الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديث ابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو، فلو قيل في كل منها: إنه متواتر عن صحابيه لكان صحيحاً، فإنَّ العدد المُعَيَّنَ لا يشترط في المتواتر، بل ما أفاد العلم كفى، والصفات العلية في الرُواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قررته في نكت " علوم الحديث " وفي شرح " نخبة الفكر " وَبَيَّنْتُ هناك الرَدَّ على من ادَّعَى أنَّ مثال المتواتر لا يوجد إِلَاّ في هذا الحديث، وَبَيَّنْتُ أنَّ أمثلته كثيرة منها حديث:«مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا» ، والمسح على الخفين، ورفع اليدين، والشفاعة، والحوض، ورؤية الله في الآخرة، و «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» وغير ذلك، والله المستعان».
والظاهر أنَّ قوله: «وأيضاً
…
الخ، من كلام الحافظ لا من نقله، فهل بعد هذا الكلام الصريح الذي تَعَمَّدَ المؤلف تركه يزعم أنَّ الحافظ ابن حجر لا يقول بتواتره كما هو فحوى كلامه؟!!
أما ما ذكره في حاشية [ص 39] من «أنَّ أدعياء السُنَّة وعبيد الأسانيد في عصرنا لا يزالون يكابرون في إثبات الزيادة، وكأنهم أعلم بالحديث من ابن قتيبة والبخاري والنسائي والمنذري والخطابي وابن حجر وابن القيم والسيوطي وغيرهم» : فَهُرَاءٌ لا أَرُدُّ عليه، ولكني أقول له: ألَا تستحي من ذكر البخاري وهو الذي خَرَّجَ الزيادة في أكثر رواياته؟ بل ومن ذكر الحافظ ابن حجر الذي أفاض في بيان ثبوتها؟ وصدق النَّبِي الحكيم حيث يقول: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ» .
الرِّوَايَةُ بِالمَعْنَى لَمْ تُدْخِلْ ضَرَرًا عَلَى الدِّينِ:
1 -
من دَأْبِ هذا المؤلف في كتابه أنه إذا استولت عليه فكرة أو غلب عليه هوى، جعل البحث تابعاً لما يرى أو يَهْوَى، وفي سبيل هذا يركب الصعب والذلول، ولا عليه في هذا السبيل أنْ يُحَرِّفَ الكَلِمَ عن
مواضعه، وَيُحَمِّلَ الألفاظ ما لم تتحمل، وأنْ ينقل نقولاً بتراء، وأنْ يقع في أعراض بعض العلماء والأئمة المُتَثَبِّتِينَ.
ومن دأبه أيضاً التهويل والمبالغة عند عرض فكرة أو رأي له، وأنه يجعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً، وهذا هو ما صنعه عندما عرض لبحث «رواية الحديث» في [ص 54] وما بعدها فقد جعل رواية الأحاديث بالمعنى هو الأصل والقاعدة ومجيئها على اللفظ أمراً شاذاً نادراً، بل وأنحى باللائمة والتجهيل للذين يحسبون:«أنَّ أحاديث الرسول التي يقرأونها في الكتب أو يسمعونها مِمَّنْ يتحدَّثون بها جاءت صحيحة المبنى مُحْكَمَةَ التأليف، وأنَّ ألفاظها قد وصلت إلى الرُواة مصونة كما نطق بها النَّبِي بلا تحريف ولا تبديل، وأنَّ الصحابة ومن جاء بعدهم مِمَّنْ حملوا عنهم إلى زمن التدوين قد نقلوا هذه الأحاديث بنصها كما سمعوها، وأدُّوها على وجهها كما لَقَّنُوهَا، فلم ينلها تَغَيُّرٌ ولا اعتراها تبديل، وأنَّ الرُواة للأحاديث كانوا صنفاً خاصاً في جودة الحفظ وكمال الضبط وسلامة الذاكرة» ، إلى أنْ قال:«ولقد كان - ولا جرم - لهذا الفهم أثر بالغ في أفكار شيوخ الدين - إِلَاّ من عصم ربك - فاعتقدوا أنَّ هذه الأحاديث في منزلة آيات الكتاب العزيز من وجوب التسليم بها، وفرض الإذعان لأحكامها، بحيث يأثم أو يَرْتَدُّ أو يفسق من خالفها، ويستتاب من أنكرها أو شك فيها» .
والقارئ لهذا الكلام - إذا لم يكن من أهل العلم والمعرفة بالحديث النبوي - يُخَيَّلُ إليه أنَّ السُنَّة لم يأت فيها حديث على مُحْكَمِ لفظه، وأنها قد دخلها الكثير من التغيير والتحريف، مع أنَّ الأصل في الرواية أنْ تكون باللفظ المسموع من الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، وأما الرواية بالمعنى فهي رُخْْصَةٌ يَتَرَخَّصُ فيها بقدر الحاجة إليها إذا غاب اللفظ عن الذهن أو لم يتأكد منه.
ومِمَّا لا ينبغي أنْ يخفى على باحث في الحديث النبوي أنْ يعلم أنَّ بعض العلماء والرُواة قد منعوا الرواية بالمعنى مطلقاً، وألزموا أنفسهم وغيرهم بأداء اللفظ كما سمع، وأنَّ من أجاز من العلماء والرُواة الرواية بالمعنى إنما أجازها بشروط فيها غاية التحوط والأمن من التزيد والتغيير والتبديل، فقالوا: لا تجوز الرواية بالمعنى إِلَاّ لعالم عارف بالألفاظ ومقاصدها، خبير بما يحيل معانيها، بصير بمقدار التفاوت بينها، كما قالوا: إنَّ هذا فيما يروى قبل أنْ يُدَوَّنَ، أما ما دُوِّنَ في الكتب فلا يجوز تغييره بمرادفه ولا التصرف في لفظه بحال من الأحوال (1).
والعجيب أنَّ المؤلف نقل نحواً من هذا عن كتاب " توجيه النظر " للعلامة الشيخ طاهر الجزائري، ولا أدري كيف ينقل شيئاً ولا يقتنع به؟! وكيف غاب عن ذهن المؤلف أنَّ التدوين بدأ بصفة عامة ورسمية في نهاية القرن الأول، ولم يكد ينتهي القرن الثالث حتى كانت السُنَّة كلها مُدَوَّنَةً في الكتب من صحاح وسُنن ومسانيد؟ وأنَّ بعض الصحابة والتابعين كانوا يُدَوِّنُونَ الأحاديث في القرن الأول ولا سيما بعد وفاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم (2) فكيف تتفق هذه الحقائق وما رمى به من أحكام جائرة ظالمة؟ وهل على أحد من حرج بعد هذا لو وصم هذا المؤلف بِخُبْثِ الطَوِيَّةِ وَسُوءِ القصد ومحاولة هدم الأصل الثاني من أصول التشريع؟؟.
وماذا يبتغي أعداء الإسلام أكثر مِمَّا يقوم به «أَبُو رَيَّةَ» وأمثاله من تقويض إحدى دعامتي الدين بهذه المحاولات الفاشلة الهازلة؟ وليعلم أَبُو رَيَّةَ أنَّ شيوخ الدين - أَعَزَّهُمْ اللهُ - حينما يعرفون للسُنَّةِ مكانتها من الدين، ويحلونها من أنفسهم المحل اللَاّئق بها، ويرون التزامها علماً وعملاً وسلوكاً، وَيَذُبُّونَ عن ساحتها كل دَعِيٍّ زنيم، ويفسقون أو يؤثمون من يرد ما ثبت من السُنَّة ويحاول جاهداً إبطالها والكيد لها أو الاستهزاء
(1)" مقدمة ابن الصلاح بشرحها " ص 110، طبعة القسام.
(2)
" مفتاح السُنَّة ": ص 18.
والاستخفاف بها، لا يستحقون منه كل هذا الغمز واللمز، لأنهم يصدرون في هذا عن دين قويم ورأي مستنير وعلم أصيل.
2 -
إنَّ هذه الأحكام الجائرة إنما تصدر عَمَّنْ غفل عن العوامل الدينية والنفسية والخلقية التي اتَّصَفَ بها الرُواة من الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم
…
من أهل القرون الفاضلة بشهادة المعصوم صلى الله عليه وسلم وشهادة الواقع التاريخي، فهم ذَوُو الدين الكامل والخُلُقِ العالي والتقوى والمروءة، وهم يعلمون حَقَّ العلم أنهم يَرْوُونَ نَصاً يعتبر مرجعاً في الدين وأصلاً من أصوله وأنَّ أَيَّ تزيد فيه أو تحريف وتبديل يُؤَدِّي بهم إلى أنْ يَتَبَوَّأُوا مقاعدهم في النار، وهم إلى ذلك ذَوُو حوافظ قوية، وأذهان سَيَّالَةٍ، ووِجْدَانٍ حَيٍّ، وقلوب عاقلة واعية، وإنكار هذه الخصائص أو بعضها إنكار للحق الثابت والواقع الملموس.
3 -
حينما نقل من أدلة المُجَوِّزِينَ للرواية بالمعنى حديث عبد الله بن سليمان اللَّيْثِيِّ قال:
«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ الْحَدِيثَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُؤَدِّيَهُ كَمَا أَسْمَعُ مِنْكَ يَزِيدُ حَرْفًا أَوْ يَنْقُصُ حَرْفًا، فَقَالَ: «إِذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا، وَلَمْ تُحَرِّمُوا حَلَالاً، وَأَصَبْتُمُ الْمَعْنَى فَلَا بَأْسَ» فَذُكِرَ هَذَا لِلْحَسَنِ فَقَالَ: «لَوْلَا هَذَا مَا حَدَّثَنَا» ، قال في الهامش [ص 57]: هذا الحديث يناقض ولا ريب حديث: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» ولكن لا بُدَّ لكل فئة من أنْ تُؤَيِّدَ رأيها بحديث، يريد الطعن فيه بالوضع والاختلاق.
وإني أقول له إنَّ هذا الحديث رواه ابن منده في " معرفة الصحابة "، والطبراني في " المعجم الكبير "، والخطيب في كتبه، وغيرهم، ونقله أئمة الحديث وأطباؤه في كتبهم، ولم يحكم عليه أحد منهم بالوضع (1)، وكنت
(1) حكم عليه الجوزقاني، وابن الجوزي بالوضع، وهما من المتساهلين في الحكم بالوضع، ولذلك قال السخاوي بعد ذلك:«وفيه نظر» " فتح المغيث " للسخاوي: 2/ 217.