الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثالثا الشروط الواجب توافرها في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر]
ثالثا: الشروط الواجب توافرها في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر حدد جمهرة الفقهاء شروطا معينة لا بد من توافرها في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بعض هذه الشروط يرجع إلى طبيعة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى مبادئ الشريعة الإسلامية العامة، وبعض هذه الشروط متفق عليه، وبعضها مختلف فيه.
وقد ذكر الإمام الغزالي منها خمسة شروط، هي: التكليف، والإيمان، والعدالة، والولاية أو كونه مأذونا من جهة الوالي، والقدرة (1) . ولنا أن نسمي الثلاثة الأولى منها وهي، الإيمان والعدالة والولاية أو إذنها، شروط الصحة، كما نعد التكليف والقدرة من شروط الوجوب. فإن الثلاثة الأول تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصح بدونها. أما الشرطان الأخيران فيشيران إلى الظروف التي يجب فيها والتي يسقط فيها الوجوب وينتقل إلى حكم آخر (2) .
(1) إحياء علوم الدين، ج 2، ص 312.
(2)
السيد جلال الدين العمري، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مصدر سابق، ص 232.
وفيما يلي تفصيل لهذه الشروط:
أ) الإيمان: الإيمان أول شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فللمؤمن وحده أن يقوم بهذا الواجب العظيم، وقد أشار الإمام الغزالي - يرحمه الله - إلى سبب اشتراطه لهذا الشرط فقال:" لأن هذا نصرة للدين، فكيف يكون من أهله من هو جاحد لأصل الدين وعدو له "(1) .
ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة للدين وحماية لذماره، كان من الطبيعي أن يكون المؤمنون به وحدهم أهلا له ومسئولين عنه. أما الذين لا يؤمنون به فهم غير صالحين للقيام به ولا مطالبين بأدائه (2) .
ب) العدالة: اشترط بعض الفقهاء هذا الشرط فيرون أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يصح أن يكون فاسقا ويحتجون بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44](3) وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3](4) كما يحتجون بالحديث الشريف، فعن
(1) إحياء علوم الدين. جـ 2. ص 312.
(2)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مصدر سابق، ص 233.
(3)
سورة البقرة: الآية 44.
(4)
سورة الصف، الآيتان 2-3.
أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها، كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان: ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه» (1) .
كما استدلوا بالقياس " وعندهم أن هداية الغير فرع للاهتداء وتقويم الغير فرع للاستقامة، وأن العاجز عن إصلاح نفسه أشد عجزا عن إصلاح غيره.
ولكن الراجح لدى الفقهاء: أن للفاسق أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه لا يشترط في الآمر أو الناهي أن يكون معصوما عن المعاصي كلها؛ لأن في اشتراط هذا الشرط سدا لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال سعيد بن جبير:" إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء "(2) .
ويقول الإمام الغزالي: " وإنما الحق أن للفاسق أن يحتسب، وبرهانه هو أن نقول هل يشترط في الاحتساب أن يكون متعاطيه معصوما عن المعاصي كلها، فإن شرط ذلك فهو خرق للإجماع ثم حسم لباب
(1) متفق عليه.
(2)
التشريع الجنائي جـ 1، مصدر سابق، 499.
الاحتساب إذ لا عصمة للصحابة فضلا عمن دونهم " (1) ويرى أبو بكر الجصاص: " أن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غيرها، ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات، فكذلك من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المناكير فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه " (2) .
ويقول الحافظ بن كثير: " ذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره وهذا ضعيف، والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه. . . لكنه والحالة هذه مذموم على تركه الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم "(3) .
يتضح من استعراض آراء العلماء - والله أعلم - أن العدالة في ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست شرطا لصحة القيام بهذا الواجب وإنما هي شرط كمال وأدب؛ لأن الفاسق كما يجب عليه أن ينتهي عن فسقه، يجب عليه أن ينهى الناس عنه، فإن ارتكابه المنكر لا يبيح له السكوت عليه، فالمعصية لا تبرر ترك الواجبات مهما كانت تلك المعصية ومهما كانت الواجبات. نعم يجب على المرء أن يأمر نفسه
(1) إحياء علوم الدين، ج 2، ص 312.
(2)
أحكام القرآن، ج 2، ص40.
(3)
تفسير ابن كثير، ج 1، ص 85.
بالمعروف وينهاها عن المنكر قبل أمر الناس ونهيهم، حتى لا يواجه الناس بحال نفسه ويقولوا له هلا أمرت نفسك قبل أن تأمرنا ونهيتها قبل أن تنهانا، ولكن عدم قيامه بهذا الواجب لا يجعل له عذرا في ترك غيره من الواجبات التي من أهمها أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فقد يكون لكلامه أثر في بعض الناس مما لا يكون لكلام غيره، فإن النفوس تختلف في تقبل الوعظ باختلاف الواعظين (1) .
جـ) الإذن: " يشترط بعض الفقهاء فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يأذن الإمام أو الحاكم له بذلك وحجتهم أن الإمام أو الحاكم يستطيع اختيار من يحسن القيام بهذه الوظيفة، وأن تركها إلى الأفراد دون قيد أو شرط يؤدي إلى الفساد والفتن. ولكن جمهرة الفقهاء على خلاف هذا الرأي لا يشترطون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن شخص أو هيئة ما، ويرون أن تخصيص أناس من قبل الإمام لأداء هذه الوظيفة لا يمنع غيرهم من القيام بها. . . والذين يشترطون إذن الإمام يقصدون من هذا الشرط تنظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يقصدون تحريمهما على من لم يؤذن له (2) .
(1) انظر: إحياء علوم الدين، جـ 2، ص 197، وشرح النووي على صحيح مسلم جـ 2، ص 23.
(2)
التشريع الجنائي، مصدر سابق، ج 1، ص 500.
د) التكليف: يشترط لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الإنسان مكلفا بحكم الشريعة فإن غير المكلف لا يلزمه أمر، واعتبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا لا يمنع غير المكلف من الأمر والنهي باعتبارهما قربة من القربات؛ لأن غير المكلف أهل للقربات، وله أن يأتي القربات ولو أنها لا تجب عليه ولا يجوز منعه من إتيانها، ولكن له إن شاء أن يمتنع من نفسه عن إتيانها، كصلاة الصغير وصومه، فإن الصلاة لا تجب عليه وكذلك الصوم، فإذا أتى أحدهما كان عمله قربة ولم يجز لأحد أن يمنعه من الصوم والصلاة، ولكن إذا أراد الصغير أن يمتنع فلا إثم عليه في الامتناع ما دام لم يصل سن التكليف، وعلى هذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يكن واجبا على غير المكلف فهو حق له يأتيه إن شاء ويتركه إن شاء.
هـ) القدرة: يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الآمر والناهي قادرا على الأمر والنهي وتغيير المنكر، فإن كان عاجزا فلا وجوب عليه إلا بقلبه، أي عليه أن يكره المعاصي وينكرها ويقاطع فاعليها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (1) .
(1) رواه مسلم.
ومن وجوه عدم القدرة: العجز الجسمي، فلا يجب الأمر بالمعروف على من كان من ضعف البنية وتخاذل القوى بحيث لا يستطيع إقامة معروف ولا محو منكر، يقول الإمام الغزالي:" ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه "(1) ومن وجوه العجز وعدم القدرة: عدم المعرفة (2) فالذي يجهل المعروف والمنكر غير مسئول عن الأمر بالأول والنهي عن الثاني.
ونطاق المعروف والمنكر واسع جدا، فهو يشمل من أحكام الدين ما لا بد لكل مسلم من الاطلاع عليه ك، ما يعم ما يحتاج لفهمه ومعرفته إلى بصيرة واجتهاد ودقة ملاحظة، فلا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلم إلا بقدر ما يعرفهما؛ لأنه ربما يضر الدين إن تجاوز حده في الدعوة والحسبة والمؤاخذة وهو يريد الخير وخدمة الدين، ولذلك صرح العلماء بأن العامة لا تأمر ولا تنهى إلا في المعروفات المعلومة والمنكرات المشهورة أما الأمور الاجتهادية الدقيقة فهي موكلة إلى أهل العلم (3) . يقول إمام الحرمين: " إن الحكم الشرعي إذا استوى في إدراكه الخاص والعام ففيه للعالم وغير العالم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا اختص مدركه بالاجتهاد فليس للعوام فيه أمر ونهي بل
(1) إحياء علوم الدين ج 2 ص 280.
(2)
التشريع الجنائي، ج 1، مصدر سابق، ص 498.
(3)
السيد جلال الدين العمري، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مصدر سابق، ص 249.
الأمر فيه متروك إلى أهل الاجتهاد " (1) .
ويقول الإمام النووي: " إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء "(2) .
ويقول الإمام الغزالي: " العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليات المعلومة "(3) .
وسقوط الواجب لا يترتب على العجز الحسي والعلمي بل يلحق بهما خوف الآمر والناهي من أن يصيبه مكروه أو أن يؤدي نهي الناهي إلى منكر شر من المنكر الذي نهى عنه، في هاتين الحالتين يسقط الواجب، يقول الإمام الغزالي:" لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروها يناله، فذلك في معنى العجز "(4) .
ويقول ابن بطال المحدث: " والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم
(1) شرح المقاصد، جـ 2، ص 281.
(2)
شرح صحيح مسلم ج 1، ص51.
(3)
إحياء، علوم الدين ج 2، ص 281.
(4)
إحياء علوم الدين ج 2، ص 280.
الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي أذى فهو في سعة " (1) " ومن علم أن أمره ونهيه لن ينفع وأنه سيضرب إذا تكلم لم يجب عليه أمر أو نهي وعليه فقط أن يكره المعصية وينكرها بقلبه ويقاطع فاعلها وأن لا يحضر مواضع المعاصي والمناكير، ومن علم أن نهيه إذا نهى عن منكر سيؤدي إلى إزالته أو إلى أن يزول ويخلفه ما هو أقل منه رتبة فقد وجب عليه النهي عن المنكر، وإذا علم أن النهي عن المنكر سيؤدي إلى منكر آخر في درجته فهو بالخيار إن شاء منع المنكر ونهى عنه، وإن شاء تركه بحسب ما يؤديه اجتهاده، أما إذا علم أن إزالة المنكر ستؤدي إلى ما هو شر منه سقط عنه الواجب بل حرم عليه النهي، ومن الأمثلة على ذلك أن يجد مع شخص شرابا حلالا نجس بسبب وجود نجاسة فيه ويعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر فلا معنى لإراقته، ومثل ذلك ما حدث من ابن تيمية رحمه الله فقد مر وبعض أصحابه في زمن التتار بقوم يشربون الخمر، فأنكر عليهم أصحاب ابن تيمية شرب الخمر ولكن ابن تيمية أنكر على أصحابه قولهم، وقال لهم: إنما حرم الله الخمر لإنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعوهم وخمرهم (2) .
(1) شرح صحيح مسلم، ج 1، ص 54.
(2)
الحسبة لابن تيمية، ص 67 - 68.
ومن علم أن أمره أو نهيه لا يفيد ولكن لم يخف مكروها فلا يجب عليه الأمر والنهي (1) لعدم فائدتهما، ولكن يستحب له أن يأمر وينهى لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين (2) .
(1) إحياء علوم الدين، ج 2. ص 26.
(2)
إحياء علوم الدين جـ2، ص 26.