الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَبِي هُرَيْرَة وَلَفْظه " صَلَّى صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيْ العَشِيِّ ـ قَالَ أَبُو هُرَيْرَة ـ: " وَلَكِنِّي نَسِيتُهَا " فَالظَّاهِر أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة رَوَاهُ كَثِيرًا عَلَى الشَّكِّ، وَكَانَ رُبَّمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا الظُّهْرُ فَجَزَمَ بِهَا، وَتَارَةً غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا العَصْرُ فَجَزَمَ بِهَا
…
».
فها أنت ذا ترى أن كون الشك من أبي هريرة ليس مقطوعًا به لجواز أن يكون أحد الرواة - في رواية النسائي - وَهِمَ فنسب النسيان إلى أبي هريرة ولو سلمنا كون الشك منه فلعل هذا مِمَّا سمعه قبل قصة بسط الثوب.
حَدِيثُ الشِّعْرِ وَتَحْقِيقُ الحَقِّ فِيهِ:
وأما حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا وَدَمًا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»، قالت عائشة: لَمْ يَحْفَظْ إِنَّمَا قَالَ: «مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا هُجِيتُ بِهِ» ، فليس للمؤلف فيه أية وجهة حق، وإنما هي خطفة خطفها من بعض الكتب دون تحقيق.
وإليك الحق في هذا:
1 -
إن الحديث باللفظ الذي زعم أن عائشة اعترضت عليه قد رواه البخاري في " صحيحه " عن أبي هريرة وعن ابن عمر مرفوعين (1) ورواه مسلم في " صحيحه " عن أبي هريرة وعن سعد بن أبي وقاص وعن أبي سعيد الخُدري فها أنت ذا ترى أن أبا هريرة لم ينفرد به، بل وافقه عليه ثلاثة من الصحابة مِمَّا يبعد - إن لم يحل - تعقب السيدة عائشة له بأنه لم يحفظ.
2 -
إن هذه الرواية غير ثابتة من جهة الرواية، ولا هي صحيحة من جهة الدراية.
أما الأول فلما قاله الحافظ في " الفتح " - بعد أن ذكر أن هذه الزيادة جاءت عن الشَعْبِيِّ مرسلة والمرسل لا يحتج به قال: «(2) وَقَدْ وَقَعَ
(1)" فتح الباري ": 10/ 451.
(2)
" فتح الباري ": 10/ 452.
لَنَا ذَلِكَ مَوْصُولاً مِنْ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ، فَعِنْدَ [أَبِي يَعْلَى] مِنْ حَدِيث جَابِر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور " قَيْحًا أَوْ دَمًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئ شِعْرًا هُجِيتُ بِهِ " وَفِي سَنَده رَاوٍ لَا يُعْرَف، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْن عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ اِبْن الكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِثْل حَدِيث البَاب قَالَ:" فَقَالَتْ عَائِشَة لَمْ يَحْفَظ إِنَّمَا قَالَ: مِنْ أَنْ يَمْتَلِئ شِعْرًا هُجِيت بِهِ "، وَابْنُ الْكَلْبِيِّ وَاهِي الحَدِيث، وَأَبُو صَالِح شَيْخُهُ مَا هُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ السَّمَّانُ المُتَّفَق عَلَى تَخْرِيجِ حَدِيثهِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بَلْ هَذَا آخَر ضَعِيفٌ يُقَال لَهُ بَاذَانْ، فَلَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ [الزِّيَادَة]:
وأما من جهة الدراية فإليك ما قاله الإمام النووي في " شرح مسلم "(1): «قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِهَذَا الشِّعْرِ شِعْرٌ هُجِيَ بِهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً: هَذَا تَفْسِيرٌ فَاسِدٌ، لأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ المَذْمُومَ مِنَ الهِجَاءِ أَنْ يَمْتَلِئَ مِنْهُ دُونَ قَلِيلِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الكَلِمَةَ الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم مُوجِبَةٌ لِلْكُفْرِ. قَالُوا بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ المُرَادَ أَنْ يَكُونَ الشِّعْرُ غَالِبًا عَلَيْهِ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُ عَنِ القُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مَذْمُومٌ مِنْ أَيِّ شِعْرٍ كَانَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ القُرْآنُ وَالحَدِيثُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ الغَالِبُ عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّ حِفْظُ اليَسِيرِ مِنَ الشِّعْرِ [مَعَ هَذَا] لأَنَّ جَوْفَهُ لَيْسَ مُمْتَلِئًا شِعْرًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .. » إلى أن قال: «وَقَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً: هُوَ مُبَاحٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ وَنَحْوُهُ، [قَالُوا]: وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَقَدْ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشِّعْرَ وَاسْتَنْشَدَهُ وَأَمَرَ بِهِ حَسَّانَ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْشَدَهُ أَصْحَابُهُ بِحَضْرَتِهِ فِي الأَسْفَارِ وَغَيْرِهَا وَأَنْشَدَهُ الْخُلَفَاءُ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاءُ السَّلَفِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا المَذْمُومَ مِنْهُ وَهُوَ الفُحْشُ وَنَحْوُهُ» .
وهكذا يَتَبَيَّن لنا أن المذموم من الشعر أن يكون غالبا على الإنسان حتى يشغله عن النافع من العلوم والمعارف وأنواع الكسب المشروعة، أو ما كان فيه فحش وهجر من القول كالهجاء والمدح بغير حق والتشبيب
(1) 15/ 14.