضدُّ الزوال- قال: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ)

(4)

، وقال:(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا)

(5)

. وهو يقتضي الاعتدال مع الثبات، وهو خلْقُهما معتدلتَيْنِ كما قال:(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ)

(6)

، وقال:(مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)

(7)

. والعدل لازم في كلّ مخلوق، ومأمور به كلّ أحدٍ، كما قد بُسِطَ في قوله:(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2))

(8)

.

ولِما في لفظ "القيام" من العدل سُمِّيَ ما يُساوِي المبيعَ: قيمةَ

(1)

سورة الحجرات: 11.

(2)

سورة النساء: 34.

(3)

البيت لزهير بن أبي سُلمى في ديوانه (ص 136) برواية مختلفة.

(4)

سورة الروم: 25.

(5)

سورة فاطر: 41.

(6)

سورة البقرة: 29.

(7)

سورة الملك: 3.

(8)

سورة الأعلى: 2. وانظر تفسير الآية في "مجموع الفتاوى" (16/ 127 - 135).

ص: 166

عَدْل، قال النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

: "مَن أعتقَ شِركًا له في عَبْدٍ، وكان له من المال ما يَبْلُغ ثمنَ العبد، قُومَ عليه قيمةَ عَدْلٍ لا وَكْس ولا شَطَط، فأُعْطِيَ شركاؤُه وعُتِقَ عليه العبدُ".

وكذلك يُسمَّى تعديلُ الحساب تقويمًا، فإذا جُمِعتْ حركةُ الشمس والقمر وغيرهما السريعةُ والبَطيئةُ، وأحدٌ يُعدِّلُ ذلك، سُمِّي ذلك تعديلاً وتقويمًا، ويُسمَّى ما يُكتَب فيه ذلك تقويمًا، كما يُصنَع بالمكان إذا أَخَذَ مُغَلُّه في إقبالِه وإدبارِه، فإنه يوجد معدّلُ ذلك، ويُقوم باعتبار ذلك.

ويقال: قامتِ السوقُ، إذا حَصَلَ فيها التبايعُ بالتراضي الذي هو أصل العدل، ولابدَّ أن يَبقَى ذلك زمنًا، ففي قيام السوق معنى العدل والثبات، قال الشاعر:

أقامتْ سُوْقها عشرينَ عامًا

ومنه قوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا)

(2)

، أي يقوم عليه كما يقوم القيِّمُ على ما يقوم عليه وإن كان جالسًا معه. والإقامةُ أبلغُ من القيام، فإنّ فيها زيادةَ الهمزة والزيادة لزيادة المعنى، وهي تقتضي من الثبات والدوام أبلغَ مما يدلُّ عليه لفظُ القيام. والمُقامُ بالمكان هي السُّكنَى فيه واستيطانُه، والمقيم خلاف المسافر.

(1)

أخرجه البخاري (2521 - 2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر.

(2)

سورة آل عمران: 75.

ص: 167