الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منه اجتهادٌ في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وبكل حالٍ فإمامتُهما ثابتة، ومنزلتُهما من الأمة منزلتُهما، لكن أهل البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آراءهم وأهواءَهم حاكمةً على كتاب الله وسنة رسوله وسيرةِ الخلفاءِ الراشدين، فاستحلُّوا بذلك الفتنةَ وسفكَ الدِّماءِ وغيرَ ذلك من المنكرات.
وأما مَن بعد الخلفاء الراشدين ف
لهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق
(1)
متنوعة:
منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين.
ومنها ما هو اجتهاد يَسُوغُ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذارٍ، ويباحُ المحظورُ بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك.
ومنها ما هو اجتهاد، لكن صدوره لعدوانٍ من المجتهد وتقصيرٍ منه، شابَ الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة. وهذا النوع كثير جدًّا.
ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بتركِ واجب أو فعلِ محرَّمٍ.
وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من الحكم والقَسْم والعقوبات وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء أو لا يوافق، والذي لا يوافق إما أن يكون معذورًا فيه كعذر العلماء المجتهدين
(1)
في الأصل: "طريق".
أو لا يكون كذلك، والذي لا يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًّا إما أن يكون فيه شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان أو لا يكون فيه شبهةٌ ولا تأويلٌ.
ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تُؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل، وإن كان التغيير قد وقع في أنواعِها وصفاتِها ومصارفِها، نعم كان السواد مخارجة عليه الخراج العُمَرِيّ، فلما كان في دولة المنصور -فيما أظن- نقله إلى المقاسمة، وجعل المقاسمة تعدل المخارجة كما فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر. وهذا من الاجتهادات السائغة.
وأما استئثارُ وُلاةِ الأمور بالأموالِ والمحاباةُ بها فهذا قديم، بل قال صلى الله عليه وسلم للأنصار:"إنكم ستَلْقُون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تَلقَوني على الحوض"
(1)
. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحالِ الأمراء بعدَه في غيرِ حديثٍ، وكان الخلفاءُ هم المُطَاعِين في أمرِ الحرب والقتال وأمر الخراج والأموال، ولهم عُمَّالٌ ونُوَّاب على الحروب، وعُمَّال ونُوَّاب على الأموال، ويُسمُّون هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج.
ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد المئة الثالثة، فإنه ضَعُفَ أمرُ خلافةِ بني العباس وأمرُ وزرائهم بأسبابٍ جَرتْ، وضُيِّعَتْ بعضُ الأموال، وعَصَى عليهم قوم من النوّاب
(1)
أخرجه البخاري (3793) عن أنس، ومسلم (1845) عن أنس عن أسيد بن حضير.
بتفريطٍ جرى في الرجال والأموال. فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قُرَّة فيما علمتُه من "التاريخ"
(1)
أنه في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة فوَّض الراضي الخليفةُ الإمارةَ ورئاسةَ الجيش وأعمالَ الخراج وتدبيرَ سائرِ المملكة إلى مُقدَّم اسمُه محمد بن رائق، وجعلَه أمير الأمراء، وأمرَ بأن يُخطَب له على سائر منابر المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك.
قال: وبَطَلَ قبل ذلك أمرُ الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ولا الدواوين، ولا كان له اسم غيرُ اسمِ الوزارة فقط، وأن يحضرَ في أيام المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقةٍ، ويقفَ ساكنًا. وصار ابنُ رائق وكاتبُه ينظرانِ فيما كان الوزراءُ ينظرون فيه، وكذلك كلُّ من تقلَّد الإمارةَ بعد ابن رائق، وصارت أموالُ النواحي تُحمل إلى خزائن الأمراء، فيأمرون فيها ويُنفِقون منها، ويُطلِقون لنفقاتِ السلطان ما يريدون، وبطلت بيوتُ الأموال.
ثم إنه بعد ذلك حدثَتْ دولةُ بني بُويه الأعاجم، وغَلبوا على الخلافة، وازداد الأمرُ عما كان عليه، وبَقُوا قريبًا من مئةِ عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ثلاثين سنة أو نحوها حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضًا.
وكان أحيانا تقوى دولةُ بني العباس بحسن تدبير وزرائهم -كما جرى في وزارة ابن هبيرة- بما يفعلونه من العدل واتباع الشريعة،
(1)
لم يصل إلينا. وانظر "البداية والنهاية"(15/ 95، 96).
وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السّكة والخطبة وطاعةً يسيرة تُشبه قبول الشفاعة. فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال وإَنفاقها فكانوا خارجين فيه عن أمر الخلفاء.
وكانت سيرة الملوك تختلف، فمنهم العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة، المقيم للجهاد وللعدل، كنور الدين محمود بن زنكي بالشام والجزيرة ومصر؛ ومنهم الملك المسلم المعظِّم لأمرِ الله ورسوله، كصلاح الدين؛ ومنهم غير ذلك أقسام يطول شرحُها.
وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يُسرِف فيها وضعًا وجبايةً؛ ومنهم من يَستَنُّ بما فُعِل قبله، ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبلَه على القسم الرابع؛ ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادًا ملكيًّا يُشبه القسم الثالث؛ ومنهم من يقصد اتباعَ الشريعة وإسقاطَ ما يخالفُهَا، كما فعلَ نور الدين لما أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمةً جدًّا، وزاد الله البركات، وفَتحَ البلادَ وقَمعَ العدوَّ بسبب عدلِه وإحسانِه.
ثمَّ هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وسنةِ خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أهل العلم المصنِّفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى [ذكر ابن حزم]
(1)
إجماعَ المسلمين على ذلك، فقال
(2)
. ومع هذا
(1)
الزيادة من النسخة البغدادية.
(2)
كذا في الأصل، ولم ينقل المؤلف النص. وانظر "مراتب الإجماع"(ص 121).
فبعض من وضعَ بعضَها وَضَعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووُزَرائِه، فإنه [لمّا] قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية، وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد، بعد أن كان أمراءُ مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه عن بغداد، وأظهروا شعارَ البدع في بلاد الإسلام، وهي التي تُسمَّى فتنة البساسيري في نصف المئة الخامسة= حدثت أمورٌ:
منها: بناء المدارس والخوانق ووقفُ الوقوف عليها، وهي المدارس النظاميات بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ وغير ذلك.
ومنها: ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف.
وصنّف أبو المعالي الجويني كتابًا للنظام سماه "غياث الأمَم في التياث الظلم"، وذكر فيه
(1)
قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصولُ الجهاد إلاّ بأموالٍ تُقَام بها الجيوش، إذْ أكثر النّاسِ لو تُرِكُوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن تُرِكَ جمع الأموالِ وتحصيلُها حتى يحدث فتق عظيم من عدوّ أو خارجي كان تفريطًا وتضييعًا. فالرأي أن تُجمعَ الأموالُ ويُرصَدَ للحاجة.
وطريق ذلك أن توظَّف وظائفُ راتبةٌ لا يَحصُل بها ضررٌ، ويَحصُل
(1)
ص 283 وما بعدها.
بها المصلحة المطلوبةُ من إقامة الجهاد. والوظائف الراتبة لابدّ أن تكون على الأمور العادية، فتارةً وظَّفوها على المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقدارًا، إما على مقدار المبيع وإمّا على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العَقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارةً يُشبه الزكاة المشروعة من كونه يُوجَد في العام على مقدار؛ وتارةً يُشبِه الخراج الشرعي؛ وتارةً يُشبِه ما يُؤخَذ من تجار أهل الذمة والحرب.
ومنهم من يَعتدي، فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصلُه محرَّم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضعٍ على أجور المغاني من الرجال والنساء، فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالاً في نفسِها، وإنما المحرَّم الظلم فيها، كغالب الأثمان والأجور، وتارةً تكون في نفسها حرامًا، كأثمان الخمور ومُهُور البغايا. وكان بعد موت الملك العادل بالشام قد وضعه ابنه ذلك على دار الخمر
(1)
والفواحش، فبَقِيَ غيرَ ممنوعٍ من جهة السلطان، لما له عليه من الوظيفة، وكان ذلك سنة خمس عشرة [وست مئة].
وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان بأرض المشرق، واستولى على أرض الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون، وظهرت بدع في العلماء والعُبَّاد، كبحوث ابن الخطيب
(2)
(1)
في الأصل: "ودار الخمر".
(2)
أي كتب الرازي الكلامية والفلسفية.
وجست العميدي
(1)
وتصوّف ابن العربي وخِرقة اليونسية وبعض الأحمدية والعَدَوية وغير ذلك.
وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع، فإن هذا إذا صدر باجتهاد فهو في الأصلِ مشوب بهوىً ومقرون بتقصيرٍ أو عدوان، وإن التقصير أو العدوان صادر أيضًا من أكثر الرعية، فإن كثيرًا منهم أو أكثرهم لو تُرِكوا لما أدَّوا الواجبات التي عليهم، من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادرٌ من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقبضونه من الأموال بغير حق، ويَصرِفونه في غير مَصرِفه، ويتركون أيضًا ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فجمعُ هذه الأموال وصرفُها هي من مسائلِ الفتن، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراءٍ وأهواءٍ، وهي مشتملة على طاعاتٍ ومعاصِي وحسناتٍ وسيئاتٍ، وأمور مجتَهد فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا، نظير الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام، وأنواع الزهادات والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في الأصول والفروع والعبادات والأحوال، فإنها أيضًا مشتملةٌ على حسناتٍ وسيئاتٍ، طاعاتٍ ومعاصي، وأمورٍ مجتهدٍ فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا.
(1)
أي طريقة العميدي في الجدل والخلاف، وهي طريقة ابتكرها وقلَّده فيها المتأخرون.