الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحَظِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْهَا]
رَوَى الْخَلَّالُ أَنَّ أَحْمَدَ جَاءَ إلَى وَكِيعٍ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُوفِيِّينَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَدَبِهِ وَتَوَاضُعِهِ. فَقِيلَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّ الشَّيْخَ لَيُكْرِمُك فَمَا لَك لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ يُكْرِمُنِي فَيَنْبَغِي لِي أَنْ أُجِلَّهُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: مَا اسْتَأْذَنْت قَطُّ عَلَى مُحَدِّثٍ كُنْت أَنْتَظِرُ، حَتَّى يَخْرُج إلَيَّ، وَتَأَوَّلْتُ قَوْله تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5] .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَجْهَلُ، وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ احْتَمَلَ وَحَلُمَ وَيَقُولُ: يَكْفِينِي اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ بِالْحَقُودِ وَلَا الْعَجُولِ، وَلَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ عَمِّهِ وَجِيرَانِهِ مُنَازَعَةٌ فَكَانُوا يَجِيئُونَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَلَا يُظْهِرُ لَهُمْ مَيْلَهُ إلَى عَمِّهِ وَلَا يَغْضَبُ لِعَمِّهِ وَيَلْقَاهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ الْكَرَامَةِ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ يُحِبُّ الْفُقَرَاءَ، لَمْ أَرَ الْفَقِيرَ فِي مَجْلِسِ أَحَدٍ أَعَزَّ مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ، مَائِلٌ إلَيْهِمْ مُقْصِرٌ عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا تَعْلُوهُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، إذَا جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُسْأَلَ، وَإِذَا خَرَجَ إلَى مَجْلِسِهِ لَمْ يَتَصَدَّرْ، يَقْعُدُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ وَكَانَ لَا يَقْطُنُ الْأَمَاكِنَ وَيَكْرَهُ إيطَانَهَا وَكَانَ إذَا انْتَهَى إلَى مَجْلِسِ قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، وَصَحِبْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ.
وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ دَائِمَ الْبِشْرِ لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَكَانَ يُحِبُّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضُ فِي اللَّهِ وَكَانَ إذَا أَحَبَّ رَجُلًا أَحَبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَكَرِهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ حُبُّهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدَيْهِ وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمٍ أَوْ إثْمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ إنْ كَانَ مِنْهُ وَكَانَ إذَا
بَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ صَلَاحٌ أَوْ زُهْدٌ أَوْ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ سَأَلَ عَنْهُ وَأَحَبَّ أَنْ يُجْرِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةً وَكَانَ رَجُلًا وَطِيئًا إذَا كَانَ حَدِيثٌ لَا يَرْضَاهُ اضْطَرَبَ لِذَلِكَ وَتَبَيَّنَ التَّغْيِير فِي وَجْهِهِ غَضَبًا لِلَّهِ وَلَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا فَإِذَا كَانَ فِي أَمْرٍ مِنْ الدِّينِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ لَهُ وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَسَنَ الْجِوَارِ يُؤْذَى فَيَصْبِرُ وَيَحْتَمِلُ الْأَذَى مِنْ الْجِيرَانِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رضي الله عنه وَقَدْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَقَالَ لَا تَتْبَعُونِي مَرَّةً أُخْرَى وَكَانَ يَمْشِي وَحْدَهُ مُتَوَاضِعًا وَقَالَ ابْنُ هَانِئٍ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا لَقِيَ امْرَأَتَيْنِ فِي الطَّرِيقِ وَكَانَ طَرِيقُهُ بَيْنَهُمَا وَقَفَ وَلَمْ يَمُرَّ حَتَّى يَجُوزَا.
وَعَنْ أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ «سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدُ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ: اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إنَّ ثَوْبَهَا لَيَعْلَقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أَبِي عَمْرو بْنِ حِمَاشٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ أَبُو الْيَمَانِ الرَّحَّالُ الْمَدَنِيُّ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ يَرْكَبْنَ حَقَّهَا وَهُوَ وَسْطُهَا يُقَالُ سَقَطَ عَلَى حَاقِّ الْقَفَا وَحَقِّهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى أَنْ يَمْشِيَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْخَلَّالُ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُد بْنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ لَا أَعْرِفُهُ إلَّا بِهَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كَأَنَّهُ رَجُلٌ قَدْ وُفِّقَ لِلْأَدَبِ، وَسُدِّدَ بِالْحِلْمِ، وَمُلِئَ بِالْعِلْمِ، أَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمًا فَقَالَ عِنْدَك كِتَابُ زَنْدَقَةٍ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا يَحْرُزُ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ.
وَقَالَ الْخَلَّالُ ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي الْمَعْرُوفَ بِلُؤْلُؤٍ قَالَ حَضَرَ مَجْلِسَ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ كَبْشُ الزَّنَادِقَةِ فَقُلْت لَهُ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْتَ فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا تَصْنَعُ؟ فَسَمِعَنِي أَحْمَدُ فَقَالَ مَالَك؟ فَقُلْت هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ كَبْشُ الزَّنَادِقَةِ قَدْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ، فَقَالَ مَنْ أَمَرَكُمْ بِهَذَا عَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا؟ دَعُوا النَّاسَ يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ وَيَنْصَرِفُونَ لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُمْ بِهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِي تَرْجَمَتِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُنَادِي سَمِعْت جَدِّي يَقُولُ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَحْيَا النَّاسِ، وَأَكْرَمِهِمْ نَفْسًا وَأَحْسَنِهِمْ عِشْرَةً وَأَدَبًا كَثِيرَ الْإِطْرَاقِ وَالْغَضِّ، مُعْرِضًا عَنْ الْقَبِيحِ وَاللَّغْوِ، لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا الْمُذَاكَرَةُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالطُّرُقِ وَذِكْرِ الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّادِ، فِي وَقَارٍ وَسُكُونٍ وَلَفْظٍ حَسَنٍ، وَإِذَا لَقِيَهُ إنْسَانٌ بَشَّ بِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَكَانَ يَتَوَاضَعُ تَوَاضُعًا شَدِيدًا، وَكَانُوا يُكْرِمُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: كُنَّا فِي مَجْلِسِ أَبِي مُوسَى بِشْرِ بْنِ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ بْنَ شَيْخٌ بْنَ عَمِيرَةَ الْأَسَدِيَّ وَمَعَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْج الْفَقِيهُ الْقَاضِي فَخَاضُوا فِي ذِكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَإِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ ذِكْرَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهَلْ أُصُولُ الْفِقْهِ إلَّا مَا كَانَ يُحْسِنُهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ حِفْظُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَعْرِفَةُ بِسُنَّتِهِ.
وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ اللَّيْثِ الرَّازِيّ كُنْت فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ، فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَنَا شَابٌّ بِالرَّيِّ يُقَالُ لَهُ أَبُو زُرْعَةَ نَكْتُبُ عَنْهُ؟ فَنَظَرَ أَحْمَدُ إلَيْهِ كَالْمُنْكِرِ لِقَوْلِهِ شَابٌّ فَقَالَ: نِعْمَ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ أَعْلَى اللَّهُ كَعْبَهُ، نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ.
فَلَمَّا قَدِمْت الرَّيَّ أَخْبَرْت أَبَا زُرْعَةَ فَاسْتَعْبَرَ وَقَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مِنْ أَذَى الْجَهْمِيَّةِ فَأَتَوَقَّعُ الْفَرَجَ بِدُعَاءِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: قَدْ جَاءَنِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ يَحْيَى بْنُ خَاقَانَ فَقَالَ لِي: إنَّ كِتَابًا جَاءَ فِيهِ: إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الْمُتَوَكِّلَ يُقْرِئُك
السَّلَامَ وَيَقُولُ لَك لَوْ سَلِمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ لَسَلِمْت أَنْتَ، هَهُنَا رَجُلٌ قَدْ رَفَعَ عَلَيْك وَهُوَ فِي أَيْدِينَا مَحْبُوسٌ رَفَعَ عَلَيْك أَنَّ عَلَوِيًّا قَدْ تَوَجَّهَ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ وَقَدْ بَعَثْت بِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِك يَتَلَقَّاهُ فَإِنْ شِئْت ضَرَبْته وَإِنْ شِئْت حَبَسْته، وَإِنْ شِئْت بَعَثْته إلَيْك قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت لَهُ مَا أَعْرِفُ مِمَّا قَالَ شَيْئًا وَأَرَى أَنْ تُطْلِقُوهُ وَلَا تَعَرَّضُوا لَهُ.
وَقَالَ لَمَّا سُيِّرَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ إلَى الشَّامِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ بِالْمِرْبَدِ فَقَالَ: إنِّي دَاعٍ فَأَمِّنُوا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ مَنْ سَعَى لِي فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمْرَهُ وَاجْعَلْهُ مُوَطَّأَ الْعَقِبَيْنِ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَخْبَرْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ سَفِيهٍ يَتَكَلَّمُ وَيُؤْذِي قَالَ لَا تَعَرَّضُوا لَهُ إنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِقَلِيلِ مَا يَأْتِي بِهِ السَّفِيهُ أَقَرَّ بِالْكَثِيرِ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخِطْمِيِّ عَنْ جَدِّهِ عَمْرو بْنِ حَبِيبٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّهُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ السُّفَهَاءِ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ دَاءٌ وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِقَلِيلِ مَا يَأْتِي بِهِ السَّفِيهُ يُقِرّ بِالْكَثِيرِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ السَّفَهُ نُبَاحُ الْإِنْسَانِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ يَعَضُّ الْكَلْبَ إنْ عَضَّا
وَأَنْتَ تَرَى السَّبْع إذَا مَرَّ بِهِ السِّبَاعُ فِي السُّوقُ كَيْفَ تَنْبَحُهُ الْكِلَابُ وَتَقْرَبُ مِنْهُ وَلَا يَلْتَفِتُ وَلَا يَعُدُّهَا شَيْئًا إذْ لَوْ الْتَفَتَ كَانَ نَظِيرًا، وَمَتَى أَمْسَكَ عَنْ الْجَاهِلِ عَادَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعَقْل مُوَبَّخًا عَلَى قُبْحِ مَا أَتَى بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ لَائِمِينَ لَهُ عَلَى سُوءِ أَدَبِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُجِيبُهُ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَغْيَظُ مَنْ نَادَاكَ مَنْ لَا تُجِيبُهُ
وَمَا نَدِمَ حَلِيمٌ وَلَا سَاكِتٌ وَإِنَّمَا يَنْدَمُ الْمُقْدِمُ عَلَى الْمُقَابَلَةِ وَالنَّاطِقُ فَإِنْ
شِئْت فَاحْتَسِبْ سُكُوتَك عَنْ السَّفِيهِ أَجْرًا لَك، وَإِنْ شِئْت فَاعْدُدْهُ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ تَقَعَ فِي إثْمٍ، وَإِنْ شِئْت كَانَ احْتِقَارًا لَهُ، وَإِنْ شِئْت كَانَ سُكُوتُك سَبَبًا لَمُعَاوَنَةِ النَّاسِ لَك، وَإِنْ تَلَمَّحْتَ الْقَدَرَ عَلِمْت أَنَّهُ مَا يُسَلَّطُ إلَّا مُسَلِّطٌ فَرَأَيْت الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِهِ إمَّا عُقُوبَةً وَإِمَّا مَثُوبَةً.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ أَنْبَأْنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُحْرِزِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَعَ رَجُلٌ فِي أَبِي بَكْرٍ، فَآذَاهُ فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّانِيَةَ فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّالِثَةَ فَانْتَصَرَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ انْتَصَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوْجَدْت عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ يُكَذِّبُهُ لَمَّا قَالَ لَك فَلَمَّا انْتَصَرْت وَقَعْ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَجْلِسَ إذَا وَقَعَ الشَّيْطَانُ» ثنا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ ثنا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَسَاقَ نَحْوَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ إسْنَادٌ جَيِّدٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَبَشِيرٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ الْمَقْبُرِيُّ. ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَاب الِانْتِصَارِ عَنْ عُبَيْدِ بْن مُعَاذِ وَالْقَوَارِيرِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ ثنا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: كُنْت أَسْأَلُ عَنْ الِانْتِصَارِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] . فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ امْرَأَةِ أَبِيهِ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَزَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَنَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَجَعَلَ يَصْنَعُ شَيْئًا بِيَدِهِ حَتَّى فَطِنْته لَهَا فَأَمْسَكَ فَأَقْبَلَتْ زَيْنَبُ تُفْحِمُ لِعَائِشَةَ فَأَبَتْ أَنْ تَنْتَهِيَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ سُبِّيهَا فَغَلَبَتْهَا فَانْطَلَقَتْ زَيْنَبُ إلَى عَلِيٍّ فَقَالَتْ: إنَّ عَائِشَةَ
وَقَعَتْ بِكُمْ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَقَالَ لَهَا: إنَّهَا حِبَّةُ أَبِيك وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَانْصَرَفَ فَقَالَتْ لَهُمْ: إنِّي قُلْت كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ: وَجَاءَ عَلِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ» أُمُّ مُحَمَّدٍ تَفَرَّدَ عَنْهَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَعَلِيٌّ، حَدِيثُهُ حَسَنٌ وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ «وَإِنْ امْرُؤٌ شَتَمَك أَوْ عَيَّرَك بِمَا يَعْلَمُ فِيك فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، يَكُنْ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ» وَلِأَحْمَدَ هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهِ «فَيَكُونُ أَجْرُهُ لَك وَوِزْرُهُ عَلَيْهِ» .
وَرَوَى أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا أَبُو بَكْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم «وَسَبَّ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ: عَلَيْك السَّلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إنَّ مَلَكًا بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْك، كُلَّمَا شَتَمَك هَذَا قَالَ لَهُ بِك أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْك السَّلَامُ قَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ» وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا خَالِدٍ لَمْ يُدْرِكْ النُّعْمَانَ.
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: إنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ مَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ.
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ انْتَهَى الشَّعْبِيُّ إلَى رَجُلَيْنِ وَهُمَا يَغْتَابَانِهِ وَيَقَعَانِ فِيهِ فَقَالَ:
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ
…
لِعَزَّةِ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتْ
. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: لَا حِلْمَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ حِلْمِ إمَامٍ وَرِفْقِهِ، وَلَا جَهْلَ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ مِنْ جَهْلِ إمَامٍ وَحِدَّتِهِ، وَمَنْ يُنْصِفُ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ يُعْطَ الظَّفَرَ مِنْ أَمْرِهِ، وَالذُّلُّ فِي الطَّاعَة أَقْرَبُ إلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ التَّقْرِيبِ فِي الْمَعْصِيَةِ.
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَلَغَنِي مِنْ أَحَدٍ مَكْرُوهٌ إلَّا أَنْزَلْته إحْدَى ثُلَاثِ مَنَازِلَ، إنْ كَانَ فَوْقِي عَرَفْت لَهُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ نَظِيرِي تَفَضَّلْت عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دُونِي لَمْ أَحْفَلْ بِهِ، هَذِهِ سِيرَتِي فِي نَفْسِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَجْنُونِ:
حَلَالٌ لِلَيْلَى شَتْمُنَا وَانْتِقَاصُنَا
…
هَنِيئًا وَمَغْفُورًا لِلَيْلَى ذُنُوبُهَا
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَكَانَ يُقَالُ: الْغَالِبُ فِي الشَّرِّ مَغْلُوبٌ، شَتَمَ رَجُلٌ أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي شَتْمِنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا، فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ. أَعْطَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما شَاعِرًا فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُعْطِي مَنْ يَقُولُ الْبُهْتَانَ، وَيَعْصِي الرَّحْمَنَ؟ فَقَالَ: إنَّ خَيْرَ مَا بَذَلْت مِنْ مَالِكَ مَا وَقَيْت بِهِ مِنْ عِرْضِكَ، وَمَنْ ابْتَغَى الْخَيْرَ اتَّقَى الشَّرَّ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
مَا بَقِيَ عَنْك قَوْمًا أَنْتَ خَائِفُهُمْ
…
كَمِثْلِ دَفْعِك جُهَّالًا بِجُهَّالِ
قَعِّسْ إذَا حَدِبُوا وَاَحْدُبْ إذَا قَعَسُوا
…
وَوَازِنْ الشَّرَّ مِثْقَالًا بِمِثْقَالِ
الْقَعَسُ خُرُوجُ الصَّدْرِ وَدُخُولُ الظَّهْرِ وَهُوَ ضِدُّ الْحَدَبِ، يُقَالُ رَجُلٌ قَعْسٌ وَقَعِيسٌ وَمُتَقَاعِسٌ وَقَالَ آخَرُ:
لَعَمْرُكَ مَا سَبَّ الْأَمِيرَ عَدُوُّهُ
…
وَلَكِنَّمَا سَبَّ الْأَمِيرَ الْمُبَلِّغُ
وَقَالَ آخَرُ
حَلَالٌ لِلَيْلَى شَتْمُنَا وَانْتِقَاصُنَا
…
هَنِيئًا وَمَغْفُورًا لِلَيْلَى ذُنُوبُهَا
وَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ قَبْلَ ذِكْرِهِ الزَّهْدَ وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْحَنْبَلِيُّ الْوَزِيرُ لِيَكُنْ غَايَةُ أَمَلِكَ مِنْ عَدُوِّك الْإِنْصَافَ فَمَتَى طَلَبْته مِنْهُ كَانَ سَائِرُ الْخَلْقِ عَوْنًا لَك، فَأَمَّا أَخُوك وَصَدِيقُك فَعَامِلْهُمَا بِالْفَضْلِ وَالْمُسَامَحَةِ لَا بِالْعَدْلِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ لَهُ فَبَارَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنْ الْحِلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَإِنَّهُ لَكَمَا قَالَ مُطْرِيهِ:
يَرِينُكَ إمَّا غَابَ عَنْك فَإِنْ دَنَا
…
رَأَيْت لَهُ وَجْهًا يَسُرُّك مُقْبِلَا
يُعَلِّمُ هَذَا الْخَلْقَ مَا شَذَّ عَنْهُمْ
…
مِنْ الْأَدَبِ الْمَجْهُولِ كَهْفًا وَمَعْقِلَا
وَيَحْسُرُ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ إذَا رَأَى
…
مُضِيمًا لِأَهْلِ الْحَقِّ لَا يَسْأَمُ الْبِلَى
وَإِخْوَانُهُ الْأَدْنَوْنَ كُلٌّ مُوَفَّقٌ
…
بَصِيرٌ بِأَمْرِ اللَّهِ يَسْمُو إلَى الْعُلَى
وَقَالَ الْخَلَّالُ ثنا الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: قَالَ لِي أَحْمَدُ مَا كَتَبْت حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ حَتَّى مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا» ، فَأَعْطَيْت الْحَجَّامَ دِينَارًا حِينَ احْتَجَمْتُ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ إسْمَاعِيلَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ زُهَاءُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ، أَوْ يَزِيدُونَ، أَقَلُّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ يَكْتُبُونَ، وَالْبَاقِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ حُسْنَ الْأَدَبِ وَحُسْنَ السَّمْتِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ كُنَّا نَهَابُ أَنْ نُرَادَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي الشَّيْءِ أَوْ نُحَاجَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ، يَعْنِي لِجَلَالَتِهِ وَلِهَيْبَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي رُزِقَهُ.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْظَفَ ثَوْبًا وَلَا أَشَدَّ تَعَاهُدًا لِنَفْسِهِ فِي شَارِبِهِ وَشَعْرِ رَأْسِهِ وَشَعْرِ بَدَنِهِ وَلَا أَنْقَى ثَوْبًا وَأَشَدَّ بَيَانًا مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِ أَخِي صَالِحٍ وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ إلَى قَوْمٍ مَيَاسِيرَ فَحَمَلُوا إلَيْهِ جِهَازًا شَبِيهًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَأَكَلَتْهُ النَّارُ فَجَعَلَ صَالِحٌ يَقُولُ مَا غَمَّنِي مَا ذَهَبَ مِنِّي إلَّا ثَوْبُ أَبِي كَانَ يُصَلَّى فِيهِ أَتَبَرَّكُ بِهِ وَأُصَلِّي فِيهِ، قَالَتْ فَطُفِئَ الْحَرِيقُ وَدَخَلُوا فَوَجَدُوا الثَّوْبَ عَلَى سَرِيرٍ قَدْ أَكَلَتْ النَّارُ مَا حَوْلَهُ وَالثَّوْبُ سَالِمٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيّ: وَهَكَذَا بَلَغَنِي عَنْ
قَاضِي الْقُضَاةِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الزَّيْنَبِيِّ أَنَّهُ حَكَى أَنَّ الْحَرِيقَ وَقَعَ فِي دَارِهِمْ فَاحْتَرَقَ مَا فِيهَا إلَّا كِتَابٌ فِيهِ شَيْءٌ بِخَطِّ أَحْمَدَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمَّا وَقَعَ الْغَرَقُ بِبَغْدَادَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَغَرِقَتْ كُتُبِي سَلِمَ لِي مُجَلَّدٌ فِيهِ وَرَقَتَانِ مِنْ خَطِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِي قَصِيدَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ فُلَانٍ التِّرْمِذِيّ الَّذِي أَنْشَدَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْن حَنْبَلٍ وَهُوَ فِي السِّجْنِ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ فِيهَا:
إذَا مُيِّزَ الْأَشْيَاخُ يَوْمًا وَحَصَّلُوا
…
فَأَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْمَشَايِخِ جَوْهَرُ
فَيَا أَيُّهَا السَّاعِي لِيُدْرِكَ شَأْوَهُ
…
رُوَيْدَك عَنْ إدْرَاكِهِ سَتُقَصِّرُ
حَمَى نَفْسَهُ الدُّنْيَا وَقَدْ سَنَحَتْ لَهُ
…
فَمَنْزِلُهُ إلَّا مِنْ الْقُوتِ مُقْفِرُ
فَإِنْ يَكُ فِي الدُّنْيَا مُقِلًّا فَإِنَّهُ
…
مِنْ الْأَدَبِ الْمَحْمُودِ وَالْعِلْمِ مُكْثِرُ
وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه كَتَبَ مِنْ مِصْرَ كِتَابًا وَأَعْطَاهُ لِلرَّبِيعِ بْنِ سَلْمَانَ وَقَالَ: اذْهَبْ بِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأْتِنِي بِالْجَوَابِ فَجَاءَ بِهِ إلَيْهِ فَلَمَّا قَرَأَهُ تَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لَهُ اُكْتُبْ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ إنَّك سَتُمْتَحَنُ وَتُدْعَى إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَلَا تُجِبْهُمْ يَرْفَعْ اللَّهُ لَك عَلَمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ الْبِشَارَةَ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ وَجَوَابَ الْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ أَيُّ شَيْءٍ رُفِعَ إلَيْكَ قَالَ: الْقَمِيصُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ قَالَ لَيْسَ نَفْجَعُكَ بِهِ، وَلَكِنْ بُلَّهُ وَادْفَعْ إلَيْنَا الْمَاءَ حَتَّى نُشْرِكَك فِيهِ.
وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ قَالَ الرَّبِيعُ فَغَسَلْتَهُ وَحَمَلْت مَاءَهُ إلَيْهِ فَتَرَكَهُ فِي قِنِّينَةٍ وَكُنْتُ أَرَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَأْخُذُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَلَى وَجْهِهِ تَبَرُّكًا بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنهما، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدَّيْنِ كَذَبُوا عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ حِكَايَاتٍ فِي السُّنَّةِ وَالْوَرِعِ وَذِكْرُهُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَحِكَايَةَ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْخُبْزِ الَّذِي خُبِزَ فِي بَيْتِ ابْنِهِ صَالِحٍ لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ؟ وَدُفِعَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ كِتَابٌ مِنْ رَجُلٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَقَالَ فَإِذَا دَعَوْنَا لِهَذَا فَنَحْنُ مَنْ يَدْعُو لَنَا؟ .