الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سابعا الدرجات التنفيذية التي حددها العلماء لتغيير المنكر]
سابعا: الدرجات التنفيذية التي حددها العلماء لتغيير المنكر من القواعد والمبادئ العامة التي تحكم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجود درجات تنفيذية لتغيير المنكر، ومقتضى هذه الدرجات أن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغييره إذا روعيت القواعد والمبادئ العامة التي تحكم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تحدثنا عن بعضها، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر الاستطاعة، فإن استطاع المسلم التغيير باليد كان هذا هو الواجب في حقه، فإن كان عاجزا عن التغيير باليد وكان بمقدوره النهي باللسان كان ذلك فرضا عليه، وإن كان عاجزا عن التغيير باللسان وجب عليه الإنكار بالقلب وكراهة المنكر، وهذا في مقدور كل إنسان، فلذا لا يسقط عن أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (1) .
وإنما وجب هذا على المسلم؛ لأن الأصل أن تكون محبة المسلم وبغضه وإرادته لهذا الشيء وكراهته لذاك موافقة (2) لحب الله وبغضه وإرادته.
(1) رواه مسلم.
(2)
الجهاد ميادينه وأساليبه، مصدر سابق، ص 193.
فهذا عمل القلب لا يقبل منه إلا هذا القدر، وأما تسخير الجوارح لفعل المحبوب ودفع المكروه فيكلف به المسلم بقدر استطاعته؛ لأن الله عز وجل لا يكلف نفسا إلا وسعها (1) .
هذا وقد ذكر الإمام الغزالي درجات تنفيذية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه عبر عنها بدرجات الحسبة، كما سماها عبد القادر عودة وسائل دفع المنكر (2) وفيما يلي نلخص ما ذكره العلماء عن هذه الدرجات.
الدرجة الأولى: درجة التعرف وهو طلب المعرفة بجريان المنكر، يقول الإمام الغزالي عن هذه الدرجة: " الدرجة الأولى وهي التعرف، وتعني طلب المعرفة بجريان المنكر، وذلك منهي عنه وهو التجسس. . . فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره. نعم لو أخبره عدلان ابتداء من غير استخبار بأن فلانا
(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية، مصدر سابق، ص 34.
(2)
للمزيد من المعلومات انظر:
- عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، جـ 1، مصدر سابق، ص 505.
- إحياء علوم الدين، جـ 1، ص 329.
- الجهاد ميادينه وأساليبه، ص 192 - 193.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للسيد جلال الدين العمري، ص 320 - 323.
يشرب الخمر في داره أو أن في داره خمرا أعد للشرب، فله إذ ذاك أن يدخل الدار ولا يلزمه الاستئذان (1) .
الدرجة الثانية: التعريف: ويكون إذا أقدم الشخص على المنكر وهو يجهل أنه منكر، فالوسيلة الصالحة لدفع المنكر في هذه الحالة هي تعريف فاعل المنكر أن فعله منكر. ويجب أن يكون تعريفه باللطف من غير عنف؛ لأن في التعريف نسبته إلى الجهل وهذا في حد ذاته إيذاء، ولكن لا بد منه لدفع المنكر، فوجب أن يكون التعريف في غاية اللطف حتى لا يكون إيذاء دون مبرر؛ لأن إيذاء المسلم محرم (2) .
الدرجة الثالثة: النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى وصفاته وأيامه، وهذه لا تكون إلا مع من عرف على المنكر فأصر عليه، بعد أن عرف كونه منكر، فيجب أن يوعظ ويخوف بالله تعالى، ويذكر باليوم الآخر وما فيه من العذاب لمن عصى الله تعالى، وحسن الثواب لمن تاب وأصلح، ويكون ذلك كله باللطف والشفقة من غير عنف وغضب، وينبغي للمسلم وهو يقوم بهذه الدرجة أن لا يتعالى على الناس وأن لا يشعرهم أنه أحسن منهم وأعلم، حتى لا ينفروا منه ولا يقيموا وزنا لغلامه ونصحه.
(1) إحياء علوم الدين جـ 2، ص 339.
(2)
التشريع الجنائي، مصدر سابق، ص 505.
الدرجة الرابعة: السب والتعنيف بالقول الخشن، وتكون هذه الدرجة بعد العجز عن درء المنكر بسابقتيها، وبعد ظهور الإصرار على المنكر والاستهزاء بالوعظ والتعريف، إلا أنه ينبغي أن يلاحظ في هذه الدرجة أن لا يتكلم المسلم بالفحش، وأن لا يقع في القذف، فيجب عليه أن لا ينطق إلا بالصدق، وأن لا يسترسل فيها، فيطلق لسانه الطويل بما لا يحتاج إليه، بل يقتصر على الحاجة.
الدرجة الخامسة: درجة التغيير باليد وذلك ككسر الملاهي وإراقة الخمر. . . وينبغي أن لا يلجأ إلى هذه الدرجة إلا بعد اليأس من الدرجات السابقة، وإذا لجأ إليها فيجب الاقتصار على قدر الحاجة منها، وعدم الاسترسال فيها، وعدم استعمال الأساليب المهينة المذلة المستخرجة للحقد.
الدرجة السادسة: التهديد والتخويف بما يجوز التهديد به، ولا يجوز التهديد بما يحرم التهديد به كالتهديد بضرب ولده أو أخذ زوجته أو نهب داره أو سرقة ماله.
الدرجة السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح. وهذا جائز للأفراد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة في الدفع، فإذا اندفع المنكر فلا يجوز الاستمرار فيه.
هذه هي الدرجات التي حددها العلماء لإنكار المنكر وتغييره، فإذا
عجز المسلم عن الإنكار بإحدى الدرجات السابقة كان عليه أن ينكر المنكر بقلبه بحيث يعلم الله سبحانه وتعالى منه أنه كاره لما رأى من المنكر، غير أنه لا يكتفي منه بمجرد الكره بالقلب، وإنما ينبغي أن يصحب ذلك مقاطعة أهل المنكر إذا يئس من الإصلاح واجتناب مجالسهم التي يقترفون فيها الإثم؛ لأن هذا من ثمرات الكره الذي يطوي عليه قلبه للمنكر وإلا فليس كارها للمنكر ولا منكرا له بقلبه، من يشارك أهل المنكر فيؤاكلهم ويشاربهم ويجالسهم، ومجالسهم لا تخلوا من معصية الله عز وجل (1) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون "(2) .
مما سبق من استعراض الدرجات التنفيذية لإنكار المنكر وإزالته نستطيع أن نقسم هذه الدرجات التي ذكرها العلماء إلى قسمين: أحدهما إنكار المنكر وإزالته وتغييره بالوعظ والنصح والإرشاد، والآخر إزالة المنكر وتغييره بالقوة على هذا الترتيب، أي يحاول إزالة المنكر وتغييره بالوعظ والنصح والتلطف أولا، فإن لم يفلح جهده فعليه أن يصلح بالقوة، ولا يجوز النوع الثاني ما لم يتثبت من عدم تأثير الأول،
(1) الجهاد ميادينه وأساليبه، مصدر سابق، ص 196.
(2)
رواه الترمذي والإمام أحمد.
ويبدو - والله أعلم - أن درجات تغيير المنكر المذكورة في الحديث «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (1) يبدو أن الترتيب في هذا الحديث الشريف لدرجات تغيير المنكر من حيث القوة، لا من حيث الدعوة، فأقوى وسائل تغيير المنكر اليد ثم اللسان ثم القلب، ولا يعني هنا بحال أن نبدأ التغيير والإصلاح بالقوة (2) .
ومما يؤيد هذا قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9](3) ففي هذه الآية الكريمة أمر الله المسلمين إذا اختلفت طائفتان منهم لأمر ما بأن يصلحوا بينهما بالحق، ولكن إذا أبت إحداهما الخضوع للحق قوتلت لحماية المظلوم، فأمر الله سبحانه بالسعي للإصلاح أولا ثم القتال إذا لم يتحقق الصلح، ولذلك ذكر العلماء أن استخدام القوة لا يجوز ما دام الإصلاح بالوعظ والنصح مأمولا. يقول العلامة أبو بكر الجصاص في هذا المعنى:" أمر الله بالدعاء إلى الحق قبل القتال، ثم إن أبت الرجوع قوتلت "(4) .
(1) رواه مسلم.
(2)
محمد أبو فارس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مصدر سابق، ص 87.
(3)
سورة الحجرات، الآية 9.
(4)
أحكام القرآن جـ 2 ص 492.
ويقول الزمخشري: " يبتدئ بالسهل، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب "(1) .
ويقول ابن العربي المالكي: " إن الله سبحانه أمر بالصلح قبل القتال، وعين القتال عند البغي "(2) .
ويقول القرطبي: " فالمنكر إذا أمكن إزالته باللسان للناهي فليفعل، وإن لم يكن إلا بالعقوبة. . . فليفعل "(3) .
(1) الكشاف، جـ 1، ص 224 - 245.
(2)
أحكام القرآن، جـ 2، ص 224.
(3)
الجامع لأحكام القرآن، جـ 2، ص 42.