الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْحِمْيَةِ]
فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ الْفَصْلِ قَبْلَهُ ذِكْرُ الْحِمْيَةِ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا بَأْسَ بِالْحِمْيَةِ. وَكَانَ هَذَا مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّدَاوِي. وَالْأَوْلَى عِنْدَهُ تَرْكُهُ فَعَلَى هَذَا حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْحِمْيَةِ حُكْمُ مَسْأَلَةِ التَّدَاوِي عَلَى مَا سَبَقَ، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَجِبَ إذَا ظَنَّ الضَّرَرَ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ.
وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ لَا يُخَالِفُ هَذَا، وَأَمَّا إنْ احْتَمَلَ الضَّرَرَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَهُ فَهَذَا مُرَادُ الْإِمَامِ. يَتَوَجَّهُ اسْتِحْبَابُهَا إذًا احْتِيَاطًا وَتَحَرُّزًا وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ التَّدَاوِي؛ وَلِهَذَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُ مَا يَظُنُّ ضَرَرَهُ، وَلَا يَجِبُ التَّدَاوِي إذَا ظَنَّ نَفْعَهُ قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عَلِيٌّ، وَعَلِيٌّ نَاقِهٌ مِنْ مَرَضٍ، وَلَنَا دَوَالِي مُعَلَّقَةٌ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهَا، وَقَامَ عَلِيٌّ يَأْكُلُ مِنْهَا فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِعَلِيٍّ: إنَّكَ نَاقِهٌ حَتَّى كَفَّ، قَالَتْ: وَصَنَعْتُ شَعِيرًا وَسِلْقًا فَجِئْتُ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَعَلِيٍّ: مِنْ هَذَا أَصِبْ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لَكَ وَفِي لَفْظٍ فَإِنَّهُ أَوْفَقُ لَكَ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَالدَّوَالِي: أَقْنَاءٌ مِنْ الرُّطَبِ تُعَلَّقُ فِي الْبَيْتِ لِلْأَكْلِ. وَالنَّاقِهُ طَبِيعَتُهُ مَشْغُولَةٌ بِدَفْعِ آثَارِ الْعِلَّةِ. فَالْفَاكِهَةُ تَضُرُّهُ لِسُرْعَةِ اسْتِحَالَتِهَا وَضَعْفِ طَبِيعَتِهِ عَنْ دَفْعِهَا لَا سِيَّمَا وَفِي الرُّطَبِ ثِقَلٌ، وَأَمَّا السِّلْقُ وَالشَّعِيرُ فَنَافِعٌ لَهُ، وَيُوَافِقُ لِمَنْ فِي مَعِدَتِهِ ضَعْفٌ، وَفِي مَاءِ الشَّعِيرِ تَبْرِيدٌ وَتَغْذِيَةٌ وَتَلْطِيفٌ وَتَلْيِينٌ وَتَقْوِيَةُ الطَّبِيعَةِ لَا سِيَّمَا مَعَ السِّلْقِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا فِي الْمُفْرَدَاتِ.
وَعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ فَقَالَ: اُدْنُ فَكُلْ. فَأَخَذْتُ تَمْرًا فَأَكَلْتُ فَقَالَ: أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِك رَمَدٌ؟ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَمْضُغُ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الْأَثَرِ الْمَشْهُورِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ إنَّهُ مَحْفُوظٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.» كَذَا قِيلَ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَفْظُهُ «كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي نَفْسَهُ الْمَاءَ» وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مَحْمُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حَمَى مَرِيضًا لَهُ حَتَّى إنَّهُ مِنْ شِدَّةِ مَا حَمَاهُ كَانَ يَمُصُّ النَّوَى
، فَالْحِمْيَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ وَهِيَ عَمَّا يَجْلِبُ الْمَرَضَ حِمْيَةُ الْأَصِحَّاءِ، وَعَمَّا يَزِيدُهُ حِمْيَةُ الْمَرْضَى، فَإِنَّ الْمَرِيضَ إذَا احْتَمَى وَقَفَ مَرَضُهُ فَلَمْ يَتَزَايَدْ وَأَخَذَتْ الْقُوَى فِي دَفْعِهِ.
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ كِلْدَةَ: الطِّبُّ الْحِمْيَةُ، وَالْحِمْيَةُ عِنْدَهُمْ لِلصَّحِيحِ فِي الْمَضَرَّةِ كَالتَّخْلِيطِ لِلْمَرِيضِ وَالنَّاقِهِ.
وَأَنْفَعُ الْحِمْيَةِ لِلنَّاقِهِ، فَإِنَّ طَبِيعَتَهُ لَمْ تَرْجِعْ إلَى قُوَّتِهَا، فَقُوَّتُهَا الْهَاضِمَةُ ضَعِيفَةٌ، وَالطَّبِيعَةُ قَابِلَةٌ، وَالْأَعْضَاءُ مُسْتَعِدَّةٌ فَتَخْلِيطُهُ يُوجِبُ انْتِكَاسَةً أَصْعَبَ مِنْ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ. وَلَا يَضُرُّ تَنَاوُلُ يَسِيرٍ لَا تَعْجَزُ الطَّبِيعَةُ عَنْ هَضْمِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ صُهَيْبٍ الْمَذْكُورُ، وَقَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ لِشِدَّةِ الشَّهْوَةِ فَتَتَلَقَّاهُ الطَّبِيعَةُ وَالْمَعِدَةُ بِالْقَبُولِ فَيُصْلِحَانِ مَا يَخَافُ مِنْهُ، وَلَعَلَّهُ أَنْفَعُ مِمَّا تَكْرَهُهُ الطَّبِيعَةُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا
فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَهِي؟ فَقَالَ أَشْتَهِي خُبْزَ بُرٍّ» وَفِي لَفْظٍ «أَشْتَهِي» كَعَطَاءٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرٍّ فَلْيَبْعَثْ إلَى أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ» .
وَلَا يَنْبَغِي إكْرَاهُ الْمَرِيضِ عَلَى طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ إمَّا لِاشْتِغَالِ طَبِيعَتِهِ بِمُجَاهَدَةِ الْمَرَضِ أَوْ لِسُقُوطِ شَهْوَتِهِ أَوْ نُقْصَانِهَا لِضَعْفِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ أَوْ خُمُودِهَا، فَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْغِذَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَالْجُوعُ طَلَبُ الْأَعْضَاءِ لِلْغِذَاءِ، لِتُخْلِفَ الطَّبِيعَةُ بِهِ عَلَيْهَا عِوَضَ مَا تَحَلَّلَ مِنْهَا فَتَجْذِبُ الْأَعْضَاءُ الْبَعِيدَةُ مِنْ الْقَرِيبَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْجَذْبُ إلَى الْمَعِدَةِ فَيُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِالْجُوعِ، فَيَطْلُبُ الْغِذَاءَ، فَإِذَا وَجَدَهُ الْمَرِيضُ اشْتَغَلَتْ الطَّبِيعَةُ بِمَادَّتِهِ وَإِنْضَاجِهَا، أَوْ إخْرَاجِهَا عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ أَوْ الشَّرَابِ، فَإِذَا أُكْرِهَ الْمَرِيضُ عَلَى ذَلِكَ تَعَطَّلَتْ بِهِ الطَّبِيعَةُ عَنْ فِعْلِهَا، وَاشْتَغَلَتْ بِهَضْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ عَنْ إنْضَاجِ مَادَّةِ الْمَرَضِ وَدَفْعِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَهُ لِضَرَرِ الْمَرِيضِ لَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْبُخَارَيْنِ أَوْ ضَعْفِ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ أَوْ خُمُودِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي هَذَا الْحَالِ إلَّا مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ قُوَّتَهُ وَيُقَوِّيهَا بِمَا لَطُفَ قَوَامُهُ وَاعْتَدَلَ مِزَاجُهُ مِنْ شَرَابٍ وَغِذَاءٍ، وَهَذَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ مُزْعِجٍ لِلطَّبِيعَةِ، فَإِنَّ الطَّبِيبَ خَادِمٌ لِلطَّبِيعَةِ وَمُعِينُهَا لَا مُعِيقُهَا.
وَالدَّمُ الْجَيِّدُ هُوَ الْمُغَذِّي لِلْبَدَنِ، وَالْبَلْغَمُ دَمٌ فَجٌّ قَدْ نَضِجَ بَعْضَ النُّضْجِ، فَإِذَا عَدِمَ الْغِذَاءَ مَرِيضٌ فِيهِ بَلْغَمٌ كَثِيرٌ عَطَفَتْ الطَّبِيعَةُ عَلَيْهِ وَطَبَخَتْهُ وَأَنْضَجَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ دَمًا وَغَذَّتْ بِهِ الْأَعْضَاءَ وَاكْتَفَتْ بِهِ، وَالطَّبِيعَةُ هِيَ الْقُوَّةُ الَّتِي وَكَّلَهَا اللَّهُ بِتَدْبِيرِ الْبَدَنِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُكْرِهُوا مَرَضَاكُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: هَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ يُحْتَاجُ إلَى إجْبَارِ الْمَرِيضِ عَلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ فِي أَمْرَاضٍ مَعَهَا اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَخْصُوصًا أَوْ مُقَيَّدًا. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرِيض يَعِيشُ بِلَا غِذَاءٍ أَيَّامًا، لَا يَعِيشُ الصَّحِيحُ فِي مِثْلِهَا. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ بِنَحْوِهِ، وَفِي قَوْلِهِ:" فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ " مَعْنًى لَطِيفٌ يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَحْكَامِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرِهَا فِي طَبِيعَةِ الْبَدَنِ وَانْفِعَالِ الطَّبِيعَةِ عَنْهَا كَمَا تَنْفَعِلُ هِيَ كَثِيرًا عَنْ الطَّبِيعَةِ، فَالنَّفْسُ إذَا اشْتَغَلَتْ بِمَحْبُوبٍ أَوْ مَكْرُوهٍ اشْتَغَلَتْ بِهِ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، بَلْ وَعَنْ غَيْرِهِمَا فَإِنْ كَانَ مُفْرِحًا قَوِيَّ التَّفْرِيحِ قَامَ لَهَا مَقَامَ الْغِذَاءِ؛ فَشَبِعَتْ بِهِ وَانْتَعَشَتْ قُوَاهَا وَتَضَاعَفَتْ وَجَرَتْ الدَّمَوِيَّةُ فِي الْجَسَدِ حَتَّى تَظْهَرَ فِي سَطْحِهِ فَإِنَّ الْفَرَحَ يُوجِبُ انْبِسَاطَ دَمِ الْقَلْبِ فَيَنْبَعِثُ فِي الْعُرُوقِ فَتَمْتَلِئُ بِهِ.
وَالطَّبِيعَةُ إذَا ظَفِرَتْ بِمَا تُحِبُّ آثَرَتْهُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ، وَإِنْ كَانَ مَخُوفًا وَنَحْوَهُ اشْتَغَلَتْ بِمُحَارَبَتِهِ أَوْ مُقَاوَمَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ، فَإِنْ ظَفِرَتْ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ انْتَعَشَتْ قُوَاهَا، وَأَخْلَفَتْ عَلَيْهَا نَظِيرَ مَا فَاتَهَا مِنْ قُوَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِلَّا انْحَطَّ مِنْ قُوَاهَا بِحَسَبِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَرْبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْعَدُوِّ سِجَالًا، فَالْقُوَّةُ تَظْهَرُ تَارَةً وَتَخْتَفِي أُخْرَى، فَالْمَرِيضُ لَهُ مَدَدٌ مِنْ اللَّهِ يُغَذِّيه بِهِ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ مِنْ تَغْذِيَتِهِ بِالدَّمِ، وَهَذَا الْمَدَدُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّخْصِ مِنْ رَبِّهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوَاصِلُ الصَّوْمَ وَيَقُولُ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه: الْخَوْفُ مَنَعَنِي الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَمَا أَشْتَهِيهِ.
وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه الله قَلِيلَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيُنْشِدُ كَثِيرًا.
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا
…
عَنْ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزَّادِ
وَأَمَّا مَا سَبَقَ مِنْ الْكَلَامِ: " وَعَوِّدُوا كُلَّ بَدَنٍ مَا اعْتَادَ " فَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ فِي الْعِلَاجِ وَأَعْظَمِهِ، فَإِنَّ مُلَاءَمَةَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ لِلْأَبْدَانِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا وَقَبُولِهَا، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَمَنْ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى مَا يَجِدُهُ فِي كُتُبِهِمْ فَذَلِكَ لِجَهْلِهِ وَيَضُرُّ الْمَرِيضَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ فَالْمَادَّةُ كَالطَّبِيعَةِ لِلْإِنْسَانِ.
وَفِي كَلَامِ الْأَطِبَّاءِ وَغَيْرِهِمْ: الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ، وَهِيَ قُوَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْبَدَنِ حَتَّى إنَّهُ إذَا قِيسَ أَمْرٌ وَاحِدٌ إلَى أَبْدَانٍ مُخْتَلِفَةِ الْعَادَاتِ مُتَّفِقَةٍ فِي الْوُجُوهِ الْأُخَرِ، كَانَ مُخْتَلِفًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ شَبَابٍ أَمْزِجَتُهُمْ حَارَّةٌ، أَحَدُهُمْ تَعَوَّدَ الْحَارَّ، وَالْآخَرُ الْبَارِدَ، وَالْآخَرُ الْمُتَوَسِّطَ، فَالْعَسَلُ لَا يَضُرُّ بِالْأَوَّلِ وَيَضُرُّ بِالثَّانِي وَيَضُرُّ بِالثَّالِثِ قَلِيلًا.
وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْن كِلْدَةَ: الْأَزْمُ دَوَاءٌ. الْأَزْمُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ، وَمُرَادُهُ الْجُوعُ وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ الْأَدْوِيَةِ فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ الِامْتِلَائِيَّةِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ فِي عِلَاجِهَا مِنْ الْمُسْتَفْرِغَاتِ إذَا لَمْ يَخَفْ مِنْ كَثْرَةِ الِامْتِلَاءِ وَهَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ وَحِدَّتِهَا وَغَلَيَانِهَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «صُومُوا تَصِحُّوا» .
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ وَغَيْرُهُمْ صِفَةَ الْمَعِدَةِ أَنَّهَا عُضْوٌ عَصَبِيٌّ مُجَوَّفٌ كَالْقَرْعَةِ فِي شَكْلِهِ، مُرَكَّبٌ فِي ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ شَظَايَا دَقِيقَةٍ عَصَبِيَّةٍ تُسَمَّى اللِّيفَ، يُحِيطُ بِهَا لَحْمٌ وَلِيفٌ، إحْدَى الطَّبَقَاتِ بِالطُّولِ وَالْأُخْرَى بِالْعَرْضِ، وَالثَّالِثَةُ بِالْوِرَابِ. وَفَمُ الْمَعِدَةِ أَكْثَرُ عَصَبًا. وَقَعْرُهَا أَكْثَرُ لَحْمًا وَفِي بَاطِنِهَا خَمْلٌ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي وَسَطِ الْبَطْنِ وَأَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَهِيَ بَيْتُ الدَّاءِ. وَكَانَتْ مَحِلًّا لِلْهَضْمِ الْأَوَّلِ، وَفِيهَا يَنْطَبِخُ الْغِذَاءُ ثُمَّ يَنْحَدِرُ مِنْهَا إلَى الْكَبِدِ وَالْأَمْعَاءِ، وَيَتَخَلَّفُ فِيهَا مِنْهُ فَضْلَةٌ عَجَزَتْ الْقُوَّةُ الْهَاضِمَةُ عَنْ تَمَامِ هَضْمِهِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْفَضْلَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّهُ يُخَافُ مِنْ الْإِكْثَارِ مِنْ الْغِذَاءِ النَّافِعِ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنْهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُفُّ عَنْهُ وَهُوَ يَمِيلُ إلَيْهِ فَلَا يَمِيلُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: " أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ " الْبَرَدَةُ بِالتَّحْرِيكِ التُّخَمَةُ وَثِقَلُ الطَّعَامِ عَلَى الْمَعِدَةِ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُبَرِّدُ الْمَعِدَةَ فَلَا تَسْتَمْرِئُ الطَّعَامَ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَعِدَةُ لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ الْكِرْشِ لِكُلِّ مُجْتَرٍّ، وَيُقَالُ: مِعْدَةٌ وَمَعِدَةٌ.
وَلْيُجْتَهَدْ فِي الْعِلَاجِ بِأَلْطَفِ الْغِذَاءِ الْمُعْتَادِ لِذَلِكَ الْمَرِيضِ؛ وَلِهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّهَا كَانَتْ إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا اجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إلَى أَهْلِهِنَّ، أَمَرَتْ بِبُرْمَةِ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ وَصُنِعَتْ ثَرِيدًا ثُمَّ صَبَّتْ التَّلْبِينَةَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَتْ: كُلُوا مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحَزَنِ» وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «عَلَيْكُمْ بِالْبَغِيضِ النَّافِعِ» يَعْنِي الْحَسَاءَ. قَالَتْ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ تَزَلْ الْبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ حَتَّى يَنْتَهِيَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ يَعْنِي يَبْرَأُ أَوْ يَمُوتُ» . وَلِلْبُخَارِيِّ أَوَّلُهُ مِنْ قَوْلِهَا: وَعَنْهَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قِيلَ لَهُ: إنَّ فُلَانًا وَجِعٌ لَا يَطْعَمُ الطَّعَامَ، قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالتَّلْبِينَةِ فَحَسُّوهُ إيَّاهَا وَيَقُولُ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا تَغْسِلُ إحْدَاكُنَّ وَجْهَهَا مِنْ الْوَسَخِ.» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَخَذَ أَهْلَهُ الْوَعْكُ أَمَرَ بِالْحَسَاءِ فَصُنِعَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُ لَيَرْتُو فُؤَادَ الْحَزِينِ وَيَسْرُو عَنْ فُؤَادِ السَّقِيمِ كَمَا تَسْرُو إحْدَاكُنَّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
وَفِيهِ أَمَرَهُمْ بِالْحَسَاءِ مِنْ الشَّعِيرِ. يُقَالُ: رَتَاهُ يَرْتُوهُ أَيْ يَشُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَيُرَادُ أَيْضًا إرْخَاؤُهُ وَأَوْهَاهُ، وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ، وَيُقَالُ: سَرَوْتُ الثَّوْبَ عَنِّي سَرْوًا إذَا أَلْقَيْتَهُ عَنْكَ وَسَرَيْتُ لُغَةً: مَجَمَّةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ، وَيُقَالُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَعْنَاهُ مُرِيحَةٌ لَهُ مِنْ الْإِجْمَامِ وَهِيَ الرَّاحَةُ، وَالتَّلْبِينَةُ وَالتَّلْبِينُ بِفَتْحِ التَّاءِ
حَسَاءٌ رَقِيقٌ مِنْ دَقِيقٍ وَنُخَالَةٍ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِيهَا عَسَلٌ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِاللَّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقَّتِهَا.
وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فَضْلُ مَاءِ الشَّعِيرِ، وَكَانُوا يَتَّخِذُونَهَا مِنْهُ، وَهِيَ أَنْفَعُ مِنْ مَاءِ الشَّعِيرِ لِطَبْخِهَا مَطْحُونًا فَتَخْرُجُ خَاصِّيَّةُ الشَّعِيرِ بِالطَّحْنِ، وَمَاءُ الشَّعِيرِ يُطْبَخُ صِحَاحًا، فَعَلَ ذَلِكَ أَطِبَّاءُ الْمُدُنِ لِيَكُونَ أَلْطَفَ لِرِقَّتِهِ، فَلَا يَثْقُلُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَرِيضِ، وَشُرْبُ ذَلِكَ حَارًّا أَبْلَغُ فِي فِعْلِهِ.
وَقَوْله: " وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحَزَنِ " قَدْ يَكُونُ لِخَاصِّيَّةٍ فِيهَا وَقَدْ يَكُونُ لِزَوَالِ مَا حَصَلَ بِالْحَزَنِ مِنْ الْيُبْسِ وَبَرُدَ الْمِزَاجُ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فَقَوِيَتْ الْقُوَى وَقَوِيَ الْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.