المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ بدعة القدرية والمرجئة

- ‌ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل

- ‌ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما

- ‌ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم

- ‌ يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ

- ‌ كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء

- ‌نحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ

- ‌ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل

- ‌ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ

- ‌ هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام

- ‌ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ

- ‌ لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ

- ‌التوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه

- ‌ الحلفُ بغير الله من باب الشرك

- ‌أوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ

- ‌ مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري

- ‌ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين

- ‌ فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ

- ‌المشركون أعداءُ إبراهيم

- ‌تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها

- ‌هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح

- ‌من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلَاّ بعمله فقد خرق الإجماع

- ‌ علامة الفاجر الكذبُ والفجور

- ‌ عِمارةُ المساجد بالصَّلوات الخمس وقراءةُ القرآن

- ‌ نفي الإيمان وإثباته باعتبارين:

- ‌ بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر

- ‌ حكاية مسلم بن يسار

- ‌كلُّ معبودٍ سوى الله باطل

- ‌الإمام إذا كان مُخطئًا في نفسِ الأمر كان بمنزلةِ الناسي

- ‌ غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل

- ‌ طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر

- ‌ الرسول بَيَّنَ للناسِ الأدلةَ العقليةَ

- ‌ من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجبُه النظَرُ المعقولُ

- ‌من تَركَ الجهادَ عذَّبه الله عذابًا أليمًا بالذُّلّ وغيره

- ‌أقلُّ ما يجب على المسلمين أن يُجاهِدوا عدوَّهم في كلِّ عام مرةً

- ‌ في الحركة في سبيل الله أنواعٌ من الفوائد:

- ‌ الإيمان لا يَتِمُّ إلاّ بالجِهاد

- ‌الجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة

- ‌ الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنِّه أنه يُقتل قسمان:

- ‌ الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر

- ‌أفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبرّ وأتقى

- ‌ جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين

- ‌جنس الجهاد أفضل من جنس الحج

- ‌ رَهْبانية هذه الأمة: الجهادُ في سبيل الله

- ‌إن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك، فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك

- ‌ ما أتلَفَه أهلُ البَغْي على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال، لا يَجبُ عليهم ضمانُه

- ‌ما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه

- ‌ يُجزِئ دفعُ الزكاة إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها

- ‌لهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق(1)متنوعة:

- ‌ ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به

الفصل: ‌من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع

قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية:

‌من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلَاّ بعمله فقد خرق الإجماع

، وذلك باطل من وجوه كثيرة:

أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.

ثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها.

ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.

رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير.

خامسها: أن الله تعالى يُخرِج من النار من لم يعمل خيرًا قط بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم.

سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير.

سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)

(1)

فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما.

(1)

سورة الكهف: 82.

ص: 203

ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير.

تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.

عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.

حادي عشرها: المدين قد امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قَضى دينَه أبو قتادة

(1)

، وقضى دينَ الآخر عليُّ بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من عمل الغير.

ثاني عشرها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده: "ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه"

(2)

، فقد حصل له فضلُ الجماعة بفعل الغير.

ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير.

رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع بعمل الغير.

(1)

أخرجه البخاري (2289، 2295) عن سلمة بن الأكوع.

(2)

أخرجه أحمد (3/ 5، 45، 64، 85) والدارمي (1375) وأبو داود (574) وابن خزيمة (1632) عن أبي سعيد الخدري.

ص: 204

خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير.

سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره.

سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه، وهو عمل غيره.

ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد، وهو انتفاع للبعض بالبعض.

تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)

(1)

، وقال تعالى:(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ)

(2)

، وقال تعالى:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)

(3)

.

فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل الغير.

عشروها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يَمونُه الرجل، فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها.

(1)

سورة الأنفال: 33.

(2)

سورة الفتح: 25.

(3)

سورة البقرة: 251، سورة الحج:40.

ص: 205

حادي عشريها: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون، ويثاب على ذلك ولا سعيَ له.

ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يُحصى، فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟

ص: 206

رسالة في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم -

ص: 207

إلى ما خُلِقوا له من عبادتِه، كما قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57))

(1)

، وقال تعالى:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

(2)

، وقال تعالى:(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46))

(3)

، وقال تعالى:(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53))

(4)

.

وفرض على أهل الأرضِ: عَرَبِهم وعَجَمهم، وإنْسِهم وجنَهم، ودَانِيْهم وقاصيْهم اتّباعَه وطاعتَه، كما قال تعالى:(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158))

(5)

، وقال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)

(6)

.

(1)

سورة الذاريات: 56 - 57.

(2)

سورة يوسف: 108.

(3)

سورة الأحزاب: 45 - 46.

(4)

سورة الشورى: 52 - 53.

(5)

سورة الأعراف: 158.

(6)

سورة سبأ: 28.

ص: 209

وقال صلى الله عليه وسلم: "فُضَلْنا على الأنبياءِ بخمسٍ: جُعِلَتْ صفوفُنا كصفوفِ الملائكة، وجُعِلتْ لنا الأرضُ مسجدًا طَهورًا، وأُحِلَّتْ لنا الغنائمُ ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلَنا، وكان النبيُّ يبعث إلى قومِه خاصةً وبُعِثتُ إلى الناس عامةً". أخرجاه في الصحيحين

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يَسمَعُ بي في هذه الأمة يهوديّ ولا نَصرانيّ ثمَّ لا يُؤمنُ بي إلاّ دَخَلَ النارَ". رواه مسلم

(2)

.

وتصديقُه قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)

(3)

.

ولم يَجعَلْ لأحدٍ بلغَتْه رسالتُه وصولاً إلى الله وإلى رحمتِه إلاّ بمتابعتِه، كما قال تعالى:(قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85))

(4)

، وقال في الآية الأخرى:(فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137))

(5)

، وقال تعالى:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31))

(6)

.

(1)

البخاري (335، 438) ومسلم (521) بلفظ: "أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهن أحدٌ قبلي

"، وليس فيه "جُعِلَتْ صفوفنا كصفوف الملائكة"، وهذا الجزء ضمن حديث حذيفة عند مسلم (522).

(2)

برقم (153) عن أبي هريرة.

(3)

سورة هود: 17.

(4)

سورة آل عمران: 84 - 85.

(5)

سورة البقرة: 137.

(6)

سورة آل عمران: 31.

ص: 210

وقال الحسن البصري وغيره

(1)

: ادَّعتْ طائفة أنهم يُحبُّون الله على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:(إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)، فجعلَ اتباعَ الرسول مُوجِبَ محبَّةِ العبدِ ربَّه جلَّ وعلَا، موجبًا لمحبّهِ الربِّ تعالى عبدَه ومغفرتِه ذنوبَه.

وفي الصحيح

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ الناس يَدخُلُ الجنَّةَ إلاّ من أبَى"، قالوا: يا رسولَ الله! ومن يأبَى؟ قال: "من أطاعَنِي دَخَلَ الجنَّةَ، ومن عَصَانِي فقد أبي". كقوله تعالِى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14))

(3)

، وقوله تعالى:(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65))

(4)

. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}

(5)

.

وهذا بابٌ واسعٌ، وهو متفقٌ عليه بين المسلمين. فافترقَ الناسُ فيما جاء به الرسولُ ثلاثَ فِرَق:

فرقة امتنعوا من اتباعِه، كاليهود والنصارى والمشركين ونحوهم، فهؤلاء كُفّارٌ تَجِبُ معاملتُهم بما أمر الله به ورسولُه.

(1)

أخرجه الطبري (3/ 155) عن الحسن وابن جريج.

(2)

البخاري (7280) عن أبي هريرة.

(3)

سورة النساء: 13 - 14.

(4)

سورة النساء: 65.

(5)

سورة النساء: 64.

ص: 211

وقسم آمنوا بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، واتبعوا ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم.

وقسم أظهروا الإيمانَ بألسنتهم، ولم يَدخُلِ الإيمانُ في قلوبِهم. فهؤلاء المنافقون الذين قال الله فيهم:(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1))

(1)

إلى آخر السورة. وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10))

(2)

إلى تمام ثلاث عشرة آية.

وأنزل الله في صفاتهم سورة براءة، وذكرهم في غيرِ موضع من القرآن، وأمرَ رسولَه بجهادِهم كما أمرهُ بجهاد الكفار. وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9))

(3)

.

وأما الكفار فيجاهَدون حتى يُؤمنوا أو يُؤَدُّوا الجزيةَ إن كانوا من أهلِها، كما قال تعالى:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29))

(4)

.

(1)

سورة المنافقون: 1.

(2)

سورة البقرة: 8 - 10.

(3)

سورة التحريم: 9، وسورة التوبة:73.

(4)

سورة التوبة: 29.

ص: 212

وأما المنافقون فجهادُهم بإقامةِ الحدود عليهم، هكذا ذكره السلف، لأنهم يُظهِرون الإسلام بألسنتهم، فإذا خَرجوا عن موجب الدين أُقِيمَ الحدُّ عليهم، وهم قسمانِ:

قوم نافقوا في أصل الدين، وأظهروا الإيمان بالله ورسوله، وليس ذلك في قلوبهم، بل هم غافلون عما جاء به الرسولُ ومُعرِضون عنه، إلى الاشتغالِ بدينِ غيرِه، والاشتغالِ بالدنيا عن نفسِ إيمانِ القلوب، وأضمروا تكذيبَ الرسولِ أو بُغضه أو معاداتَه أو معاداة ما جاءَ به. فمتى لم يكن الإيمانُ بالله ورسوله في قلوبِهم كانوا منافقين في أصلِ الدين، سواءٌ كانوا معتقدين لِضدِّ ما جاء به الرسولُ أو خَالِينَ عن تصديقِه وتكذيبه، كما أنّ كلَّ من لم يُظْهِر الإسلامَ فهو ظاهرُ الكفر، سواء تكلَّم بَضدِّه أو لم يَتكلَّم. ولا يُنْجِي العبادَ من عذاب الله تعالى إلاّ إيمان يكون في قلوبهم، حتى إذا سُئِل أحدُهم في الَقبر فقيل له: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ قال: ربِّي الله، والإسلامُ ديني، ومحمد نبيِّي، فيُفتَح له باب إلى الجنَّة، وينام نومةَ العروسِ الذي قد دخلَ بامرأتِه، لا يُوقِظُه إلاّ أحبُّ أهلِه إليه.

وأما المنافقُ فيقولُ: هاه هاه، لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُ مثلَهم، فيُضْرَبُ بمِرْزَبةٍ من حديدٍ، فيَصِيح صيحةً يَسمعُها كلّ شيء إلاّ الإنسان، ولو سمعَها الإنسانُ لصَعِقَ

(1)

. قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)

(1)

أخرجه أحمد (4/ 287، 288، 295، 297) وأبو داود (4753) وابن ماجه (1548، 1549) من حديث البراء بن عازب. وأصله في الصحيحين مختصرًا.

ص: 213

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146))

(1)

.

والقسم الثاني: المنافقون في بعض أمور الدين، مثل الذي يُكثِر الكَذِبَ أو نَقْضَ العهدِ أو خلافَ الوعدِ، أو يَفْجُر في الخصومة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهنَّ كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلفَ، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر".

أخرجاه في الصحيحين

(2)

.

وقد أوجبَ الله تعالى على أهلِ دينه جهادَ مَن خَرَجَ عن شيءٍ حتى يكونَ الدينُ كلُّه لله، كما قال تعالى:(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

(3)

فمن خَرَجَ عن بعضِ الدين إن كانَ مقدورًا عليه أُمِرَ بالكلام، فإن قَبِلَ وإلاّ ضرِبَ وحُبسَ حتى يؤديَ الواجبَ ويَتركَ المحرَّم، فإن امتنعَ عن الإقرارِ بما جَاء به الرسولُ أو شيءٍ منه ضُرِبَتْ عُنُقُه.

وإن كان في طائفةٍ ممتنعةٍ قُوتِلُوا، كما قاتلَ أبو بكر رضي الله عنه وسائرُ الصحابة مانعي الزكاةِ، مع أنهم كانوا مُقِرِّينَ بالإسلام بَاذِلينَ للصلواتِ الخمسِ، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: واللهِ لو مَنَعُوني عَنَاقًا كانوا يُؤدُّونَها إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على

(1)

سورة النساء: 145 - 146.

(2)

البخاري (34، 2459، 3178) ومسلم (58) عن عبد الله بن عمرو.

(3)

سورة الأنفال: 39.

ص: 214

مَنْعِها

(1)

. وكما قاتلَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومَن معه من الصحابة الخوارجَ، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:"يَحْقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم وصيامَه مع صيامِهم وقراءتَه مع قراءتِهم، يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ حَناجرَهم، يَمْرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّة، أينَما لَقَيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قَتْلِهم أجرًا عند الله لمن قَتَلَهم يومَ القيامةِ"

(2)

.

وهؤلاء الخوارجُ الحَرُوريةُ هم أولُ من ابتدعَ في الدين وخَرج عن السنةِ والجماعة، حتى إنّ أوَّلَهم خَرجَ عن سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حياتِه، وأنكرَ على النبي صلى الله عليه وسلم قِسْمةَ المالِ، وأنزلَ الله فيهم. وفي أمثالِهم:(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)

(3)

. قال ابن عباس وغيرُه: تبيضُّ وجوهُ أهلِ السنة وتَسْوَدُّ وجوهُ أهلِ البدعةِ والفُرقة

(4)

.

فكلُّ من خرج عن كتابِ الله وسنةِ رسوله مِن سوائر الطَّوائِفِ فقد وجب على المسلمين أن يَدْعُوهُ إلى كتاب الله وسنّة رسوله بالكلام، فإنْ أجاب وإلا عاقبُوهُ بالجَلْدِ تارةً، وبالقتلِ أُخرى على قَدْرِ ذَنبه، وسواء كان مُنْتَسِبًا إلى الدينِ مِنَ العلماء والمشايخ أو مِن رُؤَساء الدنيا من الأمراء والوزراء، فإنَّ من هؤلاء فيهم الأبرارُ والفُجَّارُ.

(1)

أخرجه البخاري (1400 ومواضع أخرى) ومسلم (20) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري (3610 ومواضع أخرى) ومسلم (1064) عن أبي سعيد، وبعضه عند البخاري (3611) ومسلم (1066) من حديث عليّ.

(3)

سورة آل عمران: 106.

(4)

انظر تفسير ابن كثير (2/ 747).

ص: 215

فأبرارُهم هم أئمَّةُ الدِّين وهداةُ المسلمين وصالحُو المجاهدين أهلُ الإيمان والقرآن؛ والحاملُ النَّاصرُ للإيمان والقرآن، هُمْ صَفْوَةُ الله من عباده وخِيَرَتُه من خلقِه، وموضعُ نظرِ اللهِ إلى الأرضِ، وورثةُ الأنبياء وخَلَفُ الرُّسُل، قال الله تعالى فيهم:(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64))

(1)

.

والبُشْرَى قد فَسَّرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصَّالحةِ يَراها المؤمنُ أو تُرَى له

(2)

، وبالثَّناءِ الحَسَنِ مِن المؤمنين

(3)

.

ومُرَّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بجنازةٍ فأَثنوا عليها خيرًا، فقال:"وَجَبَتْ وَجَبَتْ"، ومُرَّ عليه بجنازةٍ فأثنوا عليها شَرًّا، فقال:"وَجبتْ وَجَبَتْ"، قالوا: يا رسولَ الله! ما قولك وَجَبتْ؟ قال: "هذه الجنازة أثنيتُم عليها خيرًا فقلتُ وَجَبَتْ لها الجَنَّةُ، وهذه الجنازة أثنيتُم عليها شَرًّا فقلتُ وَجَبَتْ لها النَّارُ، أنتُم شُهَدَاءُ الله في الأرض"

(4)

.

فمن شَهِدَ له عُمُومُ المؤمنين بالخيرِ كان مِن أهل الخير، ومَن شُهِدَ له بالشَّرِّ كان من أهل الشَّرِّ.

(1)

سورة يونس: 62 - 64.

(2)

أخرجه أحمد (5/ 315، 321) والدارمي (2142) وابن ماجه (3898) عن عبادة بن الصامت. وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره. انظر تفسير ابن كثير (4/ 1759، 1760).

(3)

أخرجه مسلم (2642) عن أبي ذر.

(4)

أخرجه البخاري (1367، 2642) ومسلم (949) عن أنس.

ص: 216

وهؤلاء الفُجَّارُ المنتسبون إلى عِلمٍ أو دينٍ أو إِمْرَةٍ أو رِئَاسةٍ كالذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) إلى أن قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34))

(1)

وقد قال تعالي كتابه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7))

(2)

، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المغضُوب عليهم: اليهودُ، والضَّالِّين هم: النصارى"

(3)

. قال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح.

قال العلماء: فمن أُوتِيَ عِلْمًا فلم يَعْمَلْ به كان فيه شَبَهٌ من اليهود الذين عرفوا الحقَّ ولم يتَبعُوه، ومَن عَبَدَ الله بلا عِلمٍ كان فيه شَبَه مِن النصارى الذين ابتدَعُوا الرَّهبانيةَ وعبدُوه بغير شريعةٍ.

وأما المؤمنونَ حقًّا فهُمُ المتمسكُونَ بالشريعة والمِنْهَاج المحمَّدِيِّ كما قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)

(4)

وقال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18))

(5)

.

(1)

سورة التوبة: 34.

(2)

سورة الفاتحة: 6 - 7.

(3)

أخرجه أحمد (4/ 378) والترمذي (2953، 2954) عن عدي بن حاتم.

وانظر تفسير ابن كثير (1/ 164 - 165).

(4)

سورة المائدة: 48.

(5)

سورة الجاثية: 18.

ص: 217

ومن أعظم هؤلاء ضَلالاً: مَن انتسَبَ إلى إمام أو شيخ من شيوخ المسلمين، وابتدَعَ في دين الله ما لم يأذن به الله، أو ضَمَّ إلى ذلك أنواعًا من التكذيب والتلبيسِ، كهؤلاء المُتَوَلِّهينَ الذين يَفْتِلُونَ شُعُورَهم، ومَن وافقهم من المُظْهِرِين كمُحَرقة النَّار واللاذَنِ وماءِ الوَرْدِ والسُّكَّرِ والعسلِ والدم مِن صُدُورهم، وإمساكِ الحَياتِ زاعمينَ أنَّ ذلك كرامة لهم؛ واحتيالاً عن الصدِّ عن سبيل الله، وأكلِ أموال الناسِ بالباطلِ.

أمَّا فَتْلُ الشُّعور ولفِيفُهَا فبدعة ما أمر بها نبىٌّ ولا رجل صالح ولا فعلها مَن يُقتدى به، بل قد شَرَعَ الله ورسوُله صلى الله عليه وسلم التَّرجُّل مِن تَسْريح الشَّعر ودَهْنِه.

ودخل عليه رجلٌ ثائرُ الشَعر فقال: "أَمَا وَجَدَ هذا ما يُسَكِّنُ به شَعْرَهُ؟ "

(1)

.

ولعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والموصولةَ

(2)

، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال

(3)

.

وأمر بإحفاءِ الشارب وإعفاء اللِّحية

(4)

، وقال: "مَن كان له شَعْرٌ

(1)

أخرجه أحمد (3/ 357) وأبو داود (4062) والنسائي (8/ 183) عن جابر بن عبد الله. وصححه ابن حبان والحاكم.

(2)

أخرجه البخاري (5941) ومسلم (2122) عن أسماء. وفي الباب أحاديث أخرى.

(3)

أخرجه البخاري (5885) عن ابن عباس.

(4)

في أحاديث عديدة في الصحيحين وغيرهما.

ص: 218

فليُكْرِمُهُ"

(1)

؛ لا سيما والشَّعْرُ إذا كان لا يَدْخُلُ فيه الماءُ إلى باطنِه، لا يصحُّ الاغتسال من الجنابة، ويبقى صاحبُه لا طهارةَ له ولا صلاةَ، ومَن لا صلاة له لا دين له.

وكذلك معاشرة الرجل الأجنبي للنسوةِ ومخالطتُهنَّ مِن أعظم المنكرات التي تأباها بعضُ البهائم فضلاً عن بني آدم، قال الله تعالى:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)

(2)

، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)

(3)

.

وفي "الصحيح"

(4)

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إيَّاكم والدُّخُولَ على النِّساءِ" قالوا: يا رسول الله، أَفَرَأيْتَ الحَمْوَ؟ قال: الحَمْوُ المَوْتُ".

فإذا كان قد نهَى أن يدخُلَ على المرأة حموُها أخُو زَوْجِهَا، فكيف بالأجنبيِّ؟

وقال

(5)

: "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامرأةٍ، فإنَّ ثالثَهُما الشَّيطَانُ".

وقال

(6)

: "لا تسافرِ المرأةُ مَسِيرَةَ يومين إلا مَع زوج أو ذِي مَحْرَمٍ".

(1)

أخرجه أبو داود (4163) عن أبي هريرة.

(2)

سورة النور: 30.

(3)

سورة النور: 31.

(4)

البخاري (5232) ومسلم (2112) عن عقبة بن عامر لا ابن عباس.

(5)

أخرجه أحمد (1/ 18، 26) والترمذي (2165) وابن ماجه (2363) عن عمر.

(6)

أخرجه البخاري (1197) ومسلم (بعد رقم 1338) عن أبي سعيد.

ص: 219

وكان إذا صلى في مسجده يُصلِّي الرِّجالُ خلفَه وخلفَهم النساءُ، فإذا قضَى الصلاةَ مَكَثَ هو والرجالُ حتى يَخْرُجَ النساءُ لئلَاّ تختلط النساءُ بالرجال.

وقال

(1)

: "خيرُ صفوفِ الرجالِ أولُها، وشرُّها آخرُها، وخيرُ صفوفِ النساءِ آخرُها، وشرُّها أولُها".

وقال أيضًا

(2)

: "يا معشرَ النِّساءِ! لا تَرْفَعْنَ رؤوسكُنَّ حتى يَرْفَعَ الرجالُ رؤوسَهم مِن ضيقِ الأُزْرِ"، لئلَاّ تَبْدُوَ عورةُ الرجالِ فتراها المرأة.

وأَمَرَ النساء إذا مَشَيْنَ في الطريق أن يمشينَ على حافةِ الطريق ولا يَحْقُقْنَ الطريقَ

(3)

-أي: لا يَكُنَّ في وَسَطِه- بل يكونُ وَسَطَه الرجالُ لئلَاّ يَمَسَّ مَنْكِبُ الرجلِ مَنْكِبَ المرأة، حتى يُروَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تَرَكَ بابًا من أبواب المسجد للنساء، ونهَى الرجال عن دخوله، فكان عبد الله بن عمر لا يدخله

(4)

.

وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما مَسَّتْ يَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَ امرأةٍ لم يَمْلِكْها قَطُّ"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم (440) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري (362) ومسلم (441) عن سهل بن سعد.

(3)

أخرجه أبو داود (5272) عن أبي أسيد الأنصاري.

(4)

أخرجه أبو داود (462، 463) مرفوعًا وموقوفًا، وقال: وهو أصح.

(5)

أخرجه البخاري (2713 ومواضع أخرى) ومسلم (1866).

ص: 220

ولما جاء النساء يُبايعْنَه، قال:"إنِّي لا أُصافحُ النِّساءَ، وإنَّما قولي لمِئَةِ امرأة كقولي لَامرأةٍ واحدةٍ"

(1)

.

ويروى

(2)

أنه وَضع يده في إناءٍ فيه ماءٌ، ووضعْنَ أيدِيَهُنَّ فيه، ليكون ذلك عِوَضًا عن مصافحة النساء. كل ذلك لئلا يمسَّ الأجانبَ، وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتزوجَ بتسع؛ وسَيدُ الخَلق وأكرمُهم عند الله تعالى، فكيف بهؤلاء الضُّلَاّل المبتدعينَ الخارجينَ عن الإسلام الذين يجمعون بين النساءِ والرجالِ في ظلمة أو غير ظلمةٍ؟

ويُوهِمُ بعضُهم للنساء أن مباشرة الشيخ والفقراء قربة وطاعة، وأنه مُسْقِطٌ للصلاة، ويتخذونَ الزِّنَا والقيادةَ عِبَادةً، ويتركون ما أمر الله تعالى به من الصلوات واجتناب الفواحش، فما أحَقَّهم بقوله تعالى:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59))

(3)

.

ثم يَعُدُّونَ التَّوَلُّهَ والتجَانُنَ وقِلةَ العقل والخروجَ عن العقل والدين قُرْبَةً وطاعةً، ويوهِمون الجُهَّالَ والأغْمَارَ من الأعراب والأتراك والفلَاّحين والنِّسوان أنَّ هؤلاء صَفْوَةُ الله تعالى، وإنَّ هؤلاء قد وَرَدَ عليهم مِن الأحوالِ ما جعلهم هكذا، فيتصرَّفُون في النفوس والأموال تَصَرُّفُ اللِّصِّ الخادع والمنافقِ المُخادع، مُوهِمِينَ حُصُولَ البركةِ

(1)

أخرجه أحمد (6/ 357) والترمذي (1597) والنسائي (7/ 149، 152) وابن ماجه (2874) عن أميمة بنت رقيقة. وقال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

أخرجه ابن إسحاق في السيرة، كما في "الفتح"(8/ 637).

(3)

سورة مريم: 59.

ص: 221

لمَنْ أفسدوا عليه دِينَه ودُنْياه، كما يَفعل الرُّهبانُ والقسِّيسونَ بعَوامِّ النصارى، وهذا شيءٌ لم يَبْعَثِ الله به نبيًّا ولا قاله رجلٌ صالح قط، ومَن كان مِن الناس قد ذهب عقلُه حتى صار مجنونًا فقد رُفِعَ القلَم عنه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ القلمُ عن الصبيِّ حتى يبلُغ، وعن النائِم حتى يستيقِظَ وعن المجنون حتى يُفِيقَ"

(1)

.

وينبغي أن يُعالَجَ هذا بما يُعالَجُ به المجانين، فإنَّ الجُنُونَ مَرَض من الأمراض أو عارض من الجنّ، ومِن هؤلاء قوم لهم قلوبٌ فيها تأله وإنابةٌ إلى الله تعالى ومحبة له وإعراض عن الحياة الدنيا، قد يُسَمَّونَ "عُقَلاء المَجَانِين"، وقد يُسَمَّون "المُوَلهين" فهم كما قال فيهم بعضُ العلماء:"قومٌ أعطاهم الله عُقُولاً وأحوالاً فسلَب عُقُولَهم وأبقى أحوالَهم، فأسْقَطَ ما فَرَضَ بما سَلَبَ".

فالمجانين كالعُقَلاء فيهم مَن فيه صَلَاحٌ، وفيهم مَن لا صَلَاح له.

وسَبَبُ جُنُونِ أحدِهم: إمَّا وارِد وَردَ عليه من المحبة أو المخافة أو الحُزْنِ أو الفَرح حتى انْحَرفَ مِزَاجُه. أو خَلْط غَلَبَ عليه من السَّوداءِ. أو قَرِين قُرِنَ به من الجِنِّ.

فهؤلاء إذا صحَّ أنهم مجانينُ ومولَّهونَ كانوا في قسم المعذورين الممنوع

(2)

على الفساد، ولا يحلُّ الاقتداءُ بِمَن فيه منهم صلاح؛

(1)

أخرجه أحمد (6/ 100، 101، 144) والدارمى (2301) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2541) عن عائشة وفي الباب عن علي.

(2)

كذا في الأصل.

ص: 222

ولا اتباعُ ما يقولُ من الأقوالِ والأفعالِ إلَاّ أن يُوافِقَ الشريعةَ.

ولا ينبغي تعظيمُهم، فإنهم منقُوصُونَ مجروحون، وصالِحُو العقلاءِ أفضلُ منهم بكثيرٍ كثير، وليس فيهم وليٌّ ولا صالحٌ مشهور، وإنما يَغْتَرُّ بهم بعضُ الجُهَّال، لأنَّ جُنُونَهم يُوجبُ أن يُظْهِرَ بعض ما في بواطنهم من كشفٍ أو زُهْدٍ أو تأثيرٍ فَيَسْتَعْظِمُ الجاهلُ ذلك.

وصالحُ العقلاء قد يكونُ معه أضعافُ ذلك، ولا يُظهرُه إلاّ حيث يراه مَصْلَحَةً، وقد يكون كِتْمَانُه أصلحَ لهم؛ فأما هؤلاء المفتلون الشَّعْرَ ونحوهم، فعامَّتُهم مُتَوَلِّهُون لا مُوَلَّهُونَ، يُظهِرُون ذلك كذبًا ومكرًا ومخادعةً للجهّال، كي يَتميَّزُوا بذلك ممَّا يُريدُونَه مِن النفوس والأموال، وحتى لا ينكَرَ عليهم ما يقولونه ويفعلونه من القبيح، فيقول الجاهلُ: هذا مُوَلَّهٌ.

وأحدُهم يميِّزُ بين الدِّرْهم والدينار، والغنيِّ والفقير، ويَعْرِفُ الخَيْرَ والشَّرَّ، وله فكرٌ طويلٌ في الحيلةِ التي يَحْتَالُ على الجُهَّال بها، ويَتَوَاجدون عند السماع المُحْدَثِ أو غيره، فيصيحون ويزعقون ويَزْبدون ويتغَاشَى أحدُهم، فبعض ذلك كذبٌ ومكرٌ وحيلة، وبعضُه عادة فاسدة وطريقةٌ سيئه.

وقد يُقْرَنُ بأحدهم قرين من الجنِّ فيُعينُه على ذلك، كما أنَّ المصروعَ يُزْبِدُ ويصيحُ كما يجري لهؤلاء؛ وشيوخُهُم يُقِرُّونَهم على ذلك [للاحتيال] على الجهال وأَكْلِ أموال الناس بهم؛ وإلاّ فقد أجمع المسلمونَ بلْ واليهود والنصارى أنَّ هؤلاء ضُلَاّلٌ وفَسَقَةٌ، وأن الواجب توبتُهم واتباعُهم لِمَا أمر الله به وتَرْكُ ما نهَى عنه، بل الواجب إذا رأينا

ص: 223

مُوَلَّهًا أو مجنونًا أن نُعالِجَه حتى يصير عاقلاً، فهؤلاء يَعْمِدونَ إلى الصبيانِ يُرَبُّونهم على التولُهِ تربيةً، ويُعَوِّدُونهم الخروجَ عن العقل والدين عادةً كما يُعَوِّدُ الأنبياءُ والصالحونَ أتباعَهم ملازمةَ العقل والدين.

قال النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

: "مروهم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجع".

قال العلماءُ: يجبُ على كافلِ الصبيِّ أن يُعَلِّمَه الطهارةَ والصلاةَ، ويمنعَه اعتيادَ المُحَرَّمات.

وهؤلاء بخلاف ذلك، وعامَّةُ ما يُبْدُونَه من النار ونحوها مكر وحيلة من جنس حِيَلِ الرُّهبان، فإنهم يتوسَّلُون بالطَّلق ودهْنِ الضَّفادع وماءِ النارَنْج إلى أن يَصفُوَ ذلك، ثم يَطْلُونَ به لحومَهم وثيابَهم، فتَصْبِر على النارِ مُدَّةً طويلةً من الزمان، وكذلك يصنعونَ من دَمِ الأخوين ونَبتٍ يُقال له: أمُّ عربيل ما يُظْهِرون به أنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ من أحدهم وقتَ الوَجْدِ، وكذلك اللاذن ونحوه، وأضعاف ذلك، كفعل الرُّهبان على عوامِّ النصارى حِيَلاً أعظمَ من هذه.

وللصالحين كرامات معروفة من تسخير السِّباع والنارِ لهم وتكثير الطعام والشراب ودفع البلاء، ومن المكاشفاتِ وأنواع الخوارق للعادات، في أبواب العلم وأبواب القدرة، لكن طريقةُ الصالحين

(1)

أخرجه أحمد (2/ 180، 187) وأبو داود (495، 496) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن.

ص: 224