الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل الأرض، وكان غالبُهم مشركين، وعلماءُ الصابئين هم الفلاسفةُ، فمن كان من أولئك الفلاسفة مؤمنًا بالله واليوم الأخر عاملاً صالحًا فهو من الصابئين الذين أثنى الله عليهم، ومَن لا فلا
(1)
.
وهذا بخلاف المجوس والذين أشركوا فإنّ الله لم يَحْمَد أحدًا منهم، وإنما ذكرَهُم لبيان حكم الله بينهم وبينَ غيرِهم يومَ القيامة في قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
(2)
.
ولما كان معلومًا أن اليوم الآخر هو يوم القيامة، ولا يؤمن بيوم القيامة إلاّ أتباعُ الأنبياء، إذ مَن لم يتبع الأنبياءَ من الصابئين وغيرِهم إنما يؤمن من المعاد بمعاد الأرواح فقط، كما يؤمن به المجوس وبعض المشركين، وذلك ليس هو اليوم الآخر عُلِمَ أنّ من اهتدى من الصابئين فإنما اهتدى باتباع الأنبياء.
فتبيَّن أن
كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء
، وأنّ كل عذاب اسْتُحِقَّ في الدار الآخرة فهو بالإعراض عمّا جاءوا به، ومَن لم تبلُغْه دعوتُهم فقد ورد أنَّه يُكلَّف في الدار الآخرة، وليس غرضُنا ذِكْر ذلك.
ويُبيِّن ما قدَّمناه أنّ من استَقْرأ أخبارَ الأمم -علمائِها وعوامِّها-
(1)
ذكر المؤلف في "درء تعارض العقل والنقل"(7/ 334) القسمين من الصابئين، كما ذكر هنا.
(2)
سورة الحج: 17.
لم يجدْ أحدًا متمسكًا بتوحيد الله وعبادتِه وحدَه لا شريك له إلاّ من كان متبعًا للأنبياء جملةً وتفصيلا، ومن أعرضَ عن الأنبياء فلابدَّ أن يُشرِك، حتى المنافقين من هذه الأمة لا يَجدُ من أعرضَ عن اتباع حقيقةِ الدين في الباطن إلاّ ولابدّ أن يُشرِك، إلاّ ما شاء الله. وأن اتباعَ الوحي لابُدَّ فيه من فِطرةٍ بها يعقل ويفقه، وأن الهدى متوقف على صلاح الفطرةِ والشِّرعةِ، فلذلك عَمَدَ الشيطانُ من بني آدم، فاجتالَهم تارةً عن الفطرة، وزيَّنَ لهم تارةً تحريف الشِّرعةِ، وغَرَّهُم عن الفطرةِ الصحيحة السليمة بالقياسِ الفاسدِ الذي قد يُسمُّونه معقولاً وإن لم يكن، وعن الوحي المنزلِ بالتحريف الذي يسمُّونه تأويلا وإن كان فاسدًا.
وذلك أنّ العلوم لبني آدم نوعان:
نوع يَختصُّ الله به من يشاء من عبادِه، كما يوحيه إلى الأنبياء.
ونوع مشترك، يُنَالُ بالتعاطي، كالعلوم النظرية الحسابِ ونحوِه.
وكلّ واحدٍ من المختصّ والمشترك منه ما يَحصُل في القلب بواسطةِ دليل، ومنه ما يَحصُل لا بواسطةِ دليل، كالعلوم المشتركة التي لا تقف على دليل كالبديهية والحسّيّة، والتي تفتقر إلى دليلٍ هي النظريَّة. والمختصة التي تقف على دليلٍ قد يكون دليلُها أيضًا مختصا، وقد لا يكون مختصًّا، وإنما دَرْكُ العلمِ به هو المختص.
وأما المختصة التي لا تَقِفُ على دليل فهو ما يُوحِيْهِ الله إلى قلبِ مَن يشاءُ من عبادِه بلا دليلٍ أصلاً، بل تكون للخاصَّة بمنزلة البديهية للعامَّة.
وزعمَ فريقٌ من المتفلسفة أنَّ علومَ الأنبياء المختصة لابدَّ لها من وسطٍ، وإنما خاصَّتُهم دَرْكُ وَسَطٍ لا يُدرِكُه غيرُهم، وأنّ الحَدْسَ هو دَرْكُ الوسط، ثم الانتقال منه إلى المطلوب، بخلاف التفكُّر فإنه تصوُّرُ المطلوبِ أولاً ثم طلبُ الوسط.
وهؤلاء بَنَوا هذا على أصلهم الفاسد في أن النبوةَ كمالٌ علميّ وعملي مِن جنسِ كمالِ النوع المكتَسَب، لكنَّه أرفعُ درجاتِه، وأن النبوةَ ليست خارجةً على القوى المعتادة، ولاهي تنزيلاً خاصًّا من عندِ الله إلى من يختصُّه بمشيئتِه. ولم يعلموا أن لا مانعَ من أن يكون للنبي علم بديهيّ مختص لا يَقِفُ على دليل أصلاً، بل هذا يكون لغيرِ النبي ككثيرٍ من الأولياء، فكيفَ بما يُكلَم الله به النبيَّ أو يَنزِلُ به إليه الملكُ؟
ثمَّ هؤلاء يَزعمون انحصارَ العلم في القياس، ولعَمري إنّ القياسَ لَطريق صحيح إذا استُعمل على وجهِه، لكن لم تَنحصِرْ طرقُ العلم فيه، فوقَعَ عليهم من استعمالِه حيث لا يَمشي ومن نَفْي ما سواه وهو الحق
(1)
.
ثمَّ إن كثيرًا من متكلمي أمتِنا وغيرهم من أتباع الأنبياء أقرُّوا بطريق القياس، لكن شركوهم في القياس الفاسد، فصار القياسُ طريقًا لهم في كثيرٍ من العلم الإلهي، وضَعُفَ عِلْمُهم وإيمانُهم بآثار المرسلين، فقابلوها إمّا بالردِّ والتكذيب، وإمّا بالتحريف والتأويل،
(1)
كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.
معتمدين -زعموا- على ما أوجبَه ذلك القياسُ العقلي. وبإحْكَامِ دلالاتِ الوحي والقياس يَبِيْنُ الحقُّ من الباطل.
ولستُ أعني بالقياسِ هنا مجردَ قياس التمثيل الذي هو تشبيه أمر معين بأمر معين إما بجامع وإما بغير جامع، وإن كان كثيرٌ من فقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه قياسٌ مجازًا؛ ولا مجرد قياس التأصيل الذي هو إدراج الخاص [تحت] العام، كقولنا: كل مسكرٍ خمرٌ، وكل خمرٍ حرام، وإن كان طائفة من متكلمينا وفقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه باطل. بل أعني به ما هو أعمُّ من ذلك على ما تقتضيه اللغة، فإن جميع هذا قياس. وتسميةُ الأول قياسًا ظاهر، إذ القياس تقدير الشيء بنظيرِه، كما يقال: قِستُ الجراحةَ بالميلِ، وقستُ الأرضَ أو الثوب بالذراع. وأما الثاني فلأن الخاصَّ إذا أدرجتَه تحتَ المعنى العام فلا بدَّ أن يقوم في ذهنك عام مطابق لتلك الأعيان الموجودة وأنتَ تطلبُ مماثلةَ تلك الأعيان الموجودة بذلك المثال المعلوم القائم في قلبك الذي هو مقياس تلك الأعيان، وهو عام باعتبار شموله لكل منها.
وهذا العلم هو من لوازم الإنسان وبه [تُدْرَكُ] العلوم العامة الكلية، فإذًا لا يمكنك هذا القياس إلاّ بهذا العلم العام الكلي، والشأن كل الشأن في حصول هذا العلم الكلي العام، فإن المعلوم إذا لم يكن له نظائر يرتسمُ بمعرفة الواحد منها مثالٌ في الذهن يُوزَن به سائرُها، ولا كانت حقيقتُه مما يمكن أن تتعدد، حتى يأخذها العقل كليةً، وإن لم تكن في الوجود متعددة، بل كانت حقيقتُه لا متعددة ولا قابلة للتعدد، بل هو الأحد الذي لا أحد غيره، كيف يمكن أن يُعلَم
هذا الذات بالقياس العقلي أبدًا؟ ولهذا قال ابن عباس ....
(1)
فتبيَّن أن خواصَّ الربّ سبحانَه لا تُعلَم بالقياس الكلّي الذي يُسميه المتكلمون الدليل العقلي. بل قد تُعلَم بالقياس الأمور المشتركة بينه وبين غيرِه، لدخولها تحت القياس. ولهذا كان عامةُ ما يُدرِكُه أهلُ القياس من معرفةِ الأمور السلبية أو الإضافية أو المشتركة منهما، لأن نفي الأمر عنه هو حكم على ذلك الأمرِ بالعدم، وذلك الأمر المعدومُ يدخلُ تحت القياس الكلي، وكذلك إضافة أمرٍ إليه هي حكم على ذلك المضافِ باستلزام الإضافة إلى أمرٍ ما، وذلك المضافُ يدخل تحت القياس والأمر بالمعدومات، وأما علم [الصفات] التي هي خواصُّه فتُعلَم تارةً بالفطرة العامة المشتركة بين الخلق، وتارةً بالهداية الخاصة التي يمتاز بها المؤمنون، وتارة بالتعريف الخاصّ الذي يختص به علماء المؤمنين، وتارةً بالوحي الذي يمتاز به الأنبياء، وكلٌّ من هذه الأقسام فأهلُه فيه على درجاتٍ غيرِ محصورةٍ لنا. فهذا أصلٌ ينبغي ضبطُه.
وأما الوحي فكتاب الله ثم سنة رسوله، ثم سيرةُ خير قرون هذه الأمة تَشهدُ بأن الله ورسولَه بيَّنَ وهَدَى وشَفَى، وأنه بَلَّغَ البلاغ المبين، وبيَّن باللسان العربي المبين، وأنه لم يُحِلِ الخلقَ على غيرِه في هذا الباب، ولا وَكَلَهم إلى القياس الذي لا يُجدِيْ كما تقدم، بل تولَّى بيانَ ما تحتاج إليه الأمة. وهذه جملةٌ سيأتي -إن شاء الله- تفصيلُها.
(1)
بعده كتب في الأصل: "بياض".
ثم لما كان للقياسِ على العقول سلطان عظيمٌ إذا لم يهتدِ إلى مواقفه ومجاريه، وللوحي في القلوب برهانٌ عظيم لعلمِها بما اشتملَ عليه، ورأى أكثرُ الخلقِ أن بينَ مقتضى القياس والوحي تعارضًا بينًا وتنافِيًا واضحًا، تحزَّبَ الناسُ هنا فِرَقًا:
فريقٌ غلبَ عليهم معرفةُ القياس دون الأثارة
(1)
، فاتبعوا موجبَه، ثم ردُّوا ما بلغَهم من الأثارة أو تأولوها.
وفريقٌ غلبَ عليهم معرفة الأثارة، ورأوا للقياس وأهلِه سلطانًا عظيمًا، فأحجموا عن النظرِ فيه ومفاوضةِ أهلِه، صونًا لأبْصارِهم من العمَى ولقلوبهم من الحيرة. وهؤلاء أحسن حالاً، بل هم على نهج سلامةٍ.
وفريقٌ أعرضوا عن تدبُّرِ هذا والنظرِ في هذا، وشَغَلُوا نفوسَهم بغير هذا.
وفريق قَوِيَ إيمانُهم بالأثارة، وأحسُّوا بسُوءِ حالِ أهل القياس، فذَمُّوهم وعابوهم على طريق الإجمال، وإن لم يستطيعوا فَكَّ أقيادِهم ولاتذليلَ قيادهم، وهذه حالُ كثير من علماء الأثارة، وهي حال حسنة، وإن كان قد ترتَّب عليها الجورُ أحيانًا، لكن من كان [من] هؤلاء سببًا لدلالةِ الأثارة نافيًا عنها تحريفَ المخالفين كان من علماء الدين، وإن كان دفعُه للمعارضِ إجماليا.
(1)
هنا وفيما يأتي وردت كلمة "الأثارة" بدل "الآثار"، وفي القرآن:(ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)).
وفريقٌ فوقَ هؤلاء، آمنوا بالأثارة، ثم أُوتُوا من الهداية الخاصة ما عَلِمُوا به فسادَ القياسِ تفصيلاً، فزالتْ عنهم المعارضاتُ بالكلية، ومنهم من يرفع إلى هداية يدرك بها حقيقة بعض ما جاءت به الآثار، فيكون ذلك مُثبتا لفؤادِه.
ثم هذه الطرق قد تنفصل في المسائل، فكثير من أرباب القياس قد خلصَ إليه من الأثارة ما لا يمكن دفعُه، فكان حكمُه في ذلك حكم أرباب الأثارة في غيره، فربّما أخذَ يُؤيِّد بالقياس ما جاءت به الأثارة، وإن كان لولا مجيءُ الأثارة لم يَطمئن إلى موجبِ القياس.
وقومٌ منهم ضَعُفَ علمُهم أو إيمانُهم بالأثارة حتى نَأَوْا عن الهُدَى، ثمّ عَظُمَ قدرُ الأنبياء في قلوبهم بكمال التخيل في دعوة الخلق بضروب الاستعارات وأنواع الإشارات. ولا يَشُكُّ لبيبٌ أن الموغلين في القياس إذا طَرَقَ سَمْعَهم جمهورُ ما جاءت به الأثارة بقُوا متحيرين كما يُخبرون به عن نفوسهم، فإن القياس أيضًا يَقضِي باستحالةِ اجتماع هذه الأثارة وهذا القياس، فصار القياسُ يَقضِي بفساد القياس.
وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم
(1)
بالقياس وأهله يرد عليهم، ثم كثير ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد، وما يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدُّد، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة التي لا تشهدُ إلاّ بحقّ، وما يُخبِر به أهل
(1)
كذا في الأصل.
البرّ والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سُوءِ حالِ هذا وحُسْنِ حال هؤلاء، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءَه في الحياة الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي توجِب رجحانَ موازينهم وخِفّةَ موازينِ مخالفيهم، صارت تُثبتُ أفئدتهم وتَزيد إيمانهم وتدفع عنهم شُؤم المعارضات.
والأمرُ كما أصِفُ وفوقَ ما أصِف، وكان حَصَلَ عندي من هذا ما حَصَلَ، فاجتمع لي من مدة عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي، فلما كان في هذه الأوقات حَدَثَ من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين والنبلاء المتبحرين، عينُ أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومَن تتبيّن الفوائد بمذاكرته وتُستفاد المقاصد بمناظرته، فعَلق عليها من الأسْولةِ ما التمسَ حَلها، ومن المباحثِ ما اقتضى فرعها وأصلها .....
(1)
قلتُ في حكاية المناظرة
(2)
: "قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلكَ سبيلَ السلامة والسكوت، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة، قُلنا كما قال الشافعي رضي الله عنه: آمنتُ بالله وما جاء عن الله على مرادِ الله، وآمنت برسولِ الله وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وإذا سلكنا طريقَ البحث والتحقيق فإن الحقَّ مذهبُ مَن يتأَوَّلُ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَ الصفات من المتكلمين.
(1)
كتبت بعده في الأصل: "بياض".
(2)
انظر "مجموع الفتاوى"(6/ 354)
فقلتُ له: أما ما قالَه الشافعي فإنه حق يجبُ على كل مسلمٍ أن يقوله ويعتقدَه، ومن اعتقده ولم يأتِ بقولٍ يُناقِضه فإنه سالك سبيلَ السلامةِ في الدنيا والآخرةِ. وأما إذا بَحَثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ أنَّ الحقَّ مع أهل الحديث ظاهرًا وباطنًا. فاستعظم ذلك وقال
…
(1)
.
قال الفاضل الباحث على قولنا "إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وجدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلاً": الكلامُ على [هذا] من ثلاثة أوجُهٍ:
أحدها: القول الموجب، فإن المخالفة القول بما يُخالف قولَهم ويُناقِضه، لا القول بما لم يُصرِّحوا بنفيه ولا بإثباتِه، ولا أُسَلِّم أنَّ المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، فإنْ نُقِلَ ما ظاهرُه ذلك حَملناه على التأويل بغيرِ دليلٍ أو على غيرِ القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئةِ بعضِهم. وبالجملة فلا أُسلِّم أنَّ معتبرًا حزَمَ تأويلاً يَشهَدُ العقلُ بصحتِه عند الحاجةِ إليه، لعالمٍ متبحرٍ لا يَرضى بأسرِ التقليد، ولا يرى أن يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العباد.
فإن قيل: فقد اشتهَرَ النهيُ عن الكلام في التأويل.
(1)
اقتبس المؤلف من كلامه هذا القدر لأنه المقصود بالبحث هنا، وتتمته في المصدر السابق.
قلتُ: لعلَّ ذلك للعوامِّ، أو على طريق الورع لا التحريمِ، لِمَ قُلتم إن الأمر ليس كذلك؟
والوجه الثاني: لو سلَّمنا أنّ بعضَهم حرَّم ذلك، فهل نُقِلَ التحريمُ عن نصِّ الله أو عن نصِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجةَ ليستْ في قولِ البعض، لاسيما إذا خالفوا البعضَ الآخر.
الوجه الثالث: أنّا ننقلُ عنهم الإجماعَ على التأويل في بعض المواضع على ما سيأتي، ونطالبُ بالفرق.
والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين:
المقام الأول: في بيان أنّ هذه الأسوِلةَ هل هي متوجهة واردة يَجبُ الجواب عنها أم لا؟
والثاني: في التبرُّع بالجواب بتقديرِ عَدَمِ وجوبِه.
أما المقام الأول
فيمكن أن يقال: نحنُ نطالبكم بتوجيه هذه الأسولةِ، فإنه ليس منها شيء واردًا، فضلا عن أن يستوجبَ جَوابًا.
أما القول بالموجب فعليه أولاً مناقشة معروفة، وهو أن القول بالموجب إنما يَرِدُ على الأدلة دون الدعاوي، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه، ولهذا قيل: إن القول بالموجب سؤال يَرِدُ على كل دليلٍ. لكن المعترض يَدَّعي أنه يقول بموجب دليلِ المستدلّ من غير التزامٍ لدعواه، ببيان عدم دلالتِه على محلّ النزاع،
وحاصلُه أنه يمنع دلالةَ الدليلِ على محل النزاع، ويُضيف إلى ذلك أنه قائلٌ بموجبه، وموجبُه غيرُ محلِّ النزاع، فالقولُ بالموجب إبداءٌ لسندِ المنعِ.
أما الدعوى قبلَ ذكرِ دليلِها، فإذا قيل بموجبها، بأن كانَ قولاً بموجب قصد المدعي، فهو موافقةٌ في المسألة وليس باعتراضٍ، فإن من قال: لا يُقتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، فقيل له: تقول بموجب هذا؟
أي تقول بما قصدتَه بهذه العبارة، كان هذا وفاقًا لا سؤالاً، وإن كان قولاً بموجب لفظه لا يوجب معناه، بأن يكون اللفظ مشتركًا أو مجملاً ونحو ذلك، فيقال بموجبه الذي لم يقصده المدعي، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يُقتَل مؤمنٌ بكافرٍ: تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلامًا قليل الفائدة، ولم يُعَد من الأسولةِ الواردةِ، بل يُعَدُّ من المناقشات اللفظية إن لم يكن ظاهرُ اللفظ ينفي القول بالموجب. فإنه يقال له: لم تحرّر الدعوى، بل ادَّعيتَ الذي ادعيتَ بلفظٍ مجملٍ أو مبهم بخلاف مقصودك. فأما إن كان ظاهره يَنفي القولَ بالموجب فلا مناقشة فيه أصلاً. ثمَّ إذا توجَّهت المناقشة اللفظية مِن الناس مَن يترك مثلَ هذا السؤال ويقول: هو خروجٌ عن مقصود المسألة، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة المتكلم على لفظٍ قد لحن فيه. ومنهم من يُورِده ويَعدُّه من ضَبْطِ آداب المناظرة، والأمر في ذلك قريب.
أما مسألتُنا فالدعوى محرَّرةٌ تمنع القول بالموجب إلاّ على سبيل الموافقة، وعلى سبيل الموافقة لا يَبقَى نزاعٌ، فإنا قلنا: "إذا بَحثَ الإنسانُ وفحصَ وجدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون
به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ الحقَّ مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا". والمخالفةُ لا تكون إلاّ بما يخالف قولَهم ويناقضه، فنصيرُ مدَّعينَ أنَّ قولَ المتكلمين الذي يناقض قولَ أهلِ الحديث قول باطل، كما لو قلنا: إنّ قول المتكلمين الذي يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقولَ قول باطل. وهذا ليس بدليلٍ حتى يكون القول بموجبه سؤالاً جاء في دلالته، وإنما هي دعوى، فإمّا أن نُوافَق عليها أو نُخالَف، فإنْ خُولفْنا فالسؤال على الدليل الآتي، وإن وُوْفِقْنا فالحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
يَبقَى أن يُقال: فهل للمتكلمين قولٌ يخالف قولَ أهلِ الحديث، بحيث يكون الكلام في وجوده؟ أم هو كلام على هذه الحقيقة مع قطع النظرِ على وجودها وعدمها؟ ولا شكَّ أن مرادَنا هو القسم الأول، وإن كان تفسير اللفظ بالثاني ممكنًا، بأن نقول: إن كان للمتكلمين قول مخالف لأهل الحديثِ فهو باطل، وإلاّ فلا نصَّ.
ومثل هذا السؤال إذا قيل: كلّ قول للفلاسفة يخالف الأنبياء فهو باطل، فإن المتفلسف المتأول يزعم أن الفلاسفة موافقون الأنبياءَ لا مخالفون، وإنما يَعتقد مخالفتَهم لهم عوامُّ أهلِ الملل ومتكلمو أهلِ الجدل، فإذا قال: أنا قائل بموجب قولكم لم يكن هذا سؤالاً، لكن إن فهم من المتكلم دعوى وجود المخالفة فله أن يطالب بتعيينها.
ومع هذه المناقشة فتسميةُ مثل هذا الكلام قولاً بالموجب لا تأباه اللغة العربية، بل تساعد عليه، وقد يستعمله الناسُ في مناظراتهم، فإن السائل يقول: ما أوجبتَه بدعواك من بطلان أحد القولين المتناقضين
أنا أقولُ به، لكن لم تُوجَد المناقضةُ بين القولين، فكأنك تدَّعي بطلانَ ما لا وجودَ له، وأنا قائلٌ بموجب عبارتك لا بموجب إرادتِك. وأنتَ تحكمُ على أهل الكلام بمخالفة أهل الحديث، وهذا لم يُوجَد. لكن إذا قال السائل هذا قال له المدَّعي: أنتَ كما قد وافقتَني على مُدَّعايَ، فإن لفظي إمّا أن يَعنِيَ نوعًا أو عَينًا، إن عُنِيَ به النوعُ فليس من ضرورة الحكم على النوع وجودُه في الخارج، بل قد يقول:[من] كذب بسورة يس أو جحد بشيء من القرآن فهو كافر، إن لم يعلم وجود ذلك.
وإن عُنِيَ به العينُ كان التقديرُ: هذا التأويل المعيَّن الذي يخالف أهلُ الكلام [فيه] أهلَ الحديث تأويل باطل، فإذا قيل بموجب هذا كان موافقة في بطلان التأويل المعين، ثم تَبقَى المنازعةُ في تسميتِه خلافًا لأهل الحديث. ومعلوم أن هذا ثَلْمٌ للمسألة ونزاع في نَفْيِها.
فحاصلُه أن القول بالموجب تسليم للمسألة إن عُنِي بها النوعُ وتنازع في وجودِها، أو تسليم لعينها ونزاع في صفتِها، فإن كان الأول فهو نزاع فيما لم يدلَّ عليه اللفظ، وإن كان الثاني فهو تسليم للمسألة، ولا يَضُرُّ بعد ذلك النزاعُ في اسمها.
وتحريرُ السؤال أن يقال: لا نُسَلِّم أن أهلَ الكلام خالفوا أهلَ الحديث، فإنهم لو خالفوهم لقلنا: الصوابُ مع أهلِ الحديث، وهو أن القول بالموجب على تقدير ثبوت المخالفة تسليم للمسألة بتقديرِ وجودِها، وقد منع ذلك في السؤال بقوله: لو سلّمنا أن بعضهم حرَّم ذلك فهل نُقِلَ التحريم عن الله أو رسوله أو أهلِ الإجماع، ومن سَلَّم الحكمَ لم يكن له أن يُطالِبَ بالدليل، لأنه منعٌ بعد تسليم، وهو غير مقبول.
وأما السؤال الثالث -وهو نقلُ الإجماع على بعض التأويلات- فلا يَرِدُ أيضًا، لأن ذلك إن صحَّ لم يدخل في الدعوى، لأنّا قلنا: تأويلُ المتكلمين المخالفُ لأهل الحديث باطل، وما أجمعوا عليه ليس من هذا الباب. نعم، يبقى هذا من باب المعارضة لأهل الحديث، وهي أن يقال: كيف تُبطِلون بعضَ التأويلات وتُصحِّحون البعض؟ والمعارضة لا تورد عند الدعوى، وإنما تورد بعد الأدلة.
وأيضًا مما يُبيِّن عدمَ ورودِ هذه الأسوِلة: السؤال الأول، وهو منعُ الاختلاف بين أهلِ الحديث وأهل الكلام في التأويل، فإن المناظرة كانت مع مَن يدَّعي أن الحق مع أهل التأويل دونَ مَن خالفَهم، فإن لم يكن لهذا وجود كان ردًّا على من نَصَرَ أهل الكلام المخالفين لأهل الحديث، لا على من نَصَرَ أهلَ الحديث.
وأيضًا فإنه عَقِبَ هذا الكلام قد قلنا
(1)
: "إنّ أمهاتِ المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين لأهل الحديث ثلاث: مسألة وصفِ الله بالعلُوّ، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات". وهذا تعيين لهذه المسائل الثلاثة المختلَف فيها، والخلاف في هذه المسائل أشهرُ من أن يُحتَاجَ إلى نَقْلٍ.
فإن قيل: لا نُسلِّم أن أحدًا خالفَ أحدًا في هذه المسائل، بل كلُّ تأويلٍ فيها للمتكلمين فإنّ أهلَ الحديث لم يَنفُوه، بل سكتوا عنه.
(1)
"مجموع الفتاوى"(6/ 354، 355).