الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكتب إليه أبو الدرداء أنْ هَلُمَّ إلى الأرض المُقَدَّسة، فكتب إليه سلمان: إنَّ الأرض لا تُقَدِّس أحدًا؛ وإنما يُقَدِّس الرَّجلَ عَمَله الصالح
(1)
. ومقصوده بذلك أنه قد يكون بالأرض المَفْضولة من يكون عمله صالحًا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله.
وهذا مما يبين أن
جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين
كما اتفق عليه الأئمة. فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة، ونيته في هذا خالصة، ولم يكن ثَمَّ عملٌ مفضل يُفضَّلُ به أحدُهما، فالمرابطة أفضلُ؛ فإنها من جنس الجهاد، وتلك من جنس الحَجِّ، و
جنس الجهاد أفضل من جنس الحج
.
ولهذا قال أبو هريرة: لأن أُرَابط ليلةً في سبيلِ الله أحبّ إلي من أنْ أقوم ليلة القدر عند الحَجَر الأسود. وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في "سننه"
(2)
عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: "رِبَاطُ يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أقومَ ليلة القدر في أحد المسجدين -مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومَن رابط أربعين يومًا في سبيل الله فقد استكمل الرِّباط".
وقد قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
(1)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 769). وفي الأصل: "عمله صالحا".
(2)
3: 2/ 193. ورواه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (5/ 280).
عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21))
(1)
.
وفي صحيح مسلم
(2)
عن النعمان قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لا أُبالِي أن لا أَعْمَلَ عملاً بعدَ الإسلامِ إلا أن أَسْقِيَ الحاجَّ. وقال الآخر: إلا أن أَعْمُرَ المسجدَ الحرام. وقال آخر: الجهادُ في سبيل الله أفضلُ مِمَّا قلتم، فزَجَرَهم عمر بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صَلَّيتُ الجمعةَ دخلتُ فاسْتَفْتَيْتُهُ فيما اخْتَلَفْتُم فيه، فأنزلَ اللهُ:(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هو الآية.
وعن عثمان بن عفان قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" [رِبَاطُ] يومٍ في سبيل الله خيرٌ من ألفِ يوم فيما سواهُ". رواه الإمام أحمد، والنسائي وهذا لفظه، والترمذي
(3)
وقال: حديثٌ حسن غريب من هذا الوجه، وأبو حاتم بن حبان البستي في "صحيحه"
(4)
. ولفظ الإمام أحمد
(5)
: عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال: سمعت
(1)
سورة التوبة: 19 - 21.
(2)
برقم (1879).
(3)
أخرجه أحمد (1/ 62، 65، 75) والنسائي (6/ 39، 40) والترمذي (1667) والدارمي (2429) وغيرهم.
(4)
برقم (4609).
(5)
1/ 75.
عثمان يقول على المنبر: أيُّها الناس! إنِّي كَتَمْتكُم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كراهية تفرُّقكم عَنِّي، ثم بَدَا لي أن أحدِّثكم، ليَختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"رباط يومٍ في سبيلِ اللهِ خير من ألفِ يومٍ فيما سواهُ من المَنَازِل".
فقد بيّن لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة النبوية؛ مُصَلّين في المسجد الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ من المساجد إلَاّ المسجد الحرامَ"
(1)
.
ودلَّ ذلك على أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعمُّ جميع الأعمال، فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المُداومة عليه من صيام وقيام. كما في الصحيحين
(2)
عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله! ما يَعْدِلُ الجهادَ في سبيلِ الله؟ قال: "لا تَسْتَطيعون". قال: فأعادوا عليه مرَّتينِ أو ثلاثًا، كل ذلك يقول:"لا تَستطيعون". قال في الثالثة: "مَثَلُ المجاهدِ في سبيلِ الله كمَثَلِ الصائمِ القائمِ القانتِ بآيات الله لا يَفتُرُ من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يَرْجعَ المجاهدُ في سبيلِ اللهِ". هذا لفظ مسلم.
ولفظ البخاري
(3)
: جاءَ رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّني على
(1)
أخرجه البخاري (1190) ومسلم (1394) عن أبي هريرة.
(2)
البخاري (2785) ومسلم (1878).
(3)
الموضع المذكور.
عملٍ يَعْدِلُ الجهاد؟ قال: لا أَجِدُهُ. قال: "هل تستطيعُ إذا خَرَجَ المجاهدُ أن تَدْخُلَ مسجدَك فتَقُومَ لا تَفْتُرَ، وتصومَ لا تُفْطِرَ؟ " قال: ومَن يستطيعُ ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فَرَسَ المجاهد لَيَسْتَنُّ في طِوَلهِ فيُكْتَبُ له حسناتٍ.
وفي الصحيحين
(1)
عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أَيُّ الناسِ أفضلُ؟ فقال: "رجل مجاهد في سبيل الله بمالِه ونفسِه". قال: ثم من؟ قال: "ثُمَّ رجل مُعْتَزِل في شِعْبٍ مِن الشِّعابِ يَعْبُدُ ربَّه، ويَدَعُ الناس مِن شَرِّه". لفظُ مسلمٍ.
وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحجّ، كما في الصحيحين
(2)
عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمانُ بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيلِ الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حَج مبرور".
وفي الصحيحين
(3)
أيضًا عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "الإيمانُ بالله، والجهاد في سبيلِه".
فهذا موافق ما دلّ عليه القرآن من تفضيل الجهاد على الحَجّ.
وقد رُوِيَ: "غزوة لا قتالَ فيها أفضل مِن سبعين حجّة". وهذا لا يناقض ما في الصحيحين
(4)
عن ابن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
البخاري (2786) ومسلم (1888).
(2)
البخاري (26، 1519) ومسلم (83).
(3)
البخاري (2518) ومسلم (84).
(4)
البخاري (527) ومواضع أخرى ومسلم (85).
أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاةُ لِوَقْتِها". قلت: ثم أي؟ قال: "بِرُّ الوالدينِ". قلت: ثم أي العمل أفضل؟ قال: "الجهادُ في سبيلِ الله". حدَّثني بهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني.
فإنَّ هذا الحديث أيضًا يدلُّ على فضل الجهاد على الحجّ وغيره.
وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مُسَمَّى الإيمان. كما في قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)
(1)
قال البراء بن عازب وغيره
(2)
: صلاتكم إلى بيتِ المقدِس، إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال، ولا ينوبُ فيها أحد عن أحدٍ، ويدخل بها في الإيمان، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها.
ثم في صحيح مسلم
(3)
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبدِ وبين الكفر والشرك إلا ترْكُ الصلاةِ".
وفي السنن عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي
(4)
، وقال: حديثٌ حسن صحيح غريب. أطلق الكفر على جاحِد الصلاة
(5)
.
(1)
سورة البقرة: 143.
(2)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 427).
(3)
برقم (82).
(4)
أخرجه أحمد (5/ 346، 355) والترمذي (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه (1079).
(5)
هذه الجملة جاءت في الأصل بعد آية (وَقَضَى رَبُّكَ .... )، ومكانها هنا. والجحود: إنكار الشيء مع العلم به، والمقصود هنا ترك الصلاة مع العلم بفرضيته.
وفي الترمذي
(1)
عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب محمد لا يَعُدُّون شيئًا مِن الأعمالِ تَرْكُه كفرٌ إلا الصلاة.
وفي البخاري
(2)
أن عمر بن الخطاب لما طُعِنَ وأُغْمِيَ عليه، قيل: الصلاة! فقال: "نعم، ولا حظَّ في الإسلام لِمَن تَرَكَ الصلاة".
وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر.
فهذه الخاصية التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله: "إيمانٌ باللهِ، وجهاد في سبيله، ثم حج مبرور".
وكذلك برّ الوالدين قد قُرِنَ حَقّهما بحقِّ الله، في مثل قوله:(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)
(3)
، وفي قوله:(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
(4)
. وكما في الصحيحين الحديث: "كُفْرٌ بالتهِ: تَبَرُّؤ مِن نَسَب وإن دَق، ومن ادعَى إلى غير أبيهِ فقد كفر، ولا تَرْغَبوا عن آبائِكم، فإنه كفرٌ بكم أن تَرْغَبوا عن آبائكم"
(5)
.
(1)
برقم (2622). ووصله الحاكم في "المستدرك"(1/ 7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال.
(2)
لم أجده عنده. وقد أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 39 - 40) عن المسور ابن مخرمة عن عمر.
(3)
سورة لقمان: 14.
(4)
سورة الإسراء: 23.
(5)
هذه مجموعة أحاديث ذكرها المؤلف في سياق واحد، أخرج بعضها أحمد (2/ 215) وابن ماجه (2744) عن عبد الله بن عمرو، والبخاري (3508) =
وإن كان كذلك فيمكن أن يقال: إنّ هذا دخل في مسمَّى الإيمان أيضًا، أو يقال: بر الوالدين إنما يجب على من له والدان، فذكرهما في حديث ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود كان له والدة؛ فكان ذلك حُكْم مَن حاله كحاله. وأما حيث لم يذكرهما فذكر ما يعمُّ من الأعمال؛ فيدخل فيه من ليس له أبوان.
ثم الجهاد إذا صار فَرْضَ عين كان أَوْكَد من مُطْلَق بر الوالدين، فيجاهد في هذه الحال بدون إذنهما، وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المُتَعيّن عليه، وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعيَّن عليه إلا بإذنهما.
وأما الصلاة فإذا تعارضَت هي والجهاد المتعيّن فإنه يُفعَل كلاهما بحسب الإمكان، كما في حالة الخَوْف الخَفيف والخوف الشَّديد.
قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)
(1)
. قال تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا .. ) إلى قوله: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ
= عن أبي ذر، والبخاري (6830) عن ابن عباس، والبخاري (6768) ومسلم (62) عن أبي هريرة.
(1)
سورة البقرة: 238 - 239.
مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103))
(1)
.
فقد أَمَرَ اللهُ بالجمع بين الواجبين -الصلاة والجهاد- لكنه خفف الصلاة في الخوف من صلاة الأمن؛ بإسقاط أُمور تجب في الأمن، وإباحة أفعال لا تُفْعَل في الأمن.
وصلاة الخوف قد استفاضت بها السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرها الأئمة كلهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلَاّها على وجُوه متعددة.
وأما حال المُسايفة فللفقهاء ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول الجمهور، أنهم يُصَلُّون بحسب حالهم مع المُقابلة؛ وهذا مذهب الشافعي وغيره وظاهر مذهب أحمد.
والثاني: أنهم يُؤخرون الصلاة؛ وهو قول أبي حنيفة.
والثالث: أنهم يُخَيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد.
وقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) هو مع ما قد ثبتَ في الصحيح
(2)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عام الخندق: "شَغَلُونا عن الصلاةِ الوُسْطَى
(1)
سورة النساء: 101 - 103.
(2)
البخاري (2931، 4111، 4533، 6396) ومسلم (627) عن علي.
صلاةِ العصرِ حتى غربت الشمس، مَلأَ الله أجوافَهم وقبورَهم نارًا"؛ قد احْتُجَّ به وبغيره على أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية.
وأجابوا بذلك عمَّا احتج به من جوَّز الأمرين من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه
(1)
عن ابن عمر أنه قال: "لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصرَ إلا في بَني قُريظةَ"، فصَلَّى قومٌ في الطريق وقالوا: لم يرِد مِنَّا تَفْويت الصلاة، وأَخَّر قوم الصلاة حتى وصلوا إلى بني قُريظة، وقد فاتتهم الصلاة، فلَمْ يُعَنِّف النبي صلى الله عليه وسلم واحدةً من الطائفتين. فهذا الحديث حُجَّة في جواز الأمرين، لكن قال أولئك:[إنه] منسوخ بالآية.
فقد تبين أن الصلاة لما كانت أَوْكَد من الجهاد؛ فإنها عند مُزاحمة الجهاد لها أخفُّ، حتى لا تفوت مَصْلحة الجهاد، وقد يحصلُ من الفساد بترك الجهاد وقتَ الضرورة ما لا يُمكن تَلافيه.
وهذا أيضًا كالحج وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين. فإذا تضيق وقته وازدحم هو والمقصود، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبَا إلى عرفة؛ فإنْ صَلَّى صلاة مُسْتَقِر فاتَهُ الوقوف، وإنْ سارَ ليُدْرِك عرفة قبل طوع الفجر فاتته الصلاة. فللفقهاء ثلاثة أقوال: قيل: يُقدِّم الوقوفَ؛ لأن عليه من تفويت الحج ضررًا عظيمًا.
وقيل: بل يُقدِّم الصلاةَ لأنها أوكد.
(1)
البخاري (946، 4119). وعند مسلم (1770)"الظهر" بدل العصر. وانظر كلام الحافظ عليه في "الفتح"(7/ 408، 409).
وقيل: بل يأتي بهما جميعًا، فيُصَلي بحسب الإمكان صلاة لا تُفَوّته الوقوف. وهذا أَعْدَلُ الأقوال، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما.
والعلماء مُتفقون على أن الخائف المَطْلوب يُصلي صلاة خائف. فأما الطالب فتنازعوا فيه، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما أنه يُصلِّي أيضًا صلاة الخوف. كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن كأبي داود
(1)
عن عبد الله بن أنيس قال: بَعَثَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى خالدِ بن سفيانَ الهُذَليَ، وكان نحوَ عُرَنَةَ وعرفاتٍ، فقال: اذهب فاقْتُلْه. قال: فرأيتُه وحَضَرَت الصلاةُ صلاةُ العصرِ فقلتُ: إني أخافُ أن يكون بيني وبينَه ما إن أُؤَخر الصلاةَ. فانطلقْتُ أَمْشِي وأنا أُصلي أُومِئُ إيماءً نحوَه. فلما دنوتُ منه قال لي: مَن أنت؟ قلت: رجل مِن العرب بلغنيِ أنَّكَ تَجْمَعُ لهذا الرجلِ، فجئتك في ذاكَ، قال: إني لَفِي ذاكَ. فمَشَيتُ معه ساعةً، حتى إذا أَمكَنَني عَلَوتُه بسيفي حتى بَرَدَ.
ومن قال هذا القول راعَى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضًا، فلا يمكن تفويت إحداهما، وإن لم يكن من تفويت الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة.
ولو كان تكميل الصلاة مُقَدَّمًا على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا علم أنه لابد فيه من تحقيق الصلاة.
(1)
أخرجه أحمد (3/ 496) وأبو داود (1249) وابن خزيمة (982، 983).
فلما ثبت بالسنة المتواترة أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة بقَصْرِ العمل الذي هو قصر العدد فإنَّ قَصْر العدد سُنَّة السَّفَر، وأما قَصْر العمل فسنة الخوف. ولهذا إذا اجتمع الأمران شُرِع القَصْر المُطلق، كما في قوله:(وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)
(1)
. والآية على ظاهرها؛ فإن القَصْر المطلق المتضمن لِقصر العدد وقصر العمل إنما يكون مع الأمرين. وقد بيَّنَت السنة أن مجرد الخوف يُفيدُ قصر العمل، ومجرد السفر يفيد قَصْر العدد.
فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع الجهاد لم يترك واحد منهما، بل يُصَفَى بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد بحسب الإمكان. وقد قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45))
(2)
. فأمر بالثبات والذكر معاً.
وكانت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه وخلفاء بني أمية وكثير من خلفاء بني العباس أنَّ أمير الحرب هو أمير الصلاة في المقام والسفر جميعًا.
وما ذكرناه يبين بعض حِكمة كون النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين كان مقامهم بالمدينة أفضل على أحد قولي العلماء؛ فإنهم كانوا بها مهاجرين
(1)
سورة النساء: 101.
(2)
سورة الأنفال: 45.
مجاهدين مُرابطين بخلاف مكة.
وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين، حتى إنَّ مالكًا رضي الله عنه -مع فرط تعظيمه المدينة وتفضيله لها على مكة وكراهية الانتقال منها- لما سئل عمَّن بدار وهو مقيم بالمدينة يأتي الثُّغور كالإسكندرية وغيره، أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مُقامِهِ بالمدينة. وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرِّبَاط، وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن
(1)
وغيره مُرابطين.
وكان عمر مَنْ يسأله عن أفضل الأعمال إنما يَدُلُّه على الرباط والجهاد، كما سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأمثالهم، ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس. ولهذا يُذْكَرُ من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أُمُور كثيرة.
وكانوا على طريقتين:
إحداهما: أن يُرابط كل قوم بأقرب الثُّغور إليهم، ويقاتلون من يليهم. كقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)
(2)
. وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب
(1)
كذا في الأصل بدون ذكر الأب.
(2)
سورة التوبة: 123.
مالك كابن القاسم ونحوه يرابط
(1)
بالثغور المصرية.
والطريقة الثانية: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيه قتال النصارى. فكان عبد الله بن المبارك يَقْدَم من خُراسان فيُرابط بثغور الشام، وكذلك إبراهيم بن أدهم ونحوهما، كما كان يُرابِطُ بها مشايخ الشام كالأوزاعي وحذيفة المرعَشي ويوسف بن أسباط وأبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين وأمثالهم. وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان، وبقيت تحت حكمهم أكثر من ثلاثمائة سنة. وكانت "سِيْس" ثغر المسلمين، و"طَرَسُوس" كانت من أسماء الثغور، ولهذا تُذْكَر في كتب الفقه المُصَنَّفة في ذلك الوقت، وتولى قضاءها أبو عبيد الإمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما.
وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: إذا اختلف الناسُ في شيء فانظروا ما عليه أهل الثَّغْر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)
(2)
.
وبالجملة إن السَّكَن بالثغور والرِّباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور معمورة بخيار المسلمين علمًا وعملاً، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلُّونه على الثغور.
(1)
كذا في الأصل بصيغة الإفراد.
(2)
سورة العنكبوت: 69.
وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى للحديث الذي في سنن أبي داود
(1)
عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أُمُّ خَلَاّد وهي منتَقِبَةٌ تَسْأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جئْتِ تَسْألين عن ابنك وأنتِ منتقبةٌ! فقالت: [إن] أُرْزَأْ ابني فلنَ أُرْزَأَ حيائِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ابنُكِ له أَجْرُ شَهيدينِ". قالت: ولِمَ ذاكَ؟ قال: "لأنه قَتَلَه أهلُ الكتاب".
وهذا بعض [الأخبار التي] تبين فضيلة سُكْنَى الشام؛ فإن أهل الشام ما زالوا مُرَابطين من أوَّل الإسلام لمُجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب. ولهذا فضَّل النبي صلى الله عليه وسلم جُنْدَهم على جُنْد اليمن والعراق؛ مع ما قاله في أهل اليمن
(2)
.
ففي سنن أبي داود وغيره
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنكم ستُجَنَّدون أَجنادًا؛ جُندًا بالشام وجُندًا باليَمَنِ وجُندًا بالعراقِ"، قال: فقلت يا رسول الله! خِرْ لِي، فقال:"عليكَ بالشامِ، فإنها خِيرةُ الله مِن أَرْضِه، يَجْتَبِي إليها خِيرتَه مِن عبادِه، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليسق من غُدُره فإن الله قد تكفَّل لي بالشامِ وأهلِه". قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعةَ عليه.
(1)
برقم (2488).
(2)
أخرجه البخاري (4388) ومسلم (52) عن أبي هريرة.
(3)
أخرجه أحمد (4/ 110، 5/ 33، 288) وأبو داود (2483) عن عبد الله بن حوالة.
وفي سنن أبي داود
(1)
أيضًا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه سَتكونُ هِجْرةٌ بعدَ هِجرةٍ، فخِيارُ أهلِ الأرضِ ألزَمُهم مُهاجَرَ إبراهيم، ويَبقى في الأرض شرَارُ أهلِها تَلفِظُهم أَرضوهُم، تَقْذَرُهم نفسُ الرحمن، تَحشُرُهم النارُ مع القِرَدة والخنازيرِ".
وفي صحيح مسلم
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزالُ أهل الغَرْب ظاهِرين".
قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام. يعني: ومن يغرب عنهم؛ فإن التَّغْريب والتشريقَ من الأمور النِّسبية، والنبي صلى الله عليه وسلم تكلَّم بذلك وهو بالمدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غَرْب المدينة، كما أن حران والرقَّة ونحوهما خلف مكة.
والكلام في هذا ونحوه يطولُ ويَتَعَذَّر، بحيث لا تحتمله هذه الفتوى، لكن هذه الأمور المُتيسّرة تعود إلى أفضل الأحوال: الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص. وقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15))
(3)
.
فالجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمنًا؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه
(4)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّث
(1)
برقم (2482).
(2)
برقم (1925).
(3)
سورة الحجرات: 15.
(4)
برقم (1910).
نفسَه بالغزو مات على شُعْبة مِن نفاق".
وذلك أن الجهاد فرضٌ على الكفاية، فيُخاطَب به جميع المؤمنين عمومًا، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. ولابد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمورٌ به، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احْتِيجَ إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله. فمن مات ولم يغز أو لم يُحدِّث نفسه بالغزو نَقَصَ من إيمانه الواجب عليه بقَدْرِ ذلك؛ فمات على شُعبة نفاق.
فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحجّ بالكتاب والسنة فما معنى الحديث الذي رَوَتْه عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله!
أرى الجهادَ أفضلَ العملِ أفلا نُجاهِدُ؟ قال: "لَكُنَّ أفضلُ الجهادِ: حَجّ مبرورُ" رواه البخاري
(1)
، ورواه النسائي
(2)
، وفيه: ألا نخرج نُجاهِد مَعَك فإني لا أرى عملاً أفضل من الجهاد. قال: "لا، ولكن أَحْسَن الجهاد وأجمله حجُّ البيت حج مبرور".
قيل: أفضل الجهاد للنساء حجّ مبرور. فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. وكذلك جاء مُبَيّنًا، رواه النسائي
(3)
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جهادُ الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحجّ والعمرة". وفي حديث آخر
(4)
: "الحجُّ جهادُ كل
(1)
برقم (1520).
(2)
5/ 114، 115.
(3)
5/ 113.
(4)
أخرجه أحمد (6/ 294، 303، 314) وابن ماجه (2902) عن أمّ سلمة. وهو ضعيف.
ضعيف". وفي حديث آخر
(1)
: هل على النساء جهاد؟ قال: "جهاد لا قتالَ فيه: الحج والعمرة".
سياقُ الحديث المُتَقَدِّم بيَّن ذلك، فإنها قالت: نَرَى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال: "لَكُنَّ أفضل الجهاد: حجّ مبرور". فقد أقرَّها على قولها: "نرى الجهاد أفضل العمل"، ثم ذكر أن "أفضل الجهاد الحج المبرور".
وفي اللفظ الآخر
(2)
: ألا نَخْرُج فنجاهِد معكَ فإنِّي لا أرى عملاً في القرآن أفضل مِن الجهاد؟ قال: "لَكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حجّ مبرور". فأقرها على قولها بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الجهاد
(3)
المعروف قال: "لا، ولكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حج البيت"، وجعل فضلَه بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين؛ فعُلِمَ أنه أراد جهاد النساء، واللام للتعريف، ينصرفُ إلى ما يعرفه المُخَاطب.
ومقصود الناقل هنا الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله؛ فَبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحجّ؛ فإن السائل ضعيف؛ والحج جهادُ كل ضعيف. وفي صحيح مسلم
(4)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنُ القَوِيُّ خير وأَحَبُّ إلى
(1)
أخرجه أحمد (6/ 165) وابن ماجه (2951).
(2)
هذا لفظ رواية البخاري (1861).
(3)
في الأصل: "الحج" وهو خطأ.
(4)
برقم (2664).
الله من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كل خير، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واستَعِن باللهِ ولا تَعْجزْ، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقُل لو أَنِّي فعلتُ كذا لكان كذا، ولكنَ قل: قَدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تَفْتَحُ عملَ الشيطانِ".
وقد جاء في فضائل الرِّباط أحاديث في الصحاح والسنن تُبيِّن ما ذكرناه:
فرَوَى البخاري في صحيحه
(1)
عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رِباطُ يومٍ في سبيلِ الله خير من الدنيا وما عليها".
وفي صحيح مسلم
(2)
عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقِيامِهِ، وإن مات فيه جَرَى عليه [عَمَلُه] الذي كان يعملُه، وأُجْرِيَ عليه رزقُهُ، وأَمِنَ الفتَّان".
وفي السنن
(3)
عن فضالة بن عبيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت إلا خُتِمَ عليه عملُه إلا من ماتَ مُرابطًا في سبيل الله، فإنه يَنمُو له عملُه إلى يومِ القيامةِ، ويُؤمَنُ مِن فتنةِ القبرِ" رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه والترمذي بمعناه. وزاد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المجاهد [مَنْ جاهَد] نفسه في طاعةِ الله" قال الترمذي: حسنٌ صحيح.
(1)
برقم (2892).
(2)
برقم (1913).
(3)
أخرجه أحمد (6/ 20) وأبو داود (2500) والترمذي (1621).
وقد تقدم حديث عثمان: "رباطُ يوم في سبيلِ الله خير مِن ألف يومٍ فيما سواه مِن المنازل".
وقد جاء عن السلف آثار فيها ذكر الثُّغور مثل غزَّة وعسقلان والإسكندرية وقزوين ونحو ذلك.
وأما الأحاديث المَرْوية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين قزوين والإسكندرية ونحو ذلك فهي موضوعة كَذِب بلا ريب عند علماء الحديث
(1)
، وإن كان ابن ماجه قد روى في سننه
(2)
الحديث الذي في فضل قزوين؛ وقد أنكر عليه العلماء ذلك، كما أنكروا عليه رواية أحاديث أخرى بضعة عشر حديثًا من الموضوعات؛ ولهذا نَقَصَت مرتبة كتابه عندهم عن مرتبة أبي داود والنسائي.
وقد قدمنا كون البلد ثغرًا صِفة عارِضة لا لازمة؛ فلا يمكن فيه مدح مُؤَبَّد ولا ذَمّ مُؤَبَّد، إلا إذا عُلِمَ أنه لا يزال على تلك الصِّفة.
وإذا تبين ما في الرِّباط من الفَضْل؛ فمن الضَّلال ما تجد عليه أقوامًا ممَّن غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما يقاربها، فيسافر السفر الذي لا يُشْرَع بل يُكْرَه، ويترك ما هو مأمور به واجب أو مستحب.
مثال ذلك أن قومًا يَقْصِدون التعريف بالبيت المقدس، فيقصدون زيارته في وقت الحجّ ليعرفوا به، ويَدَعو [نَ] المُقام بالثغور التي تُقاربه.
(1)
انظر موضوعات ابن الجوزي (2/ 55).
(2)
برقم (2780) عن أنس بن مالك. وفي إسناده داود بن المحبّر وضّاع.
وهذا في غاية الضلال والجهل والحِرمان من وجوه:
أحدها: أن التعريف بالبيت المُقَدَّس ليس مشروعًا لا واجبًا ولا مستحبًّا بإجماع المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قُرْبة فهو ضالٌّ باتفاق المسلمين، بل يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل، إذ ليس السفر مشروعًا للتعريف إلا للتعريف بعرفات.
وأقبح من ذلك تعريفُ أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من المشاهد أو السفر لذلك، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. بل تنازع السلف في تعريف الإنسان في مِصْره من غير سفر، مثل أن يذهب عشية عرفة إلى مسجد بلده فيدعو الله ويذكره، فكَرِهَ ذلك طوائف؛ منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما. ورخص فيه آخرون؛ منهم الإمام أحمد، قال: لأنه فعله ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حرب بالكوفة. ومع هذا فلم يستحبه أحمد، وكان هو نفسه لا يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: إنه يستحب.
وأما السفر للتعريف بغير عرفة فلا نزاع بين المسلمين أنه من الضلالات، لا سيما إذا كان بمشهد مثل قبر نبيّ
(1)
أو رجل صالح أو بعض أهل البيت، فإن السفر إلى ذلك لغير التعريف مَنْهِيٌّ عنه عند جمهور العلماء من الأئمة وأتباعهم. كما قال صلى الله عليه وسلم
(2)
: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومسجدي هذا". وقد رأىَ بصرة بن أبي بصرة الغفاري أبا هريرة
(1)
في الأصل: "قربى"!.
(2)
أخرجه البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة.
راجعًا من زيارة الطور فقال: لو رأيتك قبل أن تزوره لم تزرْه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومسجدي هذا"
(1)
.
[وقد] قال من قال من هؤلاء كأبي الوفاء ابن عقيل وغيره: إن المسافر لمجرد الزيارة لبعض المشاهد لا يقصر الصلاة لأنه عاص بسفره، وإنما رخَّص في هذا السفر طائفة من المتأخرين، ولكن الزيارة المشروعة إذا اجتاز الرجل بالقبور أو خرج إلى ما يُجاوره من القبور كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع، وكما زار قبر أمه لما اجتاز بها في غزوة الفتح. وقد ثبت عنه في الصحيح
(2)
أنه قال: "استأْذَنْتُ ربِّي أن أزور قبر أمِّي؛ فأذِنَ لي، واستأذنته في أن أستغفرَ لها؛ فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة".
وكان صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهمِ: "السلامُ عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحِقُون، ويَرْحَمُ الله المُسْتَقْدِمينَ منا والمُستأخِرينَ، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرَهم ولا تفتنا بعدَهم"
(3)
.
وقد رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(4)
: "ما مِن رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ الرجلِ
(1)
أخرجه النسائي (3/ 114).
(2)
مسلم (976) عن أبي هريرة.
(3)
أخرجه مسلم (975) عن بريدة، و (974) عن عائشة، ما عدا الجزء الأخير، فقد روي ضمن الدعاء في الصلاة على الجنازة.
(4)
أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار"(1/ 234) عن ابن عباس، وصححه =
كان يعرفه في الدنيا فيُسَلِّم عليه إلا رَدَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام".
والزيارة المشروعة للمسلم: أن يُسَلَّم عليه ويُدعَى له، كما أن الصلاة مقصودها الدُّعاء له. ولهذا نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الأمرين في حقِّ المنافقين. كما قال تعالى:(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)
(1)
، نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛ فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورهم. وقد قال طوائف من السلف والخلف: وهو القيام على قبورهم بالدعاء والاستغفار.
فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له، فأما اتخاذ القبور مساجد أو الاشراك بها فذلك كله حرام بإجماع المسلمين. كما في الصحيحين
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لَعَنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهمِ مساجد"؛ يُحذِّر ما صَنَعوا. قالت عائشة
(3)
: ولولا ذلك لأبْرِز قبره، ولكن كُرِهَ أن يتخَذَ مسجدًا.
= عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى"(1/ 345) و"الأحكام الوسطى"(2/ 152، 153).
(1)
سورة التوبة: 84.
(2)
البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس.
(3)
أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529).
وفي صحيحِ مسلم
(1)
أنه قال قبل أن يموتَ بخمس: "إنِّي أَبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو كنتُ مُتَّخِذًا خليلا لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإنَّ مَن كان قبلَكم كانوا يَتَّخذونَ قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، ألا فلا تَتَّخِذوا القبورَ مساجدَ فإني أنهاكم عن ذلك".
وفي السنن
(2)
عنه أنه قال: "لعنَ الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجدَ والسُّرُجَ".
وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه لا تُشْرَع الصلاةُ عند القبور، وقَصْدُها لأجل الدعاء عندها، ولا التَّمَسُّح بها وتَقْبيلها؛ سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم. بل ليس تحت أديم السماء ما يُشرع التمسحُ به وتقبيلُه إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يستحب التمسح به.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين
(3)
، فلم يَمْسَحوا إلا الرُّكنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك؛ فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقامِ غيره من الأنبياء والصالحين؟ وقد قال الله في كتابه:(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23))
(4)
. قال طوائف من الصحابة
(1)
برقم (532) عن جندب بن عبد الله.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575) من طريق أبي صالح عن ابن عباس. وانظر الكلام عليه في "الضعيفة"(225).
(3)
في الأصل: "التابعون".
(4)
سورة نوح: 23.
والتابعين: "هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلمَّا ماتوا عَكَفُوا على قبورهم، ثم لما طال عليهم الأمد صَوَّروا صورهم، فكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان".
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مالك في الموطأ
(1)
: "اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد". وفي السنن
(2)
عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا".
فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام، فيكون بمنزلة لحم الخنزير، وأما السفر للتعريف ببيت المقدس مثلاً، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد الثلاثة فهو أيضًا مَنْهِيّ عنه، وإن كان وجد في ذلك من عمد إلى هذه البدع التي فيها من الشرك ما فيها، وتعبد بها وأقامَ بها، وقصد ما يقصده من البقاع لأجلها، وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أليس هو ممن استبدل السيئات بالحسنات؟
الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه قَصَدَ بعض هذه البقاع قصدًا مشروعًا مثل السفر إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه، فإن هذا عمل صالح باتفاق المسلمين، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة، مثل البدع التي تفعل هنا من السماع
(1)
1/ 172 عن عطاء بن يسار مرسلاً.
(2)
أبو داود (2042) عن أبي هريرة.
للمكاء والتصدية في النصف وعشر ذي الحجة ونحو ذلك، ومثل استلام بعض ما هناك من الأحجار، فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين للبيت العتيق، ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وظن أجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات. فالزيارة إذا سَلِمَت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية، والسفر إلى الثغر للرباط أفضل منها، والعُدُول عن الفاضل إلى المَفْضُول مع استوائهما غير محمود.
الوجه الثالث: أن من الناس من يَقْصِد المُجاورة ببيت المَقْدس ويدع المُجاورة بالثغر الذي هو قريب منه. وهذا البابُ من أفضل الأفضل وأجلها، وهو فرض على الكفاية، ومعلوم أن هذا أعظم خُسْرانًا، وأشد حِرْمانًا، وأبعد عن اتباع الشريعة؛ فإن المُجاور بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المُرابطة لاختلاف المكانين. أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذا إلى هذا لا يصدر إلا من جهل أو من ضعف إيمان، اللهم [إلاّ] إذا نَذَر هذا فيكون هذا معذورًا. وإنما الكلام فيمن يقدر على الأمرين.
ولهذا [لما] كان أهل البدع مُهْمِلين أمر الجهاد مُعَظمين للزيارات، استولى الكفار على كثير من الثغور، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين من شاء الله، وكان قد جَرَت فيه بدع كثيرة.
ومن ذلك من يقصد بعض هذه البقاع، إما جبل لبنان وإما غيره، إما لزيارته لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم، ويدع أن يقصد للرباط في سبيل الله، فإن هذا أيضًا من الضلال العظيم، وأصل السفر