الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الزُّهْدِ]
ِ) قَالَ الْخَلَّالُ مَا بَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ الزَّاهِدِ يَكُونُ زَاهِدًا وَمَعَهُ مِائَةُ دِينَارٍ قَالَ نَعَمْ عَلَى شَرِيطَةٍ إذَا زَادَتْ لَمْ يَفْرَحْ، وَإِذَا نَقَصَتْ لَمْ يَحْزَنْ قَالَ وَبَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ لِسُفْيَانَ: حُبُّ الرِّيَاسَةِ أَعْجَبُ إلَى الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَنْ أَحَبَّ الرِّيَاسَةَ طَلَبَ عُيُوبَ النَّاسِ أَوْ عَابَ النَّاسَ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ سُئِلَ أَحْمَدُ وَأَنَا شَاهِدٌ: مَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قَالَ قِصَرُ الْأَمَلِ وَالْإِيَاسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَكِنْ الزُّهْدُ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْك بِمَا فِي يَدِك، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أُصِبْت بِهَا أَرْغَبَ مِنْك فِيهَا لَوْ أَنَّهَا نُفِيَتْ عَنْك؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ يَعْنِي الَّذِي فِي إسْنَادِهِ وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مَتْرُوكٌ، وَضَعَّفَهُ أَيْضًا غَيْرُهُمْ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إذَا سَلِمَ فِيهِ الْقَلْبُ مِنْ الْهَلَعِ وَالْيَدُ مِنْ الْعُدْوَانِ
كَانَ صَاحِبُهُ مَحْمُودًا وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ عَظِيمٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَ هَذَا زَاهِدًا أَزْهَدُ مِنْ فَقِيرٍ هَلُوعٍ كَمَا قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَكَرَ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ وَذَكَرَ الْخَبَرَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» وَعَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَكُونُ الرَّجُلُ زَاهِدًا وَلَهُ مَالٌ قَالَ نَعَمْ، إنْ اُبْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ. وَقَالَ سُفْيَانُ إذَا بَلَغَك عَنْ رَجُلٍ بِالْمَشْرِقِ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ وَبِالْمَغْرِبِ صَاحِبُ سُنَّةٍ فَابْعَثْ إلَيْهِمَا بِالسَّلَامِ وَادْعُ اللَّهَ لَهُمَا فَمَا أَقَلَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةُ إلَى الصُّوفِيَّةِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الزُّهْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ تَرْكُ الْحَرَامِ وَهُوَ زُهْدُ الْعَوَامّ (وَالثَّانِي) تَرْكُ الْفُضُولِ مِنْ الْحَلَالِ وَهُوَ زُهْدُ الْخَوَاصِّ (وَالثَّالِثُ) تَرْكُ مَا يُشْغِلُ الْعَبْدَ عَنْ اللَّهِ عز وجل وَهُوَ زُهْدُ الْعَارِفِينَ قَالَ وَسَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ عُمَرَ الْحَافِظَ سَمِعْت أَبَا سَهْلِ بْنَ زِيَادٍ يَقُولُ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سُئِلَ أَبِي مَا الْفُتُوَّةُ؟ فَقَالَ تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى.
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ قَدْ قُلْت عِشْرِينَ أَلْفَ بَيْتٍ فِي الزُّهْدِ وَوَدِدْت أَنَّ لِي مِنْهَا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي لِأَبِي نُوَاسٍ
يَا نُوَاسُ تَوَقَّرْ
…
وَتَعَزَّ وَتَصَبَّرْ
إنْ يَكُنْ سَاءَك دَهْرٌ
…
فَلَمَا سَرَّك أَكْثَرْ
يَا كَثِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ ال
…
لَّهِ مِنْ ذَنْبِك أَكْبَرْ
وَرَأَى بَعْضُ إخْوَانِ أَبِي نُوَاسٍ لَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك قَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتهَا وَهِيَ الْآنَ تَحْتَ وِسَادَتِي فَنَظَرُوا فَإِذَا بِرُقْعَةٍ تَحْتَ وِسَادَتِهِ فِي بَيْتِهِ مَكْتُوبٍ فِيهَا:
يَا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً
…
فَلَقَدْ عَلِمْت بِأَنَّ عَفْوَك أَعْظَمُ
إنْ كَانَ لَا يَرْجُوك إلَّا مُحْسِنٌ
…
فَمَنْ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ الْمُجْرِمُ
أَدْعُوك رَبِّ كَمَا أَمَرْت تَضَرُّعًا
…
فَإِذَا رَدَدْت يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ
مَا لِي إلَيْك وَسِيلَةٌ إلَّا الرَّجَا
…
وَجَمِيلُ ظَنِّي ثُمَّ أَنِّي مُسْلِمُ
وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الزُّهْدِ قَالَ قِصَرُ الْأَمَلِ.
وَرَوَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنِي أَبِي سَمِعْت سُفْيَانَ يَقُولُ مَا ازْدَادَ رَجُلٌ عِلْمًا فَازْدَادَ مِنْ الدُّنْيَا قُرْبًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مَاهَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَسَدٍ: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْوَرَعِ فَقَالَ أَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ فِي الْوَرَعِ، وَأَنَا آكُلُ مِنْ غَلَّةِ بَغْدَادَ لَوْ كَانَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَلُحَ أَنْ يُجِيبَك عَنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ بَغْدَادَ وَلَا مِنْ طَعَامِ السَّوَادِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَخْزَمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْوَزِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْرَمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُبَيْهٍ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ «ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ وَذُكِرَ آخَرُ بِرِعَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يُعْدَلُ بِالرِّعَةِ شَيْءٌ» ابْنُ نُبَيْهٍ تَفَرَّدَ عَنْهُ الْمَخْرَمِيُّ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْفَضْلِ قَالَ عَلَامَةُ الزُّهْدِ فِي النَّاسِ إذَا لَمْ يُحِبَّ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُبَالِ بِمَذَمَّتِهِمْ وَإِنْ قَدَرْت أَنْ لَا تُعْرَفَ فَافْعَلْ وَمَا عَلَيْك أَلَّا يُثْنَى عَلَيْك وَمَا عَلَيْك أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ إذَا كُنْت مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ عز وجل، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُذْكَرَ لَمْ يُذْكَرْ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بَنَانَ قَالَ أَحْمَدُ: سَمِعْته يَقُولُ يَعْنِي بِشْرًا قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ مَنْ بُلِيَ بِالشُّهْرَةِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَفْتِنُوهُ لِأَنِّي لَا أُفَكِّرُ فِي بَدْءِ أَمْرِي، طَلَبْت الْحَدِيثَ وَأَنَا ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ هِجْرَانُ الدُّنْيَا فِي عَصْرِنَا هَذَا لَيْسَ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ، إنَّمَا الْمُنْقَطِعُ أَنِفَ مِنْ الذُّلِّ فَإِنَّ مُخَالَطَةَ الْقَدَرِيِّ وَالتَّخَلِّي عَنْهُمْ
تَرَّاعَة وَمَنْ طَلَّقَ عَجُوزًا مُنَاقِرَةً فَلَا عَجَبَ وَقَالَ مَا قَطَعَ عَنْ اللَّهِ وَحَمَلَ النَّفْسَ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ فَهُوَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةُ وَإِنْ كَانَ إمْلَاقًا وَفَقْرًا وَمَا أَوْصَلَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَذَاكَ لَيْسَ بِالدُّنْيَا الْمَذْمُومَةِ وَإِنْ كَانَ إكْثَارًا وَقَالَ الْوَاجِبُ شُكْرُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ نِعْمَةُ اللَّهِ وَطَرِيقٌ إلَى الْآخِرَةِ وَذَرِيعَةٌ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَكُلُّ خَيْرٍ يَعُودُ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ شَرٌّ، كَالسَّخَاءِ يَعُودُ إسْرَافًا، وَالتَّوَاضُعُ يَعُودُ ذُلًّا، وَالشَّجَاعَةُ تَعُودُ تَهَوُّرًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ: الْقَنَاعَةُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَوْ عَلِمْت قَدْرَ الرَّاحَةِ فِي الْقَنَاعَةِ وَالْعِزِّ الَّذِي فِي مَدَارِجِهَا عَلِمْت أَنَّهَا الْعِيشَةُ الطَّيِّبَةُ لِأَنَّ الْقَنُوعَ قَدْ كُفِيَ تَكَلُّبَ طِبَاعِهِ، وَالطَّبْعُ كَالصِّبْيَانِ الرُّعَّنِ وَمَنْ بُلِيَ بِذَلِكَ أَذْهَبَ وَقْتَهُ فِي أَخَسِّ الْمَطَالِبِ وَفَاتَتْهُ الْفَضَائِلُ فَأَصْبَحَ كَمُرَبِّي طِفْلٍ يَتَصَابَى لَهُ وَيَجْتَهِدُ فِي تَسْكِينِ طِبَاعِهِ تَارَةً بِلُعْبَةٍ تُلْهِيهِ وَتَارَةً بِشَهْوَةٍ، وَتَارَةً بِكَلَامِ الْأَطْفَالِ، وَمَنْ كَانَ دَأْبهُ التَّصَابِي مَتَى يَذُوقُ طَعْمَ الرَّاحَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي طَبْعِهِ كَذَا فَمَتَى يَسْتَعْمِلُ عَقْلَهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ التَّفْوِيضُ إلَى اللَّهِ كَالصَّبِيِّ حَالَ التَّرْبِيَةِ يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلَى وَالِدَيْهِ وَيَثِقُ بِهِمَا مُسْتَرِيحًا مِنْ كَدِّ التَّخَيُّرِ، فَلَا يَتَخَيَّرُ لِنَفْسِهِ مَعَ تَفْوِيضِهِ إلَى مَنْ يَخْتَارُ لَهُ. الْمُفَوِّضُ وَثِقَ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَعِنْدِي أَنَّهَا فِي الْجَنَّةِ أَعْنِي الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِأَنَّ الطَّيِّبَ الصَّافِي وَالصَّفَاءُ فِي الْجَنَّةِ.
وَقَالَ أَيْضًا مِنْ عَجِيبِ مَا نَقَدْت أَحْوَالَ النَّاسِ كَثْرَةُ مَا نَاحُوا عَلَى خَرَابِ الدِّيَارِ وَمَوْتِ الْأَقَارِبِ وَالْأَسْلَافِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى الْأَرْزَاقِ بِذَمِّ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ، وَذِكْرِ نَكَدِ الْعَيْشِ فِيهِ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْ انْهِدَامِ الْإِسْلَامِ، وَتَشَعُّثِ الْأَدْيَانِ، وَمَوْتِ السُّنَنِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ، وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَتَقَضِّي الْعُمْرِ فِي الْفَارِغِ الَّذِي لَا يُجْدِي، فَلَا أَحَدٌ مِنْهُمْ نَاحَ عَلَى دِينِهِ
وَلَا بَكَى عَلَى فَارِطِ عُمْرِهِ وَلَا تَأَسَّى عَلَى فَائِتِ دَهْرِهِ، وَلَا أَرَى لِذَلِكَ سَبَبًا إلَّا قِلَّةَ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأَدْيَانِ وَعِظَمَ الدُّنْيَا فِي عُيُونِهِمْ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ: يَرْضَوْنَ بِالْبَلَاغِ وَيَنُوحُونَ عَلَى الدِّينِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ فُصُولِ طَلَبِ الْعِلْمِ حَدِيثُ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا» وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» وَأَخَذَ ابْنٌ لِعُمَرَ خَاتَمًا فَأَدْخَلَهُ فِي فِيهِ فَانْتَزَعَهُ عُمَرُ مِنْهُ ثُمَّ بَكَى عُمَرُ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَقَالُوا لَهُ لِمَ تَبْكِي وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ لَك وَأَظْهَرَك عَلَى عَدُوِّك وَأَقَرَّ عَيْنَك؟ فَقَالَ عُمَرُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا تُفْتَحُ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ إلَّا أَلْقَى اللَّهُ عز وجل بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَنَا مُشْفِقٌ مِنْ ذَلِكَ، وَعَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ يَا ضَحَّاكُ مَا طَعَامُك؟ قَالَ اللَّحْمُ وَاللَّبَنُ قَالَ: ثُمَّ يَصِيرُ إلَى مَاذَا قَالَ إلَى مَا قَدْ عَلِمْت قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل ضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ابْنِ آدَمَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا» . وَعَنْ أَبِي كَعْبٍ مَرْفُوعًا «إنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ مَثَلٌ لِلدُّنْيَا، وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ فَانْظُرْ إلَى مَاذَا يَصِيرُ؟» وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ «كَانَ بِالْكُوفَةِ أَمِيرٌ فَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: إنَّ إعْطَاءَ هَذَا الْمَالِ فِتْنَةٌ، وَإِنَّ إمْسَاكَهُ فِتْنَةٌ، وَبِذَلِكَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ نَزَلَ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» . وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا «حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الْآخِرَةِ وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الْآخِرَةِ» . وَعَنْ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ: وَإِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ، فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» وَعَنْ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا «إنَّمَا بَقِيَ مِنْ الدُّنْيَا بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «أَنَّهُ نَهَى عَنْ التَّبَقُّرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» ، التَّبَقُّرُ التَّوَسُّعُ وَأَصْلُهُ مِنْ الْبَقْرِ الشَّقُّ. وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ مَرْفُوعًا «لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ يَمُوتُ وَمَا فِي مَرْضَاةِ
اللَّهِ تَعَالَى لَحَقَّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ
وَأَنْشَدَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ لِنَفْسِهِ:
يَلِذُّ نَدَى الدُّنْيَا الْغَنِيُّ وَيَطْرَبُ
…
وَيَزْهَدُ فِيهَا الْأَلْمَعِيُّ الْمُجَرِّبُ
وَمَا عَرَفَ الْأَيَّامَ وَالنَّاسَ عَاقِلٌ
…
وَوُفِّقَ إلَّا كَانَ فِي الْمَوْتِ يَرْغَبُ
إلَى اللَّهِ أَشْكُو هِمَّةً لَعِبَتْ بِهَا
…
أَبَاطِيلُ آمَالٍ تَغُرُّ وَتَخْلُبُ
فَوَا عَجَبًا مِنْ عَاقِلٍ يَعْرِفُ الدُّنَا
…
فَيُصْبِحُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ يَرْغَبُ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذِي الْعَيْنُ وَالْأَثَرُ
…
فَمَا الَّذِي بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ يُنْتَظَرُ
وَقْتٌ يَفُوتُ وَأَشْغَالٌ مُعَوِّقَةٌ
…
وَضَعْفُ عَزْمٍ وَدَارٌ شَأْنُهَا الْغِيَرُ
وَالنَّاسُ رَكْضًا إلَى مَأْوَى مَصَارِعِهِمْ
…
وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ رَكْضِهِمْ خَبَرُ
تَسْعَى بِهِمْ حَادِثَاتٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ
…
فَيَبْلُغُونَ إلَى الْمَهْوَى وَمَا شَعَرُوا
وَالْجَهْلُ أَصْلُ فَسَادِ النَّاسِ كُلِّهِمْ
…
وَالْجَهْلُ أَصْلٌ عَلَيْهِ يُخْلَقُ الْبَشَرُ
فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا وَأَنْشَدَ أَيْضًا
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي نَاصِحٌ لَكُمْ
…
فَعُوا كَلَامِي فَإِنِّي ذُو تَجَارِيبِ
لَا تُلْهِيَنَّكُمْ الدُّنْيَا بِزَهْرَتِهَا
…
فَمَا تَدُومُ عَلَى حُسْنٍ وَلَا طِيبِ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
إذَا قَلَّ مَالُ الْمَرْءِ قَلَّ صَدِيقُهُ
…
وَقَبُحَ مِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ يَجْمُلُ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ
…
وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْك يَضِيعُ
وَقَدْ قَالَ ابْنُ هَانِئٍ الشَّاعِرُ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَرْثِي فِيهَا وَلَدَهُ
حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِ
…
مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ
بَيْنَمَا يُرَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِرًا
…
حَتَّى يُرَى خَبَرًا مِنْ الْأَخْبَارِ
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا
…
صَفْوًا مِنْ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا
…
مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جِذْوَةَ نَارِ
الْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ
…
وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِ
لَيْسَ الزَّمَانُ وَإِنْ حَرَصْت مُسَاعِدًا
…
خُلُقُ الزَّمَانِ عَدَاوَةُ الْأَحْرَارِ
وَمِنْهَا:
وَتَلَهُّبُ الْأَحْشَاءِ شَيَّبَ مَفْرِقِي
…
هَذَا الضِّيَاءُ شُوَاظُ تِلْكَ النَّارِ
لَا حَبَّذَا الشَّيْبُ الْوَفِيُّ وَحَبَّذَا
…
شَرْخُ الشَّبَابِ الْخَائِنِ الْغَدَّارِ
وَطَرِي مِنْ الدُّنْيَا الشَّبَابُ وَرَوْقُهُ
…
فَإِذَا انْقَضَى فَقَدْ انْقَضَتْ أَوْطَارِي
وَمِنْهَا:
ذَهَبَ التَّكَرُّمُ وَالْوَفَاءُ مِنْ الْوَرَى
…
وَتَصَرَّمَا إلَّا مِنْ الْأَشْعَارِ
وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا بِالْبَيْتِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَذَكَرَهُمَا السُّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِهِ فِي الْجَنَائِزِ فِي الْمُصَابِ وَلِابْنِ هَانِئٍ أَيْضًا مِمَّا قَدْ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ هَذَا الْوَضْعِ:
لَا أَنْتَ عِنْدَ الْيُسْرِ مِنْ زُوَّارِهِ
…
يَوْمًا وَلَا فِي الْعُسْرِ مِنْ عُوَّادِهِ
وَلَهُ مِنْهَا:
أَفْدِي الْكِتَابَ بِنَاظِرِي فَبَيَاضُهُ
…
بِبَيَاضِهِ وَسَوَادُهُ بِسَوَادِهِ
وَلَهُ:
قَدْ كَانَ يَرْجُفُ فِي لَيَالِي وَصْلِهِ
…
قَلْبِي فَكَيْفَ يَكُونُ يَوْمَ صُدُودِهِ
وَلَهُ:
كَمْ عَاهَدَ الدَّمْعُ لَا يُغْرِي بِجِرْيَتِهَا ال
…
وَاشِي فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ ظَعْنُهُمْ غَدَرَا
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ «اُبْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ اُبْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ» .