الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في مكان واحد فظن أنها في قصة واحدة، أو لعل منشأ الشُبْهَةِ عنده سوء فهمه لعبارة الإمام النووي التي ساقها في [ص 68] من كتابه، والإمام النووي أجل من أنْ يظن أنَّ «حديث جبريل» و «حديث الرجل الثائر الرأس» و «حديث أبي أيوب» و «حديث أبي هريرة» كلها في قصة واحدة، ولو أنَّ المؤلف رجع إلى كتاب " فتح الباري " لِعُمْدَةِ المُحَقِّقِينَ في هذا الفن وأمير المُحَدِّثِينَ الحافظ ابن حجر لوقف على مُفَصَّلٍ، ولما وقع في هذا الخلط الشنيع.
حَدِيثُ «أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ» لَا تَحْرِيفَ فِيهِ:
في [ص 68] استشهد على ضرر الرواية بالمعنى في الدِّينِ بحديث المرأة التي جاءت إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأرادت أنْ تَهِبَ نفسها له فأعرض عنها النَّبِي، فتقدم رجل فقال: يا رسول الله أنكحنيها - ولم يكن معه من المهر غير بعض القرآن - فقال النَّبِي: «أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وفي رواية: «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ
…
» وفي رواية ثالثة: «زَوَّجْتُكَهَا عَلَى مَا مَعَكَ
…
» وفي رواية رابعة: «قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ .... » وفي رواية خامسة: «قَدْ أَمْلَكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ
…
».الخ
…
إلى أنْ قال: «فهذه اختلافات ثمانية في لفظة واحدة» ، ولكي يُؤَيِّدَ ما يريد نقل عن ابن دقيق العيد والعلائي نقلين وبَتَرَهُمَا لحاجة في نفسه كما ستعلم عن كثب ومع إمكان احتمال أنْ تكون القصص والوقائع متعددة إِلَاّ أنَّ الأظهر أنها في قصة واحدة، وعليه فنحن لا ننكر أنَّ هذا الحديث وغيره ورد بألفاظ متغايره إِلَاّ أنها لا تحيل المعنى، فهي متقاربة وَيُفَسِّرُ بعضها بعضاً، فمثلاً في الحديث الذي ذكره نَرَى أنَّ «زَوَّجْتُكَهَا» و «أَنْكَحْتُكَهَا» بمعنى، وكذلك لا فرق بين «بِمَا مَعَكَ» و «عَلَى مَا مَعَكَ» فَمُؤَدَّى العبارتين واحدة، ورواية «أَمْلَكْتُكَهَا» و «مَلَّكْتُكَهَا» بمعنى أيضاً، وتمليك رَقَبَةٍ حُرَّةٍ غير معقول عقلاً ولا شرعاً، فلم يبق إِلَاّ أنْ يكون المراد تملك حق الاستمتاع بها وهو معنى الزواج، فهذه خمس روايات ليس بينها تَضاَدٌّ أو تناقض،
وباقي الروايات الثمانية بعضها بلفظ: «أَنْكَحْتُكَهَا عَلَى أَنْ تُقْرِئَهَا وَتُعَلِّمَهَا» وبعضها بلفظ: «أَمْكَنَّاكَهَا بِمَا مَعَكَ» إلخ
…
وبعضها بلفظ: «خُذْهَا بِمَا مَعَكَ» وهكذا يَتَبَيَّنُ لك جَلِيًّا أنَّ الروايات الثمانية ليس بينهما كبير فرق يسوغ للمؤلف أنْ يرمي السُنَّةَ بمنكر من القول، فيزعم أنها وصلتنا مغيرة مبدلة! على أنَّ طريقة العلماء المُحَقِّقِينَ في هذا الحديث وأمثاله هو الترجيح وبذل الجهد في التَحَرِّي والبحث عن حقيقة اللفظ الذي صدر من الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، ولعلماء الحديث وجهابذته - وراء قواعد النقد الظاهرة - مَلَكَةٌ خاصة وَحَاسَّةٌ دقيقة بهما ينفذون إلى معرفة اللفظ الذي هو أليق بالصدور عن الرسول، وهذا هو ما فعله الأئمة تُجَاهَ الروايات في هذا، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: «هَذِهِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ،
…
فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّظَرُ إِلَى التَّرْجِيحِ وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ [رِوَايَةُ] مَنْ رَوَى " زَوَّجْتُكَهَا " وَأَنَّهُمْ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ
…
». ولما نقل المؤلف كلام ابن دقيق العيد وقف عند «مخرج الحديث» وترك الباقي، وغير خَفِيٍّ على القارئ الفطن السِرَّ في تركه لعجز الكلام، لأنه يهدم ما يريد أنْ يصل إليه، وكذلك لما نقل كلام العلائي ترك من آخره قوله:«ولكن القلب إلى ترجيح رواية الترويج أميل لكونها رواية الأكثرين، ولقرينة قول الرجل الخاطب زوجنيها يا رسول الله» فلماذا تركت هذا أيها الأمين؟! وقال الحافظ ابن حجر: «نعم، الذي تحرر مِمَّا قدمته أن الذين رووا بلفظ التزويج أكثر عددا مِمَّنْ رواه بغير لفظ التزويج ولا سيما وفيهم من الحفاظ مثل مالك، ورواية سفيان بن عيينة «أنكحتكها» مساوية لروايتهم ومثلها رواية زائدة (1).
وهكذا يَتَبَيَّن لنا أن لا ضرر دينيا بسبب الرواية بالمعنى كما يريد أن يصوره المؤلف ما دامت الألفاظ متوافقة أو متقاربة، وما دام طريق الترجيح بين الروايات يؤدي بالمجتهد إلى الوصول إلى الحق والصواب.
(1)" فتح الباري ": 9/ 176.