الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناس وأفهامهم، وما ذنب أبي هريرة في هذا، وقد ذكرني صنيع أَبِي رَيَّةَ وتجنيه على أبي هريرة قول القائل:
غَيْرِي جَنَى وَأَنَا المُعَذَّبُ فِيكُمُو *
…
*
…
* فَكَأَنَّنِي سَبَّابَةُ المُتَنَدِّمُ
زَعْمُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَوَّلُ رَاوِيَةِ اتُّهِمَ فِي الإِسْلَامِ:
في [ص 166] ذكر تحت عنوان: «أول راوية اتُّهِمَ في الإسلام» : أنَّ أبا هريرة اتهمه الصحابة وأنكروا عليه، وكانت عائشة أشدهم إنكارًا عليه لتطاول الأيام بها وبه .... وأن مِمَّنْ اتهم أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وَعَلِيٌّ، وبالغ في التَجَنِّي والكذب فزعم أن عَلِيًّا كان سَيِّئَ القول فيه وقال عنه: ألا إنه أكذب الناس أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة (كذا) ولما سمعه يقول: حدثني قال: متى كان النَّبِي خليلك؟.
تَصَيُّدُهُ رِوَايَاتٍ زَعَمَ أَنَّهَا تَشْهَدُ لَهُ فِي مَزَاعِمِهِ:
ثم شرع يتصيد من كلام النظام ومن عَلَى شاكلته ما زعم أنه يشهد له فمن ذلك:
[أ] أنه روى حديث «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ» أنكرت عليه عائشة هذا الحديث فقالت:
«إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ» وَبَعَثَتْ إليه أن لا يُحَدِّثُ بهذا الحديث عن رسول الله فلم يسعه إِلَاّ الإذعان
…
وقال إنها أعلم مني وأنا لم أسمعه من النَّبِي وإنما سمعته من الفضل عن النَّبِي فاستشهد ميتا، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله.
[ب] وأنه لما روى عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم:
«مَتَى اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الإِنَاءِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» لم تأخذه به عائشة وقالت: «كَيْفَ نَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟» (1).
(1) حَجَرٌ كبير منقور لا يقدر على حمله الرجل كانوا يملأونه ماء ثم يتطهَّرُون منه.
[ج] وأنه لما روى حديث «إِنَّ الطِّيَرَةَ فِي الدَّابَّةِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ» قالت عائشة: كذب وأنكرت عليه وقالت: إنما قال رسول الله:
إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الطِّيَرَةَ فِي الدَّابَّةِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ، ثم قرأت:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (1).
[د] وأنه لما روى: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» أنكر عليه ابن مسعود وَقَالَ فِيهِ قَوْلاً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَنْجَسُوا مِنْ مَوْتَاكُمْ»
[هـ] ولما روى حديث «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ» فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: أَمَا يَكْفِي أَحَدَنَا مَمْشَاهُ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَضْطَجِعَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ:«أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ» .
والجواب على ذلك:
أ) إن ما ذكره ليس من بنات أفكاره ولا من بحثه وإنما هو كلام قاله النَظَّامِ وأمثاله من أعداء المُحَدِّثِينَ، وقد عرض له العَلَاّمَةُ ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " ناقلاً وَمُزَيِّفًا لَهُ وَمُبَيِّنًا أن ذلك لا يطعن في الحديث ولا في المُحَدِّثِينَ، وصنيع المؤلف كما ذكرت من قبل يوهم القارئ الذي لا يعلم أنه من كلام ابن قتيبة حيث قال:«قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث .... » وفي الحق أن ابن قتيبة بريء من هذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وطريقة المؤلف في هذا عارِيةَ عن الأمانة في النقل والدقة في البحث، وغاية ما وصل إليه التدليس، وكل ما ذكره من إكذاب عمر وعثمان وَعَلِيٍّ له، وأن عَلِيًّا كان سيئ الرأي فيه، فلا يعدو أن تكون دعاوى كاذبة مغرضة، وهذه كتب الثقات في تاريخ الصحابة لا تكاد تجد فيها شيئا مِمَّا زعم وَادَّعَى.
بين يدي الرَدِّ:
--------------
أما ما ذكره من روايات يزعم أنها تشهد له، فإليك مفصل الحق فيها، ولكني قبل أن أعرض للروايات بالتفصيل أقول:
(1)[سورة الحديد، الآية: 22].
لا شك أن الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - كانوا يأخذون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا سواء في التفرغ للتلقي ولا في الملازمة ولا في الحفظ والذاكرة، فمن ثَمَّ تفاوتت مروياتهم قلة وكثرة، وكما كانوا يتلقون عنه بالذات كانوا يتلقون عنه بالوساطة عن صحابي آخر، وفي بعض الأحيان كان يراجع بعضهم بعضًا فيما يرويه، إما للتثبت والتأكد لأن الإنسان قد ينسى أو يسهو أو يغلط عن غير قصد، وإما لأنه ثبت عنده ما يخالفه أو ما يخصصه أو يقيده، أو لأنه يرى مخالفته لظاهر القرآن أو لظاهر ما حفظه من سُنَّةٍ إلى غير ذلك، فليس من الإنصاف أن نتخذ من هذه المراجعة دليلاً على اتهام الصحابة بعضهم لبعض، وتكذيب بعضهم لبعض، إلى غير ذلك من الدعاوى الكاذبة التي يطنطن بها المُبَشِّرُونَ وَالمُسْتَشْرِقُونَ ومن تابعهم من الكُتَّابِ المعاصرين الذين جعلوا من أنفسهم أبواقًا لترديد كلامهم.
والسيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا - كانت عاقلة عالمة، وكانت لا تقبل الشيء إِلَاّ بعد اقتناع، وكانت تستشكل بعض الروايات التي لم تسمعها من رسول الله ورواها غيرها، لأنها تعارض ما سمعته في ظنها أو تخالف ظاهر القرآن، فمن ثم كانت تراجع بعض الصحابة، فمراجعتها لأبي هريرة لا تدل على اتهامها له أو تكذيبها إياه، ألا ترى أنها استشكلت بل ردت بعض روايات رواها الفاروق عمر وابنه عبد الله، وعمر فقيه الصحابة وصاحب الموافقات، وأحد وزيري رسول الله، وثاني الخلفاء الراشدين، ولا يتطرق إلى ساحته تهمة أو زيف ريبة بإجماع منا ومن أعداء السنن والأحاديث، فقد روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما " أن عمر رضي الله عنه لما روى حديث:«إِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، فلما ذُكِرَ ذلك لعائشة قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، لَا وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، وَلَكِنَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا
بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»
وقالت عائشة: «حَسْبُكُمُ القُرْآنُ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}» (1).
وفي " صحيح مسلم " أيضا أنَّ ابن عمر لما روى «المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:«أَنْتُمْ تَبْكُونَ، وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ» ،
ولما روى ابن عمر أن النَّبِيَّ قام على قليب بدر، وفيه قتلى المشركين، فقال لهم:«إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ» فقالت: لَقَدْ وَهَلَ إِنَّمَا قَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ» ثُمَّ قَرَأَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (2)
فها أنت ذا ترى أنها في رَدِّهَا رواية عمر وابنه استندت إلى ظاهر القرآن وذلك بحسب اجتهادها، ولا شك أن الرواية إذا ثبتت عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فهي مقدمة على اجتهاد الصحابى مهما بلغ من العلم والفقه، فهل تعتبر مراجعتها لعمر وابنه رضي الله عنهما اتِّهَامًا أَوْ تَكْذِيبًا؟ اللَّهُمَّ لَا، وليس أدل على هذا من أنها قالت كما ورد في " صحيح مسلم ":
وفي " الصحيح " أيضًا أنها قالت: - لما بلغها قول عمر وابنه -: «إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ، وَلَا مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ» (3) فهل هناك شيء أصرح في الدلالة على أن مراجعة الصحابي لآخر لا تعتبر اتهامًا ولا تكذيبًا من قول عائشة هذا؟؟ ولماذا اعتبرتم يا قوم مراجعتها لأبي هريرة اتهامًا ولم تعتبروا مراجعتها لعمر وابنه اتهامًا؟ أفيدونا يا أصحاب المنطق السليم.
ولنأخذ في بيان الحق فيما عرض له من أحاديث:
الرَدِّ التفصيلي:
[أ] أما حديث «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» وإنكار عائشة عليه
(1)[سورة الأنعام، الآية: 164]، [سورة الإسراء، الآية: 15]، [سورة فاطر، الآية: 18]، [سورة الزمر، الآية: 7].
(2)
[سورة فاطر، الآية: 22].
(3)
" صحيح البخاري ": 3/ 123. " صحيح مسلم بشرح النووي ": 6/ 230 - 234.
فتواه بهذا فليس فيه ما يخل بعدالة أبي هريرة، ولا ما يطعن في أمانته إذ كل ما فيه أنه كان يفتي على حسب ما علم، وهو ما رواه له الفضل عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم والظاهر أن هذا الحُكْمَ كان في مبدأ الإسلام فقد كان الرجل إذا صلى العشاء أو نام حرم عليه الأكل والشرب والجماع حتى يصبح، ثم اقتضت رحمة الله التخفيف على الأُمَّةِ بإحلال الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ
…
} (1). الآية، وإليك ما قاله العلماء وَالمُحَقِّقُونَ المُتَثَبِّتُونَ، قال الحافظ في " الفتح " (2): «وَذَكَرَ اِبْن خُزَيْمَةَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاء تَوَهَّمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة غَلِطَ فِي هَذَا الحَدِيث ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَغْلَطْ بَلْ أَحَالَ عَلَى رِوَايَة صَادِقٍ، إِلَاّ أَنَّ الْخَبَر مَنْسُوخ، لأَنَّ اللَّه تَعَالَى عِنْد اِبْتِدَاء فَرْضِ الصِّيَام كَانَ مَنَعَ فِي لَيْل الصَّوْم مِنْ الأَكْل وَالشُّرْب وَالجِمَاع بَعْد النَّوْم، قَالَ: فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَبَر الفَضْل كَانَ حِينَئِذٍ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَكَانَ لِلْمُجَامِعِ أَنْ يَسْتَمِرَّ إِلَى طُلُوعِهِ فَيَلْزَمَ أَنْ يَقَعَ اِغْتِسَالهُ بَعْد طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ الْفَضْلِ وَلَمْ يَبْلُغْ الفَضْلَ وَلَا أَبَا هُرَيْرَة النَّاسِخُ فَاسْتَمَرَّ أَبُو هُرَيْرَة عَلَى الْفُتْيَا بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ بَعْد ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهُ
…
وَإِلَى دَعْوَى النَّسْخ [فِيهِ] ذَهَبَ اِبْن الْمُنْذِرِ وَالخَطَّابِيُّ وَغَيْر وَاحِد» فأبو هريرة كان يفتي حتى علم الناسخ فرجع عنه، وتلك - لعمر الحق - فضيلة، قال الحافظ في " الفتح ": وَفِيهِ [فَضِيلَة] لأَبِي هُرَيْرَة لاعْتِرَافِهِ بِالْحَقِّ وَرُجُوعه إِلَيْهِ. وَفِيهِ اِسْتِعْمَال السَّلَف مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الإِرْسَال عَنْ الْعُدُول مِنْ غَيْر نَكِير بَيْنهمْ لأَنَّ أَبَا هُرَيْرَة اِعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَع هَذَا الْحَدِيث مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَة وَإِنَّمَا بَيْنهَا لِمَا وَقَعَ مِنْ الاِخْتِلَاف». فانظر يا أخي كيف جعل الطاعنون الفضيلة رذيلة.
(1)[سورة البقرة، الآية: 187].
(2)
2/ 119.
[ب] وأما حديث «إِذَا (لا متى كما نقل المؤلف) اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الإِنَاءِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وأن عائشة لم تأخذ به وقالت «كَيْفَ نَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ» ، فإليك الجواب عنه:
إن هذا الحديث رواه " البخاري " و" مسلم "(1) عن أبي هريرة من طرق عدة ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه قال الترمذي: «وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ» كما روي من فعله صلى الله عليه وسلم عن علي وعثمان وجبير بن نفير، فالحديث ثابت عن أبي هريرة وغيره من قول الرسول وفعله وغير معقول إنكار عائشة على أبي هريرة وهي من رواته، فمن ثم سقط ما هدف إليه من تجريح أبي هريرة واتهامه له بالكذب.
وهذا الكلام وأمثاله إنما يذكر في كتب الأصول وما شابهها وهذه الكتب ليست بِحُجَّةٍ في الحديث ولا تحرير ألفاظه، ولكن الطاعن حاطب ليل ولا شأن له بالتحقيق، وقد نَبَّهَ شَارِحُ " مسلم الثبوت " الشيخ اللكنوي إلى أن هذا الإنكار لم يثبت عن عائشة ولا ابن عباس، وإنما هو من رجل يُقَالُ له قين الأشجعي وفي صحبته خلاف، وفي " الإصابة " (2):«قين الأشجعي تابعي من أصحاب عبد الله بن مسعود جرت بينه وبين أبي هريرة قصة» ثم ذكر رواية أبي هريرة وقول قين له: «فَإِذَا جِئْنَا مِهْرَاسَكُمْ هَذَا فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِهِ؟» ؟ ثم ألا يجوز أن يكون قين يريد الاستفسار ولا يريد الاستشكال والإنكار، وهذا هو الذي ينبغي أن يحمل عليه حال الرجل المسلم، ولو سلمنا أنه يريد الإنكار فإنكار التابعي على الصحابي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ولا يقدح في عدالته.
(1)" صحيح البخاري". كتاب الوضوء، باب الاستجمار. و " صحيح مسلم بشرح النووي ": 3/ 177.
(2)
3/ 285.
[ج] وأما حديث «إِنَّمَا الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ» فإليك وجه الحق فيه.
دَخَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَاهَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " الطِّيَرَةُ فِي الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ " فَغَضِبَتْ فَطَارَتْ شِقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ، وَشِقَّةٌ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَتْ: وَالَّذِي أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى مُحَمَّدٍ مَا قَالَهَا
(1)
هذا الحديث رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان: «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ دَخَلَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الطِّيَرَةُ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ» فَغَضِبَتْ غضبًا شديدًا وَقَالَتْ: مَا قَالَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ:«إِنَّ أَهْلَ الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يِتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ» ، فأنت ترى أن الرواية بلفظ (مَا قَالَهُ) وأن عائشة لم تقل كذب، وإنما هي مِمَّنْ اخترعها وهو النَظَّامُ ومشايعوه، ومنهم المؤلف الذي أخذ على نفسه التَجَنِّي على أبي هريرة ورميه بِالسَّيِّءِ من القول.
ونحن نعلم أن عائشة رضي الله عنها كثيرًا ما كانت تَرُدُّ على الصحابة اعتمادًا على ظاهر القرآن، فقد استندت في إنكارها إلى قوله سبحانه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} (1). الآية» ولقد قالت هذه المقالة في مراجعتها لعمر وابنه، فلماذا اعتبر الطاعنون هذا القول في حق أبي هريرة تكذيبًا له، ولم يعتبروها في حق عمر؟.
(2)
إن هذا الحديث رُوِيَ عن غير أبي هريرة من الصحابة، فقد رواه البخاري في " صحيحه " عن ابن عمر، وسهل بن سعد الساعدي، ورواه مسلم في " صحيحه " عنهما أيضًا (2)، وعن جابر بن عبد الله، فإنكار عائشة على أبي هريرة لا يتجه بعد موافقة هؤلاء الصحابة له، قال الحافظ في " الفتح ":«وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَار ذَلِكَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَة مَعَ مُوَافَقَةِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ اَلصَّحَابَةِ لَهُ» .
وهكذا نرى أن المؤلف لم يكن أمينًا فيما نقل ولا تَحَرَّى الحق والصواب.
(1)[سورة التغابن، الآية: 11].
(2)
" صحيح البخاري «كتاب الجهاد»، باب ما يذكر من شؤم الفرس. " صحيح مسلم بشرح النووي ": 14/ 220، 221.
[د] وأما ما ذكره من أن ابن مسعود أنكر عليه قوله: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وقال فيه قَوْلاً شَدِيدًا.
فالجواب عليه نقول:
1 -
نص الحديث كما في " منتقى الأخبار "(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» قال: رواه الخمسة، ولم يذكر ابن ماجه الوضوء، ورواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:«مِنْ غُسْلِهِ الغُسْلُ، وَمِنْ حَمْلِهِ الوُضُوءُ» يعني الميت قال: وفي الباب عن علي وعائشة قال أبو عيسى: حديث حسن، فالحديث خَرَّجَهُ غير واحد من أئمة الحديث، كما أنه لم ينفرد به أبو هريرة، مِمَّا ينفي التهمة عنه، وقد صَحَّحَ ابن أبي حاتم عن أبيه أن وقفه على أبي هريرة أصح، وسواء أكان الحديث مرفوعًا أو موقوفًا فلم يذكر أحد من المُخَرِّجِينَ له إنكار ابن مسعود ولا غيره من الصحابة عليه، نعم ذكر صاحب " مسلم الثبوت " الحديث بلفظ:«مَنْ حَمَلَ جَنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» وأن ابن عباس لم يأخذ به وقال: «لَا يَلْزَمُنَا الوُضُوءُ مِنْ حَمْلِ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ» وكتب الأصول لا يعتمد عليها في ثبوت الأحاديث والروايات.
2 -
إن الأدلة قد تعارضت في هذا الباب، فبينما نجد الترمذي وغيره من الأئمة روى هذا الحديث عن أبي هريرة وغيره من الصحابة نجد البخاري يخرج في " صحيحه " تعليقًا عن ابن عمر يخالفه فيقول:«وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ، وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فمن ثم اختلف الصحابة ومن جاء بعدهم من العلماء في هذا، قال الإمام أبو عيسى الترمذي: «وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي الَّذِي يُغَسِّلُ المَيِّتَ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ:" إِذَا غَسَّلَ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ الغُسْلُ "، وقَالَ بَعْضُهُمْ:" عَلَيْهِ الوُضُوءُ "، وقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ:" أَسْتَحِبُّ الغُسْلَ مِنْ غُسْلِ المَيِّتِ، وَلَا أَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا "، [وَهَكَذَا]
(1) باب غسل الميت: 1/ 180. طبعة عبد الرحمن محمد.
قَالَ الشَّافِعِيُّ، وقَالَ أَحْمَدُ:" مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا أَرْجُو أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الغُسْلُ، وَأَمَّا الوُضُوءُ فَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ " وقَالَ إِسْحَاقُ: " لَا بُدَّ مِنَ الوُضُوءِ "». وهكذا نجد أن المسألة محل اختلاف بين الأئمة، فمن قائل بالوجوب، ومن قائل بالندب، بل قال بعضهم: إن ما رواه أبو هريرة وغيره منسوخ، قال الحافظ في " الفتح ":«وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: هَذَا مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ نَاسِخَهُ» .
[هـ] وأما حديث «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ» . فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: «أَمَا يَكْفِي أَحَدَنَا مَمْشَاهُ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَضْطَجِعَ» ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ:«أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ» .
والقصة كما في " الإصابة " - فَقِيلَ لابْنِ عُمَرَ: هَلْ تُنْكِرُ مِمَّا يَقُولُ شَيْئًا قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ أَجْرَأَ (1)، وَجَبُنَّا» ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ:«مَا ذَنْبِي إِنْ كُنْتُ حَفِظْتُ وَنَسَوْا» وفي " الإصابة " أيضًا: وأخرج البغوي بسند جيد عن الوليد بن عبد الرحمن عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: «إِنْ كُنْتَ لأَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَمَنَا بِحَدِيثِهِ» .
والجواب:
----------
أن هذا الحديث ثابت صحيح فقد رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة، قال الترمذي:«حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» . ولا يضرنا إنكار من أنكره ومن هو مروان حتى يأخذ بقوله في رَدِّ حديث صحيح؟ أو يؤثر قوله في عدالة أبي هريرة وأمانته والثقة به؟ ثم ما رأى الطاعنين في أبي هريرة في أنه لم ينفرد بروايته؟ فقد روته عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم السيدة العالمة عائشة رضي الله عنها وهي بإجماع منا ومنهم غير متهمة فيما تروي، وروايتها ثابتة في " صحيحي البخاري ومسلم "، وإنكار من أنكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، إما لأن الحديث لم يبلغه، وإما إنكار للوجوب أو الاستحباب قال الحافظ في " الفتح " ج 3 ص 33: «وَأَمَّا إِنْكَار اِبْن مَسْعُود الاِضْطِجَاع، وَقَوْل إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ:"هِيَ ضِجْعَة الشَّيْطَان " كَمَا أَخْرَجَهُمَا اِبْن أَبِي
(1) هكذا في " الإصابة ": 4/ 209، طبعة السعادة ولعلها «اجْتَرَأَ» .