الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيضًا فقد قلنا في عَقِبَ هذا
(1)
: "إنَّ
مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل
، وتكييفٍ يُفضي إلى تمثيل". وقلتم: هذا حقٌّ صريح وحكم صحيح، فهذا التأويلُ الذي يُفضي إلى التعطيل معلومٌ أنه قد وُجِدَ، فإن كثيرًا من المتأوِّلينَ يَنفي الصفات كلَّها وأحكامَها، وبعضهم يثبتُ أحكامَها، وبعضهم يثبت أحوالَها، وبعضهم يثبت بعضها دونَ بعض، فهؤلاء مُعطِّلةُ الصَفاتِ أو بعضِها، وأهلُ الَحديث يخالفونهم في هذا.
ولم نُرد بالتعطيلِ تعطيلَ اللفظ عن معنًى، فإن التأويل لا يتصَوَّر أن يُفضي إلى هذا التعطيل، لأنَّ المتأوّل لابُدَّ أن يَحمِلَه على معنًى مَّا، فلا يكون قد عَطَّله عن جميع المعاني، وإنما عَطَّل الصفةَ التي دلَّ عليها النصُّ، وعَطَّلَه عن معناه المفضول المفهوم. ومعلوم أن التأويل المُفْضي إلى هذا التعطيل قد وقعَ فيه كثيرٌ من المتكلمين نُفَاةِ الصفاتِ أو بعضِها، ومعلوم أنّ هذا التأويل يُنكِره أهل الحديث، وكلُّ من وافقَهم من المتكلمين على إثباتِ صفةٍ فإنه يُنكِر التأويلَ الذي يُفضي إلى تعطيلها. فكيف يَصِحُّ بعد هذا أن يُقال بالموجب إلاّ بالموافقة؟
نعم، لو قيل: بعضُ هذه التأويلات التي ينفونَها نقول بصحتها، لكان هذا سؤالاً متوجِّهًا، وهو غير السؤال المذكور، ومع هذا فليس هذا موضعَه، وإنما موضعُه الأدلة.
(1)
"مجموع الفتاوى"(6/ 355).
ثمّ إنا قد فرضنا بأن الدعوى عامة، وإنما أقمنا الدليلَ على بطلان التأويل في صفة اليد، وهي بعض صورة الخلاف، لأن هذا حكاية مناظرةٍ جَرَتْ، وكان الكلامُ في صفة اليد نموذجًا يُحتَذَى عليه غيرُه من الكلام في غيرِها.
وأيضًا فإنا قلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وَجَدَ ما يقولُ المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلا". فكان موجبه القول بالموجب: إنّا لا نُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين، وليس هذا المنع مطابقًا للدعوى، فإنّا لم نقلْ: إن تأويل المعتبرين من المتكلمين الذين يخالفون به المعتبرين من المحدثين باطل، وإنما قلنا:"تأويل المتكلمين المخالف"، ومعلوم أن المتكلمين اسم عام، فتأويلُهم المخالفُ لأهل الحديث يَدخُلُ فيه تأويلُ كلِّ متكلم من الجهمية والنجارية والمعتزلة، بل ومن الفلاسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية، فما الذي أوجبَ أن يُحملَ هذا اللفظُ العام على تأويل خاص من تأويلات المتكلمين؟
من غيرِ أن يكون في اللفظ ما يدلُّ عليه، بل تمامُ الكلام يُصرِّح بالعموم حيثُ قلنا:"أمهات المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين -ممن يَنتحِلُ مذهب الأشعري- لأهل الحديث ثلاثة".
فهذا يدلُّ على أن المتقدمين من المتكلمين خالفوا أهلَ الحديث في أكثر من ذلك، وهذا هو الواقع، فكيف يكون المنعُ المتوجّهُ "لا نُسلم أن معتبري المتكلمين خالفوا معتبري أهل الحديث"؟ وهل هذا إلاّ بمنزلةِ أن يُقال: ما خالفَ به الفلاسفةُ الأَنبياءَ فهو باطل، فيقال: لا نُسَلِّم أن فُضَلاءَ الفلاسفة خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: ما خالفَ به
المتكلمون للكتاب والسنة فهو باطل، فيقال: لا نُسلِّم أن معتبريهم خالفوا الكتاب والسنة؛ أو يقال: ما خالف فيه بنو آدم للأنبياء فهو ضلال، فيقال: لا نُسَلِّم أنَّ معتَبرِي الآدميين خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: كُفَّارُ مكةَ من قريش والعرب في النار، فيقال: لا نُسَلِّم أن المعتبرين من أهل مكة أو قريش والعرب كفروا.
وأيضًا فقولكم -أحسن الله إليكم-: "لا أُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين"، أما الذين تَعنُون بالمعتبرين من المتكلمين لا يَخلُو: إمّا أن تُريدوا بالمعتبرين ناسًا معيَّنينَ أو موصوفينَ، فإن أردتم ناسًا معيَّنين فاذكروا مَن شِئتم من جميع أعيان المتكلمين، حتى أذكُرَ لكم أنَّ أقوامًا من أعيان المتكلمين رَدُّوا عليه تلك التأويلات وأبطلوها، فضلاً عن أهلِ الحديث. بل سَمُّوا مَن شِئتم، حتَّى أُبيِّنَ أنه نفسه يَرُدُّ بنفسِه على نفسِه، وأنّه يتأوَّلُ التأويلَ في كتابٍ، ثمَّ يمنعُه أو يُبطِلُه في كتابٍ آخر، وربما فَعَلَ ذلك في المصنَّفِ الواحدِ.
وإن أردتم بالمعتبَرِين موصوفِين، مثل أن يقال: المعتبرُ مَن له بَصَرٌ ثاقب وعلم بما يجوز ويجب ويمتنع على اللهِ وما يَسُوغُ في لسان العرب، حتى يتأوَّل بعقلِه وعلمِه ومعرفتِه بالمعقولاتِ والمسموعاتِ تأويلاً سائغًا= فهذا أوسعُ عليكم من الأول، فإن المتكلمين أنواعٌ مختلفة، وكلٌّ منهم يَرُدُّ على الآخر تأويلاتِه ويُبطِلُها ويُحرمُها عليه، بل كثير منهم يُكَفِّر الآخر ببعضِ تلك التأويلات، حتى إنّ التلميذَ منهم يُكَفِّر أستاذَه.
وأهلُ الحديث موافقون لهم جميعهم في إنكار تلك التأويلاتِ لا في إثباتِ شيء منها:
فنُفاةُ الرؤيةِ من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة يتأولون النصوصَ فيها تارةً برؤية أفعال الله، وتارةً برؤية القلب الذي هو زيادة العلم، ومُثبِتُو الرؤية من أهل الحديث والكلام يَرُدُّون ذلك ويُنكِرونَه.
ومُنكِرُوْ الكلامِ الحقيقي يتأولون "قال الله ويقول" بمعنى أنه أحدثَ في غيرِه كلامًا خاطبَ به عبادَه، ومُثبِتو الكلامِ الحقيقي من أهل الحديث والكلام يُبطِلون هذا التأويلَ ويُحرِّمونَه.
ونفاةُ الصفات يتأولون (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)
(1)
و (ذُو الْقُوَّةِ)
(2)
والسمع والبصر ونحو ذلك، ومُثبتو الصفاتِ من أهل الحديث والكلام يُنكِر [ونَ] هذه التأويلات. بَل الأشعريةُ المتمسكون بالقولِ الثاني -كالأشعري في "الإبانة"، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاّني، وابن شاذان، وابن فورك وغيرهم- يُنكِرون على من يتأؤلُ صفةَ اليد والوجه وغير ذلك، كما صَرحوا به في كُتُبهم
(3)
.
والمسلمون جميعًا يُنكِرون على متكلمي الفلاسفة الذين يتأوَّلون ما وردَ في صفة الملائكة والجنّ والجنّة والنّار والقيامة وحَشْر الأجساد.
وأهلُ الإثبات جميعًا -أهل الحديث وأهل الكلام- يُنكِرون
(1)
سورة النساء: 166.
(2)
سورة الذاريات: 58.
(3)
انظر "الإبانة" للأشعري (ص 35 - 39) و"التمهيد" للباقلاني (ص 295 - 298).
على القدرية الذين يتأولون آياتِ الإضلال والختم والطبع والإغواء ونحو ذلك من نصوصِ القدر.
وأهلُ الحديث قاطبةً مع مَن وافقَهم من أهل الكلام يُنكِرون على من يتأوَّلُ النصوصَ المُدْخِلةَ للأعمال في الإيمان.
وجميعُ أهل القبلة إلاّ الوعيديَّة يُنكِرون على الخوارج والمعتزلة تأويلهم نصوصَ الشفاعة.
والمسلمون جميعًا يُنكِرون على القرامطة والباطنية والإسماعيلية وزنادقةِ الفلاسفة وغُلاةِ الصوفيةِ تأويل نصوصِ الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والجنايات ونحو ذلك.
وأهلُ الحديثِ قاطبةً والفقهاءُ والصوفية مع من اتبعَهم من المتكلمين وجماهير أهل القبلة يُنكرون على المتكلمين والمتفلسفة الذين يتأولون نصوصَ الفوقية والعلوّ. وكذلك يُنكرون على الذين يتأوَّلون نصوصَ الصفات بما سنذكره إن شاء الله.
وأهلُ القبلة جميعًا محدِّثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم إلا الخوارج والمعتزلة ينكرون تأويلَ هاتينِ الفرقتين النصوصَ المُدخِلةَ للعُصاةِ في اسم الإيمان في الجملة.
دعَ التأويلات المتعلقةَ بأصول الدين، هؤلاء الفقهاء لا يزال بعضُهم يَرُدُّ تأويلاتِ بعضٍ ويُبيِّنُ فسادَها قديمًا وحديثًا، ويُوافقُهم على ذلك الردّ أهل الحديث، مع أن الفقهاء معتبرون، فكيف يقال: لا نسلِّم أن معتبرًا ردَّ تأويلَ معتبرٍ، بل مفسِّرو القرآن وشُرَّاح الحديث
لا يزال أهل الحديث وغيرهم يَرُدُّون بعض تلك التفسيرات والتأويلات وينكرون، وذلك أشهرُ وأكثرُ من أن يُسَطَّر.
ثمّ كلٌّ من هؤلاء الممنوع من ذلك التأويل المردود تأويلُهُ معتبر، بمعنى أنه ذو ذهنٍ ذكيّ وعلمٍ واسع وفضيلةٍ جيدة، بل كثير من هؤلاء المردود عليهمِ يَعتقد أتباعُه فيه أنه أفضلُ من كثيرٍ من المعظَّمين عند غيرِه، فإن فسَّرتَ "المعتبر" بأنه المهتدي أو الذي أجمع المسلمون على أمانته، فالجواب من وجوه:
أحدها: أنا لا نُسلِّم أن تأويلَ مثلِ هذا لا يُرَدُّ، بل تأويلُه الباطل يُرَدُّ، كما تُرَدُّ فتواه الضعيفة وحديثُه الذي غَلِطَ فيه.
الثاني: أن مثل هذا لا يدخل في مطلق اسم المتكلمين عندنا، كما يَشهَدُ به استعمالُ لفظ المتكلمين.
الثالث: أنّ هذا منع لغير ما ذُكِر، فإنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف لتأويل المحدثين باطل، فقيل: لا نُسَلم أن تأويل من [عُلِمَ] هداه أو من استفاض عند الأمة هداه باطلٌ، ونحنُ ما ادَّعَينا هذا قَطُّ، وما ذكرناه من هذا الكلام إنما هو نزولٌ مع المخاطب، فإنه فَهِمَ من قولنا "أهل الحديث" المحدثين الذين يروون الحديث أو يحفظونه، وهذا لا يدلُّ عليه لفظُنا ولم نَعْنِه، فإنّ أهلَ الحديث هم المنتسبون إليه اعتقادًا وفقهًا وعملاً، كما أن أهل القرآن كذلك، سواء رَوَوا الحديث أو لم يَروُوه، بحيث يدخلُ في مثل هذه العبارة اسم التابعين وتابعيهم، كالفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب وذَوِيْه، وعلقمة والأسود وطبقتهما، وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي
والزهري ومكحول ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني وابن عون ويونس بن عبيد ومالك والحمادَيْن والسفيانَين والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر بن الحارث.
فإن قلتم: مرادُنا لا نسلِّم أن المعتبرين من المحدثين حرَّموا على المتكلم المعتبر أن يتأوَّل، بمعنى أنهم لم يمنعوه من جنس التأويل، لا أنهم لم يمنعوه من التأويل المعيَّن، لكن سوَّغوا له أن يتأول، كما يسوغ للمفتي أن يفتي وللقاضي أن يقضي، وإن كان يخالف في بعض أقضيته وفتاويه، كذلك المتأول قد يخالف في بعض تأويلاتِه، وإن لم يكن ممنوعًا من جنسها.
قلنا أولاً: كلامُكم يخالف هذا، لأنكم قلتم: إنْ نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ من التأويل حَملناهُ على التأويل بغير دليل أو على غيرِ القواعد الكلية، ومعلوم أنّ كلَّ من تأوَّلَ تأويلاً من المشاهير وقد ردَّه عليه غيرُه فإنما تأؤله بدليل من عندِه، وعلى القواعد العلمية عنده، بل يُقيم الأدلة التي يَزعُم أنها قاطعة في وجوب ذلك التأويل وامتناعِ الإقرار على الظاهر، مع مخالفةِ جماهير علمَاءِ القبلة وقَطْعِهم بأنه ضالٌّ أو مخطئ في تأويلِه، ولعلَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم أو كلّهم قد يُكفِّرونه بذلك التأويل، كما يُكفِّرون نُفاةَ حَشْرِ الأجساد، وإنْ تأوَّلُوا ما جاءت به الرسُلُ لأدِلَّةٍ ادَّعوها وعلى قواعدَ وَضَعوها.
وأعجب من هذا -ولا عَجَبَ- قولُكم: "توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم من تخطئِه بعضهم"، فهل إلى هذا من سبيل؟ وقد عُلِمَ بالاضطرار اختلافُ أهلِ القبلةِ في كثيرٍ من تأويل الآيات والأحاديث: هل تُصْرَف عن ظاهرها أم تُقَرُّ على ظاهرِها؟ وإذا صُرِفَتْ فهل تُصْرَفُ
إلى كذا أم إلى كذا؟ بل الكتبُ والنقول مشحونةٌ بتكفير بعض المتأولين فضلاً عن تخطئتِه. وأما تخطئةُ بعضِ المتأولين فهذا أمرٌ معلومٌ بالاضطرار في الأصول والفروع والتفسير والحديث والشعر واللغة وغير ذلك، بل عامةُ الاختلاف بين أهل القبلة إنما هو من تخطئةِ بعضهم في فهمِه للكتاب والسنة وتأويلهما على وجهٍ يخالفُه فيه الباقونَ.
فإن قلتم: كلُّ من تأوَّلَ بدليلٍ على القواعد سَوَّغناه له، وإن كان قد يُخطِئُ.
قلنا: فيكون تأويلُ الجهمية والقدرية والخوارج والروافض والوعيدية والباطنية والفلاسفة كلُّها سائغةً وإن كانت خطأً، وهذا مما عُلِمَ بالإجماع القديم بل بالاضطرار من دينِ الإسلام أنَّ جميعَ هذه التأويلات ليست سائغةً، بل تسويغ جميعِ هذه التأويلات على خلافِ إجماع هذه الفرق كلها، فإن جميع فرق الأمة لا يسوِّغ جميع التأويلات.
وقلنا ثانيًا: فنحنُ إنما قلنا: "تأويل المتكلمين الذي يخالفون به أهلَ الحديث باطل"، وهذا تأويل موصوف، ولا يلزم من بطلانِ النوع المقيَّد بطلانُ الجنس المطلق، فإذا أبطلنا التأويلَ المخالفَ لأهل الحديث [لا] يلزمنا أن نمنعَ كلَّ تأويلٍ في الدنيا، وأن نُحرِّم على كلّ معتبرٍ أن يتأوَّل تأويلاً لا يخالف أهلَ الحديث .....
(1)
.
(1)
كتب في الأصل بعده: "بياض".