الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
: "مَن قُتِلَ دونَ مالِه فهو شهيد، ومَن قُتل دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتل دون حرمته فهو شهيد". قال الترمذي: [حديث حسن صحيح. و]
(2)
يكون قتاله دفعًا للأمر عن نفسه أو عن حرمته، وإن غلب على ظنه أنه يُقْتَل، إذا كان القتال يُحَصِّل المقصود، وإمَّا فعلا لما يَقْدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه.
ومن هذا الباب:
الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر
؛ فإن هذا بمنزلة الذي يُقاتِله العدو حتى يُقتَل ولا يستأسِر لهم، والذي يتكلم بالكفر بلسانه [وهو] موقنٌ من قلبه بالإيمان بمنزلة المستأسِر للعدو. فإن كان هو الآمر النَّاهي ابتداء كَان بمنزلة المجاهد ابتداء. فإذا كان الأول أَعَزَّ الإيمان وأَذَلَّ الكفر كان هو الأفضل.
وقد يكون واجبًا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر عليها وهي الفتنة، فإنَّ الفتنة أشدُّ من القتل. فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لا يحصل بالقتل، وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه= تَرَجَّح القتل واجبًا تارةً ومُستحبًّا أُخرى. وكثيرًا ما يكون ذلك تخويفًا به فيجب الصبر على ذلك.
قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
(1)
أخرجه أحمد (1/ 190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/ 116) عن سعيد بن زيد.
(2)
زيادة ليستقيم السياق. فقول الترمذي هو الحكم على الحديث فقط، وما بعده من كلام المؤلف.
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217))
(1)
.
فأخبر أن الكافرين لا يزالون يُقاتِلون المؤمنين حتى يردُّوهم عن دينهم. وأخبر أنَّه من ارتدَّ فمات كافرًا خالدًا في النار.
ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه، كما قال تعالى:(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)) إلى قوله: (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)
(2)
.
وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128))
(3)
.
وقال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87))
(4)
.
(1)
سورة البقرة: 217.
(2)
سورة غافر: 26 - 28.
(3)
سورة الأعراف: 127 - 128.
(4)
سورة البقرة: 87.
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
(1)
.
وقال تعالى: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61))
(2)
.
وقال تعالى: (وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) إلى قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78))
(3)
.
وقال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)) إلى قوله: (مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7))
(4)
.
وقد روى مسلم في "صحيحه"
(5)
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صُهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان مَلِك فِيمَنْ كان قَبْلَكُمْ، وكان له سَاحِرٌ، فلمَّا كَبِرَ قال للمَلِكِ: إنِّي قد كَبِرْتُ، فابْعَثْ إليَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فبَعَثَ إليه غُلامًا يُعَلِّمُه. وكان في طريقِه إذا سَلَكَ راهِب، فقَعَدَ إليه وسَمِعَ كلامَه. فكان إذا أتَى السَّاحرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وقَعَدَ
(1)
سورة آل عمران: 21.
(2)
سورة البقرة: 61.
(3)
سورة آل عمران: 110 - 112.
(4)
سورة البروج: 4 - 7.
(5)
برقم (3005).
إليه، فإذا أتَى السَّاحِرَ ضَرَبَه، فشَكَا ذلك إلى الرَّاهِب، فقال: إذا خِفت السَّاحرَ فقُل: حَبَسَني أَهْلِي، فإذا خِفْتَ أهلَك فقل حَبَسَني السَّاحرُ. فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابَّةٍ عظيمةٍ قد حَبَسَت الناس، فقال: اليومَ أَعْلَمُ الساحرُ أفضلُ أم الرَّاهِبُ أفضلُ؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهمَّ إنْ كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك مِن أمرِ الساحرِ فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها وقتلها، ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنَيَّ أنتَ اليومَ أفضلُ مِني، وقد بَلَغَ مِن أَمرِكَ ما أَرَى، وإنَّكَ ستبتَلَى فإن ابتُليتَ فلا تَدُلَّ عليَّ. وكان الغلام يُبْرِئُ الأكمهَ والأبرصَ ويُداوي الناس [مِنْ] سائرِ الأدواءِ. وأصبح جليسُ الملك كان قد عَمِيَ فأتَاهُ بِهَدايا كثيرةٍ. فقال: ما ههنا لك إن أنتَ شَفَيْتَنِي. قال: إنِّي لا أَشفي أحدًا إنَّما يَشْفِي الله عز وجل، فإنْ آمنتَ باللهِ دَعَوتُ الله فشفاكَ، فآمنَ بالله فشفاهُ اللهُ عز وجل. فأتى المَلَكَ فجلسَ إليه كما كان يجلسُ.
فقال له الملك: مَن رَدَّ عليكَ بَصَرَكَ؟ قال: ربي. قال: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قال: ربِّي وربُّكَ الله. فأخذه فلم يزل يعذِّبُه حتى دَلَّ على الغلامِ، فجيءَ بالغلامِ، فقال له الملك: أيْ بُنَيَّ قد بَلَغَ مِن سحرِك ما تُبْرئُ الأكمَهَ والأبرصَ، وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ. قال: فقال إني لا أشفي أحدًا، وإنما يَشفي الله عز وجل. فأخذه فلم يزل يعذِّبُه حتى دَلَّ على الراهب. فجيءَ بالراهب؛ فقال له: ارجعْ عن دينكَ؛ فأبَى.
فدعا بالمِنْشَارِ؛ فوَضَعَ المِنْشَارَ في مَفْرِقِ رأَسِه، فشَقَّه حَتَّى وقَعَ شِقَّاهُ. ثم جيءَ بجليسِ الملكِ فقيل له: ارجع عن دينكَ؛ فأبي.
فوضع المنشار في مِفْرِقِ رأسِه، فشقَّه به حتى وقعَ شِقَّاهُ. ثم جيء
بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي. فدفعَه إلى نَفَرٍ من أصحابه.
فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به إلى الجبل فإذا بلغَتم ذِرْوَتَه فإنْ رَجَعَ عن دينه وإلا فاطْرَحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهمَّ اكفنيهم بما شئتَ. فرَجَفَ بهم الجبلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملكِ. فقال له الملكُ: ما فعل أصحابُكَ؟ قال: كفانيهِمُ اللهُ. فدفعَه إلى نفير آخر من أصحابِه فقال: اذهبوا به فاجعلوه في قُرْقُورٍ، ثم توسَّطوا البحرَ فإذا رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهمَّ اكفنيهِمْ بما شئتَ. فانكفَأَتْ بهم السَّفينةُ، فغرِقوا، وجاء يمشي إلى الملكِ، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهمُ اللهُ. فقال: إنَّك لستَ بقاتلي حتى تفعلَ ما آمرُكَ به. فقال: ما هو؟ قال: إنك تجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وتَصلُبُني على جذْعٍ، ثم خذْ سَهْمًا مِن كِنَانَتِي، ثم ضَع السَّهْمَ في كَبدِ القوسِ، ثم قَل: باسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثم ارْم، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصلبَه على جِذْع، ثم أَخَذَ سَهْمًا مِن كِنانتِه، ثم وَضَعَ السَّهْمَ في كبد القوسِ. ثمِ قال: باسمِ الله ربِّ الغلامِ، ثم رماه فوقَع السهم في صُدْغِه، فوَضعَ يده في صُدْغِه، فمات. فقال الناسِ: آمنَّا بربِّ الغُلامِ. فأُتيَ الملكُ، فقيل له: أرأيتَ ما كنتَ تَحْذرُ، قد والله نَزَلَ بك حَذَرُكَ؛ قد آمنَ الناسُ.
فأَمَرَ بالأخدُودِ بأفواهِ السِّكَكِ فخُدَّتْ، وأضرمت فيها النيران، وقال: مَن لم يرجع عن دينه فأَقْحِموه فيها أو قيل له: اقْتَحِمْ. ففعلوا، حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها فتَقَاعَستْ. فقال لها الغلام: يا أُمَّهْ اصبِرِي فإنَّكِ على الحَقِّ".
ففي هذا الحديث أنه قُتِل جليس الملك والراهب بالمناشير، ولم يرجعَا عن الإيمان. وكذلك أهل الأخدود صبروا على التَّحريق بالنار وَلم يَرْجِعوا عن الإيمان. وأما الغلام فإنه أَمَرَ بقتل نفسِه لما عَلِمَ أنَّ ذلك يُوجِبُ ظُهُورَ الإيمان في النَّاس، والذي يصبر [حتى] يُقْتَل أو يَحْمِل حتى يُقْتَل لأنَّ في ذلك ظهورَ الإيمان= من هذا الباب.
وفي صحيحِ البخاري
(1)
عن قيس بن أبي حازم عن خَبَّاب بن الأرَتِّ قال: شَكوْنَا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له فيَ ظِلِّ الكعبةِ. فقلنا: أَلا تَسْتنصِرُ لنا؟ أَلا تَدْعُو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلَكم يُؤخَذ الِرَّجل، فيُحْفَر له في الأرض، فيُجعَل فيها، ثم يؤتى بالمِنْشارِ، فيُوضعُ على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمْشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دون لَحْمِهِ وعَظْمِه، [وما] يَصُدُّه ذلك عن دينه. والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى يسيرِ الرَّاكِبُ مِن صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يَخافُ إلا الله أو الذِّئِبَ على غنَمِه، ولكنَّكم تستعجِلُونَ".
وفي رواية
(2)
: أَتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِل الكعبةِ وقد لَقِيْنا مِن المشركينَ شِدَّةً، فقلتُ: أَلَا تَدْعُو اللهَ. فقَعَدَ وهو مُحْمَرٌّ وجهُه فقال: "لقد كان مَن قبلَكم يُمْشَطُ بأمشاطِ الحديد".
والنبي صلى الله عليه وسلم إنَّما قال لهم ذلك آمرًا لهم بالصَّبر على أذى الكفَّار، وإن بَلَغُوا بهم إلى حدّ القتل صَبْرًا، كما قَتَلوا المؤمنين صَبْرًا؛
(1)
برقم (3612).
(2)
عند البخاري (3852).
ومَدْحًا لِمَن يصبِر على الإيمان حتى يُقْتَل.
(والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت بعونه تعالى في 25 محرم 1319).
مسألة في المرابطة بالثغور أفضلُ أم المجاورة بمكة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي ونعم الوكيل
مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرَّفها الله تعالى؟
الجواب
الحمد لله. المُرابَطَة في ثُغور المسلمين -وهو المُقَام فيها بنيَّة الجهاد- أفضلُ من المجاوَرَة في الحرمين باتِّفاق أئمة المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد النِّيَّات في الأعمال الشَّرعيات صار يَخْفَى مثل هذه المسألة على كثير من الناس، حتى صاروا يُعَظِّمون الأماكنَ التي كان المسلمون يُعَظِّمونها لكونها ثُغُورًا ظانِّين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعًا ما أنزل الله بها من سلطان. فإنه يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذِكْر غزة وعسقلان والإسكندرية وجبل لبنان وعكَّة وقزوين، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يُوجِبُ شرف هذه البقاع.
وإنما كان ذلك لكونها كانت ثُغُور المسلمين، فكان صالِحُو المسلمين يتناوبونها لأجل المرابطة بها، لا لأجل الاعتزال عن الناس
وسكنى الغِيْران والكُهُوف، أو نحو ذلك مما يظنّه الجهال أهل البدع والضلال.
ثم إنَّ مِن هذه البقاع ما غَلَبَ عليه العدو، أو سَكَنَه أهل البدع والفُسَّاق؛ ففسد حالُ أهله، مثل ما جَرَى على لبنان ونحوه. وكون المكان ثغرًا هو مثل كونه دارَ الإسلام ودارَ الكفر مثل كون الرجل مؤمنًا وكافرًا، هو من الصِّفات التي تعرض وتزول، فقد كانت مكة -شرَّفها الله- أُم القرى قبلَ فتحها دارَ كُفْر وحَرْب تَجبُ الهجرة منها، ثم تَغَيّر هذا الحكم لمَّا فتِحَت. حتى قال صلى الله عليه وسلم
(1)
. "لا هِجْرَة بعد الفتح ولكن جهاد ونيَّة". وقد كان البيت المُقَدَّس بأيدي العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى.
فالثغور هي البلاد المتاخمة للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يُخِيفُ العدو أهلها ويُخيف
(2)
أهلها العدو، والمرابطة بها أفضل من المُجاورة بالحرمين باتفاق المسلمين. كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إمَّا على الأعيان وإما على الكفاية.
وأما المجاورةُ فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي مستحبَّة أم مكروهة؟ فاستحبها طائفة من العلماء من أصحاب مالك والشافعي، وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره، قالوا: لأن المُقَام بها يُفْضي إلى الملْكِ لها، وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيَتَضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل البلد.
(1)
أخرجه البخاري (2783) ومسلم (1353) عن ابن عباس.
(2)
في الأصل: "يخيفوا"، والتصويب من الهامش.
قالوا: وكان عمر يقول عَقِب المواسِم: يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم].
ولأن المُقيم بها يفوتُه الحجّ التَّام والعمرة التَّامَّة؛ فإنَّ العلماء مُتَّفقون على أنه إنْ أنشأ سَفَرَ العمرة من دُوَيرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج والعمرة. وهم متفقون على أنه أفضل من التَّمَتعُّ والقِران ومن الإفْرَاد الذي يعتمر عقب الحَجّ.
وأما ما يظنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو غيره إلى الحلِّ للاعتمار؛ وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم
(1)
: "عمرة في رمضان تَعدِلُ حَجَّةً مَعِي"، حتى صار المُجاوِرُون وغيرهم يُحافِظُون على الاعتمار من أَدْنَى الحِل أو أقصاهُ، كاعتمارهم من التَّنعيم التي بها المساجد التي يقال لها مساجد عائشة، أو من الحديبية والجعرانة= فكلُّ ذلك غلط عظيم، مُخالف للسنَّة النبويّة ولإجماع الصحابة. فإنه لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قَطُّ، لا قبلَ الهجرة ولا بعدَها، بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلاّ عائشة فقط، فإنها قَدِمَت مُتَمَتّعة، فحَاضَت، فمَنَعَها الحيض من الطَّواف قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعمرها بعد الحج
(2)
، ثم بعد ذلك بُنيَت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: مساجد عائشة.
(1)
أخرجه البخاري (1863) ومسلم (1256) عن ابن عباس.
(2)
أخرجه البخاري (1561 ومواضع أخرى) ومسلم (1211) عن عائشة.
وأما عمرة الحديبية فإن النبي صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ هو وأصحابه من ذي الحليفة، ثم حَلُّوا بالحديبية لمَّا صدهم المشركون عن البيت، فكانت الحديبية حِلَّهم لا ميقاتَ إحرامهم. وهذا متواتر يعلمُه عامَّة العلماء وخاصَّتُهم، وفي ذلك أنزل الله:(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)
(1)
الآيات باتفاق العلماء.
وأما عمرة الجعرانة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاتل هوازن بوادي حنين الذي قال الله فيها: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27))
(2)
. وحاصر الطائف ونَصَبَ عليها بمنجنيق، ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فلما قسَّمها دخل إلى مكة معتمرًا ثم خَرَجَ منها؛ لم يكن بمكة فَخَرَجَ منها إلى الحِلِّ ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل مكة.
بل الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك، بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خُرُوجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك، كما قد بَسَطْنا هذه المسألة في غير هذا الموضع
(3)
.
(1)
سورة البقرة: 196.
(2)
سورة التوبة: 25 - 27.
(3)
انظر مجموع الفتاوى (26/ 248 - 301).
والمقصود هنا أنَّ مِن العلماء مَن كَرِهَ المُجاورة بمكة لِمَا ذكر من الأسباب وغيرها، ولكن الجمهور يستحبونها في الجملة إذا وَقَعَت على الوجه المشروع الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الرَّاجِحة عليها.
قال الإمام أحمد، وقد سُئل عن الجوار بمكة، فقال: وكيف لنا [به]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّكِ لأحب البِقَاع إلى الله، وإنَّكِ لأحب إلي"
(1)
. وجابر جاوَرَ مكة، وابن عمر كان يُقيم بمكة.
وقال أيضًا: ما أَسْهَل العِبادة بمكة، النَّظَرُ إلى البيت عِبَادة.
واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عَدِيِّ بن الحمراء الزُّهْرِيِّ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بالحَزْوَرَةِ في سوق مكة:"والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله، وأَحَبُّ أرضِ الله [إلى الله]، ولولا أَنِّي أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرَجْتُ" رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي
(2)
، وقال: حديث حسن صحيح.
ورواه أحمد
(3)
من حديث أبي هريرة أيضًا. وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أَطْيَبَكِ مِن بلدٍ وَأَحَبَّكِ إلَيَّ، ولولا أنَّ قَومي أَخرجوني منك ما سَكَنْتُ غَيرَكِ". رواه الترمذي
(4)
، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(1)
سيأتي تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 305) والنسائي في الكبرى (4252) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) والدارمي (2513).
(3)
4/ 305.
(4)
برقم (3926).
قالوا: فإذا كانت أحبَّ البلاد إلى الله ورسوله، ولولا ما وَجَبَ عليه من الهجرة لما كان يسكن إلا إيَّاها، عُلِمَ أن المُقام بها أفضل إذا لم يُعارض ذلك مصلحة راجحة، كما كان في حق النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين؛ فإن مُقامهم بالمدينة كان أفضل من مُقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد، بل ذلك كان الواجب عليهم، وكان مُقامهم بمكة حرامًا حتى بعد الفتح، وإنما رَخَّصَ للمهاجر أن يُقيم فيها ثلاثًا. كما في الصحيحين
(1)
عن العَلَاءِ بن الحَضْرَمِيِّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للمهاجِر أن يقيم بمكة بعد قضاءِ نُسُكِهِ ثلاثًا.
وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا بها، لكونهم هاجروا عنها وتَرَكُوها لله، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه
(2)
؛ لما عاد سعد بن أبي وقاص، وكان قد مَرِضَ بمكة في حجة الوَدَاع فقال: يا رسول [الله]! أُخَلّف عن هجرتي، فقال:"لعلَّك أن تُخلَّفَ حتى يَنتَفِعَ بكَ أقوام، ويُضَرَّ بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولةَ" يَرْثي لَه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ماتَ بمكة.
ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصَى أن لا يُدْفَن في الحرم، بل يخرج إلى الحِلّ لأجل ذلك، لكنه كان يومًا شديد الحر، فخالفوا وصيته، وكان قد توفي عام قَدِمَ الحَجَّاج، فحاصَر ابن الزبير وقَتَلَه لما كان
(3)
من الفتنة بينه وبين عبد الملك بن مروان.
(1)
البخاري (3933) ومسلم (1352).
(2)
البخاري (1295) ومسلم (1628) عن سعد.
(3)
بعده في الأصل: "للناظرين" ومكانها الصحيح بعد ستة أسطر.