الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلُ فِي حُبِّ الْفَقْرِ وَالْمَوْتِ وَالْحَذَرِ مِنْ الدُّنْيَا]
) قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَأَنَّك بِالْمَوْتِ وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَنَا أَنَا لَا أَعْدِلُ بِالْفَقْرِ شَيْئًا أَنَا أَفْرَحُ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ، إنِّي لَأَتَمَنَّى الْمَوْتَ صَبَاحًا وَمَسَاءً أَخَافُ أَنْ أُفْتَنَ فِي الدُّنْيَا. قَالَ مَسْرُوقٌ إنَّمَا تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ قَبْرُهُ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ هَانِئٍ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ الْحَسَنُ أَهِينُوا الدُّنْيَا فَوَاَللَّهِ لَأَهْنَأُ مَا تَكُونُ حِينَ تُهَانُ وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا الْغِنَى مِنْ الْعَافِيَةِ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَوْصِنِي قَالَ أَعِزَّ أَمْرَ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْت يُعِزّكَ اللَّهُ.
وَقَالَ يَحْيَى الْجَلَا سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُذِيبَ الدُّنْيَا أَكْبَادَ رِجَالٍ وَعَتْ صُدُورُهُمْ الْقُرْآنَ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ اخْتَفَى عِنْدِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ قَالَ لِي اُطْلُبْ لِي مَوْضِعًا حَتَّى أَدُورَ، قُلْت إنِّي لَا آمَنُ عَلَيْك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اخْتَفَى فِي الْغَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تَتَّبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّخَاءِ وَتَتْرُكَ فِي الشِّدَّةِ.
وَطَلَبَهُ الْمَأْمُونُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ قَالَ صَالِحٌ قَالَ أَبِي وَكُنْت أَدْعُو اللَّهَ أَنْ لَا أَرَاهُ فَحَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ فُرَاتِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَيْمُونٍ عَنْ مِهْرَانَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا تَبْلُوَنَّ نَفْسَك بِهِنَّ: لَا تَدْخُلَنَّ عَلَى سُلْطَانٍ وَإِنْ قُلْت آمُرُهُ بِطَاعَةٍ، وَلَا تَدْخُلَنَّ عَلَى امْرَأَةٍ وَإِنْ قُلْت أُعَلِّمُهَا كِتَابَ اللَّهِ، وَلَا تُصْغِيَنَّ سَمْعَك لِذِي هَوًى فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا تَعَلَّقَ قَلْبُك مِنْهُ قَالَ صَالِحٌ سَمِعْت أَبِي رحمه الله يَقُولُ وَاَللَّهِ لَقَدْ أَعْطَيْتُ الْمَجْهُودَ مِنْ نَفْسِي وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو مِنْ هَذَا الْأَمْرِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ زُهَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَحْمَدَ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ فَقَالَ لَهُ جَزَاك اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا، فَغَضِبَ وَقَالَ لَهُ مَنْ أَنَا حَتَّى يُجْزِيَنِي اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا؟ أَنْتَ فِي
غَيْرِ حِلٍّ مِنْ جُلُوسِك قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَزَاك اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ خَيْرًا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ مَا سَمِعْت كَلِمَةً كَانَتْ أَقْوَى لِقَلْبِي وَأَقَرَّ لِعَيْنِي فِي الْمِحْنَةِ مِنْ كَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ فَقِيرٍ أَعْمَى فِي رَحْبَة طُرُقٍ قَالَ لِي يَا أَحْمَدُ إنْ تَهْلِكْ فِي الْحَقِّ مِتَّ شَهِيدًا، وَإِنْ عِشْت عِشْت حَمِيدًا.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ حَنْبَلٍ عَمُّ أَحْمَدَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ أَعْذَرْت فِيمَا بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُكَ وَالْيَوْمَ بَقِيت فِي الْحَبْسِ وَالشَّرِّ، فَقَالَ لِي يَا عَمُّ إذَا أَجَابَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً وَالْجَاهِلُ بِجَهْلٍ فَمَتَى يَتَبَيَّنُ الْحَقّ؟ فَأَمْسَكَتْ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنَادِي دَخَلَ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد الْحَدَّادُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَبْسَ قَبْلَ الضَّرْبِ فَقَالَ لَهُ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْك رِجَالٌ وَلَك صِبْيَانٌ وَأَنْتَ مَعْذُورٌ كَأَنَّهُ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةَ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنْ كَانَ هَذَا عَقْلَك فَقَدْ اسْتَرَحْت وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَقُولُ أَنَا وَاَللَّهِ رَأَيْت يَوْمَ ضُرِبَ أَحْمَدُ وَقَدْ ارْتَفَعَ مِنْ بَعْدِ انْخِفَاضِهِ، وَانْعَقَدَ مِنْ بَعْد انْحِلَالِهِ وَلَمْ يَفْطُنْ لِذَلِكَ لِذُهُولِ عَقْلِ مَنْ حَضَرَهُ وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ ثنا سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ قَدْ كَانَ هَهُنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَكُنَّا نَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا، إنَّهُمَا مَاتَا وَبَقِيَ سِرِّي، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنَا اللَّهُ بِسِرِّي. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ لَوْلَا بِشْرٌ يَعْنِي الْحَافِيَّ وَمَا نَرْجُو مِنْ اسْتِغْفَارِهِ لَنَا لَكِنَّا فِي عُطْلَةٍ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ قُلْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَيْفَ تَخَلَّصْت مِنْ سَيْفِ الْمُعْتَصِمِ وَسَوْطِ الْوَاثِقِ؟ فَقَالَ لَوْ وُضِعَ الصِّدْقُ عَلَى جُرْحٍ لَبَرِيءَ وَقَالَ خَلَفٌ: جَاءَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَسْمَعُ حَدِيثَ أَبِي عَوَانَةَ فَاجْتَهَدْت أَنْ أَرْفَعَهُ فَأَبَى وَقَالَ لَا أَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْك، أُمِرْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لِمَنْ نَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَطَّارُ أَنَّهُ رَأَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَخَذَ لِدَاوُدَ بْنِ عُمَرَ بِالرِّكَابِ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الْأَخْضَرِ
فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ.
وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ سَعِيدٍ الرِّبَاطَيَّ لِأَنَّهُ تَوَلَّى الرِّبَاطَاتِ فَنُسِبَ إلَيْهَا قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَل يَقُول أَخَذْنَا هَذَا الْعَالَمَ بِالذُّلِّ فَلَا نَدْفَعُهُ إلَّا بِالذُّلِّ.
وَقَالَ الرِّبَاطِيُّ قَدِمْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَجَعَلَ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلَيَّ، فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُ يُكْتَبُ عَنِّي بِخُرَاسَانَ وَإِنْ عَامَلْتَنِي بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ رَمَوْا بِحَدِيثِي، فَقَالَ لِي أَحْمَدُ وَهَلْ بُدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ وَأَتْبَاعُهُ؟ اُنْظُرْ أَيْنَ تَكُونُ مِنْهُمْ؟ فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّمَا وَلَّانِي أَمْرَ الرِّبَاطِ لِذَلِكَ دَخَلْت قَالَ فَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيَّ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْفِضَ صَوْتَهُ عِنْدَهُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عَلَى غَيْرِهِ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ قِلَّةُ احْتِرَامٍ لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَلَمَّا رَفَعَ صَوْتُهُ سَعْدٌ عَلَى أَبِي جَهْلٍ قَالَ لَهُ بَعْضُ قُرَيْشٍ لَا تَرْفَعْ صَوْتَك عَلَى أَبِي الْحَكَمِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] .
أَيْ اُنْقُصْ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ غَضَضْت بَصَرِي وَفُلَانٌ يَغُضُّ بَصَرَهُ مِنْ فُلَانٍ {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ} [لقمان: 19] أَيْ أَقْبَحَ يَقُولُ أَتَانَا فُلَانٌ بِوَجْهٍ مُنْكَرٍ أَيْ قَبِيحٍ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْجَهْرَ بِالصَّوْتِ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي بَابِ الصَّوْتِ الْمُنْكَرِ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: عَرَّفَهُ قُبْحَ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِي الْمُخَاطَبَةِ بِقُبْحِ أَصْوَاتِ الْحَمِيرِ لِأَنَّهَا عَالِيَةٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ لَوْ كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ خَيْرًا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْحَمِيرِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ صِيَاحُ كُلِّ شَيْءٍ تَسْبِيحُ لِلَّهِ إلَّا الْحِمَارَ فَإِنَّهُ يَنْهَقُ بِلَا فَائِدَةٍ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ مِمَّا وَجَدْته فِي آدَابِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ مُسْتَنِدًا وَذُكِرَ عِنْدَهُ ابْنُ طَهْمَانَ فَأَزَالَ ظَهْرَهُ عَنْ الِاسْتِنَادِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ ذِكْرُ الصَّالِحِينَ وَنَحْنُ مُسْتَنِدُونَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فَأَخَذْتُ
مِنْ هَذَا حُسْنَ الْأَدَبِ فِيمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ عِنْدَ إمَامِ الْعَصْرِ مِنْ النُّهُوضِ لِسَمَاعِ تَوْقِيعَاتِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَافِظُ ابْنُ الْأَخْضَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَذُكِرَ عِنْدَهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ وَكَانَ مُتَّكِئًا مِنْ عِلَّةٍ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ الصَّالِحُونَ فَنَتَّكِئُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْعِلْمَ أَحَدٌ بِالْمُلْكِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ فَيُفْلِحُ لَكِنَّ مَنْ طَلَبَهُ بِذِلَّةِ النَّفْسِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَخِدْمَةِ الْعِلْمِ وَتَوَاضُعِ النَّفْسِ أَفْلَحَ وَقَالَ أَبُو تَوْبَةَ الْبَغْدَادِيُّ رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ يُحَدِّثُ فَقَالَ هَذَا يَفُوتُ وَذَاكَ لَا يَفُوتُ.
وَرَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْت لِرِجْلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ قَالَ: وَاعَجَبًا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إلَيْك وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ فِيهِمْ قَالَ: فَتَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَدِيثِ فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنْ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنْ التُّرَابِ فَيَخْرُجُ فَيَقُولُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا جَاءَ بِك؟ أَلَا أَرْسَلْت إلَى فَآتِيك؟ فَأَقُولُ أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيك، فَاسْأَلْهُ عَنْ الْحَدِيثِ قَالَ فَعَاشَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلِي فَيَقُولُ هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] .
وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ قَرَأَ عَلَيْهِ لِتَعْلِيمِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِيُسِنَّ التَّوَاضُعَ فِي أَخْذِ الْإِنْسَان مِنْ الْعُلُومِ عَنْ أَهْلِهَا وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي النَّسَبِ وَالدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَرْتَبَةِ وَالشُّهْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِيُنَبِّهَ النَّاسَ عَلَى فَضِيلَةِ أُبَيٍّ وَتَقْدِيمِهِ فَيَجْتَهِدُونَ فِي الْأَخْذِ عَنْهُ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ السُّورَةَ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ الِاخْتِصَارَ مَعَ أَنَّهَا جَامِعَةٌ.
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَشُقُّ النَّاسَ حَتَّى يَجْلِسَ فِي حَلَقَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ الْعِلْمَ يُبْتَغَى وَيُؤْتَى وَيُطْلَبُ مِنْ حَيْثُ كَانَ.
كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ لِبَنِيهِ: إنَّا كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ وَإِنَّا الْيَوْمَ كِبَارٌ وَإِنَّكُمْ سَتَكُونُونَ مِثْلَنَا إنْ بَقِيتُمْ، وَلَا خَيْرَ فِي كَبِيرٍ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ لَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى فِي حَلَقَةٍ فِيهَا نَفَرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَسْتَمِعُونَ لِحَدِيثِهِ وَيُنْصِتُونَ لَهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ. وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْمِلْ ذُلَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً بَقِيَ فِي ذُلِّ الْجَهْلِ أَبَدًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: الْمُتَوَاضِعُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ الْمُنْخَفِضَ أَكْثَرُ الْبِقَاعِ مَاءً.
وَقَدْ نَظَمَ هَذَا أَبُو عَامِرٍ النَّسَوِيُّ فَقَالَ:
الْعِلْمُ يَأْتِي كُلَّ ذِي
…
خَفْضٍ وَيَأْبَى كُلَّ آبِي
كَالْمَاءِ يَنْزِلُ فِي الْوِهَادِ
…
وَلَيْسَ يَصْعَدُ فِي الرَّوَابِي
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَمِلَ الطَّالِبُ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْخِ أَوْ مِنْ بَقِيَّةِ الطَّلَبَةِ لِئَلَّا يَفُوتَهُ الْعِلْمِ فَتَفُوتَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ مَعَ حُصُولِ الْعَدُوِّ طَلَبِهِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْمَأْمُورِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» .
وَقَدْ قِيلَ:
لَمَحْبَرَةٌ تُجَالِسُنِي نَهَارِي
…
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أُنْسِ الصَّدِيقِ
وَرِزْمَةُ كَاغِدٍ فِي الْبَيْتِ عِنْدِي
…
أَعَزُّ إلَيَّ مِنْ عَدْلِ الدَّقِيقِ
وَلَطْمَةُ عَالِمٍ فِي الْخَدِّ مِنِّي
…
أَلَذُّ عَلَيَّ مِنْ شُرْبِ الرَّحِيقِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ غَضِبَ الْأَعْمَشُ يَوْمًا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الطَّلَبَةِ فَقَالَ آخَرُ لَوْ غَضِبَ عَلَيَّ مِثْلُك لَمْ أَعُدْ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ: إذًا هُوَ أَحْمَقُ مِثْلُك يَتْرُكُ مَا يَنْفَعُهُ لِسُوءِ خُلُقِي. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ.