الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آثارهم فيما زعموا وَرَدَّدُوا من دعاوى لم تقم عليها بيِّنات، بل وزادوا عليها من عند أنفسهم، وكل هؤلاء وأولئك نفثوا سمومهم باسم البحث والمعرفة وَحُرِِيَّةَ النقد، والله يعلم والراسخون في العلم يعلمون أَنَّ ما زعموا أبعد ما يكون عن العلم الصحيح، والبحث القويم والنقد النزيه، وقد جاء مؤلف كتاب " أضواء على السُنَّة " فردَّد ما قالوه، بل زاد الطين بلَّة فعقد في كتابه فصلاً طويلاً تحت عنوان «أبو هريرة» حشاه بكل جارحة من القول، وتهجم فيه على أبي هريرة وغيره من الصحابة ورماهم بالكذب والاختلاق، وقد رَدَّدَ في هذا مقالة «النظام» التي نقلها عنه ابن قتيبة في كتابه وتبعه حذو القذة بالقذة، ولا تكاد تطلع على صفحة من هذا الفصل إِلَاّ وتجد فيها من الأخطاء العلمية ما نربأ بأي باحث عنها، ولذا يظهر لي أَنَّ المؤلف دخل إلى هذا البحث وهو متشبع بفكرة خاصة مِمَّا نأى به عن البحث الصحيح، وقواعد البحث العلمي النزيه تقتضي من الباحث إذا ما شرع في بحث أَنْ يجمع مادته ونصوصه، ثم يُجَرِّدُ نفسه من كل هوى أو رأي، ثم يبحث ويمحص ويدقق ويوازن بين النصوص كي يأتي حكمه أقرب إلى الحق والصواب، أما أَنْ يدع ما يشاء على حسب هواه، فهذا ما لا تقره قواعد البحث الصحيح والنقد النزيه.
عدم رعاية أَبِي رَيَّةَ للأمانة العلمية:
والمؤلف في سبيل الوصول إلى ما يريد يقتضب بعض النقول ويقتصر على بعضها، على طريقة {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} (1) ويدع {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (2) ويترك بعض الروايات القوية التي لا تطاوعه إلى ما قصد، ويستشهد بالروايات الضعيفة ما دامت تسعفه.
وإليك بعض المثل أجتزئ بها عن كثير مِمَّا وقع فيه كي لا يظن ظان أني أتجنى أو أتنكب طريق الإنصاف:
ففي ص [168] قال في معرض الاستدلال على اتِّهامه أبا هريرة
(1) و (2)[سورة النساء، الآية: 43].
بالكذب ما نصه: «ولما سمع الزبير أحاديثه قال: «صدق، كذب» وإيراد النص بهذا الوضع يوهم اتِّهام الزبير لأبي هريرة بالكذب، وإليك النص بتمامه كي تؤمن معي بما أقول، قال صاحب " البداية والنهاية " (1): «وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قال: قَالَ لِي أَبِي [الزُّبَيْرُ]: " أدنني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قَالَ: فَأَدْنَيْتُهُ مِنْهُ، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ: صَدَقَ، كَذَبَ "
…
قُلْتُ: " يَا أَبَتِ مَا قَوْلُكَ صَدَقَ، كَذَبَ؟ " قَالَ: أَمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَشُكُّ، وَلَكِنْ مِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى مَوَاضِعِهِ، وَمِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ "». فهل ترى في هذا النص بتمامه ما يشهد لما ذهب إليه؟
ومن أمثلة أخذه ببعض الروايات لأنه يشهد له، وترك البعض الآخر وَإِنْ كان أقوى لأنه لا يشهد له، ما ذكره في [ص 192] من أَنَّ عمر رضي الله عنه استعمل أبا هريرة عاملاً على البحرين، ثم بلغه أشياء تخل بأمانته فعزله وَوَلَّى مكانه غيره، وَأَنَّ عمر أهانه وكلمه بكلام شديد.
وكنا نحب من المؤلف أَنْ يُبَيِّنَ لنا مرجعه لنرى إذا كان من المراجع الموثوق بها أم لا، وإليك القصة كما جاءت في " الإصابة "(2) وهي أوثق كتاب في تاريخ الصحابة، قال الحافظ في " الإصابة ":«وقال عبد الرازق أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين: أَنَّ عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر: " اسْتَأْثَرْتَ بِهَذِهِ الأَمْوَالِ فَمِنْ أَيْنَ لَكَ؟ " قال: " خَيْلٌ نُتِجَتْ، وَأَعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ، وَخَرَاجُ رَقِيقٍ لِي "، فَنَظَرَ فَوَجَدَهَا كَمَا قَالَ، ثُمَّ دَعَاهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ فَأَبَى، فقال: " لَقَدْ طََلَبَ العَمَلَ مَنْ كَانَ خَيْراً مِنْكَ "، قال: " إِنَّهُ يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ، وَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بْنُ أُمَيْمَةَ، وَأَخْشَى ثَلَاثاً: أَنْ أَقُوْلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ أَقْضِيَ بِغَيْرِ حُكْمٍ، أَوْ يُضْرَبَ ظَهْرِي، وَيُشْتَمَ عِرْضِي، وَيُنْزَعَ مَالِي "»
(1) 8/ 109.
(2)
4/ 210.
وقد روى هذه القصة أيضا الحافظ ابن كثير في " بدايته "(1) ثم قال عقبها: وذكر غيره أَنَّ عمر غَرَّمَهُ في العمالة الأولى اثنى عشر ألفًا، فلهذا امتنع في الثانية.
فها أنت ذا ترى أَنَّ رواية عبد الرازق ليس فيها اتهام لأبي هريرة بل فيها تبرئة لساحته، ثم هي قد اتفق عليها إمامان لهما في النقد باع طويل، ولعل في أسلوب ابن كثير وإشاراته إلى الرواية الأخرى ما يشعر بعدم ارتضائه، لها وأيضا فعبد الرازق إمام جليل وأحرى بروايته أَنْ ترجح، ثم هل ترى لو أَنَّ عمر رضي الله عنه وجده مُتَّهَمًا - كما زعم المؤلف - أكان يعرض عليه الإمارة مَرَّةً ثانية وسيرة الفاروق وتشدده مع الولاة معروفة؟ وهكذا يَتَبَيَّن لنا أَنَّ رواية عبد الرازق هي التي يجب أَنْ يُعَوَّلَ عليها، ولعلك بعد ما سمعت آمنت معي أَنَّ المؤلف يدع ما يشاء ويأخذ ما يشاء بالهوى والتشهي لا بالحُجَّة والبرهان، وأنه ما عدل عن رواية عبد الرازق إلى الأخرى إِلَاّ لحاجة في نفسه!
ومن ذلك أيضا ما ذكره في ص [163] «من أَنَّ عمر رضي الله عنه قال لأبي هريرة: " أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذبا على رسول الله "، وأوعده إِنْ لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده، وأنه قال له:" لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ "
…
» ولم أجد رمي عمر له بالكذب في أي كتاب من الكتب الموثوق بها، اللَّهُمَّ إِلَاّ إذا كان المؤلف وقع عليه في كتاب من كتب الأدب أو نحوها أو أتى به من بنات خياله، وليس في توعده له بإلحاقه بأرض دوس ما يشم منه رائحة الاتهام بالكذب وإنما هو التحوط وزيادة التثبت، والإكثار مظنة الغلط أو السهو، ومذهب الفاروق في التثبت في الرواية معروف.
(1) 8/ 113.