المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[التشديد على النفس أنواعه وآثاره] - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[تقديم بقلم معالي الدكتور الوزير عبد الله بن عبد المحسن التركي]

- ‌[مقدمة]

- ‌[القسم الأول: الدراسة]

- ‌[ترجمة موجزة للمؤلف]

- ‌[وصف النسخ المخطوطة للكتاب]

- ‌[الكتاب المحقق اسمه وتاريخ تأليفه]

- ‌[منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه]

- ‌[دراسة تحليلية لبعض موضوعات الكتاب]

- ‌[أولا الموضوع الرئيس للكتاب]

- ‌[ثانيا دراسة لبعض موضوعات الكتاب]

- ‌[الموضوع الأول تنبيه المؤلف على أصلين مهمين]

- ‌[الموضوع الثاني بعض أنواع البدع والشركيات التي ابتُليت بها الأمة]

- ‌[الموضوع الثالث أثر التشبُّه على الأمة]

- ‌[الموضوع الرابع قواعد أساسية في التشبه]

- ‌[الموضوع الخامس فئات من الناس نهينا عن التشبه بها]

- ‌[الموضوع السادس النهي يعم كل ما هو من سمات الكفار قديمًا وحديثًا]

- ‌[الموضوع السابع متى يباح التشبه بغير المسلمين]

- ‌[الموضوع الثامن في الأعياد والاحتفالات البدعية]

- ‌[الموضوع التاسع في الرطانة]

- ‌[الموضوع العاشر حول مفهوم البدعة]

- ‌[الموضوع الحادي عشر حول بدع القبور والمزارات والمشاهد والآثار ونحوها]

- ‌[القسم الثاني: الكتاب محققا مع التعليق عليه]

- ‌[خطبة الحاجة من كتاب المحقق]

- ‌[سبب تأليف الكتاب]

- ‌[فصل في حال الناس قبل الإسلام]

- ‌[بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتلي بها بعض المسلمين]

- ‌[الأمر بمخالفة المغضوب عليهم والضالين في الهدي الظاهر]

- ‌[فصل في ذكر الأدلة على الأمر بمخالفة الكفار عموما وفي أعيادهم خصوصا]

- ‌[بيان المصلحة في مخالفة الكفار والتضرر والمفسدة من متابعتهم]

- ‌[الاستدلال من القرآن على النهي عن اتباع الكافرين]

- ‌[الاستدلال من السنة على النهي عن اتباع الكافرين]

- ‌[الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[أنواع الاختلاف]

- ‌[عود إلى الاستدلال من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار]

- ‌[النهي عن موالاة الكفار ومودتهم]

- ‌[وجوه الأمر بمخالفة الكفار]

- ‌[ذم بعض خصال الجاهلية]

- ‌[الفساد وأنواعه]

- ‌[التشبه مفهومه ومقتضاه]

- ‌[التشديد على النفس أنواعه وآثاره]

- ‌[فصل في ذكر فوائد خطبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم العظيمة في يوم عرفة]

- ‌[فصل في الإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم]

- ‌[الوجه الأول من دلائل الإجماع]

- ‌[الوجه الثاني من دلائل الإجماع]

- ‌[الوجه الثالث في تقرير الإجماع]

- ‌[فصل في الأمر بمخالفة الشياطين]

- ‌[فصل في الفرق بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم]

- ‌[الناس ينقسمون إلى بر وفاجر ومؤمن وكافر ولا عبرة بالنسب]

- ‌[التفاضل بين جنس العرب وجنس العجم]

- ‌[النهي عن بغض العرب]

- ‌[أسباب تفضيل العرب]

- ‌[فصل في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه]

- ‌[فصل في أقسام أعمال الكفار]

- ‌[فصل في الأعياد]

- ‌[طرق عدم جواز موافقتهم في أعيادهم]

- ‌[الطريق الأول أنه موافقة لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا]

- ‌[الطريق الثاني الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار]

- ‌[النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالكتاب]

- ‌[النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالسنة]

- ‌[النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالإجماع والآثار]

- ‌[النهي عن موافقتهم في أعيادهم بالاعتبار]

- ‌[فصل في مشابهتهم فيما ليس من شرعنا]

الفصل: ‌[التشديد على النفس أنواعه وآثاره]

الحاجات ما ليس في غيره (1) ومع كونها تفعل في شدة الحر، مسبوقة بخطبتين: فالفجر ونحوها التي تفعل وقت البرد، مع قلة الجمع: أولى وأحرى. والأحاديث في هذا كثيرة.

وإنما ذكرنا هذا تفسيرا (2) لما في حديث أنس، من تقدير صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قد يحسب من يسمع هذه الأحاديث: أن فيها نوع تناقض، أو يستمسك (3) بعض الناس ببعضها دون بعض، ويجهل معنى ما تمسك به.

[التشديد على النفس أنواعه وآثاره]

وأما في حديث أنس المتقدم من قول (4) النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات (5) رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» (6) . ففيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة على المشروع.

والتشديد: تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب، ولا مستحب: بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات (7) وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم، ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه، في الطيبات. وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى، شدد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة.

وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما عليه النصارى من الرهبانية

(1) في المطبوعة: غيرها.

(2)

في المطبوعة: التفسير.

(3)

في المطبوعة: أو يتمسك.

(4)

في (ب) : من قوله.

(5)

في (أط) : والديار.

(6)

الحديث مر تخريجه (ص 296) .

(7)

في (ط) : في العادات.

ص: 322

المبتدعة، وإن كان كثير من عبادنا، قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين، أو غير متأولين (1) .

وفيه أيضا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء، يكون سببا لتشديد آخر، يفعله الله: إما بالشرع وإما بالقدر.

فأما بالشرع: فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم، كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة (2) التراويح معه (3) ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل: أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله، وهو منهي عن نفس عقد النذر، وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب.

وأما بالقدر: فكثير (4) قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء، فيبتلى أيضا بأسباب تشدد الأمور (5) عليه، في الإيجاب والتحريم، مثل كثير من الموسوسين في الطهارة (6) إذا زادوا على المشروع، ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء (7) مشقة ومضرة.

(1) في المطبوعة زاد: ولا معذورين.

(2)

في (أ) : للصلاة للتراويح.

(3)

وذلك أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلَّى التراويح وصلى الصحابة خلفه، فلما صلى الفجر قال لهم:" أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها "، الحديث في صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، حديث (2012) ، (4 / 250- 251) من فتح الباري.

(4)

في المطبوعة قال: فكثيرا ما.

(5)

في (أب ط) : الأمر.

(6)

في المطبوعة: الطهارات.

(7)

في المطبوعة: أشياء فيها عظيم مشقة.

ص: 323

وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث، موافق لما قدمناه في قوله تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157](1) من أن ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال.

والآصار: ترجع إلى الإيجابات الشديدة.

والأغلال: هي التحريمات الشديدة.

فان الإصر: هو الثقل والشدة، وهذا شأن ما وجب.

والغل: يمنع المغلول من الانطلاق، وهذا شأن المحظور.

وعلى هذا دل قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87](2) . وسبب نزولها مشهور.

وعلى هذا ما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي (3) صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا (4) كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم (5) وقد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟

فقال أحدهم (6) أما أنا فأصلي الليل أبدا.

وقال (7) الآخر: أنا أصوم الدهر أبدا.

(1) سورة الأعراف: الآية 157.

(2)

سورة المائدة: الآية 87.

(3)

في (ب ج د) : عن عبادته، والمطبوعة: عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي البخاري كما أثبته.

(4)

في المطبوعة: فلما أخبروا بها. وفي البخاري كما أثبته.

(5)

في المطبوعة: وقد، وفي البخاري كما أثبته.

(6)

في (ج د) : أحدهما، وفي البخاري كما أثبته.

(7)

في (ب ج د) : قال الآخر، وفي البخاري كما أثبته.

ص: 324

وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: " أنتم الذين (1) قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» ، رواه البخاري، وهذا لفظه (2) ومسلم، ولفظه: عن أنس: «أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش (3) . فحمد الله وأثنى فقال: " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا (4) ؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (5) .

والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته التي هي الاقتصاد: في العبادة، وفي ترك الشهوات؛ خير من رهبانية النصارى، التي هي: ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلو في العبادات صوما وصلاة.

وقد خالف هذا - بالتأويل ولعدم العلم - طائفة من الفقهاء والعباد، ومثل هذا ما رواه أبو داود في سننه، عن العلاء بن عبد الرحمن (6) عن

(1) الذين: ساقطة من (أط) .

(2)

صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، حديث رقم (5063) من فتح الباري، (9 / 104) .

(3)

في (ب ج د) : على فراشي، وفي المطبوعة: فرش، وفي مسلم كما أثبته.

(4)

في المطبوعة زاد: وكذا.

(5)

صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه. . إلخ، حديث رقم (1401) ، (2 / 1020) .

(6)

كذا في جميع النسخ: العلاء بن عبد الرحمن، لكنه في أبي داود (3 / 12) : العلاء بن الحارث، أما العلاء بن عبد الرحمن فقد مرت ترجمته. والعلاء بن الحارث هو: العلاء بن الحارث بن عبد الوارث الحضرمي، أبو وهب، الدمشقي، وثقه ابن المديني وابن معين وغيرهما، وهو أعلم أصحاب مكحول وأفقههم، ورمي بالقدر، وخلط في آخر أمره، توفي سنة (136 هـ) وعمره (70) سنة.

انظر: تهذيب (8 / 177، 178) ، ترجمة رقم (318) .

ص: 325

القاسم بن عبد الرحمن (1) عن أبي أمامة: «أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحة (2) قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» (3) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته (4) سياحتهم الجهاد في سبيل الله.

وفي حديث آخر: «إن السياحة هي الصيام» (5) أو «السائحون هم الصائمون» (6) أو نحو ذلك (7) . وذلك تفسير لما ذكره الله تعالى في القرآن (8)

(1) هو: القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي، أبو عبد الرحمن، الشامي، مولى آل أبي بن حرب الأموي، وثقه بعض الأئمة، وتكلم فيه آخرون، وخلاصة القول فيه: أنه صدوق ثقة فيما يرويه عن الثقات، ومنكر الحديث في الضعفاء، كما أنه كثير الإرسال، مات سنة (112 هـ) . انظر: تهذيب التهذيب (8 / 322- 324) ، ترجمة رقم (581) ق.

(2)

كذا: (بالسياحة) في كل النسخ المخطوطة. أما في المطبوعة وأبي داود: في السياحة.

(3)

سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في النهي عن السياحة، حديث رقم (2486) ، (3 / 12) . وأخرجه الحاكم في المستدرك (2 / 73)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(4)

أمته: ساقطة من (أط) .

(5)

أخرج ابن جرير بسنده عن عبيد بن عمير، قال: سئل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن السائحين فقال: " هم الصائمون ". وأخرج ابن جرير أيضا بسنده عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " السائحون هم الصائمون ". كما أورد أقوال الصحابة والسلف كابن عباس وابن مسعود، وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم. انظر: تفسير ابن جرير الطبري (11 / 28، 29)، عند تفسير قوله تعالى:" التائبون العابدون " سورة التوبة: الآية 112.

(6)

نفس التعليق السابق.

(7)

نفس التعليق السابق.

(8)

في القرآن: سقطت من (ب) .

ص: 326

من قوله: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112](1) . وقوله {سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5](2) .

وأما السياحة التي هي الخروج في البرية لغير (3) مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة. ولهذا قال الإمام أحمد: " ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين "(4) مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها (5) متأولين في ذلك، أو غير عالمين بالنهي عنه، وهي من الرهبانية المبتدعة التي قيل فيها (6)«لا رهبانية في الإسلام» (7) .

والغرض هنا: بيان ما جاءت به الحنيفية: من مخالفة (8) اليهود فيما أصابهم من القسوة عن ذكر الله، وعما أنزل (9) ومخالفة النصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، وإن كان قد ابتلي بعض المنتسبين منا إلى علم أو دين بنصيب من هذا، أو من هذا (10) .

ومثل هذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما (11) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) سورة التوبة: من الآية 112.

(2)

سورة التحريم: من الآية 5.

(3)

في (ج د) : بغير.

(4)

مسائل الإمام أحمد للنيسابوري (2 / 176) .

(5)

وهي كما فسرها المؤلف: الخروج في البرية لغير مقصد معين، وذلك على وجه الترهبن والتصوف كما يفعل الدراويش.

(6)

في المطبوعة: التي قال فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(7)

جاء ذلك في حديث مر تخريجه (ص 180) .

(8)

في (أ) : لمخالفة اليهود.

(9)

في المطبوعة زاد: من الهدى الذي به حياة القلوب. وهو تفسير للكلمة، الأَوْلى أن يكون في الحاشية.

(10)

في المطبوعة زاد أيضا: ففيهم شبهة بهؤلاء وهؤلاء.

(11)

رضي الله عنهما: سقطت من (أج د ط) .

ص: 327

غداة (1) العقبة وهو على ناقته: «القط لي حصى» فلقطت له سبع حصيات، من (2) حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول:«أمثال هؤلاء فارموا» ، ثم قال:«أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» ، رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (3) من حديث عوف بن أبي جميلة (4) عن زياد بن حصين (5) عن أبي العالية عنه (6) وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.

وقوله: «إياكم (7) والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقاد والأعمال.

والغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد الشيء في حمده (8) أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك.

(1) في (أ) : غدا، ولعل الهاء سقطت سهوا.

(2)

في المطبوعة: مثل، وهو خلاف ما ورد في روايات الحديث وهي:(من) في رواية لأحمد، و (هن) في أحمد والنسائي وابن ماجه.

(3)

انظر: مسند أحمد (1 / 215) و (347) في مسند عبد الله بن عباس.

وسنن ابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، حديث رقم (3029) ، (2 / 1008) ؛ وسنن النسائي، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى (5 / 268) .

(4)

هو: عوف بن أبي جميلة الأعرابي العبدي البصري، قال عنه ابن حجر في التقريب:" ثقة رمي بالقدر والتشيع "، توفي سنة (147 هـ) وعمره ست وثمانون، أخرج له كل أصحاب الكتب الستة. انظر: تقريب التهذيب (2 / 89) ، ترجمة (793) ع.

(5)

هو: زياد بن الحصين بن قيس الحنظلي، أو الرياحي، البصري، أبو خزيمة، قال عنه ابن حجر في التقريب:" ثقة يرسل، من الطبقة الرابعة "، أخرج له مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد. انظر: تقريب التهذيب (1 / 267) ، (ت 101) .

(6)

يعني ابن عباس.

(7)

في (أ) : وإياكم.

(8)

في المطبوعة: يزاد في حمد الشيء.

ص: 328

والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال (1) من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، في قوله تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171](2) .

وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، فالغلو فيه: مثل الرمي بالحجارة (3) الكبار، ونحو ذلك. بناء على أنه قد أبلغ من الحصى الصغار (4) .

ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من (5) قبلنا إلا (6) الغلو في الدين، كما تراه في النصارى، وذلك يقتضي: أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن (7) الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم، يخاف عليه أن يكون هالكا.

ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم حذرنا من مشابهة من قبلنا، في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يسوى (8) بين الناس في ذلك، وإن كان كثير من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة.

ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، في شأن المخزومية التي سرقت (9) لما كلم أسامة (10) . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) في (أط) : في الاعتقاد والعمل.

(2)

سورة النساء: من الآية 171.

(3)

في المطبوعة: مثل رمي الحجارة الكبار.

(4)

في المطبوعة: على أنه قد بالغ في الحصى الصغار. وبه يتغير معنى العبارة.

(5)

في المطبوعة: من كان.

(6)

إلا: ساقطة من (أط) .

(7)

في (أ) : من.

(8)

في (أ) : نسوي.

(9)

وهي: فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد، وقيل: أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد. انظر: فتح الباري (12 / 88) .

(10)

هو الصحابي الجليل: أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وابن حبه، ولد في الإسلام، وأَمَّره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على جيش عظيم، فلما مات صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنفذه أبو بكر، وكان أسامة ممن اعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان. توفي في خلافة معاوية سنة (54) .

انظر: الإصابة (1 / 31) ، (ت 89) .

ص: 329

فيها (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟ ! إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (2) .

وكان بنو مجزوم من أشرف (3) بطون قريش، واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم: أن هلاك بني إسرائيل، إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات، وأخبر أن فاطمة ابنته - التي هي أشرف النساء - لو سرقت، وقد أعاذها الله من ذلك، لقطع يدها؛ ليبين: أن وجوب العدل والتعميم في الحدود، لا يستثنى منه بنت (4) الرسول، فضلا عن بنت غيره.

وهذا يوافق ما في الصحيحين، عن عبد الله بن مرة (5) عن البراء بن عازب قال: «مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي، محمم مجلود، فدعاهم، فقال:

(1) فيها: ساقطة من (ب ج د) والمطبوعة.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء وكتاب الحدود.

انظر: كتاب الحدود، باب رقم (54) ، الحديث رقم (3475) من فتح الباري (6 / 513) . وأخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، حديث رقم (1688) ، (3 / 1315) .

(3)

في (أ) : أشراف.

(4)

في (أ) : بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(5)

هو: عبد الله بن مرة الهمداني الخارفي الكوفي، وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة والعجلي وابن سعد، وأخرج له الستة، توفي سنة (100 هـ) .

انظر: تهذيب التهذيب (6 / 24، 25) ، ترجمة رقم (35) ع.

في (أ) : عبد الله بن سمرة. وهو تحريف، فالصحيح ما أثبته كما في صحيح مسلم.

ص: 330

" هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم قال: " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده: الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع (1) على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان (2) الرجم فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك، إذ (3) أماتوه» فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] إلى قوله (4){إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41](5) .

يقول: ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم (6) والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44](7){وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45](8){وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47](9) في الكفار كلها " (10) .

(1) في (ط) : فلنجمع. وفي مسلم كما أثبته.

(2)

في (أ) : وكان الرجم. وفي مسلم كما أثبته.

(3)

في (أ) : إذا أماتوه. وفي مسلم كما أثبته.

(4)

في المطبوعة سرد الآية. لكنه في صحيح مسلم كما أثبته من النسخ المخطوطة.

(5)

سورة المائدة: الآية 41.

(6)

التحميم هو: تسويد الوجه بالفحم ونحوه. انظر: مختار الصحاح، مادة (ح م م) ، (ص 157) .

(7)

سورة المائدة: من الآية 44.

(8)

سورة المائدة: من الآية 45.

(9)

سورة المائدة: من الآية 47.

(10)

صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث رقم (1700) ، (3 / 1327)، وله شواهد في صحيح البخاري. انظر: الأرقام (6819) ، (6841) فتح الباري.

ص: 331

وأيضا ما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي (1) قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول:«إني أبرأ إلى الله أن يكون لي (2) منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني (3) أنهاكم عن ذلك» (4) .

وصف صلى الله عليه وسلم أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء (5) والصالحين مساجد وعقّب (6) هذا الوصف بالأمر بحرف الفاء، أن لا يتخذوا القبور مساجد، وقال إنه صلى الله عليه وسلم ينهانا (7) عن ذلك. ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا؛ إما مظهر للنهي، وإما (8) موجب للنهي، وذلك يقتضي: أن أعمالهم دلالة (9) وعلامة على أن الله ينهانا (10) عنها، أو أنها علة مقتضية للنهي.

(1) هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي، له صحبة ليست بالقديمة، سكن الكوفة ثم البصرة. انظر: أسد الغابة (1 / 304، 305) .

(2)

لي: ساقطة من (أ) .

(3)

في (ب ط) : فإني.

(4)

صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث رقم (532) ، (1 / 377- 378) .

(5)

في (ب) : أنبيائهم.

(6)

في المطبوعة: وعدى.

(7)

في (أ) : نهانا.

(8)

في (أط) : أو موجب.

(9)

في (ط) : دالة.

(10)

في (ط) : نهانا.

ص: 332

وعلى التقديرين: يعلم أن مخالفتهم أمر مطلوب للشارع في الجملة، والنهي عن هذا العمل بلعنة اليهود والنصارى مستفيض عنه صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود (1) ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (2) .

وفي لفظ (3) لمسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (4) .

وفي الصحيحين عن عائشة، وابن عباس (5) قالا:" لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا "(6) .

وفي الصحيحين أيضا عن عائشة: " أن أم سلمة وأم حبيبة (7) ذكرتا

(1) في المطبوعة زاد: والنصارى. وهو خلاف جميع النسخ المخطوطة، وخلاف ما اطلعت عليه من رواية الصحيحين فهي كما أثبته.

(2)

صحيح البخاري، كتاب الصلاة، الباب (55) ، الحديث (437) من فتح الباري (1 / 532) ؛ وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. .، حديث رقم (530) ، (1 / 376) .

(3)

في (ب) : وفي لفظ مسلم.

(4)

صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، تابع الحديث السابق (530) ، (1 / 377) .

(5)

في (ب) : رضي الله عنهم.

(6)

صحيح البخاري، كتاب الصلاة، الباب (55) ، الحديث (435، 436) من فتح الباري (1 / 532) ؛ وصحيح مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. .، الحديث (531) ، (1 / 377) .

(7)

هي: أم المؤمنين، أم حبيبة، واسمها: رملة بنت أبي سفيان بن حرب، أسلمت قديما وهاجرت إلى الحبشة، فلما تنصر زوجها عبيد الله بن جحش تزوجها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، توفيت بالمدينة سنة (44 هـ) .

انظر: الإصابة (4 / 305- 307) ، (ت 432) .

ص: 333

لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها (1) بأرض الحبشة، يقال لها: مارية. وذكرتا (2) من حسنها (3) وتصاوير فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور (4) أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل» (5) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» رواه أهل السنن الأربعة (6) وقال الترمذي: " حديث حسن "(7) وفي بعض نسخه: " صحيح "(8) .

(1) في المطبوعة: رأتاها. وفي الصحيحين والنسخ كما أثبته.

(2)

في (ب) : ذكرتها حسنها.

(3)

في (ج) : جنسها. ولعله خطأ من الناسخ.

(4)

في (ب) : الصورة.

(5)

صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد، الحديث رقم (426) من فتح الباري (1 / 523) ، ورقم (434، 1341، 3878) .

وصحيح مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، الحديث رقم (528) ، (1 / 375) .

(6)

أبو داود، كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء القبور، الحديث (3236) ، (3 / 558) ؛ والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا، حديث رقم (320) ، (2 / 136) ؛ وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، حديث (1574، 1575، 1576) ؛ والنسائي، الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور (4 / 94، 95) .

(7)

انظر: سنن الترمذي (2 / 137) .

(8)

انظر: تعليق أحمد محمد شاكر على الحديث في الترمذي (2 / 137) ، حيث أفاد أن للحديث شواهد ترفعه لدرجة الصحيح لغيره.

ص: 334

فهذا التحذير منه واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد على قبر الرجل الصالح (1) صريح في النهي عن المشابهة في هذا (2) ودليل على الحذر من (3) جنس أعمالهم، حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من (4) هذا الجنس.

ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور (5) واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة، وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار؛ إذ الغرض القاعدة الكلية، وإن كان تحريم ذلك قد ذكره غير واحد من علماء الطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم؛ ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا.

(1) الصالح: ساقطة من (أ) .

(2)

في (ب) : في هذا الدليل، ودليل. . إلخ.

(3)

في (أ) : على جنس. وفي (ب) والمطبوعة: عن جنس.

(4)

في (ط) : في هذا الجنس.

(5)

من أكبر المصائب التي دهت المسلمين في عصورهم المتأخرة تساهل فريق منهم في بناء المساجد والقباب على القبور، ثم إصرارهم على هذه البلية، وهم الآن يستزيدون منها رغم نصح الناصحين، وتبصير المستبصرين لهم، وأنت ترى توافر النصوص وثبوتها في التحذير والنهي عن ذلك، بل إن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما اهتم بشيء في مرض موته كاهتمامه بهذا الأمر الخطير أن تقع فيه أمته، ومع هذا لا نزال نرى لهذه البدعة قبولا وانتشارا ونسمع لها أئمة ودعاة ومنافحين، ولم يقتصر الأمر على مجرد البناء على القبور، بل لقد اتخذت هذه القبور مزارات ومعابد وقبلات، يطاف بها ويدعى فيها المخلوقون من دون الخالق، فنسأل الله أن يطهر بلاد المسلمين وقلوب من ابتلي منهم من هذا الرجس.

ص: 335

وفيه من الآثار ما لا يليق (1) ذكره هنا، حتى روى أبو يعلى الموصلي (2) في مسنده:(3) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (4) حدثنا زيد (5) بن الحباب (6) حدثنا جعفر بن إبراهيم (7) - من ولد ذي الجناحين - حدثنا علي بن عمر (8)

(1) لا يليق ذكره: أي لا يتأتى ولا يمكن، لكثرته وطوله.

(2)

هو: أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي، أبو يعلى، الحافظ، من أشهر علماء الحديث في عصره، نعته الذهبي بمحدث الموصل، وله مصنفات، منها: المعجم، ومسندان؛ صغير وكبير، وكان ثقة صالحا متقنا، توفي سنة (307 هـ) وعمره (99) .

انظر: شذرات الذهب (2 / 250) ؛ والأعلام للزركلي (1 / 171) .

(3)

في المطبوعة: بسنده.

(4)

هو: عبد الله بن محمد بن إبراهيم - وإبراهيم هو أبو شيبة - بن عثمان، أبو بكر بن شيبة الكوفي، الواسطي الأصل، صاحب التصانيف المشهورة، من الثقات الحفاظ المشاهير، من الطبقة العاشرة، توفي سنة (235 هـ) . انظر: تقريب التهذيب (1 / 445) ، ترجمة رقم (589) ع.

(5)

في المطبوعة: يزيد، وهو خطأ، وفي جميع النسخ زيد.

(6)

هو: زيد بن الحباب، أبو الحسين، العكلي، كان بالكوفة، وأصله من خراسان، قال ابن حجر في التقريب:" صدوق يخطئ في حديث الثوري ". أخرج له مسلم وأصحاب الكتب الستة عدا البخاري، توفي سنة (203 هـ) .

انظر: تقريب التهذيب (1 / 273) ، (ت 178) ز.

(7)

هو: جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال ابن حجر في لسان الميزان:" قال ابن حبان: يعتبر بحديثه من غير روايته عن أبيه ".

انظر: الجرح والتعديل (2 / 474) ، (ت 1928) ؛ ولسان الميزان (2 / 106- 107) ، (ت 432) ج.

(8)

هو: علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه، وكذلك ذكره البخاري في التاريخ الكبير، وقال: روى عنه جعفر بن إبراهيم، ولم يذكر عنه شيئا أيضا. انظر: الجرح والتعديل (6 / 196) ، (ت 1078) ؛ والتاريخ الكبير (6 / 289) ، (ت 2431) .

ص: 336

عن أبيه (1) عن علي بن حسين (2) أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، فقال: " ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي (3) عن النبي (4) صلى الله عليه وسلم؟ قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» . وأخرجه محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ (5) في مستخرجه (6) .

(1) هو: عمر بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وسكت عنه، وكذلك البخاري في التاريخ الكبير. انظر: الجرح والتعديل (6 / 124) ، (ت 677) ؛ والتاريخ الكبير (6 / 179) ، (ت 2097) .

(2)

كذا في (أ) ، وهو الأصح، وفي المطبوعة والنسخ الأخرى: ابن الحسن. وهو: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، زين العابدين. قال ابن حجر:" ثقة ثبت عابد فقيه فاضل مشهور "، قال ابن عيينة: عن الزهري: " ما رأيت قرشيا أفضل منه ". من الثالثة. مات سنة (93 هـ)، أخرج له الستة. انظر: تقريب التهذيب (2 / 35) ، (ت 321) ع.

(3)

أبوه الحسين بن علي، وجده علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما.

(4)

في (أط) : عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(5)

هو: ضياء الدين محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي المقدسي الصالحي، الحافظ الإمام، محدث عصره، ولد سنة (569 هـ) ، وله مصنفات كثيرة في الفقه والحديث والتوحيد. لم أجد مستخرجه الذي أشار إليه المؤلف هذا ذكرا إلا أن يكون كتابه (الأحاديث المختارة) ، لأنه في الأحاديث التي يصلح أن يحتج بها سوى ما في الصحيحين، ويرجح هذا ما سيذكره المؤلف في هذا الكتاب. انظر (2 / 141) . توفي سنة (643 هـ) . انظر: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (2 / 236- 241) .

(6)

أشار ابن حجر في لسان الميزان إلى هذا الحديث عند ترجمة جعفر بن إبراهيم، وخرجه من أكثر من طريق:

الأولى: أشار إليها المؤلف هنا عن أبي يعلى الموصلي وذكرها مختصرة.

الثانية: عن إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الثالثة: عن ابن أبي عاصم في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذكر في الأخيرة آخر الحديث فقط، وفصل الأولى.

انظر: لسان الميزان (2 / 106، 107) في ترجمة جعفر بن إبراهيم (432) ج.

وللحديث شاهد جيد أيضا سيشير إليه المؤلف في الصفحة التالية، كما ذكره السيوطي في الجامع الصغير بلفظ:" صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا، ولا تتخذوا بيتي عيدا، وصلوا علي وسلموا، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم "، وقال السيوطي: حديث صحيح (2 / 97) . كما أخرجه الإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإسناد آخر عن علي بن حسين وبألفاظ مقاربة لما ذكره المؤلف هنا، الحديث رقم (20) ، (ص 10، 11) ، والحديث بمجموع طرقه وشواهده يصل لدرجة الصحيح إن شاء الله.

ص: 337

وروى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد (1) أخبرني سهيل بن أبي سهيل (2) قال: " رآني الحسن بن الحسن (3) بن علي بن أبي طالب (4) رضي الله عنه عند القبر فناداني، وهو في بيت

(1) هو: عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي المدني، أبو محمد، صدوق سيئ الحفظ يخطئ، مات سنة (186 هـ) .

انظر: تهذيب التهذيب (6 / 353- 355) ، (ت 677) ع.

(2)

في (ب ج د) : سهل. ولعل (سهيل) أصح، ولم أجد له ترجمة وافية، لكن أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير، وقال:" سهيل عن حسن بن حسن، روى عنه محمد بن عجلان، منقطع "، كما أشار إليه ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل وسكت عنه.

انظر: التاريخ الكبير (4 / 105) ، (ت 2122) و.

انظر: الجرح والتعديل (4 / 249) ، (ت 1071) .

(3)

في المطبوعة: رآني علي الحسن بن علي. وهو خطأ. وفي (ط) : رأى الحسن بن علي. وهو خطأ كذلك.

(4)

قال ابن حجر عنه: " صدوق من الرابعة "، مات سنة (97 هـ) ، وعمره بضع وخمسون سنة.

انظر: تقريب التهذيب (1 / 165) ، ترجمة (262) ح.

ص: 338

فاطمة (1) يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ قلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ، ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء "(2) .

ولهذا ذكر الأئمة - أحمد وغيره، من أصحاب مالك وغيرهم -: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما ينبغي له أن يقول، ثم أراد أن يدعو، فإنه يستقبل القبلة (3) ويجعل الحجرة عن يساره.

(1) هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وتأتي ترجمتها رضي الله عنها (ص 434) .

(2)

أخرجه بهذا الإسناد الإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي، في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الحديث رقم (30)، وليس فيه قوله:" وما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء "، وأخرجه بإسناد آخر في الحديث رقم (20) ، وفي ألفاظه اختلاف يسير، وقد أشرت إليه في هامش الحديث السابق، وقوله:" ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء "، من كلام الحسن لا من كلام الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والله أعلم.

وأخرجه البزار بمسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " لا تجعلوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ وسلموا فإن صلاتكم تبلغني "، وقال البزار عن هذا: وهذا غير منكر وقد روي من غير وجه: " لا تجعلوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا ". كشف الأستار عن زوائد البزار (1 / 339، 340) ، رقم (707) .

انظر: التوسل والوسيلة للمؤلف (ص 73) .

(3)

انظر: إعانة الطالبين (2 / 143) للسيد البكري.

ص: 339