المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ بدعة القدرية والمرجئة - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ بدعة القدرية والمرجئة

- ‌ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل

- ‌ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما

- ‌ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم

- ‌ يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ

- ‌ كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء

- ‌نحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ

- ‌ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل

- ‌ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ

- ‌ هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام

- ‌ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ

- ‌ لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ

- ‌التوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه

- ‌ الحلفُ بغير الله من باب الشرك

- ‌أوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ

- ‌ مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري

- ‌ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين

- ‌ فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ

- ‌المشركون أعداءُ إبراهيم

- ‌تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها

- ‌هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح

- ‌من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلَاّ بعمله فقد خرق الإجماع

- ‌ علامة الفاجر الكذبُ والفجور

- ‌ عِمارةُ المساجد بالصَّلوات الخمس وقراءةُ القرآن

- ‌ نفي الإيمان وإثباته باعتبارين:

- ‌ بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر

- ‌ حكاية مسلم بن يسار

- ‌كلُّ معبودٍ سوى الله باطل

- ‌الإمام إذا كان مُخطئًا في نفسِ الأمر كان بمنزلةِ الناسي

- ‌ غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل

- ‌ طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر

- ‌ الرسول بَيَّنَ للناسِ الأدلةَ العقليةَ

- ‌ من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجبُه النظَرُ المعقولُ

- ‌من تَركَ الجهادَ عذَّبه الله عذابًا أليمًا بالذُّلّ وغيره

- ‌أقلُّ ما يجب على المسلمين أن يُجاهِدوا عدوَّهم في كلِّ عام مرةً

- ‌ في الحركة في سبيل الله أنواعٌ من الفوائد:

- ‌ الإيمان لا يَتِمُّ إلاّ بالجِهاد

- ‌الجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة

- ‌ الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنِّه أنه يُقتل قسمان:

- ‌ الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر

- ‌أفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبرّ وأتقى

- ‌ جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين

- ‌جنس الجهاد أفضل من جنس الحج

- ‌ رَهْبانية هذه الأمة: الجهادُ في سبيل الله

- ‌إن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك، فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك

- ‌ ما أتلَفَه أهلُ البَغْي على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال، لا يَجبُ عليهم ضمانُه

- ‌ما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه

- ‌ يُجزِئ دفعُ الزكاة إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها

- ‌لهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق(1)متنوعة:

- ‌ ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به

الفصل: ‌ بدعة القدرية والمرجئة

ولهذا كانت البدعُ محرمةً في وقتِ جماعتِهمِ، لعدمِ مُقْتضيها أو لوجودِ مُنافِيها عن هذا الدين، ثم نبغتِ البدع وتعَدَّت من الصغير إلى الكبير على قضاءٍ سبق من الكتاب المبين، فلما قُتِلَ الخليفة المظلوم الشهيد وافترقت الأمة بعده على خلافة الخلفاء الراشدين نَبغ في آخر خلافة النبوة بدعتانِ متقابلتانِ تقابُلَ المغضوب عليهم والضالّين: الخوارج يُكفِّرون الخليفتين ومن تولاّهما، يُحِلُّون دماءَ أهل القبلة، ويفعلون بأهلِ الإيمان فعلَ اليهود بالنبيين؛ والروافض يَغْلون فيمن يَستحقُّ الولاية والمحبَّةَ، فيُطْرونَه إطراءَ النصارى، حتى وَصفوا البشرَ بالإلهية، وألحقوا الأئمة بالمرسلين. فتولَّى أميرُ المؤمنين عقوبة الطائفتين: بقتالِ الطائفة الممتنعة من المارقين، وقَتْل المقدورِ عليه من الغالين، والتعزير بجَلْدِ المفترين.

ثمَّ لما صارتِ الجماعةُ على الأقذاء، وانصرف عن ضبطِ دقيقِ الدين وعنايةِ الأمرِ في أواخرِ عصر الصاحبين حدثتْ أيضًا بدعتان متقابلتانِ:

‌ بدعة القدرية والمرجئة

على منهاج الأولين، هؤلاءِ عَظَّمُوا أمرَ المعاصِي، حتى أوجَبُوا نفُوذَ الوعيد بجميع أهل الكبائر أو جميع المذنبين، ومَنَعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم الراحمين، وأعظَموا أن يكون الله قدَّرَها أو شاءَها أو يَسَّرها، وسَلَبوا الإيمانَ بالكلية لمن اتصفَ بها من المسلمين. وهؤلاءِ استخفُّوا بأمر الواجبات والمحرمات، حتى استبعدَ بعضُهم نُفُوذَ الوعيدِ على الكبائر المُوبِقاتِ، وزعموا أن ذلك نوع من التخشين. وربما احتجُّوا لنفوسِهم بالقدرِ السابق، وتَشَبَّثُوا بكونهم مجبورين، وسَوَّى عامَّتُهم في الإيمان والدين بين الأبرار والفُجَّار والصالحين والفاسقين.

ص: 37

ثمَّ مَن تمسكَ ببعضِ شُعَب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يُوافِقْهم على أصلِ بدعتِهم وَلا دَعَا إلى مذهبهم كثيرٌ من المتقدمين، وهم جمهور من روى عنه أصحاب الصحيح ممن يُنسَب إلى بعض هؤلاء المخطئين. فقام يَرُدُّ هذه البدعةَ بقايا الصحابة العالمين، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغُرِّ الميامين.

ثم لمَّا فرغَ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعًا وخَفْضًا، ومن الدين ببدعتين إبرامًا ونقضًا، شَرَعَ في ربّ العالمين، فحَدَثَتْ بدعتا الجهمية في أواخر عصر التابعين: هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسلُ من الصفات، كأنه عندهم من الأمور المعدومات، مضاهاةً لضُلَاّل الصابئين. ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطُرَّ إلى إثباتِه جعلَه لآخر شاملاً لمخلوقاتِه شمولَ الكلِّ لأجزائِه شائعًا، حتّى قد خصّهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده

(1)

، وجعلوه الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في مُعيَّنين، وبعضهم يجعله ساريًا في المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات. تعالى الله عن افتراء الظالمين.

فشاركوا النصارى في الحلول والاتحاد، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد في الموجودين. ثم ضربُوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصنافَ المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى إليها من المسموعات، تارةً بدعوى النظر الثاقب للنُّظَّار، وتارةً بدعوى الوجد الصادق للعابدين.

(1)

كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

ص: 38

ثم آل الأمرُ بكثيرٍ منهم إلى أن عمَّمَ هذا فيما جاءت به الرسلُ من الوعد والوعيد، وما وصفتْه من النعيم والعذاب في داري الكفار والمؤمنين، فسَلَبوا داري القرارِ ما عُرِفَ لهما من الصفات ونفوهما، إذ أثبتوهما كإثباتِهم إله المؤمنين، فحملوا مثل ذلك في المحارم والعادات، تارة ينفون عن الأفعال أحكامها الشرعية، وتارةً يثبتُون ذلك في حقّ العموم دون المتميزين، وعصامهم في جميع ذلك نوع تعطيلٍ يسمونه بالمعقول، ونوعُ تحريفٍ يسمونه بالتأويل ويُزخرِفونه بالتزيين.

وهؤلاء الممثِّلة يُمثِّلون صفاتِه بصفات المخلوقات، ويجعلونه من جنس المصنوعاتِ وصِنْفِ الآدميين، حتى وصفَه بعضُهم باللحم والدم والعظام -تعالى الله عن ذلك- مُضاهاةً لكثير من اليهود في تمثيلهم لربِّهم بالمخلوق، حتى عَبَدُوا العِجْلَ وكانوا أتباعَ الدّجال اللعين، وإن كان كثير من اليهود أو أكثرُهم معطِّلةً جهميةً ذاتَ تحريفٍ يسمونه التأويل، يَفِرُّون به -زعموا- من تحيُّزِ ذي القوة المتين، فإنه قال صلى الله عليه وسلم

(1)

: "لَتَركِبُنَّ سنَنَ مَن قبلَكم حَذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتُموه"، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ". وجبَ بمقتضى هذا الخبر البيِّن أن يكون في أمتنا ما كان في أهل الكتابين قبلنا. هذا، ثم المهتدي منهم قبل المبعث ضلَّ بعدم اتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، فلذلك افترقت أمتنا زيادةً عليهم ثلاثةً وسبعين.

(1)

أخرجه البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.

ص: 39

واليهود والنصارى فيهم معطِّلةٌ وممثلّةٌ، وإن كان الغالبُ على خاصّتهم التعطيل، فلذلك كانت المعطِّلة فينا أكثر من الممثّلين، حتى إنّ المعطِّلة يكثر وجودُهم، والممثّلة لا يكاد يُوجَد منهم إلاّ الواحد بعد الواحد في الأحايين.

فلما حدثتْ بدعةُ التعطيل والتمثيل أنكر ذلك فقهاء التابعين، وكذلك من بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكان ذلك عندهم أعظمَ من جميع بدع المبتدعين، حتى أَعْظَمَ السلفُ أمرَ الجهمية ونحوهم وكَفَّروهم، وإن كانوا عن غيرهم متوقفين، واحتاجوا لانتشار البدع إلى ضبط السنن الدامغة للمبتدعين، وكان أسعدُ الناس بهذه الوراثة أصحابَ الكتاب والآثار المأخوذةِ عن سيّد المرسلين -وهم أهل القرآن والحديث- الباحثين

(1)

في كلّ باب في العلم عن آثار الصحابة والتابعين، العالمين بصحيحه وعليلِه، الفاهمين بمنطوقِه ودليلِه، السالكين سبيلَ السابقين، الذين أخبرَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"يَحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهَلين"

(2)

. وكانوا هم أئمةَ الإسلام الذين هم قدوةُ المؤمنين، بحيث كان

(1)

كذا بالنصب هنا وما بعده، وهو صفة لـ "أصحاب الكتاب

".

(2)

أخرجه البيهقي (10/ 209) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 29) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً. ورُوِي موصولاً من حديث أسامة بن زيد، وصححه العلائي في بغية الملتمس (ص 34).

ص: 40

أربابُ هذه البدع في أيامِهم أصاغِرَ مَقموعِينَ، [و] كانت دلائلُ الحقّ وآياتُه ظاهرةً مشهورةً لمن كان لها يستبين. فقُتِلَ برأيهم غَيْلَان القدري والجَعْدُ بن درهم والجهم بن صفوان المعطِّلان ونحوهم من الظالمين.

إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قَلَّ أولئك الهُداةُ وكثُر هؤلاء الغُوَاة، واستعوزُوا إلى باطلهم بعضَ الوُلَاةِ، حتى ظهرتْ محنةُ الصفاتِ في علماء المسلمين، ودَعَوهم إلى القولِ بخلق القرآن، إذ هو مفتاحُ جُحودِ الصفات، وأقربُ من غيرِه إلى المبتدئين. وظهرَ في الإسلام ما لم يُعْهَد مِثلُه من الفتنةِ في الدين، حتى عدَّ الناسُ من قام به ما كان أسى وصبرًا من العلماء، ومن أطفأَ شَرَرها من الخلفاء دفعًا بجراءة، مُفَضلاً على غيرِه من الأولين، وانكسرتْ بذلك سَوْرَةُ أهل البدع ظاهرًا، ولكن في النفوسِ مِن طواياها كَمِيْن مَكيْن.

وصارَ من أسباب الفتنة أنَّ نَقَلَةَ الآثار قَلَّ فيهم الفقهُ والعَقْلُ، كما أنّ ذوي النظر والاعتبار ضَعُفَ علمُهم بآثار النبيين، ولن يتِمَّ الدينُ إلاّ بمعرفةِ الآثار النبوية والسَّلَفية وفِقْه لما قَصَدُوه من المعاني الدينية، كما كان علماء السالفين، وصارَ ذلك سببًا لإعراض كثير من طلبةِ العلم من أعيانهم عن النظر في قواعدِ الدين.

وظهرَ في الدولة المعتصميّة مُقاربًا للمحنة الجهمية من الطائفة الخرَّمِيَّة مَن يقول بتواتر النبيين جَريًا على منهاج الفلاسفة وسلوكًا لسبيلِ الصابئين، حتى جَرَت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهورٌ عند المؤرخين.

ص: 41

وظهَرَ بأثرِ ذلك من أَبْطَنَ ذلك من القرامطةِ الباطنية والطائفة الإسماعيلية الذين كثُرَ فسادُهم على الخاصة والعامة للدنيا والدين. وانتدبَ للردِّ على صُنُوْفِ الكُفَّار والمبتدعةِ طوائفُ من المتكلمين بِحُجَجٍ بعضها صحيح قويّ وبعضها مَهِيْن، لِصعوبَة الزام

(1)

علمًا وقصدًا، وعسر الاستبداد في هذا الباب بدرك اليقين، والهوس بفرح ما يقوم لها من الحجة على المنازع قبل تعقب ما يلزم الحجْةَ في سائر المواضع

(2)

. وهذا من أعظم الآفة على الناظرين والمناظرين، فيحتاج أن تطرد تلك الدلالة، ويلتزم من اللوازم ما لا يظن أن فيه إحالة، وإن كان مخالفًا لنصِّ مبين.

وهذا هو السبب كثيرًا أو غالبًا في البدع المخالفة للنصوص أو الدافعة لما عليه كلُّ ذي عقل رصين، حتى صار من نَصَرَ السنةَ في غالب الأمر يُعدُّ من متكلميها، وإن اضطرَّه تحققُ حدِّه وطردُ دليلِه أحيانًا إلى ما ينافيها، إذ ذلك غامضٌ إلاّ على الأقلين. وخَرَج كثير ممن ينصر السنة بالآثار إلى الاحتجاج بما لا يَسُوغُ لأولي الأبصار، إمّا لضعف الإسناد، وإمّا لعدم المتن المتين، وكثُر في العلماء المحسنين في أكثرِ قولهم من المتأخرين مَن يقع في كلامِه من المخالفةِ للسنةِ ما يَرُوجُ عليه وعلى كثير من الناظرين، فيردُّ هذا عليه سائر حقِّه لأجل باطلِه، ويُلحِقُه بالمعطِّلين، ويَقبَلُ هذا جميعَ كلامِه لاعتقادِه فيه أنه كالسلف الماضين، ثم إذا صارتِ الشبهاتُ أهواءً أخرجتْ من النفوس الداءَ الدفين.

(1)

كذا في الأصل.

(2)

كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

ص: 42

وصَار كثير من طلبة العلم وأذكياءُ المباحثين يقفون على أقسام محصورةٍ وأمثال مَسْبورةٍ في كلام كثير من الآخرين، فتُوجبَ حُسْنَ الظنّ بعقولٍ تُدرِك تلك المطالب، وافتقارَ رجالٍ ذهبوا تلك المذاهب، وإن كانوا للسلف مخالفين، إذ ليس عندهم من السلف إلاّ أسماءٌ مستطيرة وكلمات ليست بالكثيرةِ المعتبرة. ولولا أُبَّهةُ الإسلام في قلوبهم لعدُّوهم من العَمِيْنَ، وإن كان في الناس مَن يَعتقد هذا أو يتوقف فيه، وإنما سببه ضعف آثار المرسلين.

وإذا قيل "أهل الحديث" ذهبتْ أوهامُهم إلى قومٍ من الرواة وضَرْب من النساخ والمستمعين، وإن رفعوا البابةَ إلى قومٍ من الحفّاظ لبعض الأسماء واللغات إذا حدَّثوا، وظهر من الجهل والظلم اللذين وصف الله بهما الإنسان ما أوجبَ نقصَ العلم والدين. فهذا وأمثالُه أسباب لما قضى به قدر الله في العالمين.

ثم مع ذلك فللهِ في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسُلِ -كما قال الإمام أحمد

(1)

- بقايَا من أهل العلم، يَدعُون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويَصبِرون منهم على الأذى، يُحيُون بكتاب اللهِ الموتَى، ويُبَصِّرُون بنور الله أهل العمَى، وإن كانوا هم الأقلينَ. بهم تقوم حجةُ الله في دِقّ الدين وجلِّه، ويُحفَظ بهم عمودُ الدين فرعُه وأصلُه إلى يوم الدين. هم الوَسَطُ في هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هم الوسط في الناس، فهم شُهَداءُ عليهم بما أخذوه عن خاتم النبيين، وهم ورثةُ الأنبياء فيما جاءوا به من العلم، وخُلفاءُ الرسُلِ فيما قاموا به من البلاغ المبين،

(1)

في مقدمة "الرد على الجهمية والزنادقة".

ص: 43

وقد يتفرَّقُ فيهم علمُ النبوةِ إذا لم يَقُم به واحد، ويُغفَر للمخطئ منهم في مجتهداتِه إذا لم يكن عن سنن الاجتهاد بحائدٍ، كما يُعذر بعَدَمِ البلاغ كثير من المؤمنين.

فالحمد لله على ما بيَّن وأمرَ، وعلى ما قَضَى وقدَّر من هذه الأقانين

(1)

، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك [له]، شهادةً تُحصن قائلَها من النارِ وتُوجبُ له نورَ المتقين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسَله بأفضلِ كتاب وأَقْومِ دين، وأيده بأكمل الآيات وأَشرفِ البراهين، وبعثَه في خير أمةٍ وأتمِّ مكان وحِيْنٍ، وبيَّن به الحق بأفصحِ لغةٍ وأبلغ تبيينٍ، وأخرجَ به الخلقَ من الظلماتِ إلى النور المستبين، وجعله سراجًا منيرًا، كما جعلَ الروحَ الذي أوحاه إليه نورًا يَهدِي به المهتدين، وعَصمَه من مخالفةِ سِرِّه لعلانيته لا سيَّما في إيمائِه وخطابِه المستمعين، إذ لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين

(2)

، ولا يُومِضُ إيماضًا يَخفَى على الحاضرين، كلُّ ذلك تحقيقًا لكمالِ البلاغ وتنزُّهًا عن ظنون الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله كما صلَّى على إبراهيمَ إمام المسلمين، وباركَ عليه وعلى آله كما باركَ على آل إبراهيم في العالمين، إنه سبحانَه حميد مجيب سميع لدعاءِ الطالبين، والسلامُ عليه ورحمةُ الله وبركاته وعلينا وعلى عبادِ الله الصالحين.

أما بعد، فقد كان جَرى بيني وبين بعضِ الناس من نحوِ عشرِ

(1)

كذا في الأصل، ولعله جمع "قانون" على غير المشهور.

(2)

كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (2683، 4359) والنسائي (7/ 105) عن سعد بن أبي وقاص.

ص: 44

سنينَ أو قريبٍ منها أو أكثر منها مناظرة في الصفاتِ والكلام على مذهب أهل التأويل فيها، التمسَ مني بعد ذلك بعضُ الأصحاب حكايتَها، فكتبتُها إليه، مع أن الكتابةَ لابُدَّ فيها من نوع زيادةٍ غيرِ متعمدةٍ ونقصانٍ، لكن المنقوصَ كثير، إذ الخطاب يحتملُ مَن البسط ما لا يحتمله الكتابُ، ومن الوَرعِ أن تنقُصَ من الحكايةِ ولا تزيدَ فيها.

وتلك المناظرة -مع ما اشتملت عليه من القواعد المقررة والأصولِ المحرَّرة- لم تخْرُج مخرجَ تصنيفٍ، وإن كان لا غَرْوَ في جَعْلِها تصنيفًا.

وصورةُ ما كاتبتُ به الطالبَ: فإن الله سبحانه وتعالى خلقَ عبادَه على الفِطرة، وكمَّل فطرتَهم بالنبوة، واصطفَى من الملائكة رسُلاً ومن الناس، ليُعلِّموا الأممَ ما لم يكونوا يعلمونَه، كما قال سبحانه وتعالى:(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151))

(1)

. ولم يَبعَثْ رُسُلَه بغير فطرتِه التي فَطَرَ عبادَه عليها، ولا بإفسادِ عقولهم التي بها ينالون علمَ ما أنزلَه عليهم، بل بَعَثَ الرسُلَ بتعليم ما تَقصُرُ عقولُهم عن دَرْكِه، لا ما تَقضِيْ عقولُهم بإحالتِه، وأمرَهم بتقريرِ الفِطَر لا بتغييرِها. ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199))

(2)

، وقال في صفة المستحقين الرحمةَ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ

(1)

سورة البقرة: 151.

(2)

سورة الأعراف: 199.

ص: 45