المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع ما بعد الأرك - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٤

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌القسْم الثانىعصْر الموحِّدينوانهيار الأندلسْ الكبرى

- ‌تصدير

- ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

- ‌الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة

- ‌الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

- ‌الفصل الخامس غزوة شنترين

- ‌الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

- ‌الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية

- ‌الفصل الثالث موقعة الأرك

- ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

- ‌الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر

- ‌الفصل السادس موقعة العقاب

- ‌الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

- ‌الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمونإلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

- ‌الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

- ‌الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

- ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

- ‌الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

- ‌الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

- ‌الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد

- ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

- ‌الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

- ‌الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

- ‌الفصل الأول قشتالة وليون

- ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

- ‌الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

- ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

- ‌الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

الفصل: ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

حتى وفاة المنصور

إقامة الخليفة المنصور بقرطبة. الفيلسوف ابن رشد ومؤلفاته ومكانته العلمية. اجتماع الأسباب لنكبته. سعي خصومه في الإيقاع به. تأويل آرائه ومسخها. إتهامه وبعض زملائه بالمروق. توجيه الاتهام إليه بالمسجد الجامع. إدانته ونفيه إلى بلدة اليسانة. مصادرة كتبه وإحراقها. كتاب المنصور في تبرير تصرفه وفي شرح تهم المارقين. أسباب أخرى لغضب المنصور على الفيلسوف. عفو المنصور عنه وعن زملائه. عودة ابن رشد إلى مراكش ثم وفاته. ما تكشف عنه نكبة الفيلسوف من مغزى. خروج المنصور إلى الغزو. مسيره إلى طلبيرة ثم إلى طليطلة. مسيره إلى مجريط وحصارها. تخريبه لمنطقة وادي الحجارة. توجيه كتاب الغزو. عود المنصور إلى قرطبة ثم إشبيلية. أمره بإتمام صومعة الجامع. أقوال ابن صاحب الصلاة في بناء الصومعة. تزويدها بالتفافيح الذهبية. وصف لهذه التفافيح وعملية رفعها. قيام هذه الصومعة حتى اليوم. انتقال المنصور إلى حصن الفرج. تعيينه للعمال. تحالف قشتالة وأراجون ضد الموحدين. غزو قوات قشتالة وأراجون لمملكة ليون. عقد السلم بين المنصور وملك قشتالة. رفض المنصور معاونة ملك ليون. عبور المنصور إلى المغرب. وعوده إلى مراكش. أخذ البيعة لولده الناصر. عطفه على اليتامى. أمره لإلزام اليهود بزي خاص. بواعث هذا القرار. مرض المنصور وشعوره بدنو أجله. استدعاؤه للشيوخ والقرابة. توصيته بولده وبمن يثق بهم من السادة. توصيته برعاية الأندلس والذود عنها. توصيته بالأغزاز والعرب والطلبة. ْتوصيته بقبائل الموحدين. ما ينسب إليه من آخر أقواله. وفاة المنصور. عظمته والإشادة بصفاته. عنايته بتنظيم الجيش وتقويته. شغفه بالجهاد. حزمه وعنايته بتوطيد العدل. ورعه وتقواه. عنايته بتطبيق أحكام الشرع وإقامة الصلاة والحدود. مطاردته لعلم الفروع والمذهب المالكي. اعتناقه للمذهب الظاهري. انتشار الظاهرية في عهده. إجلاله للعلامة ابن حزم. موقفه من إمامة المهدي وعصمته. ما ينسب إليه من نيته في افتتاح مصر. قول المراكشي في ذلك. أقوال الرحالة ابن جبير عن أحوال الشرق وضلال أهله. أقواله عن صدى الدعوة الموحدية بمصر. الفكرة الموحدية في غزو مصر. الفكرة لم تكن سوى أمنية. عظمة مصر وقوتها أيام المنصور. صفات المنصور العلمية. عطفه على العلماء وطلبة العلم. أدبه وفصاحته. اجتماع الشعراء حوله. أبو العباس الجراوي يؤلف له كتاب " صفوة الأدب ". مدائح ابن مجبر. مواهب المنصور الإدارية والإنشائية. عنايته بالشئون المالية. منشآته العمرانية. إنشاؤه لضاحية الصالحة. تجديده لرباط الفتح وإنشاء مسجدها العظيم. إنشاؤه البيمارستان بمراكش. منشآته بالأندلس. وزراؤه وكتابه. قضاته. أولاده. صفته.

ص: 222

- 1 -

في خلال إقامة المنصور بقرطبة، في تلك الفترة من شهور سنة 593 هـ، وقع حادث مؤسف ذو مغزى عميق، هو نكبة القاضي الفيلسوف أبي الوليد بن رشد. وقد سبق أن أشرنا إلى صلة ابن رشد بالبلاط الموحدي، وإلى ما كان يتمتع به من عطف الخليفة أبي يعقوب يوسف، ولاسيما عن طريق أستاذه العلامة الفيلسوف الطبيب أبي بكر بن طفيل، صديق هذا الخليفة وأستاذه الأثير لديه.

وكان ابن رشد في هذا الوقت يتولى قضاء إشبيلية، ويشغل في نفس الوقت منصب الطبيب الخاص للخليفة إلى جانب أستاذه ابن طفيل. ثم تقلب بعد ذلك في عدة من المناصب القضائية والإدارية العامة، أحياناً بقرطبة وأحياناً بإشبيلية، وكان يتنقل في معظم الأحيان مع بلاط الخليفة، سواء بالمغرب أو الأندلس. ولما توفي أستاذه ابن طفيل في سنة 581 هـ (1185 م) انفرد بمنصب الطبيب الخاص للخليفة، واستمر على حظوته ومكانته لدى الخليفة يعقوب المنصور، كما كان من قبل لدى والده الخليفة أبي يعقوب يوسف.

وكان ابن رشد خلال ذلك قد ذاعت شهرته الطبية والفلسفية ذيوعاً عظيماً، وكتب كثيراً من كتبه الفلسفية، ومعظمها في تلخيص كتب أرسطو وشروحها، وكتب كذلك كثيراً من الكتب الطبية، ومعظمها تلخيص وشروح لكتب جالينوس. ومنها " شرح لأرجوزة " الشيخ الرئيس ابن سيناء في الطب، وكتب كذلك كتابه " الكليات "، ليتناول فيه أبواب الطب الكلية أو الرئيسية، مقابل التفاصيل الجزئية التي تناولها أستاذه العلامة الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر في كتابه " التيسير ". وهذا كله عدا ما كتبه في الأصول والفقه وعلم الكلام والحكمة والمنطق. وقد بلغت تصانيف ابن رشد في مختلف العلوم أكثر من سبعين كتاباً ورسالة اشتهرت كلها في المشرق والمغرب، وترجم الكثير منها فيما بعد إلى اللاتينية، ولاسيما شروحه لفلسفة أرسطو، وهي التي جعلت لابن رشد أعظم مكانة في ميدان التفكير الأوربي.

وكان الخليفة يعقوب المنصور، كأبيه عالماً متمكناً يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين، وكان يعشق الجدل والمناقشات الفلسفية ويعقد مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء ابن رشد وشروحه، ولاسيما في علاقة الفلسفة بالدين، وهو

ص: 223

الموضوع الذي كتب فيه ابن رشد فيما بعد رسالة " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ". وكان الفيلسوف يقضي معظم أوقاته عندئذ في البلاط الموحدي، حيثما كان الخليفة، وكان المنصور يعظم الفيلسوف ويقدره، إلى حد أنه كان يجلس إلى جانبه مباشرة، ويتعدى بموضعه مواضع أشياخ الموحدين الأكابر.

ومن الغريب أن يقال لنا إن ابن رشد، بالرغم مما كان يحيط بمقامه العلمي من ضروب التوقير والتكريم، لم يكن يتمتع بالمظهر اللائق بمكانته من حيث الملبس والتجمل. وقد وصفه لنا القاضي أبو مروان الباجي في قوله " كان القاضي أبو الوليد ابن رشد حسن الرأي ذكياً، رث البزة، قوي النفس ".

وقد شاء القدر أن يُنكب الفيلسوف، في تلك الفترة التي نزل فيها المنصور بقرطبة. وكان ابن رشد قد عاد إلى الأندلس في ركاب الخليفة، ونزل بدار أسرته في قرطبة. وكانت أسباب هذه النكبة في الواقع تتجمع منذ بعيد. وكانت قد نشأت من قديم بين الفيلسوف وبين أهل قرطبة وحشة. " أحدثتها أسباب الحسد ".

وكان الحفاظ والطلبة والفقهاء الموحدون فضلا عن ذلك، ينقمون على ابن رشد آراءه ودراساته الجدلية والفلسفية، وينقمون بالأخص منزلته لدى الخليفة. ونحن نعرف ما كان يتمتع به أولئك الحفاظ والطلبة لدى الخليفة الموحدي من عظيم النفوذ، ولاسيما وقد كانوا نصحاءه ومستشاريه الروحيين. وكان كثير من هؤلاء وكثير من غيرهم من خصوم الفيلسوف، يبثون حول آرائه ونظرياته دعاية مسمومة، ويرمونه بالمروق والخروج على أحكام الشريعة، " وإيثاره فيها لحكم الطبيعة ". وكانت الفلسفة ودراساتها بالرغم مما كان يتسم به البلاط الموحدي، منذ عهد الخليفة عبد المؤمن، من رعاية العلم والعلماء، من الموضوعات المريبة المكروهة. وهكذا كان خصوم ابن رشد يجدون في صميم دراساته وكتاباته، مواد اتهامهم. وأكثر من ذلك أنهم كانوا يدسون عليه ألفاظاً وعبارات محرجة. ومن ذلك وصفه في أحد شروحه " الزهرة " بأنها " أحد الآلهة " وقد جمع أولئك الخصوم مقالات وأوراق كثيرة منسوبة إلى الفيلسوف، وحملوها إلى مراكش في أوائل سنة 591 هـ (1194 م)، وحاولوا أن يرفعوها إلى الخليفة. ولكن المنصور كان يشغل عندئذ بالأهبة للعبور إلى الأندلس. ومن ثم فقد فشل الساعون في مسعاهم، واضطروا للعودة خائبين.

ويقول لنا ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " وهو فيما يرجح ينقل عن

ص: 224

ابن صاحب الصلاة: " فلما كان التلوم من المنصور بمدينة قرطبة، وامتد بها أمد الإقامة، وانبسط الناس من مجالس المذاكرة، تجددت للطالبين آمالهم، وقوى تألبهم، واسترسالهم، فأدلوا بتلك الألقيات، وأوضحوا ما احتجنوه من شنيع الهفوات الماحية لأبي الوليد كثيراً من الحسنات، فقرئت بالمجالس، وتؤولت أغراضها، ومعانيها وقواعدها ومبانيها، فخرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج، وربما ذيلها مكر الطالبين، فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام. ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأغمد السيف بالتماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه، وفقهاء دولته، بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأنه مرق من الدين، وأنه استحق لعنة الضالين "(1).

ولم يكن الاتهام بالمروق مقصوراً على الفيلسوف، ولكنه شمل عدة من زملائه وتلاميذه ممن يشتغلون " بالحكمة وعلوم الأوائل ". وكان من هؤلاء أبو جعفر الذهبي، والفقيه أبو عبد الله محمد بن ابراهيم المهري المشهور بالأصولي، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الحافظ الشاعر. وأحضر ابن رشد، والفقيه أبو عبد الله المهري وحدهما إلى جامع قرطبة، وتوارى الباقون. وتولى توجيه الاتهام إلى الفيلسوف وزميله، القاضي أبو عبد الله بن مروان، والخطيب أبو علي بن الحجاج. ولم يقل لنا صاحب " التكملة "، ماذا كان موقف ابن رشد، ولكن المرجح أنه قام بالرد على أسانيد متهميه.

وعلى أي حال فقد انتهى الأمر بإدانة الفيلسوف، وقضى الخليفة المنصور بمعاقبته بالنفي من قرطبة، واعتقاله ببلدة " أليسّانة " أو" اللسّانة "، الواقعة في جنوبها على مقربة من نهر شَنيل. وكانت هذه البلدة منذ عصور منزل اليهود في هذه المنطقة من الأندلس. وكانت بالأخص مدينة غنية زاهرة أيام دولة بني باديس أصحاب غرناطة (2). وقيل في اختيارها لاعتقال الفيلسوف " إنه يُنسب في بني إسرائيل، ولأنه لا يعرف له نسب في قبائل الأندلس ". وكان من الواضح أن الخليفة قد راعى في الاقتصار على عقوبة الفيلسوف بالنفي، سنه

(1) التكملة لابن عبد الملك المراكشي المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني. ونقله إلينا صاحب البيان المغرب مع الاختصار ص 202.

(2)

وهي بالإسبانية Lucena. راجع الإدريسي، وصف المغرب والأندلس (طبعة دوزي) ص 205.

ص: 225

وحالته الصحية. وكان ابن رشد يومئذ قد جاوز السبعين من عمره. وقُضي على زملاء الفيلسوف الذين تقدم ذكرهم كذلك بالنفي إلى جهات أخرى، وكان أبرزهم بعد ابن رشد، هو إبراهيم الأصولي. وصودرت كتب الجميع، وأمر بإحراقها أينما وجدت.

ولم يكتف البلاط الموحدي بتوقيع العقوبة المادية على المتهمين، ولكنه رأى أن يقرنها بإعلان وجهة نظره، وتبرير تصرفه، فوجه المنصور كتاباً في هذا الموضوع، من إنشاء كاتبه أبي عبد الله بن عياش، إلى مراكش وغيرها من قواعد المغرب والأندلس. وإليك بعض ما جاء في هذا الكتاب المشهور، الذي انفرد بتدوينه ابن عبد الملك صاحب " الذيل والتكملة ":

" وقد كان في سالف الدهر قوم، خاضوا في بحور الأوهام، وأقرّ لهم عواقّهم، بشفوف عليهم في الإفهام، حيث لا داعي يدعو للحيّ القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلّدوا في العالم صحفاً، ما لها من خلاق، مسوّدة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقاً، ويشيدون فيها شواكل وطرقاً. ذلكم ما في الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يذرون. ونشأ منهم في هذه [اللمحة] البيضاء شياطين .. يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون، فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب، وأبعد من الرجعة إلى الله ..

لأن الكتابي يجتهد في ضلال، ويجد في كلال، وهاؤلاء جهدهم التعطيل، وقصاراهم [الغمومة] والتخييل، وبث عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم، على رجال كان الدهر قد سالمهم على شدة حروبهم، وأغفى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شىء علماً.

" وما زلنا وصل الله كرامتكم، نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم إلى الله سبحانه ويدنيهم. فلما أراد الله فضيحة عمايتهم، وكشف غوايتهم، وقف لبعضهم على كتب مسطورة من الضلال، موجبة أخذ

ص: 226

كتاب صاحبها بالشمال، ظاهرها موشّحٌ بكتاب الله، وباطنها مصرّحٌ بالإعراض عن الله، لُبّس منها الإيمان بالظلم، وجىء منها بالحرب الزبون في صورة السِّلم، مزلّة للأقدام، وسمٌّ يدب في باطن الإسلام، وأسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وبهتانهم، فلما وقفنا منهم على ما هو قذًى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقصي السفهاء من الغواة. وأبغضناهم في الله، كما أنا نحب المؤمنين في الله، وقلنا اللهم إن دينك هو الحق المبين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهاؤلاء قد صدفوا عن [الله]، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعدت أسفارهم، وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم، ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام فلا. . في مجال ألسنتهم، والإيقاظ [بحدة] من عقلهم ونصتهم، ولاكنهم رفعوا بموقف الخزي والهوى، ثم طردوا عن رحمة الله، ولو ردوا لعادوا، لما نهواً عنه، وإنهم لكاذبون.

" فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذركم من السهوم السارية في الأبدان. ومن عُثر له على كتاب من كتبهم، فجزاؤه النار التي بها يُعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عُثر منهم على مُجْرٍ في غلوائه، عم عن سبيل الله استقامته واهتدائه، فَلْيُعاجل فيه بالتثقيف والتعريف، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. أو لا يرد الذين حبطت أعمالهم، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون. . . والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، إنه منعم كريم "(1).

هذا كله فيما يتعلق بناحية التكفير، وناحية العقيدة، وهي التي اتخذت ذريعة لاتهام الفيلسوف وإدانته. بيد أنه كانت ثمة أسباب أخرى لغضب المنصور على الفيلسوف. منها توثق صلاته بالسيد أبي يحيى أخي المنصور ووالي قرطبة، وقد

(1) أورد ابن عبد الملك المراكشي نص هذا الكتاب الموحدي في " الذيل والتكملة " في ترجمة ابن رشد (المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني).

ص: 227

كان بين الأخوين موجدة وجفاء. ومنها أنه أي ابن رشد، كان يجري في أحاديثه مع الخليفة على مخاطبته دائماً بقوله " تسمع يا أخي " وكان المنصور يُسرّ له هذه الجرأة في مخاطبته. ومنها أخيراً، وهو ما يدخل في باب العيب في ذات الخليفة، أن ابن رشد قال في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطاطاليس ما يأتي: ورأيت الزرافة عند ملك البربر مشيراً إلى المنصور، وقد وجد ذلك مكتوباً بخطه (1). فهذه الأسباب كلها قد اجتمعت لتهيىء لخصوم الفيلسوف ومتهميه فرصة النيل منه، وإقناع الخليفة بصحة ما نسب إليه من تهم المروق والإلحاد.

ولبث ابن رشد في معتقله في " أليسّانة " زهاء ثلاثة أعوام. ثم إن جماعة من أكابر أهل إشبيلية، خاطبوا المنصور في شأن الفيلسوف وزملائه، وتشفعوا لديه في سبيل إقالتهم والعفو عنهم، ونفوا بالأخص عن الفيلسوف تهمة المروق والزيغ، وشهدوا بحسن إيمانه وسلامة عقيدته. ونفى ابن رشد عن نفسه من جهة أخرى، تهمة العيب في حق المنصور، بوصفه ملك البربر " وقال إن صحة الوصف هي ملك " البرين " وإن ما وقع هو تحريف من الناسخ، فاستجاب المنصور إلى شفاعتهم، وعفا عن ابن رشد وزملائه، وذلك في سنة 594 هـ.

وهكذا استرد الفيلسوف حظوته ومكانته في البلاط الموحدي، وعاد إلى مراكش ليلتحق ببلاط الخليفة. بيد أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، وتوفي في التاسع من شهر صفر سنة 595 هـ (10 ديسمبر سنة 1198 م)، وهو في الخامسة والسبعين من عمره. ودفن ابن رشد أولا في مقبرة " باب تاغزوت " خارج مراكش، ثم حمل منها بعد أشهر قلائل إلى قرطبة مسقط رأسه، وموئل أسرته، ودفن في روضة آبائه بمقبرة ابن عباس (2).

تلك هي أدوار المأساة المشجية التي اقترنت بحياة فيلسوف من أعظم أقطاب التفكير الإسلامي والتفكير العالمي. ولقد تكررت هذه المأساة، التي اتخذت صورة الاضطهاد الفكري، غير مرة في ظل المرابطين ثم الموحدين، وكانت مطاردة ابن رشد ومحاكمته، بلا ريب وصمة في عهد خليفة عظيم عالم كالخليفة

(1) المعجب للمراكشي ص 174 و 175.

(2)

راجع في نكبة ابن رشد " الذيل والتكملة " لعبد الملك المراكشي (المخطوط المشار إليه)، والتكملة لابن الأبار في ترجمته (القاهرة) رقم 1497.

ص: 228

المنصور. ببد أنها تكشف بالأخص عن روح التزمت العميق التي كان يتسم بها التفكير الديني في عهد الموحدين.

- 2 -

وكان الخليفة في تلك الأثناء يستكمل أهبته للغزوة المنشودة، فلما تم له ما أراد من ذلك، غادر قرطبة في قواته، واخترق جبل الشارات (سييرا مورينا) ميمماً شطر طَلَبيرة. فلما وصل إلى حدود قشتالة، قصد إليه رسل ألفونسو الثامن في طلب المهادنة، فصرفهم دون جواب، وقد عقد العزم على اختراق أراضي قشتالة، وغزوها وفقاً للخطة التي وضعها. ولما وصل إلى طلبيرة، سار إلى مكادة، وضرب ما حولها من الأراضي دون أن ينال منها شيئاً، ثم انعطف جنوباً نحو طليطلة وحاصرها، وهنالك علم أن ملك قشتالة قد حصل على عون زميله ملك أراجون، وأنهما يرابطان بقواتهما عند قلعة مجريط (1) في انتظار الاشتباك مع الموحدين، فتحول المنصور نحو مجريط بسرعة، بعد أن خرب أراضي طليطلة، مؤملا أن يلتقي بالقوات النصرانية. ولما وصل إلى مجريط، حاصرها بضعة أيام، ولكن الملكين لم يكونا بها، بل كانا قد انسحبا في معظم قواتهما إلى جبال وادي الرملة (2)، وتركا في حصن مجريط قوة مختارة بقيادة دون ديجو لوبث دي هارو، وهو الذي كان قد لجأ إلى حصن الأرك يوم الموقعة. فدافع القشتاليون عن مجريط بشدة، فغادرها المنصور عندئذ، وسار ميمماً شطر قلعة هنارس (قلعة النهر) ثم وادي الحجارة، وهو ينتسف الزروع، ويخرب الضياع والقرى، ولكن الموحدين لم يستطيعوا كذلك الاستيلاء على وادي الحجارة لمنعتها. وخرجت حاميتها، وفاجأت قافلة المتاع والعتاد والخدم، فأوقعت بها، واستطاعت أن تنتزع منها بعض الأسلاب، قبل أن يتداركها الموحدون، ويردوا المغيرين على أعقابهم، ويقتلوا عدداً منهم.

وفي اليوم التالي، نظم الموحدون مظاهرة عسكرية ضخمة في ظاهر وادي الحجارة، بدا فيها الجيش الموحدي بمختلف طوائفه وحشوده، إظهاراً لقوتهم وإرهاباً للعدو، وبعث المنصور من محلته بتفاصيل الغزوة إلى مختلف الجهات.

(1) وهي التي غدا موقعها فيما بعد نواة لموقع مدريد عاصمة اسبانيا الحديثة، وتطور اسمها العربى من مجريط Majerit إلى Madrid.

(2)

جبال وادي الرملة هي بالإسبانية Guadarrama.

ص: 229

ثم أمر بالحركة والعود، وسار بطريق وبذة. وهنا اتجه المنصور، وفقاً للرواية

النصرانية شرقاً نحو قونقة وحاصرها، ثم ارتد نحو أقليش وسار منها جنوباً نحو الكرس وبيّاسة، ووصل إلى قرطبة في أواخر رمضان سنة 593 هـ، ثم غادرها في الحال إلى إشبيلية، فوصلها في يوم عيد الفطر (أغسطس سنة 1197 م) وذلك بعد أن أنفق في غزوته الثانية لأراضي قشتالة أربعة أشهر (1).

وما كاد المنصور يستقر في إشبيلية، حتى عنى بإتمام الأعمال الأخيرة لصومعة الجامع الأعظم (المنارة) وهي التي كان أبوه الخليفة أبو يعقوب يوسف، قد أمر ببنائها قبل خروجه إلى غزوة شنترين في سنه 580 هـ. وكان المنصور قد أمر بالمضي في إنشائها عقب توليه الخلافة. ووضع العريف أحمد بن باسُه أسسها لصق الجامع ثم تعطل البناء حيناً لعزل بعض العمال المختصين، أو لغير ذلك من الأسباب. وفي سنة 584 هـ (1188) بعد أن فرغ المنصور من غزواته بإفريقية، أصدر أمره بإصلاح ما اختل من الجامع الأعظم وإتمام بناء صومعته. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وهو حسبما أشرنا من قبل غير مرة مؤرخ معاصر وشاهد عيان، أنه شُرع في بناء الصومعة بالآجر الذي يؤخذ من سور قصر ابن عباد، ودام العمل في ذلك أعواماً، يجري البناء فيها بصورة متقطعة، فإذا حضر الخليفة إلى إشبيلية، ضوعفت الهمة في البناء، وإذا غادرها إلى الحضرة تعطل البناء، ثم يُستأنف متى حضر. وكان الخليفة المنصور كأبيه الخليفة أبي يعقوب، شغوفاً بالبناء، وكان وقت وجوده بإشبيلية، يلازم في أوقات فراغه الإشراف على أعمال البناء بنفسه، واستمر الأمر كذلك حتى عاد المنصور من موقعة الأرك مكللاً بغار الظفر، وأصدر أوامره بمضاعفة الهمة لإتمام الصومعة، ولما عاد إلى إشبيلية من غزوته الأخيرة، كان بناء الصومعة قد تم، ولم تبق سوى أعمال التجميل. وبالرغم من أن المنشآت الموحدية، كانت حتى ذلك العهد تقتصر على مراعاة الروعة والمتانة، ولا تميل إلى الزخرف والزينة، فقد أصدر الخليفة أمره، بأن تزود صومعة الجامع بتفافيحها الذهبية الشهيرة. وإليك كيف يصف لنا ابن صاحب الصلاة قصة هذه التفافيح، ورفعها إلى أعلى المنارة، في حفل كان من شهوده:

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 203، وابن خلدون ج 6 ص 245. وراجع:

Altamira: Historia de Espana; Vol. I. p. 364.

ص: 230

صورة:

صومعة جامع المنصور بإشبيلية المسماة لاخيرالدا La Giralda

ص: 231

" فلما وصل أمير المؤمنين، وهزم الله أذفونش الطاغية، أمر رضي الله عنه في مدة إقامته بإشبيلية بعمل التفافيح الغريبة الصنعة العظيمة الرفعة، الكبيرة الجرم، المذهبة الرسم، الرفيعة الاسم والجسم، فرفعت في منازلها بمحضره، وحضر المهندسون في إعلايها على رأيه، وبلوغ وطره، مركبة في عمود عظيم من الحديد مرسى أصله في بنيان أعلى الصومعة أعلاها، زنة العمود ماية وأربعون ربعاً من الحديد، موثقاً هناك في تلاحك البنيان، بارز طرفه الحامل لهذه الأشكال المسماة بالتفافيح إلى الهواء، يكابد من زعازع الرياح، وصدمات الأمطار، ما يطول التعجب من مقاومته وثباته. وكان عدد الذهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاثة الكبار والرابعة الصغرى، سبعة آلاف مثقال كباراً يعقوبية، عملها الصياغ بين يدي أمير المؤمنين وحضوره. ولما كملت سترت بالأغشية من

شقاق الكتان ليلا ينالها الدنس من الأيدي والغبار، وحملت على العجل مجرورة

حتى إلى الصومعة، بالتكبير عليها والتهليل، حتى وصلت ورفعت بالمسدسة حتى إلى أعلى الصومعة المذكورة، ووضعت في العمود، وحصلت فيه، وحصلت بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور رضي الله عنه، وبمحضر ابنه وولي عهده أبي عبد الله السعيد الناصر لدين الله، وجميع بنيه وأشياخ الموحدين والقاضي وطلبة الحضر، وأهل الوجاهة من الناس، وذلك في يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر بموافقة التاسع عشر من شهر مارس العجمي عام أربعة وتسعين وخمس ماية، ثم كشف عن أغشيتها فكادت تغشى الأبصار من تألقها بالذهب الخالص الإبريز وشعاع رونقها " (1).

ويضيف صاحب روض القرطاس إلى ما تقدم، أن الذي قام بالإشراف على صنع هذه التفافيح الذهبية، ورفعها إلى أعلى المنار، هو المعلم أبو الليث الصقلي، وأن هذه التفافيح قومت يومئذ بمائة ألف دينار من الذهب (2).

ونقول نحن، إن هذه الصومعة أو المنارة العظيمة التي أمر بإنشائها الخليفة أبو يعقوب يوسف لجامع إشبيلية الأعظم، وأتمها ولده يعقوب المنصور، وزودها بتفافيحها الذهبية الرائعة، ما زالت تقوم حتى يومنا، وإن كانت قد فقدت تفافيحها الذهبية منذ بعيد، وحولت طبقتها العليا إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية

(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة (المخطوط السابق ذكره لوحه 171، أوب).

(2)

روض القرطاس ص 151.

ص: 232

العظمى، وهي التي قامت بدورها فوق أنقاض الجامع الأعظم، وهي تحمل اليوم اسمها الإسباني " لاخيرالدا La Giralda "، بيد أنها ما زالت بالرغم من تحولها إلى برج للأجراس، تحتفظ بكثير من روعتها الإسلامية القديمة، ومازالت تعتبر من أعظم الآثار الأندلسية الباقية (1).

ولما تم الاحتفال بإتمام صومعة الجامع الأعظم على هذا النحو انتقل المنصور إلى حصن الفرج، وقضى به فصل الصيف، وكان يؤثره لجمال موقعه، وطيب هوائه، ثم عاد إلى إشبيلية، فأقام بها أربعين يوماً أخرى، وعنى خلال هذه الفترة بتنظيم الشئون، وتعيين الولاة والعمال، فأسند ولاية إشبيلية إلى ولده السيد أبي زيد، وولاية بطليوس وجهاتها إلى السيد أبي الربيع بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وولاية منطقة الغرب إلى أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وندب العمال للنظر في شئون الجباية في مختلف الجهات، ورتب الحاميات المختارة في مختلف القواعد، وأمر بتحصينها وإصلاح أسوارها (2).

وكانت الأحوال قد تطورت عندئذ في مملكتي قشتالة وليون، وأنشىء حلف جديد لمقاومة الموحدين بين قشتالة وأراجون، وتقدم ملك أراجون بيدرو الثاني لمعاونة حليفه ألفونسو الثامن، وظهر أثر هذه المعاونة في اجتماع القوات المتحالفة لمقاومة الموحدين في منطقة وادي الحجارة، حينما قام المنصور بغزوته الثانية لأراضي قشتالة. ومع أنه لم يقع بين الفريقين اشتباك ذو شأن، فإن المنصور لم يغفل من حسابه أمر ذلك التكتل الجديد بين القوي النصرانية، ومن جهة أخرى فقد كان لذلك التطور أثره في موقف ألفونسو التاسع ملك ليون حليف الموحدين.

ذلك أنه كان قد غزا أراضي قشتالة بمعاونة قوة من الموحدين، ووصل في زحفه حتى مدينة كَرْيون، وذلك في نفس الوقت الذي غزا فيه الموحدون أراضي قشتالة من الجنوب. فلما انتهى الموحدون من غزوتهم، وانسحبوا إلى الجنوب، قامت قوة مشتركة من القشتاليين والأرجونيين بغزو مملكة ليون، واخترقت أراضيها حتى كويانسا (بلنسية دي دون خوان)، وحاصرت ملك ليون وحلفاءه الموحدين في قاعدة بنافنتي، فالتزم ملك ليون الدفاع، ولم يحاول

(1) راجع تاريخ منارة المنصور، وأوصافها القديمة والحالية في كتابي " الآثار الأندلسية الباقية " الطبعة الثانية ص 51 - 56.

(2)

البيان المغرب - القسم الثالث ص 204، وابن خلدون ج 6 ص 245.

ص: 233

أن يشتبك مع خصومه. ثم انسحب القشتاليون وحلفاؤهم من أراضي ليون مثقلين بالغنائم، وعاد ملك أراجون إلى بلاده وزال الخطر عن مملكة ليون.

وقبيل مغادرة المنصور لإشبيلية، وفدت عليه رسل ملك قشتالة مرة أخرى في طلب المهادنة والسلم، فرأى المنصور على ضوء هذه التطورات، أن يجيبه إلى رغبته بشروط اشترطها، وهو ما يصفه صاحب البيان المغرب بأن التهادن عقد وفقاً لشريعة الإسلام (1). ومن جهة أخرى فإن ملك ليون، بعد أن تحرج مركزه، وأعلن البابا نفيه من الكنيسة، باعتباره خارجاً على الدين، وأذن لملك البرتغال بمحاربته متشحاً بالصفة الصليبية، قصد بنفسه إلى إشبيلية ملتجئاً إلى المنصور، وطالباً إليه معاونته بالجند والمال، ولكنه لم يوفق في مسعاه هذه المرة، نظراً لقيام التهادن والسلم بين الموحدين وبين مملكة قشتالة.

ولما انتهى المنصور من النظر في سائر الشئون، أصدر أوامره بالتأهب للعودة إلى حضرة مراكش. ثم غادر إشبيلية في أواسط جمادى الأولى سنة 594 هـ (أواخر مارس سنة 1198 م) وعبر البحر في غرة جمادى الثانية، وقصد أولا إلى فاس، فأقام بها نحو عشرين يوماً طلباً للراحة والاستجمام، ثم غادرها إلى الحضرة، فدخلها في شعبان سنة 594 هـ.

استقر المنصور في حاضرته، وهو متعب منهوك القوى، من جراء ما اضطلع به من الغزوات والأعمال مدى أربعة أعوام متوالية. وكان أول ما عنى به هو أخذ البيعة لولده أبي عبد الله محمد الملقب بالناصر، وكان قد اختاره لولاية عهده، حينما اشتد به المرض في سنة 587 هـ، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل، فبايعه سائر أشياخ الموحدين، وأخذت له البيعة في سائر القواعد والجهات.

وكانت تصرفات الخليفة في هذه الفترة الأخيرة من حياته، تصطبغ بنوع من التقى والورع. فمن ذلك أنه أمر أن يجمع الأطفال الأيتام، وأن يُختنوا، وأمر لكل منهم بثوب ودينار من الذهب ودرهم من الفضة وحبة من الفاكهة، توضع في يده تخفيفاً لألمه. ويقول لنا المراكشي إن هذا الموسم لتختين اليتامى كان يقام كل عام (2).

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 204، وابن خلدون ج 6 ص 245. ويقول المراكشي أن الهدنة عقدت بين الموحدين وملك قشتالة لمدة عشر سنين (المعجب ص 160).

(2)

المعجب ص 162.

ص: 234

ومن ذلك أنه أمر بتمييز اليهود بلباس خاص. ونحن نعرف أن السياسة الموحدية، كانت منذ عهد الخليفة عبد المؤمن، تجري نحو الذميين على قاعدة التزمت وعدم التسامح، وأن عبد المؤمن، أمر في أواخر عهده بأن يعتنق النصارى واليهود الإسلام، أو يغادروا الأراضي الموحدية، وقرر الموت عقوبة للمخالفين. ولكن السياسة الموحدية جنحت من بعد عبد المؤمن إلى نوع من الاعتدال والتسامح، فترك النصارى واليهود أحراراً يعيشون في البلاد الموحدية. وكانت النظرة إلى اليهود دائماً أكثر تزمتاً وشدة منها إلى النصارى.

وكان الذي حدا بالمنصور إلى تمييز لباسهم، هو أنهم ازدهروا في عهده وتشبهوا بالمسلمين في اللباس، وشاركوهم في مظاهرهم وأساليب حياتهم، فرأى أن يفرض عليهم لباساً خاصاً يميزهم عن المسلمين. وكان هذا الزي عبارة عن قميص أزرق طوله ذراع وعرضه ذراع، وبرنس أزرق ذو أكمام مفرطة السعة والطول، وقلنسوة زرقاء يضعونها على الرأس مكان العمامة، تصل إلى الأذنين. ويقول لنا المراكشي إن الذي حمل المنصور على هذا التصرف إزاء اليهود، هو شكه في إسلامهم، وأنه كان يقول لو صح عندى إسلامهم، لتركتهم يختلطون بالمسلمين في سائر أمورهم، ولو صح عندى كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئاً للمسلمين، لكني متردد في أمرهم، وهم يظهرون الإسلام، ويغشون المساجد، والله أعلم بما تكن صدورهم. وصدر قرار المنصور بتمييز اليهود في أوائل سنة 595 هـ. وقد نظم ابن نغرالة زعيم اليهود المغاربة يومئذ، وهو فيما يبدو سليل أسرة بني نغرالة أو بني النغريلي التي ازدهرت في غرناطة أيام باديس بن حبوس، أرجوزة يتهكم فيها على هذا القرار، وما فرضه من اللباس الأزرق، ويواسي مواطنيه اليهود، هذا مطلعها:

لبس ذا الأزرق ليس فيه خسارا

فافهموا يا قوم هذه الإشارا

ولما تولى الخلافة أبو عبد الله محمد الناصر لدين الله ولد المنصور، استغاث به اليهود، واستشفعوا لديه بكل من استطاعوا لإقالتهم من هذا الزي المرهق، فأمر أن يستبدلوه بثياب صفر وعمائم صفر، واستمروا على ذلك بقية عهد الموحدين (1).

(1) المعجب ص 173 - والبيان المغرب القسم الثالث ص 205، ودائرة المعارف اليهودية: Vol. I. p. 433.

ص: 235

- 3 -

ولم يمض قليل على ذلك حتى مرض المنصور مرضه الأخير، وكان قد انتقل من الحضرة إلى ضاحية الصالحة الملكية التي كان قد أنشأها في بداية عهده، ولما شعر بخطورة مرضه، ودنو أجله، استدعى شيوخ الموحدين، ووجوه أهل بيته، وأعيان بلاطه، وقد وصف لنا صاحب البيان المغرب، ما وقع في هذا المجلس الأخير للخليفة الراحل، وما أوصى به أشياخ دولته وأهل بيته، فقال إنه لما استقر المجلس بالحضور، اتجه الخليفة إليهم ببصره، وقد اغرورقت عيناه بالدمع، فسألهم عن أحوالهم وأعمالهم، ثم قال:" أيها الناس رحمكم الله، إن هذه العلل والأمراض قد توالت علينا، وهدت قوانا، وهتكت جوارحنا، وأظن والله أعلم بغيبه أن هذه العلة هي آخر عهدنا بهذه الدنيا، وأنها القاضية علينا، فانظروا رحمكم الله، وأعانكم على طاعته، من تقدمون على أنفسكم وعلى رقاب المسلمين ". قال، فغلب البكاء على الحاضرين، وتكلم أبو موسى بن محمد بن الشيخ أبي حفص بن علي، وقال " كأنكم يا أمير المؤمنين يا سيدنا تخرسنا بهذا القول، أنتم أمير المؤمنين، فإن توفيتم فإلى رحمة الله تعالى، والجميع صائرون ومنقلبون إلى ما تصيرون إليه، وكنتم قلدتمونا عهدكم الكريم لسيدنا الأمير الأجل أبي عبد الله ابنكم، فنحن باقون عليه، إلى أن تلحق نفوسنا بنفوسكم، وهو خليفتكم علينا بعدكم ".

ثم تعاقب الحضور في الكلام، وأبدى الخليفة لهم قلقه لصغر سن ولده، وطلب إليهم أن يدعوا الله تعالى باليمن والإقبال، فيما انعقدت عليه النية، وأن يتولوه بمعونتهم، ولا يتركوه لرأيه، حتى ينتبه، ويكمل عقله. ثم التفت إلى السيد أبي الحسن، وأخيه السيد أبي زيد، ابني السيد أبي حفص. وقال إنهما لخير هذا البيت، وإنه قدّمهما على الإخوان، وعلى البلاد، فليكونا على ما عهد منهما، وعلى ما ربط لهما من قبل.

ثم أوصى الخليفة الحاضرين بالسادات، وبعض الأشياخ، وخص منهم بالذكر الشيخ أبا زكريا، وأبا محمد عبد الواحد، وأن يعتبر هذان الشيخان مستشارين لولده محمد، لا يصدر إلا من رأيهما ومشورتهما.

ص: 236

وقال الخليفة للحضور بعد ذلك وعيناه تذرفان الدمع، أوصيكم بتقوى الله تعالى، وبالأيتام واليتيمة. فسأله الشيخ أبو محمد عبد الواحد، يا سيدنا يا أمير المؤمنين، ومن الأيتام واليتيمة؟ قال اليتيمة جزيرة الأندلس. والأيتام سكانها المسلمون، وإياكم الغفلة فيما يصلح بها من تشييد أسوارها وحماية ثغورها، وتربية أجنادها وتوفير رعيتها، ولتعلموا أنه ليس في نفوسنا أعظم من همها، ونحن الآن قد استودعنا الله تعالى، وحسن نظركم فيها، فانظروا من المسلمين، وأجروا الشرائع على مناهجها.

وأوصى الخليفة أخيراً بالأغزاز (الغز) ومنحهم البركة التي أمر بها، كما أوصى بملاطفة العرب والإحسان إليهم، وشغلهم بالحركات، وعدم تركهم للعطلة والراحة. وأوصى بطلبة الحضر، وأن يكون لهم موضع خاص يشتغلون فيه بالمذاكرة. وأوصى أخيراً ببعض أصحاب المناصب، والعمال الذين أولاهم ثقته.

واختتم المنصور حديثه بالتوصية بقبائل الموحدين ووجوب مزاورتهم، وسماهم قبيلا بعد قبيل. وكرر حديثه إلى الأشياخ بأن يحفظوا الأمانة التي ألقيت إلى أعناقهم، وأن يجروا الشرائع على سننها، وأن يحرصوا على اجتناب الباطل. ثم دعا للناس، وانفض المجلس، وانصرف الموحدون، وكان هذا آخر العهد به (1).

ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن المنصور لما اشتد به المرض، وشعر بدنو أجله، قال لمن كان حوله من الأشياخ، ما ندمت على شىء فعلته في خلافتي، إلا على ثلاث، وددت أني لم أفعلها، أولها إدخال العرب من إفريقية إلى المغرب لأنى أعلم أنهم أهل فساد، والثانية بناء رباط الفتح، أنفقت فيه من بيت المال، وهو بعد لا يعمر، والثالثة إطلاق أسارى الأرك، ولابد لهم أن يطلبوا بثأرهم (2).

وفي ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 595 هـ (22 يناير سنة 1199 م)، توفي الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور بقصره بالصالحة (3).

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 206 - 209.

(2)

روض القرطاس ص 152.

(3)

ويقول لنا صاحب روض القرطاس إنه توفي بقصبة مراكش (ص 152) وفي رواية أنه توفي في غرة جمادى الأولى سنة 595، وفي أخرى أنه توفي غرة صفر (ابن خلكان ج 2 ص 431) ويقول ابن الأثير إنه توفي ثامن عشر ربيع الآخر، وأن وفاته كانت بمدينة سلا (ج 12 ص 57).

ص: 237

ودفن مؤقتاً بمجلسه بالقصر، وكتمت وفاته حيناً، ثم نقل رفاته إلى تينملل، ودفن بها، وثارت حول اختفائه بعض الروايات والأساطير، فزعم البعض أنه ترك الملك وأضحى مرابطاً بالأندلس، وزعم آخرون أنه تزهد وساح فى البلاد، وقصد المشرق ومات خاملا، ودفن بالشام، إلى غير ذلك (1).

وبوفاة المنصور يختتم عهد من ألمع عهود الدولة الموحدية.

- 4 -

كان الخليفة يعقوب المنصور أعظم خلفاء الدولة الموحدية، إذا استثنينا جده عبد المؤمن، مؤسس الدولة وموطد دعائمها. وفى ظله بلغت الدولة الموحدية أوج قوتها وعظمتها، وظهرت على يديه روعة الملك وفخامته، فى أبهى حللها.

ويصفه ابن الخطيب بأنه كان " نجم بنى عبد المؤمن " وهى كلمة قوية جامعة (2). وتشيد الرواية الإسلامية بخلال المنصور، وتفيض فى استعراض مآثره، وامتداح تصرفاته وسياسته، سواء من الناحية الداخلية أو من الناحية الخارجية، وتشيد بنوع خاص بغيرته فى الجهاد، وتفانيه فى الذود عن قضية الإسلام بالأندلس، ومن ثم كانت عنايته بتنظيم الجيش وتنميته، وشحنه بالفرق الجديدة من الفرسان والرجّالة، وتزويده بموفور العتاد والسلاح، والإنفاق عليه بسعة وسخاء، وإعداده للجهاد بصفة مستمرة. وكان يعنى بتوفير أرزاق الجند، ومنحها فى مواعيدها المقررة. وكان نظام العطاء فى الجيش، أن يمنح الجند الموحدون العطاء، (الجامكية) ثلاث مرات فى العام بصورة منتظمة، مرة فى كل أربعة أشهر، ويمنح الجند الغز أو الأغزاز، وكذلك العرب عطاءهم كل شهر. وكان رأى المنصور فى اختصاص الأجناد الغز والعرب بهذه المزية، هو أن الموحدين من أهل البلاد الأصليين ولهم بها الإقطاع والأموال الكثيرة. أما الغز والعرب، فهم غرباء لا شىء لهم فى البلاد يعتمدون عليه سوى هذا العطاء الرسمى المنظم (3). وكان لهذه العناية بتوفير أعطية الجيش أثرها القوى فى رفع همم الجند، وشحذ

(1) البيان المغرب ص 211، وابن خلكان ج 2 ص 431.

(2)

ابن الخطيب فى الإحاطة فى ترجمة أبى يعقوب يوسف (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر - لوحة 395).

(3)

المراكشى فى المعجب ص 163، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 208.

ص: 238

الرغبة فى الجهاد. والواقع أن الجهاد هو ألمع ما فى حياة المنصور العامة، وقد أسبغت عليه غزواته الموفقة للممالك النصرانية فى شبه الجزيرة، ولاسيما انتصاره الباهر فى موقعة الأرك، على شخصه وعلى جهاده، هالة من العظمة والجلال غلبت على كل خلاله ومناقبه الأخرى.

وقد رأينا المنصور منذ بداية حكمه ملكاً حازماً، يعمل على إقامة العدل وتوطيد أسسه، والنظر فى الأحكام بنفسه، ومراقبة أعمال الولاية والعمال، ومحاسبتهم، ومطاردة من ينحرف منهم عن جادة الحق والعدل وعزلهم، ثم رأيناه ملكاً مصلحاً، يضطرم بروح إنشائية قوية، ويعنى بإقامة المنشآت العظيمة، من مدن وحصون وجوامع وغيرها، سواء بالمغرب أو الأندلس.

وأول ما تشيد به الرواية من صفات المنصور هو ورعه وتقواه، والتزامه أحكام الشريعة وسننها، ومحاولة تطبيقها على حقيقتها، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإقامة الحدود، حتى فى أهله، وعشيرته الأقربين، وكان مثل جده عبد المؤمن يشدد فى إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، ويأمر بالمناداة عليها، ويعاقب على تركها، وكان يشتد كذلك فى إقامة الحدود، ويذهب فى ذلك أحياناً إلى حدود بعيدة، حتى قيل إنه عاقب على شرب الخمر بالقتل، وأمر بقتل بعض العمال الذين تشكو الرعية منهم (1).

وقد كان للمنصور من الناحية الدينية موقف خاص، يمكن أن يوصف بأنه انقلاب فى ميدان المذهب والعقيدة فى الدولة الموحدية، فهو أولا قد طارد علم الفروع، أعنى دراسة تفاصيل العبادات والمعاملات. وأمر بإحراق كتب المذهب المالكى فى سائر البلاد مثل مدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبى زيد، وكتاب التهذيب للبرادعى، وواضحة ابن حبيب، وأمر الناس بترك الاشتغال بعلم الرأى والخوض فيه، وأنذر من يفعل ذلك بشديد العقاب، وأمر جماعة من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة فى الصلاة وما يتعلق بها على نحو المجموعة التى جمعها ابن تومرت فى الطهارة، وذاع هذا المجموع فى المغرب، وأقبل الناس على حفظه. وكان قصد المنصور من ذلك أن يمحو

(1) ابن خلكان ج 2 ص 418، و 433، وابن الأثير ج 12 ص 57، والبيان المغرب القسم الثالث ص 205، والمقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 536.

ص: 239

مذهب مالك وأن يزيله من المغرب (1). وكان المنصور أيضاً من أشد دعاة المذهب الظاهرى، وهذا المذهب الذى اشتهر على يد الفيلسوف ابن حزم القرطبى فى أوائل القرن الخامس الهجرى، يرجع إلى القرن الثالث، ومؤسسه هو خلف بن داود الأصفهانى المتوفى سنة 270 هـ، وقد وضع أسسه فى نحو منتصف القرن الثالث، وخلاصتها أنه يجب فى صوغ أحكام الشريعة أن يُرجع فقط إلى ظاهر القرآن والسنة أى الحديث، وألا يُؤخذ فى ذلك بالرأى أو القياس، وأن يبقى الإجماع محصوراً فى إجماع صحابة رسول الله. ويبدى ابن حزم إمام المذهب الظاهرى بالأندلس تشدداً فى تطبيقه على العقائد، وهو لا يأخذ فى تفسير الأحكام إلا بالكلمة المكتوبة، والحديث الثابت، ويعتبرهما حاسمين فى صوغ الأحكام. وقد حمل الخليفة المنصور الناس على اعتناق المذهب الظاهرى، والتزام الأخذ بالظاهر من القرآن والحديث. وكان المنصور يشكو من تعدد الآراء والأحكام المذهبية فى المسألة الواحدة، ويرى أن الأخذ بالمذهب الظاهرى يحسم كثيراً من هذه الخلافات. ونستطيع القول إن المذهب الظاهرى، غدا هو المذهب الرسمى فى عهد المنصور، وعظم أمر الظاهرية، وانتشروا بالمغرب، وكانوا يسمون بالحزمية نسبة إلى الفيلسوف ابن حزم عميد المذهب. وكان المنصور يبجل ابن حزم، ويرتفع به وبعلمه إلى أسمى مكانة. ومما يذكر فى هذا الصدد، ما يروى، من أن المنصور، مر فى عودته من غزوه لأراضى البرتغال فى سنة 587 هـ (1191 م)، بشمال مدينة ولبة، حيث توجد قرية منت ليشم، وهى بلد بنى حزم، وبها قبر العلامة ابن حزم، فوقف المنصور على قبره، وهو يقول عجباً لهذا الموضع يخرج منه مثل هذا العالم، ثم قال " إن كل العلماء عيال على ابن حزم "(2). ويقول لنا ابن الأثير إن المنصور عين فى أواخر أيامه قضاة من الشافعية. وقد كان الجنوح إلى مذهب الظاهرية، فيما يذكر لنا المراكشى من صفات أبيه الخليفة أبى يعقوب يوسف، وجده الخليفة الفقيه العالم عبد المؤمن بن على، إلا أنهما لم يفصحا عن هذا الاتجاه بشكل ظاهر،

(1) المراكشى فى المعجب ص 157 و 158، والتكملة لابن الأبار (القاهرة) ج 2 ص 563. وابن الأثير ج 12 ص 57، وابن خلكان ج 2 ص 432، والنويرى طبعة جسبار ريميرو السابق الإشارة إليها ج 8 ص 277.

(2)

المقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 162. ومازالت هذه القرية التى دفن بها العلامة الأندلسي الكبير، قائمة حتى يومنا، وهى تسمى اليوم باسمها الحديث " كاسا مونتيخو Casa Montejo ".

ص: 240

إذ كانت الدولة الموحدية ما تزال فى بدايتها، وكانت عقيدة التوحيد تعلو على كل ما عداها. وكان من آثار هذا الاتجاه أن ازدهر علم الحديث فى عهد المنصور، وحظى طلابه بمنتهى التشجيع والرعاية (1).

ومن جهة أخرى فإنه يوجد ما يحمل على الاعتقاد، بأن المنصور لم يكن من الغلاة فى تصوير إمامة المهدى، ولم يكن بالأخص من المؤمنين بعصمته، وهو اتجاه تبلور فيما بعد، واتخذ على يد خلفائه صورته العملية (2).

ومما يتصل بتقى المنصور، وورعه، وحماسته الدينية، ما نسب إليه من أنه كان ينوى افتتاح مصر، وضمها إلى الإمبراطورية الموحدية، لأنها كانت فى نظر الموحدين بلداً يجنح إلى البدع، وتشيع فيه المنكرات، وقد نوه بمشروع المنصور هذا نحو مصر، غير واحد من المؤرخين والرواة. فيقول لنا المراكشي، وهو معاصر لعهد المنصور إنه قد بلغه عن غير واحد " أن المنصور صرح للموحدين بالرحلة إلى المشرق، وأنه كان يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكر والبدع، ويقول، نحن إن شاء الله مطهروها، ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات "(3). ويفيض الرحالة ابن جبير، وهو أيضاً معاصر المنصور، فى رحلته، فى الكلام عن هذه النية الموحدية فى غزو مصر، وصداها فى مصر ذاتها، ويبدأ حديثه بالحملة على أحوال البلاد المشرقية، ولاسيما ما يقع ببلاد الحجاز من ظلم الحجاج وانتهاب أموالهم، ويعرب عن أمله فى أن تُقمع هذه البدع المجحفة بالمسلمين " بسيوف الموحدين أنصار الدين، وحزب الله أولى الحق والصدق، والذابين عن حرم الله عز وجل، والغائرين على محارمه، والجادين فى إعلاء كلمته، وإظهار دعوته، ونصر ملته ".

ثم يقول ابن جبير فى التنديد بأحوال المشرق وضعف إسلامه: " وليتحقق المتحقق، ويعتقد الصحيح الاعتقاد، أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة لا بنيات فيها، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية، فأهواء وبدع، وفرقة ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه، إلا عند الموحدين أعزهم الله، فهم أئمة العدل فى هذا الزمان، وكل من سواهم من الملوك فى هذا الأوان، فعلى غير

(1) المراكشي فى المعجب ص 157 و 158.

(2)

المراكشي فى المعجب ص 164.

(3)

المعجب ص 160.

ص: 241

الطريقة، يُشعرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يسمع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل صلاح الدين، الذى قد ذكرنا سيرته ومناقبه، لو كان له أعوان على الحق ".

وأهم من ذلك ما ينوه ابن جبير من صدى الدعوة الموحدية بمصر، وانتشارها بصورة تدعو إلى الدهشة، ومن أن أكثر أهل مصر، بل كلهم " يرمزون بذلك رمزاً خفياً، وينسبون ذلك إلى آثار حدثانية، وقعت بأيدى بعضهم، وأنذرت بأشياء من الكوائن. . ولم يبق إلا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد، فهم يستطلعون بها صبحاً جلياً، ويقطعون بصحتها، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التى لا يمترون فى إنجاز وعدها. فشاهدنا من ذلك بالإسكندرية ومصر وسواهما مشافهة وسماعاً، أمراً غريباً، يدل على أن ذلك الأمر العزيز، أمر الله الحق، ودعوته الصدق. ونُمى إلينا أن بعض فقهاء البلاد المذكورة وزعمائها، قد حبّر خطباً أعدها للقيام بين يدى سيدنا أمير المؤمنين، وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة، والله عز وجل يبسطها من كلمة، ويعليها من دعوة، إنه على ما يشاء قدير "(1).

ونستطيع أن نربط بين هذه الأقوال التى يصف فيها ابن جبير صدى الدعوة الموحدية بمصر خلال مروره بها فى سنة 579 هـ (1183 م)، أعنى قبيل عهد المنصور بقليل، وبين ما ذكره أبو القاسم المؤمن المصري فى كتابه المسمى " بالأنساب فى معرفة الأصحاب "، ونقله البيذق، عن أصحاب المهدي بمصر، فقد ذكر لنا من هؤلاء واحداً وخمسين رجلا بأسمائهم، وقال إنهم كانوا من أعيان بلادهم " وإنهم كانوا سامعين لقوله، مجيبين لأمره، مؤمنين به، مختارين صحبته، مؤثرين لحقه، معظمين لحرمته "(2).

ويستخلص مما تقدم، ومن أقوال ابن جبير خاصة، أنه كانت توجد ثمة فكرة موحدية لغزو مصر، وأن هذه الفكرة ترجع إلى ما قبل عهد المنصور، وأنها ربما تبلورت فى عهد المنصور، واتخذت طابعاً قوياً، وذلك لما أبداه

(1) رحلة ابن جبير (المنشورة بعناية الدكتور حسين نصار - القاهرة سنة 1955) ص 53 و 54.

(2)

نقله البيذق فى " أخبار المهدي ابن تومرت " ص 30 - 32.

ص: 242

المنصور من عزم وضخامة فى أهباته العسكرية، وما وفق إليه من انتصارات باهرة ضد النصارى فى شبه الجزيرة الإسبانية، ولاسيما فى معركة الأرك العظيمة. وربما كان من بواعث هذه الفكرة ومشجعاتها، مَثل الفاطميين، الذين ساروا من المغرب، قبل ذلك بأكثر من قرنين، وغزوا مصر، واستولوا عليها بأيسر أمر. ولكن شتان بين العصرين، وشتان بين ما كانت عليه مصر وقت الفتح الفاطمى، وما كانت عليه أيام الخليفة المنصور. بيد أننا لا نستطيع مع ذلك، أن نعتقد أن الموحدين كانوا يحتضنون مشروع غزو مصر بصورة جدية. وأكبر الظن أنها ربما كانت أمنية، وربما كانت مُثُل هذه الأمنية ترجع إلى عصر المهدي ذاته، فقد رأينا المهدي أثناء مقامه بثغر الإسكندرية يغضب لما رآه فيها من " البدع " ثم يقوم بها بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى قيل بأنه خرج منها منفياً، لما ترتب على دعايته من الشغب. بل قيل أكثر من ذلك، وهو أن المهدي قال ذات يوم لبعض أصحابه فيما قال ووعدهم به، وكانوا يجلسون تحت شجرة الخروب المواجهة لمسجد تينملّل:" ليبصرنّ منكم من طالت حياته أمراء أهل مصر، مستظلين بهذه الشجرة، قاعدين تحتها "(1). كذلك يلوح لنا أن ما يذكره ابن جبير عن انتشار فكرة الغزو الموحدى بمصر، وماكان يهمس به الناس من ذلك الأمر، إنما هو مبالغة ترجع إلى ولاء ابن جبير للدولة الموحدية، التى خدم فى ظلالها وتمتع برعايتها، والأغلب أن ابن جبير تلقى أخباره من بعض الغلاة الهائمين من أتباع المهدي وأنصاره بمصر، فصورها على أنها تعبر عن اتجاه أغلبية الأمة المصرية، وهو ما يعتبر فى نظرنا من ضروب الوهم المغرق. ولاشك أن الموحدين، وفى مقدمتهم الخليفة المنصور، كانوا يعرفون ما كانت عليه قوة مصر فى ذلك العهد، التى نعمت فيه بقيادة الملك الناصر صلاح الدين، وما أحرزته بقواتها العسكرية الضخمة البرية والبحرية، من انتصارات باهرة على الصليبيين، فلم يكن من المعقول أن يفكروا فى غزو مثل هذه الإمبراطورية الإسلامية الضخمة، التى تحطمت على صخرة قوتها الراسخة حملات الصليبيين المتوالية، ومن جهة أخرى، فإن قصور الموحدين فى هذا الوقت بالذات عن القضاء على ثورة بنى غانية فى إفريقية بصورة حاسمة، واستمرار هذه الثورة العتيدة، أيام المنصور ومن بعده أعواماً طويلة، يقطع بأن فكرة

(1) المراكشي فى المعجب ص 164.

ص: 243

غزو مصر، إن كانت، لم تكن لدى الموحدين سوى أمنية خيالية بعيدة المنال.

وكان المنصور عالماً مستنيراً، متقناً للحديث والفقه واللغة، مشاركاً في كثير

من العلوم، وكان محباً للعلماء مؤثراً لهم يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين،

وقد أشرنا من قبل إلى شغفه بالجدل والمناقشات الفلسفية، وما كان يعقده من

مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء الفيلسوف ابن رشد. وقد كانت نكبة الفيلسوف العظيم ونفيه إلى اليسّانة من سقطاته البارزة، ولكن كان متأثراً في ذلك بضغط الفقهاء والطلبة الموحدين. وكان المنصور يعنى بأمر طلبة العلم أعني علم الحديث، أعظم عناية، حتى نالوا على يديه من الرعاية والنفوذ ما لم ينالوه أيام أبيه وجده. وكان الموحدون يتبرمون بالطلبة، وينقمون عليهم حظوتهم ونفوذهم لدى الخليفة، حتى اضطر المنصور ذات يوم، أن يصرح أمام سائر الموحدين، وقد بلغه موقفهم من الطلبة، " يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيله، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم سواى، فمهما نابهم أمر، فأنا ملجؤهم، وإلىّ فزعهم، وإلىّ ينتسبون ". يقول المراكشي، فعظم من ذلك اليوم أمر الطلبة، وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم (1).

وكان المنصور أديباً فصيحاً، جزل الألفاظ، وكان يجتمع حوله شعراء العصر من العدوتين، المغرب والأندلس، يصغى إلى مدائحهم، ويغمرهم بصلاته، وقد وضع له شاعره الأثير أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي كتابه الذي سماه " صفوة الأدب وديوان العرب " في مختار الشعر (2). وانتشر هذا الديوان بين أهل المغرب انتشاراً عظيماً، وكان لديهم ككتاب الحماسة لأبي تمام عند أهل المشرق، وقد سبق أن أشرنا في غير موضع إلى قصائد الجراوى ومدائحه للمنصور، وأبيه الخليفة أبي يعقوب يوسف، في مختلف المناسبات، ْوكان من شعراء دولته أيضاً أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مُجْبَر المرسى الأندلسي، وقد أشرنا إلى مدائحه كذلك من قبل غير مرة، وقد ذكر لنا ابن خلكان أن مدائح ابن مُجبر للمنصور جمعت في ديوان، وأورد لنا منها قصيدة رقيقة في مطلعها:

أتراه يترك الغزلا

وعليه شب واكتهلا

(1) المراكشي في المعجب ص 158.

(2)

ابن خلكان ج 2 ص 432 و 494، وروض القرطاس ص 142.

ص: 244

كلف بالغيد ما عقلت

نفسه السلوان مذ عقلا

وإلى جانب هذه الصفات العلمية والأدبية اللامعة، كان المنصور جواداً، وافر البذل، كثير الصدقات، وكان يقدر قيمة البذل في أسر النفوس وترويضها، وكان يؤثر بصلاته الوفيرة أجناد الغز (الأغزاز) والعرب الذين ينضمون لجيشه، استبقاء وتأكيداً لولائهم (1).

هذا وأما عن كفاية المنصور ومواهبه الإدارية والإنشائية، فلدينا من ذلك تفاصيل عديدة. فقد كان المنصور في الواقع من أقدر الخلفاء الموحدين في فهم شئون الدولة الإدارية وتنظيمها، وكانت ولايته لوزارة أبيه مدرسة درس فيها هذه الشئون خير دراسة. وفيها " بحث عن الأمور بحثاً شافياً، وطالع أحوال العمال والولاة والقضاة وسائر من ترجع إليه الأمور مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور (2). وقد رأيناه سواء في المغرب أو الأندلس يعكف على معالجة شئون الدولة بهمة، ويتقصى شئون الولاة والعمال. وكان يولى شئون الأندلس في ذلك عناية خاصة، ففي كل مرة يعبر فيها إلى شبه الجزيرة، يعنى إلى جانب أهباته للغزو، بتنظيم شئونها الداخلية، وفي سنة 592 هـ، نراه بعد ظفره في معركة الأرك، يعنى خلال إقامته بإشبيلية، بمطاردة العمال المقصرين والمختلسين ومحاسبتهم، واستصفاء أموالهم، كما يعنى بتعيين غيرهم من الحائزين لثقته. ثم هو في نفس الوقت يولى شئون الدولة المالية اهتماماً خاصاً، ويندب لأعمال الجباية رجالا من ذوى الأمانة والنزاهة. وكان من أهم ما فعله المنصور في باب السياسة المالية، هو تغييره للدينار الموحدي، ومضاعفته لوزنه، حسبما أشرنا إلى ذلك في موضعه. وكذلك أبدى المنصور همة ظاهرة في إقامة المنشآت العمرانية العظيمة، فأنشأ لأول عهده ضاحية الصالحة الملوكية في جنوبي مراكش، فوق البسيط الممتد بين باب أغمات شرقاً وباب الشريعة غرباً، فجاء إنشاؤها دليلا على ما كانت تجيش به نفسه من إظهار أبهة الملك وروعته، على مثل ما كان عليه خلفاء الأندلس، وعنى بتوسيع مدينة رباط الفتح، التي كان قد اختطها جده فأبوه وتجديد قصبتها، وإتمام أسوارها وأبوابها، واستكمال أحيائها ومبانيها. وأنشأ

(1) المراكشي في المعجب ص 163، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 208.

(2)

المعجب ص 148، ونقله ابن خلكان ج 2 ص 428.

ص: 245

بها مسجداً عظيماً واسع الفناء، يقول المراكشي بأنه كان أكبر مسجد في المغرب، وأنشأ له صومعة متناهية في العلو " على هيئة منار الإسكندرية " يُصعد إليها بغير درج. ولكن هذا المسجد لم يتم إذ انقطع العمل فيه بوفاة المنصور (1). ونزيد نحن على ذلك بأن معالم المسجد المشار إليه، وقواعد أعمدته مازالت قائمة في مكانها، تدل على عظم مساحته، وما زالت صومعته الشاهقة التي لم يكمل بناؤها قائمة في مكانها، على مقربة من شاطىء المحيط، وهي التي تعرف اليوم بمنارة حسّان (تور حسان)، وهي على نمط صومعة جامع إشبيلية الشهيرة (لاخيرالدا)(1). بيد أن أهم منشآت المنصور في الحاضرة الموحدية - مراكش - كان هو البيمارستان (المستشفى) العظيم، الذي كان أول صرح من نوعه حظيت به مراكش. وقد اختار لإقامته ساحة شاسعة، وعنى بتخطيطه وبنائه أعظم عناية، وغرست من حوله الحدائق، وأجريت المياه إلى سائر أجنحته، وزود بنفيس الأثاث والرياش، ومختلف صنوف الأدوية، وعين له رهط من مهرة الصيادلة لإعداد الأدوية على اختلاف أصنافها، ورصدت الأموال اللازمة للإنفاق على المرضى، وإطعامهم وكسائهم، وكان المريض الفقير إذا تم شفاؤه، زُود عند خروجه بمال يعيش منه حتى يرزق بعمل، وإن كان غنياً دُفع إليه ماله وتُرك وشأنه، وكان يؤم هذا المستشفى الكبير سائر المرضى من المحليين والغرباء، وكان المنصور يركب إليه في كل جمعة بعد الصلاة، ويعود المرضى، ويسأل عن أحوالهم وحاجاتهم، وكانت هذه المأثرة الإنسانية من أعظم مآثر المنصور وأخلدها (2).

وأما عن منشآته بالأندلس فقد أشرنا إلى ما كان من إنشائه لحصن الفرج خارج مدينة إشبيلية، وإنشاء قصوره وقبابه، ثم إتمامه لصومعة جامع إشبيلية العظيمة، وهي التي كان أبوه قد أمر بإنشائها، ولم تكمل في عهده، فقام المنصور على إتمامها، وتزويدها بتفافيحها الذهبية حسبما أشرنا إليه في موضعه. وأنشأ المنصور في نفس الوقت بمدينة مراكش منارة الكُتيبة العظيمة على نسق صومعة جامع إشبيلية، كما أنشأ بمدينة الرباط صومعة مسجدها على نفس الطراز، وهي منارة حسّان التي لم يكمل بناؤها، حسبما تقدم. وقيل في شأن منارة الكتيبة إنه بدىء بإنشائها في عهد جده الخليفة عبد المؤمن، وقام هو بالعمل على إتمامها،

(1) المراكشي في المعجب ص 150.

(2)

المراكشي في المعجب ص 162.

ص: 246

وطبقاً لهذه الرواية تكون منارة الكتيبة سابقة على صومعة إشبيلية، وتكون هي أم هذا الطراز من الصوامع الموحدية، وعلى أي حال فقد تم إنشاء الكتبية في سنة 594 هـ، قبيل وفاة المنصور بقليل (1).

ووزر للخيلفة المنصور في بداية أمره أخوه السيد أبو عبد الله. ثم خلفه في الوزارة أبو حفص عمر بن أبي زيد الهنتاني، ولما توفي خلفه أبو يحيى أبو بكر ابن عبد الله بن أبي حفص عمر الكبير، واستمر في منصبه إلى أن قُتل في موقعة الأرك وهو يقود الصفوف. فتولى الوزارة من بعده أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن الشيخ أبي حفص، وهو ابن عم أبي يحيى الشهيد المتقدم الذكر، ولكنه لم يلبث في الوزارة سوى أيام يسيرة، ثم تركها مختاراً وهام على وجهه في بعض نواحي إشبيلية، وتزهد، فأرسل الخليفة إليه من استرده وأعفاه من الوزارة، وخلفه في الوزارة أبو زيد عبد الرحمن بن موسى بن يوجّان الهنتاني، فلم يزل في منصبه حتى توفي الخليفة المنصور، فتولى الوزارة بتوصية الخليفة، لابنه محمد الناصر مدى حين (2).

وكتب للمنصور عدة من أكابر الكتاب منهم أبو الفضل جعفر ابن محشرة من أهل مدينة بجاية، وكان تلميذاً لأبي القاسم القالمي، كاتب أبيه الخليفة أبي يعقوب، وكان كاتباً مجيداً، بارع الأسلوب، واسع الرواية غزير الحفظ، تشهد له بذلك رسائله العديدة التي انتهت إلينا، واستمر في منصب الكتابة حتى توفي. فكتب من بعده للمنصور أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ابن عياش، وهو أندلسي من أهل بُرْشانة من أعمال ألمرية، واستمر في منصبه حتى توفي المنصور، فكتب من بعده حيناً لابنه محمد الناصر، ثم لحفيده يوسف. وكان من ألمع كتاب الدولة الموحدية وأبرعهم أسلوباً. وقد انتهت إلينا كذلك عدة من رسائله الصادرة عن الخليفة المنصور، ومنها الرسالة التي وضعها في اتهام ابن رشد وزملائه بالخروج على شريعة الإسلام، وكلها تشهد بروعة بيانه (3).

(1) روض القرطاس ص 151.

(2)

المعجب ص 148، والحلل الموشية ص 121، والبيان الغرب القسم الثالث ص 209.

(3)

راجع في مجموعة الرسائل الموحدية الرسالة السادسة والعشرين إلى الرسالة الرابعة والثلاثين وهي جميعها من إنشاء ابن محشرة، وراجع الرسائل الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين والسابعة والثلاثين وهي من إنشاء أبي عبد الله بن عياش.

ص: 247

وتولى القضاء في عهد المنصور، أبو جعفر أحمد بن مضاء من أهل قرطبة، وكان يتولاه من قبل في عهد أبيه الخليفة أبي يعقوب، ولما توفي خلفه في القضاء أبو عبد الله محمد بن مروان من أهل وهران، ثم عُزل وتولى القضاء من بعده أبو القاسم أحمد بن محمد من ولد بقى بن مخلد فقيه الأندلس الأشهر، واستمر في منصبه حتى وفاة المنصور، ووقتاً من عهد ولده محمد الناصر (1).

وترك المنصور من الولد ستة عشر من الذكور، هم محمد ولى عهده والخليفة من بعده، وإبراهيم، وعبد الله، وعبد العزيز، وأبو بكر، وزكريا، وإدريس، وعيسى، وموسى، وصالح، وعثمان، ويونس، وسعد، ومساعد، والحسن، والحسين. وقد تولى الخلافة منهم غير محمد، اثنان آخران هما أبو محمد عبد الله العادل، وأبو العلاء إدريس المأمون. وترك المنصور كذلك عدة من البنات.

هذا، وأما عن شخص الخليفة يعقوب المنصور، فقد وصفته الرواية المعاصرة، بأنه كان شديد السمرة، طويل القامة، جميل المحيا، أعين، أفوه، أقنى الأنف، شديد الكحل، مستدير اللحية، ضخم الأعضاء، جهورى الصوت، جزل الألفاظ (2).

تلك هي مآثر الخليفة الموحدي، الظافر في معركة الأرك العظيمة، وتلك هي صفاته وخلاله الوضاءة اللامعة.

(1) المعجب ص 149.

(2)

المعجب ص 147 و 148، وابن خلكان ج 2 ص 428.

ص: 248