الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإليك ما ذكره الحافظ الكبير ابن حجر في " الفتح "(1) عند شرح الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة، قال:«كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَأُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: " لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ". قال: " أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً، لئلا يكون في نفس الأمر صدقًا فتكذبوه أو كذبًا فتصدِّقوه فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما وَرَدَ شَرْعُنَا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما وَرَدَ شَرْعُنَا بوفاقه، نَبَّهَ على ذلك الشافعي رحمه الله» وهكذا يَتَبَيَّن لنا أنَّ الحُكْمَ على كل ما رَوَوْهُ بالصحة فيه تساهل وَبُعْدٌ عن الحق والصواب، وأَنَّ الحُكْمَ على كل ما رَوَوْهُ بالكذب والبطلان فيه إسراف وَتَجَنٍّ.
وقد تمخضت هذه الطريقة التي أخذ بها المؤلف عن جملة من الأخطاء والأغلاط، فحكم على كثير من الأحاديث الصحيحة التي لا يتعلق بها الريب بأنها إسرائيليات وخرافات من خرافات أهل الكتاب، ولا حُجَّةَ له في هذا إِلَاّ الظن والحدس، وقد بلغ به الشطط أنه زَيَّفَ بعض الروايات التي نرى مصداقها في كتاب الله، وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل وَزَيَّفَ بعض أحاديث ليس في روايتها أحد من مُسْلِمَةِ أهل الكتاب، ولا يحتمل أنْ تكون أخذت عنهم، وسأعرض لهذه الأحاديث لترى طرائق للبحث عجيبة.
طَعْنُ أَبِي رَيَّةَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ يَشْهَدُ لَهُ القُرْآنُ الكَرِيمُ:
في [ص 113، 114] بعد أَنْ ذكر ما روي عن كعب وابن سَلَاّم عن البشارة بِالنَّبِيِّ، وذكر أوصافه في " التوراة " قال: «وقد امتدت هذه الخرافة - يعني البشارة بِالنَّبِيِّ وذكر أوصافه - إلى أحد تلاميذ كعب: عبد الله بن
(1) 8/ 138.
عمرو بن العاص، فقد روى " البخاري " عن [عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ] (*) قَالَ:«لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قُلْتُ: أخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ! {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (1)، وَحِرْزًا للأُمِيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا» وزاد ابن كثير قَالَ ابْنُ يَسَارٍ: " ثُمَّ لَقِيتُ كَعْبًا الْحَبْرَ فَسَأَلْتُهُ فَمَا اخْتَلَفَا فِي حَرْفٍ " وكيف؟ وكعب هو الذي علمه».
وإنها لحماقة حمقاء أنْ يطلق هذا المؤلف على البشارة بِالنَّبِيِّ الأُمِيِّ العربي في الكتب السابقة: أنها خرافة، ولا أدري أفقد المؤلف صوابه؟ أم غاب عنه قول الحق تبارك وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (2)؟ وهل هذا الحديث إِلَاّ مصداق لهذا القرآن الذي لا يتطرق إليه الشك؟ وسواء أكان هذا الحديث قد حمله عبد الله بن عمرو عن كعب، أو هو مِمَّا عَلِمَهُ من كُتُبِهِمْ، لأنه كان قارئاً كاتبًا وعنده علم بِكُتُبِ أهل الكتاب فقد صدقه القرآن المهيمن والشاهد على الكتب فهو حق وصدق، والتصديق به واجب، وإني لأعجب للمؤلف كيف سَوَّلَتْ له نفسه وسمح له ضميره أَنْ يقول عن البشارة بِالنَّبِيِّ وذكر أوصافه في " التوراة " و " الإنجيل ":
(1)[سورة الأحزاب، الآية: 45].
(2)
[سورة الأعراف، الآيتان: 156، 157].
-----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[هو عطاء بن يسار وليس عبد الله بن يسار، انظر " صحيح البخاري " (34) كتاب البيوع (50) باب كراهية السخب في الأسواق، حديث 2125، " فتح الباري ": 4/ 342،، نشر دار المعرفة - بيروت، طبعة سَنَةَ 1379 هـ].