المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مذهب الشافعي وسائر الأئمة في القرآن خلاف قول الأشعري - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ بدعة القدرية والمرجئة

- ‌ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل

- ‌ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما

- ‌ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم

- ‌ يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ

- ‌ كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء

- ‌نحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ

- ‌ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل

- ‌ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ

- ‌ هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام

- ‌ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ

- ‌ لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ

- ‌التوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه

- ‌ الحلفُ بغير الله من باب الشرك

- ‌أوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ

- ‌ مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري

- ‌ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين

- ‌ فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ

- ‌المشركون أعداءُ إبراهيم

- ‌تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها

- ‌هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح

- ‌من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلَاّ بعمله فقد خرق الإجماع

- ‌ علامة الفاجر الكذبُ والفجور

- ‌ عِمارةُ المساجد بالصَّلوات الخمس وقراءةُ القرآن

- ‌ نفي الإيمان وإثباته باعتبارين:

- ‌ بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر

- ‌ حكاية مسلم بن يسار

- ‌كلُّ معبودٍ سوى الله باطل

- ‌الإمام إذا كان مُخطئًا في نفسِ الأمر كان بمنزلةِ الناسي

- ‌ غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل

- ‌ طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر

- ‌ الرسول بَيَّنَ للناسِ الأدلةَ العقليةَ

- ‌ من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجبُه النظَرُ المعقولُ

- ‌من تَركَ الجهادَ عذَّبه الله عذابًا أليمًا بالذُّلّ وغيره

- ‌أقلُّ ما يجب على المسلمين أن يُجاهِدوا عدوَّهم في كلِّ عام مرةً

- ‌ في الحركة في سبيل الله أنواعٌ من الفوائد:

- ‌ الإيمان لا يَتِمُّ إلاّ بالجِهاد

- ‌الجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة

- ‌ الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنِّه أنه يُقتل قسمان:

- ‌ الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر

- ‌أفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبرّ وأتقى

- ‌ جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين

- ‌جنس الجهاد أفضل من جنس الحج

- ‌ رَهْبانية هذه الأمة: الجهادُ في سبيل الله

- ‌إن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك، فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك

- ‌ ما أتلَفَه أهلُ البَغْي على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال، لا يَجبُ عليهم ضمانُه

- ‌ما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه

- ‌ يُجزِئ دفعُ الزكاة إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها

- ‌لهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق(1)متنوعة:

- ‌ ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به

الفصل: ‌ مذهب الشافعي وسائر الأئمة في القرآن خلاف قول الأشعري

ثمَّ إذا عُرِفَ مذهبُهم بَقِيَ خَطَؤُهم في أصولٍ:

منها: زَعْمُهم أنَّ معاني القرآنِ معنىً واحد هو الأمرُ والنهيُ والخبرُ، وأنَّ معنى التوراةِ والإنجيل والقرآنِ معنى واحدٌ، ومعنى آية الكرسي معنى آيةِ الدَّين. وفسادُ هذا معلومٌ بالضرورة.

ومنها: زَعْمُهم أنَّ القرآنَ العربيَّ لم يتكلَّم الله به.

(وأطالَ في ذلك وبَرهنَ عليه بما يَطولُ هنا ذِكْرُه، وقال بعد ذلك:)

وأوَّلُ من قال هذا في الإسلام عبدُ الله بن سعيد بن كُلَاّب، وجَعَلَ القرآنَ المنزَّلَ حكايةً عن ذلك المعنى. فلما جاءَ الأشعريُّ واتبعَ ابنَ كُلَاّب في أكثرِ مقالتِه ناقشه على قوله:"إنّ هذا حكايةٌ عن ذلك"، وقالً: الحكايةُ تُماثِلُ المحكيَّ. فهذا اللفظُ يَصِحُّ من المعتزلةِ، لأنَّ ذلك المخلوقَ حروفٌ وأصواتٌ عندهم وحكايةٌ مثله، وأما على أصلِ ابن كُلَاّبٍ فلا يَصِحُّ أن يكون حكايةً. بل نقولُ:"إنّه عبارةٌ عن المعنى".

ف‌

‌أوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ

. وكان البلاقلَاّني -فيما ذُكِرَ عنه- إذا دَرَّسَ مسألةَ القرآن يقولُ: هذا قولُ الأشعري ولم يَتبيَّنْ صحتَه، أو كلامًا هذا معناه.

وكان الشيخ أبو حامدٍ الإسفراييني يقول:‌

‌ مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري

، وقولُهم هو قولُ الإمام أحمد

(1)

.

(1)

انظر "مجموع الفتاوى"(12/ 160 - 161).

ص: 127

وكذلك أبو محمد الجويني ذكرَ أنَّ الأشعريَّ خالفَ في مسألةِ الكلامِ قولَ الشافعيِّ وغيرِه، وأنه أخطأ في ذلك.

وكذلك سائرُ أئمةِ أصحابِ مالكٍ والشافعيّ وغيرِهما يَذكرون قولَهم في حَدِّ الكلام وأنواعِه من الأمر والنهي والخبر العامّ والخاصّ وغير ذلك، ويجعلونَ الخلافَ في ذلك مع الأشعري، كما هو مبيَّنٌ في أصول الفقه التي صنفها أئمةُ أصحابِ أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم.

(ثم قال بعدَ ذلك:) ومن قالَ من المعتزلةِ والكُلَاّبيَّة: إنّ القرآنَ المنزَّلَ حكايةُ ذلك، وظَنّوا أنَّ المبلِّغ حاكٍ لذلك الكلامِ، ولفظُ الحكايةِ قد يُرادُ به مُحاكاةُ الناسِ فيما يقولونه ويفعلونَه اقتداءً بهم وموافقةً لهم؛= فمن قال: إنَّ القرآن حكايةُ كلامِ الله تعالى بهذا المعنى، فقد غَلِطَ وضَلَّ ضلالاً مُبينًا، فإنّ القرآنَ لا يَقدِرُ الناسُ على أن يأتوا بمثلِه، ولا يَقدِر أحد أَن يأتي بما يَحكِيْه.

وقد يُراد بلفظ "الحكاية" النقلُ والتبليغ، كما يقال:"فلان حكَى عن فلانٍ أنه قال كذا"، كما يقال عنه:"نقلَ عنه". فهذا بمعنى التبليغ للمعنى. وقد يقال: "حُكِيَ عن فلان أنه قالَ كذا وكذا"، لِما قالَه بلفظِه ومعناه، فالحكايةُ هنا بمعنى التبليغ للفظ والمعنى، لكن يُفَرَّق بينَ أن يقول: حَكيتُ كلامَه على وجهِ المماثلةِ له، وبينَ أن يقول: حكيتُ عنه كلامَه، وبَلَّغتُ عنه أنه قال مثلَ قوله من غيرِ تبليغ عنه، وقد يُرادُ به المعنى الآخر، وهو أنه بَلَّغَ عنه ما قالَه.

فإن أُرِيدَ المعنى الأولُ جازَ أن يُقالَ: هذا حَكايةُ كلامِ فلانٍ،

ص: 128

وهذا مِثلُ كلامِ فلانٍ، وليسَ هو مبلِّغًا عنه كلامَه. وإن أُريدَ به المعنى الثاني -وهو ما إذا حكى الإنسانُ عن غيرِه ما يقولُه وبلَّغَه عنه- فهنا يُقال: هذا كلامُ فلانٍ، ولا يُقال: هذا حكايةُ كلامِ فلانٍ.

كما لا يُقال: هذا مثلُ كلام فلان. بل قد يُقال: هذا كلامُ فلان بعينه، بمعنى أنه لم يُغيِّرْه ولَم يُحرِّفْ، ولم يَزِدْ ولم يَنقُص.

ص: 129

فتوى في الخضر

ص: 131

بسم الله الرحمن الرحيم

(قال بعد حكاية القول بحياة الخضر واحتجاج القائلين به ما نصه:)

وقالت طائفةٌ: هو ميت، فإنَّ حياتَه ليس فيها دليلٌ يَصلُح مثلُه للخروج عن العادة المعروفةِ في بني آدم، وذلك بأنَّ حياتَه ليس فيها خبرٌ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه. والحديث المذكور في مسند الشافعي

(1)

مرسل ضعيف. والحديث الذي يُروَى في اجتماع الخضر وإلياس كلَّ عامٍ بالموسم وافتراقِهما على تلك الكلمات

(2)

هو أضعفُ من ذلك الحديث، والكلماتُ كلماتٌ حسنةٌ، لكنَّ الخبرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعِهما كلَّ عامٍ وافتراقِهما على هؤلاء الكلمات خبرٌ ضعيف. وإذا لم يكن فيه خبرٌ صحيح عمن عَلَّم أمَّتَه كلَّ شيء،

(1)

انظر ترتيبه لمحمد عابد السندي (1/ 216). ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة"(7/ 268) عن علي بن الحسين مرسلاً. وفي إسناده شيخ الشافعي القاسم العمري متروك. وروي من وجه آخر ضعيف، ولا يصحّ. انظر "البداية والنهاية"(2/ 258).

(2)

أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(16/ 426 - 427) وابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 195) عن ابن عباس. قال الدارقطني في "الأفراد": هذا حديث غريب من حديث ابن جريح، لم يحدّث به غير هذا الشيخ عنه. يعني الحسن بن رزين. وقال ابن المنادي: هو حديث واهٍ. انظر "البداية والنهاية"(2/ 261).

ص: 133

وقال أبو ذر

(1)

: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يُقلِّب جَناحَيْه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا، ونحو ذلك، مع أنه أخبرَهم بقصته مع موسى وتفصيلِ ما جَرى له معه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَدِدْتُ أنَّ موسى صَبَرَ حتى يُقَصَّ علينا من خبرِهما"

(2)

. فلو كان حيًّا كانت حياتهُ أعجبَ من ذلك كلِّه، فكيف لا يُخبِر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم كيف يُخبِرُ به فلا يُبلغُه أصحابُه ولا كانَ هذا معروفًا عندهم؟

وأيضًا فلو كان حيًّا لكان يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد اجتمعَ به ليلةَ المعراجِ من ماتَ قبلَه، فكيفَ لا يَجتمعُ به مَن هو حَيّ في وقتِه؟

وأيضًا كان يجب عليه الإيمانُ به والمجاهدةُ معه، كما قال تعالى:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ)

(3)

الآية. قال ابن عباس

(4)

: ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه الميثاقَ لئن بُعِثَ محمد وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به ولينصُرَنَّه، وأمرَه أن يأخذ الميثاقَ على أمتِه لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصُرُنَّه.

والخضر إما نبيٌّ أو من أتباع الأنبياءِ، وعلى التقديرين فعليه أن يُؤمنَ بمحمدٍ ويَنصُرَه، ومعلوم أن ذلك لو وقعَ لكان مما تَتوفَّر الدَّواعي والهِمَمُ على نقلِه، فقد نَقَلَ الناسُ مَن آمنَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم من الأحبارِ

(1)

أخرجه أحمد (5/ 153، 162) عنه.

(2)

أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.

(3)

سورة آل عمران: 81.

(4)

انظر تفسير ابن كثير (2/ 728).

ص: 134

والرُّهبان، فكيف لا يُنقَل إيمانُ الخضرِ وجهادُه معه لو كان قد وقعَ؟

وقولُ من قال: "الخضر كان حيًّا في حياته" بمنزلةِ قولِ من يقولُ: "يُوشَع بن نُون كان حيًّا أو بعضُ أنبياءِ بني إسرائيل كإلياسَ"، وهذا باطلٌ لمقدمتين:

إحداهما: لو كانَ حيًّا لوجبَ عليه أن يُؤمنَ به ويُهاجِرَ إليه ويُجاهِدَ معه.

والثانية: أنَّ ذلك لو وقعَ لتوفَّرتِ الدواعيْ والهِمَمُ على نقلِه.

وإذا كانَ هارونُ ونحوُه تبعًا لموسى، وكان أنبياءُ بني إسرائيلَ تبعًا لموسى، فكيفَ لا يكون الخضرُ ونحوُه إنْ قُدِّرَ نبوتُه تبعًا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي ما خَلَقَ الله خلقًا أكرمَ عليه منه، وما تَلَقَّوه عن الله بواسطةِ محمد صلى الله عليه وسلم أفضلُ مما تَلَقَّوه بغيرِ واسطةِ موسى.

وأيضًا فإنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد أخبرَ بنزولِ المسيح ابنِ مريمَ آخرَ الزمانِ، وذكرَ أنه يَحكُمُ فينا بكتاب الله وسنة رسوله

(1)

، والمسيحُ أفضلُ من الخضرِ، فلو كان الخضرُ حَيًّا لكان يكونُ مع محمدٍ ومع المسيحِ ابنِ مريمَ. وقول بعضِ الناس

(2)

: "إن الرجلَ الذي يقتلُه الدَّجَّالُ هو الخضرُ" لا أصلَ له.

(1)

أحاديث نزول المسيح متواترة، وقد جمعها السيوطي وغيره.

(2)

قال معمر: بلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه. انظر مصنف عبد الرزاق (20824). وقال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان راوِي صحيح مسلم: يقال إن هذا الرجل هو الخضر. انظر صحيح مسلم (2938). وليس في مثل هذا البلاغ حجة، ولا مستندَ لهذا القول.

ص: 135

(ثم قال:) وعدمُ إيمانه بموسى إنما كان لأنَّ موسى لم يُبعَثْ إليه، كما في الحديث الصحيح

(1)

: إنَّ موسى لمّا سلَّم عليه قال له: وأنَّى بأرضِك السلامُ؟ فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيلَ؟ قال: نعم. وقال في أثنائِه: يا موسى إني على علمٍ علَّمنِيْه الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علم من علمِ الله عَلَّمَكَه الله لا أَعْلَمه.

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فدعوتُه عامةٌ لجميع الخلقِ أَسْودِهم وأَحْمرِهم، فلا يُمكِنُ الخضرَ وغيرَه أن يُعامِلَ محمَدًا صلى الله عليه وسلم ويُخاطِبَه كما عاملَ موسى وخاطبَه، بل على كلِّ من أدركَ مبعثَه أن يُؤمِنَ به ويُجاهِدَ معَه، ولا يَستغنِيَ بما عنده عما عنده. وكلُّ مَن جَوَّزَ لأحد ممن أدركَتْه دعوةُ الرسولِ أن يكونَ مع محمدٍ كما كان الخضرُ مع موسى= فهو ضَالّ ضلَالاً مُبِيْنًا، بل هو كافرٌ يُستَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ.

ولهذا لم يكن في العلم بحياةِ الخضرِ بتقديرِ صحتِها ولا في وجودِه حيًّا مَنفعة للمسلمين، ولا فائدة لهم في ذلك، فإنه في المسند والنسائي عن جابرٍ

(2)

أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيدِ عمر بن الخطاب ورقةً من التوراةِ، فقال:"أَمُتَهَوكَونَ يا ابنَ الخطّاب؟ لقد جِئتكُم بها بَيضاءَ نقيَّة، لو كان موسى حيًّا لَما وَسِعَه إلاّ اتباعِيْ".

فإذا كانَ هذا حالَ الأمةِ مع موسى فكيفَ مع الخضرِ وأمثالِه؟

(1)

أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.

(2)

أخرجه أحمد (3/ 387) والدارمي (441). وفي إسناده مجالد ضعيف.

ومع ذلك صححه ابن كثير في "البداية والنهاية"(1/ 458). وقد حسنه الألباني في "إرواء الغليل"(1589) لشواهده.

ص: 136

والمسيحُ إذا نَزلَ إنّما يَحكُم في الأمَّةِ بكتابِ ربِّها وسنَّةِ نبيها. فليستْ هذه الأمة محتاجةً في شيء من دِينها إلى غيرِ كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى شيء آخر، ولا إلى غيرِ نبيٍّ لا خَضِرٍ ولَا غيرِه، فإن الذي يَجيْئُهم إن جاءَهم بما عُلِمَ في الكتاب والسنَّةِ لم يُحْتَجْ إليه فيه، وإَن جاءَهم بخلافِ ذلك كانَ مردودًا علَيه.

ولهذا كان أكثرُ من يتكلم في هذه الأشياءِ أهلُ الضَّلالِ والحيرةِ والتهوُّكِ الذين لم يَستبينُوا طريقَ الهدى من كتاب الله وسنَّةِ رسوله، بل يتعلقون بالمجهولاتِ ويرجِعون إلى الضلالاتِ. ونجدُ كثيرًا منهم يَعنُون بالخضر الغوثَ.

(ثم أطالَ الكلامَ في تقريرِ ذلك).

ص: 137

سؤال في يزيد بن معاوية

ص: 139

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه:

ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في يزيد بن معاوية هل كان صحابيًّا؟ وما حكمُ مَنْ يعتقدُ أنه [كان] صحابيًا أو أنه كان نبيًّا؟ وهل في الصحابة مَنْ اسمه يزيد؟

فأجاب رضي الله عنه فقال:

الحمدُ لله رب العالمين. يزيدُ بن معاوية بن أبي سُفيان الذي تولَّى على المسلمين بعد أبيه معاوية بن أبي سفيان لم يكن من الصحابة، ولكن عمه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة. فإن أبا سفيان بن حرب كان له عدّة أولاد: منهم يزيد بن أبي سفيان، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، ومنهم أمُّ حبيبة أمُّ المؤمنين، تزوَّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قد آمنت قبل أبيها وأخويها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ثم حَلَّتْ من زوجها، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم. وزوَّجَها ابن عمها خالدُ بن سعيد

(1)

. وأصدقَ النجاشيُّ صَداقَها عن النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

انظر طبقات ابن سعد (8/ 99).

(2)

أخرجه أحمد (6/ 437) وأبو داود (2107) والنسائي (6/ 119) عن أم حبيبة.

ص: 141

وزوجة أبي سفيان هندُ بنت عتبة بن ربيعة.

فلما كان عامُ فَتْحِ مكة أسلم أبو سفيان وامرأتُه وأولاده، وأسلم سائرُ رؤساء قريش مثل سُهَيْل بن عمرو، والحارث بن هشام أخي أبي جهل بن هشام، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عمّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وغير هؤلاء، وأسلم أيضًا عِكْرِمَةُ بن أبي جهل، وصَفْوان بن أمية، وغيرُهما.

وهؤلاء كانوا سادات قريش وأكابرَهم بعد الذين قُتلوا منهم ببدْر، وكانوا قبل ذلك كُفَّارًا مُحاربين لله ورسوله، قد قاتلوه يوم أحُد ويوم الأحزاب، ثم لما فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة مَنَّ عليهم وأطلقهم فسُمّوا الطلَقَاء.

وكان قد أخذ بعضادتَي البيت فقال

(1)

: ماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نقولُ: أخٌ كريم وابنُ عم كريم، قال: إني قائل لكم ما قال يوسف لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92))

(2)

.

وكان إسلامُ أبي سفيان قبل دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة بمرّ الظهران.

وهرب منه عكرمة ثم رجع فأسلم. وصفوان وغيره شهدوا حُنينًا وهم كُفّار، ثم أسلموا بعد ذلك.

(1)

أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 143) بإسناد حسن، ولكنه مرسل. وانظر طبقات ابن سعد (2/ 141 - 142).

(2)

سورة يوسف: 92.

ص: 142

وعامةُ هؤلاء الذين أسلموا عام الفتح حَسُنَ إسلامُهم، مثل سُهَيْل بن عمرو، ومثلُ عِكْرِمَة بن أبي جهل، ومثل يزيد بن أبي سفيان، ومثل الحارث بن هشام، ومثل أبي سفيان بن الحارث.

فإنّ هؤلاء صاروا من خيار المسلمين.

فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخْلِفَ أبو بكر وقام بجهاد المرتدِّين والكافرين أمَّر الأمراءَ لقتال النصارى بالشام وفَتْحِ الشام. فكان ممن أمَّره يزيدُ بن أبي سفيان أخو معاوية وعمُّ يزيد الذي تولّى الملك. وأمر خالدَ بن الوليد، وأمَّر عمرو بن العاص، وأمَّر شرحبيل بن حَسَنَة، وهؤلاء كلُّهم من الصحابة.

ومشى أبو بكر الصديق في ركاب يزيد بن أبي سفيان ووصاه بوصية معروفة عند العلماء ذكرها مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيرهم، واعتمد عليها العلماء في الجهاد.

ففي "الموطأ"

(1)

عن يحيى بن سعيد أنّ أبا بكر الصدّيق بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج معه يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع. فزعموا أنَّ يزيد قال لأبي بكر: إمَّا أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله.

ثم قال: إنك ستجد قوما حَبَّسوا أنفسهم لله، فَذَرْهُمْ وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له. وستجد قومًا فَحَصُوا عن أوساط

(1)

2/ 447 - 448.

ص: 143

رؤوسهم، فاضربْ ما فحصوا عنه بالسيف. وإنِّي موصيك بعشرٍ: لا تقتلنّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تَقطعنَّ شجرًا مثمرًا، ولا تخربنّ عامرًا، ولا تعقرنّ شاةً ولا بعيرًا إلَاّ لمأكلة، ولا تحرقنّ نخلاً ولا تُفَرِّقنه، ولا تَجْبُنْ ولا تغلُلْ. وذكر وصية أخرى.

ويزيد هذا الذي أمَّرهُ الصدّيقُ وكان من الصحابة هو عند المسلمين من خيار المسلمين، وهو رجلٌ صالح، وهو عند المسلمين خَيْر من أبيه أبي سفيان ومن أخيه معاوية.

فلما فتح المسلمون بلاد الشام في خلافة أبي بكر وعمر وتُوفي أبو بكر واستُخلِفَ عمر، كان أبو عبيدة بن الجراح ويزيدُ بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيلُ بن حَسَنَة نُوّابًا لعمر بن الخطاب على الشام.

وكان الشامُ أربعةَ أرباع:

الربعُ الواحد: ربعُ فلسطين، وهو بيتُ المقدس إلى نهر الأردُنّ الذي يقال له الشريعة.

والربعُ الثاني: ربع الأردُنّ وهو من الشريعة إلى نواحي عجْلون إلى أعمال دمشق.

والربع الثالث: دمشق.

والربع الرابع: حمص.

وكانت سِيْسُ وأرضُ الشمال من أعمال حمص.

ص: 144

ثم إنه في زمن معاوية أو يزيد جُعل الشام خمسة أجناد، وجُعلت قِنِّسْرين والعواصمُ أحدَ الأخماس.

وكان المسلمون قد فتحوا الشام جميعها إلى سيْس وغيرها، وفتحوا قبرص. كان معاويةُ قد فتحها في خلافة عثمان بن عفّان.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بغزوات البحر، وأخبر أمّ حَرَام بنت ملحان أنها تكون فيهم

(1)

، فكان كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فلما كان في أثناء خلافة عمر بن الخطاب مات في خلافته أبو عُبيدة بن الجرّاح، ومات أيضًا يزيد بن أبي سفيان.

ولما كان المسلمون يُقاتلون الكفّار، ويزيد بن أبي سفيان أحدُ الأمراء، كان أبوه أبو سفيان وأخوه معاوية يُقاتلان معه تحت رايته، وأُصيب يومئذ أبو سفيان، أُصيبتْ عينُه في القتال.

فلما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، ولى عمر مكانه على أحد أرباع الشام أخاه معاوية بن أبي سفيان.

وبقي معاوية أميرًا على ذلك، وكان حليمًا كريمًا، إلى أن قُتِلَ عمر. ثم أقرّه عثمانُ على إمارته، وضم إليه سائرَ الشامِ، فصار نائبًا على الشام كُلّه.

وفي خلافة عثمان وُلد لمعاوية ولدٌ سمّاه يزيد باسم أخيه يزيد.

(1)

أخرجه البخاري (2788، 2789 ومواضع أخرى) ومسلم (1912) عن أنس بن مالك.

ص: 145