الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى
صدى انحلال الخلافة الموحدية في الأندلس. اضطرامها من جديد بالفورات القومية. محمد بن هود أول زعماء هذه الحركة. ظهوره في أحواز مرسية. ما قيل عن طريقة ظهوره. زحفه على مرسية وهزيمته لواليها الموحدي. دخوله مرسية ومعه الراية السوداء. دعاؤه للخليفة العباسي وتلقبه بأمير المسلمين. فكرته في الانضواء تحت لواء الخلافة العباسية. دخول عدة من القواعد في طاعته. نهوض المأمون من إشبيلية لقتاله. ما يقال عن اللقاء بين الفريقين. اعتراف إشبيلية بطاعة ابن هود. صدى الثورة في بلنسية. السيد أبو زيد والي بلنسية. أبو جميل زيان سليل آل مردنيش. آل مردنيش ومركزهم في الشرق. وزارة أبي جميل زيان للسيد أبي زيد. قيام الثورة في بلنسية. اختيار أهلها لرياسة زيان. الوحشة بينه وبين السيد أبي زيد. مغادرة السيد أبي زيد لبلنسية. دخول زيان بلنسية وعقده البيعة لنفسه. دعاؤه للخليفة العباسي. النزاع بينه وبين ابن هود. امتناعه ببلنسية. الخوف من عواقب الفتنة. دعوة إلى الاتحاد. إلتجاء السيد أبي زيد إلى النصارى. مرافقة كاتبه ابن الأبار له. مسير السيد إلى ملك أراجون. المعاهدة التي عقدها معه. تعهده بتسليم عدد من الحصون. تنازله من سائر حقوقه الإقليمية. اعتناقه للنصرانية. تأييد الرواية الإسلامية لهذه الواقعة. عودة ابن الأبار إلى بلنسية. إلتحاقه بخدمة أميرها زيان. ضعف الأندلس. توثب الملوك النصارى لمهاجمتها. غزو ملك ليون لشمالى منطقة الغرب. محاصرته لماردة. مسير ابن هود لمدافعته. هزيمته وارتداده. استيلاء الليونيين على ماردة وبطليوس. توقف ابن هود بإشبيلية. مصرع ولدى ابن وزير. غزو فرناندو الثالث للأندلس الوسطى. محاصرته لمدينة جيان. فشل الحصار وانسحاب النصارى. غزوة ثانية للقشتاليين. فرناندو الثالث يستأنف الغزو. محاصرته لأبدة واستيلاؤه عليها. عقد الهدنة بين ابن هود وفرناندو. الجزائر الشرقية تحت حكم الموحدين. مقدمات غزو النصارى للجزائر. تطلع الدول النصرانية إلى افتتاحها. اهتمام ملك أراجون الخاص بذلك. خايمى الأول واستعداد أراجون لهذا المشروع. خروج أسطول الغزو النصراني. استعداد أبي يحيى حاكم الجزائر للمقاومة. التآمر والنزاع في ميورقة. نزول النصارى بأرض الجزيرة. القتال بينهم وبين المسلمين. محاصرة النصارى لمدينة ميورقة. مفاوضة ابن يحيى للنصارى. إصرار النصارى على التسليم. اقتحامهم للمدينة. دفاع المسلمين اليائس. هزيمتهم وتمزقهم. المذبحة الرائعة. دخول الملك خايمى المدينة. مقاومة المسلمين في الجبال. تحطيم المقاومة وسقوط سائر الحصون. تقسيم ميورقة بين الفاتحين. كتاب التقسيم الخاص بذلك. استيلاء الأرجونيين على يابسة. منورقة وبقاؤها عصراً تحت حكم المسلمين. الرئيس سعيد بن حكم الأموى. حكمه لمنورقة. حزمه وكفايته. أدبه وشعره. ولده أبو عمر. افتتاح الأرجونيين لمنورقة.
لقد كان انتثار الخلافة الموحدية، على هذا النحو، وقيام الخليفة العادل بالأندلس، خروجاً على الخليفة أبي محمد عبد الواحد، ثم قيام أبي العلى المأمون بالأندلس أيضاً، خروجاً على أخيه العادل، أعمق وقع وأبعد صدى في الأندلس. ولم يقتصر الأمر في ذلك، على تصدع أركان الحكم الموحدي، وما حدث من ثورة أبي محمد عبد الله البيّاسى، وما ترتب عليها من الآثار المؤلمة، بل كان أن اهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها لهذه الأحداث الخطيرة، ونهضت من من سباتها الطويل، الذي فرضه عليها الحكم الموحدي، زهاء ثمانين عاما، وأخذت تضطرم بسلسلة جديدة من الفورات القومية، على غرار ما حدث في أواخر العهد المرابطي. بيد أن هذه الفورات كانت مع الأسف، حركات متناثرة، متنافسة، متخاصمة، تفرق بينها الأطماع الخاصة، وإن كانت تجمع بينها رابطة الغرض المشترك، وهو تحرير الأندلس من نير الموحدين، وحمايتها من عدوان النصارى.
قامت هذه الحركات التحريرية في شرقي الجزيرة وفي وسطها، في وقت واحد، وكانت بالرغم من طابعها الشخصى، وهو ما يتفق مع روح العصر، حركات قومية أندلسية محضة، وكان قيامها في غمار المحن التي نزلت بالأندلس من جراء تخاذل السادة والحكام الموحدين، عن تأدية واجبهم الأول في شبه الجزيرة، وهو الدفاع عن الأندلس وحمايتها من عدوان النصارى، وتحول نشاطهم إلى معارك داخلية شخصية، بل وإلى مصانعة وتسليم للنصارى. ولم تكن حال الموحدين، وتضعضع قواهم، وانهيار مواردهم بالمغرب، خافية على الأمة الأندلسية، وعلى زعمائها الذين نهضوا في تلك الآونة العصيبة، يحاولون إنقاذ الموقف، بكل ما يمكن أن تسمح به الظروف والأحوال.
وكان أول من ظهر من أولئك الزعماء الأندلسيين، زعيم من بيت عريق في الزعامة والرياسة، هو محمد بن يوسف بن هود الجذامى، وهو سليل بني هود ملوك سرقسطة أيام الطوائف. وكان آخر من أتينا على ذكرهم من زعماء هذا البيت، هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن يوسف بن هود، وهو الملقب بسيف الدولة وبالمستنصر بالله، وأحياناً بالمستعين، وقد تتبعنا أخباره فيما تقدم، مذ غادر قلعة روطة آخر مستقر لبني هود، بعد سقوط سرقسطة في أيدي الأرجونيين في سنة 512 هـ (1118 م) وانضوى تحت لواء ملك قشتالة
ألفونسو ريمونديس. ولما اضطرمت الأندلس بالثورة ضد المرابطين، عمد سيف الدولة إلى خوض غمارها، أولا في القواعد الوسطى في جيّان، وقرطبة وغرناطة، ثم في شرقي الأندلس، في بلنسية ومرسية، وانتهى الأمر إلى أن قتل في معركة البسيط، في شهر شعبان سنة 540 هـ (فبراير سنة 1146 م)(1). ولم يرد من ذلك التاريخ ذكر لبني هود في حوادث الأندلس، حتى قيام محمد بن يوسف ابن هود، هذا المتقدم الذكر. وأما نسبته فهى وفقاً لقوله، أنه محمد بن يوسف ابن محمد بن عبد العليم بن أحمد المستنصر، فهو بذلك ثانى حفيد لولد سيف الدولة المتقدم ذكره.
وكان ظهور محمد بن يوسف بن هود، في نفس المنطقة التي كانت قبل ثمانين عاما مسرحاً لظهور جده سيف الدولة، أعني في شرقي الأندلس، وفي مدينة مرسية. ولا تحدثنا الرواية بشىء عن حياته الأولى، وكل ما تذكره من ذلك أنه كان رجلا من أصناف الجند بمرسية وغيرها (2)، ويبدو من أقوال الرواية أنه ظهر بطريقة متواضعة جداً، وذلك بمعاونة قائد أو مقدم من رؤساء العصابات يسمى الغشتى، وكان الغشتى هذا زعيما لعصبة من المجاورين أو " المغاورين " الذين يحاربون النصارى، وأحيانا يقطعون الطرق على المسلمين ونحن نضرب صفحاً عما تذكره لنا الرواية عن تنبؤات المنجمين بشأن ظهوره، ونكتفى بأن نقول بأن ابن هود تفاهم مع الغشتى على التعاون في العمل، وأفضى إليه بما يخالجه من أمل في الاستيلاء على الأمر، وبدأ الاثنان بالإغارة على بعض أراضي النصارى المجاورة لأحواز مرسية، فأصابا غنائم من الماشية والأسرى، وأخذ جمع ابن هود يكثر شيئاً فشيئاً، وتتوطد مكانته في تلك النواحي، وكانت أرومته الملوكية تسبغ عليه مهابة وتجذب إليه الأنصار. ولما كثر جمعه، نهض في رجاله إلى موضع يعرف " بالصخيرات " أو بالصخور، وهو حصن صغير يقع على نهر شقورة على مقربة من مرسية، وهنالك بايعه أنصاره بالإمارة (3)، فذاع أمره، وسارع كثيرون من الفرسان والجند بالانضمام إليه، وكانت أحوال
(1) تراجع تفاصيل هذه الحوادث في ص 360 و 361 من القسم الأول من هذا الكتاب.
(2)
الروض المعطار ص 118.
(3)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 256 - 257، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 278 و 279، والروض المعطار ص 118.
الموحدين، وما نشب بينهم من خلاف، وما وقع من قتل خلفائهم بمراكش، وما ويبشر به ذلك كله من ذهاب أمرهم، وانهيار دولتهم، مما يذكى حماسة الجموع، ويبعث إليها روح الأمل والاستبشار.
وكانت ولاية مرسية، مذ غادرها السيد أبو محمد عبد الله بن يعقوب المنصور أو العادل، على أثر مبايعته بالخلافة، قد أسندت إلى ابن عمه السيد أبي العباس ابن أبي عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن. وكان من الواضح أن أولئك السادة الولاة، كانوا ينظرون إلى الموقف في خشية وتوجس، وأن الحاميات الضئيلة التي تركت لهم، كانت قد خبت قواها المعنوية، ومن ثم فإن ابن هود حينما شعر بقوة جمعه، لم يحجم عن الزحف على مرسية. فخرج إليه السيد أبو العباس بعساكر مرسية، فهزمه ابن هود واعتقله، وذلك في رجب سنة 625 هـ (يونيه سنة 1228 م). وعلى أثر ذلك خرج إليه السيد أبو زيد والي بلنسية في قواته، فهزمه ابن هود أيضاً، واستولى على محلته، ولكنه لم يحاول دخول بلنسية. ثم عاد إلى مرسية، ودخلها وهو يرفع راية سوداء عباسية، وذلك بتفاهم مع قاضيها أبي الحسن علي بن محمد القسطلى، وهو قتيله فيما بعد، وقبض على واليها السيد أبي العباس (1). وبويع ابن هود بمرسية غرة رمضان سنة 625 هـ (4 أغسطس 1228 م)(2) وتسمى بأمير المسلمين، ومعز الدين، ودعا للخليفة العباسي المستنصر بالله، وكتب إليه ببغداد، فبعث إليه بالخلع والمراسيم، وسماه مجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكل على الله، وهكذا كانت علامة ابن هود " توكلت على الله الواحد القهار ".
وكانت فكرة ابن هود في الانضواء تحت راية الخلافة العباسية، هو أن يتشح بثوب من الشرعية في انتحال الولاية، وفي محاربة الموحدين، وهو قد أعلن أنه سوف يعمل على تحرير الأندلس من نير الموحدين، ومن عدوان النصارى معا، وسوف يعمل على إحياء الشريعة وسننها، بعدما درست في ظل الموحدين،
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 249. ويستفاد من رواية صاحب الروض المعطار أن ابن هود لم يشتبك في معركة مع والي مرسية، السيد أبي العباس، ولكنه دخلها بحيلة رتبها القاضي المذكور، وإيهامه للوالى، أن ابن هود سوف ينضوى تحت لوائه ويخدمه برجاله، فلما دخل عليه ابن هود غدر به وقبض عليه (الروض المعطار ص 119).
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 169، وروض القرطاس ص 182.
وسرعان ما قوي أمره، وذاع ذكره، وأطاعته من قواعد الشرق شاطبة، وجزيرة شقر وما والاهما، وأعلنت بطاعته عدة من قواعد الأندلس الوسطى والجنوبية، مثل جيان وقرطبة، حيث قتل أهلها واليها الموحدي السيد أبا الربيع، وأخرجوا منها الموحدين، وكذلك أطاعته غرناطة ومالقة وألمرية.
ولما ذاع أمر ابن هود، ووقف السيد أبو العُلى بإشبيلية - وكان يومئذ قد غدا الخليفة المأمون - على ما حدث في الشرق. من هزيمة الموحدين، وضياع مرسية، ووصله صريخ السيد أبي زيد، أهمه ذلك، وكان على وشك العبور إلى العدوة، فآثر أن يبادر إلى الشرق لحسم الأمر قبل استفحاله، فغادر إشبيلية، وسار في بعض قواته صوب مرسية. وهنا تختلف الرواية حول ما حدث بينه وبين ابن هود، فهناك قول بأنه اشتبك مع ابن هود على مقربة من مرسية في معركة ْهزم فيها ابن هود، وارتد إلى مرسية فامتنع بها، وذلك في أواخر سنة 625 هـ، وعاد المأمون ظافراً إلى إشبيلية، فامتدحه الشعراء وأجزل لهم العطاء (1). ويزيد ابن الخطيب هذه الرواية تفصيلا فيقول، إن المأمون تحرك في جيش إشبيلية باستدعاء أخيه السيد أبي زيد والي بلنسية (2)، فتحرك المأمون إليه، واحتل غرناطة في رمضان من عام خمسة وعشرين وستمائة، وأنفذ منها كتابه إليه يشجعه، ويعلمه بنفوذه إليه، وانضم إليه جيش غرناطة وما والاها، ثم سار نحو الشرق، فبرز ابن هود إلى لقائه، فكان اللقاء بخارج لورَقة، فانهزم ابن هود، وفر إلى مرسية وعساكر الموحدين في عقبه (3). وفي رواية أخرى أنه لم يقع قتال، ولكن المأمون حاصر مرسية، حينا فامتنعت عليه فكرّ راجعاً إلى إشبيلية، وذلك في أوائل سنة 626 هـ (1229 م)(4).
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 258، ويورد لنا ابن عذارى عدة من القصائد التي ألقيت بهذه المناسبة، وكذلك ابن خلدون ج 4 ص 168.
(2)
الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 420. وقد وهم ابن الخطيب هنا في وصف السيد أبي زيد والي بلنسية بأنه أخ للمأمون والحقيقة أن السيد أبا زيد وهو عبد الرحمن بن محمد بن يوسف ابن عبد المؤمن - إنما هو ابن عم المأمون (وهو إدريس بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن) لا أخوه. وابن الخطيب يصرح نفسه في ترجمته للسيد أبي زيد الواردة في الإحاطة أيضاً (مخطوط الإسكوريال 674 أالغزيرى لوحة 138 أ) فيذكر نسبته الحقيقية، وهي كما تقدم، عبد الرحمن بن محمد بن يوسف ابن عبد المؤمن. وذكر المقري من جهة أخرى أن السيد أبا زيد هو عبد الرحمن بن السيد أبي عبد الله محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن. (نفح الطيب ج 2 ص 577).
(3)
الإحاطة (1956) ج 1 ص 420.
(4)
الروض المعطار ص 120.
وما كاد أبو العُلى المأمون، يغادر إشبيلية ليعبر البحر إلى العدوة، حتى اجتمع أهل إشبيلية وذلك في اليوم الثاني من عيد الأضحى سنة 626 هـ، وأعلنوا خلع طاعة الدولة الموحدية، والاعتراف بطاعة ابن هود في ظل الخلافة العباسية، وكتب عنهم أبو بكر بن البناء إلى المتوكل ابن هود كتابا بهذا المعنى، فأوفد إليهم ابن هود في الحال أخاه أبا النجاء سالم الملقب عضد الدولة ليكون واليا عليهم. وحذت ماردة وبطليوس حذو إشبيلية، في الإعلان بطاعة ابن هود. وهكذا اتسع نطاق الدعوة الهودية وشملت أواسط الأندلس وغربيها، وأخذت الأندلس كلها، تتطلع إلى لواء هذا الزعيم الأندلسي الجديد، ترجو أن يكون حاميها وقائدها، وجامع كلمتها، وموحد صفوفها.
- 2 -
وفي نفس الوقت الذي قامت فيه ثورة ابن هود بمرسية، كانت ثمة ثورة أخرى تضطرم في بلنسية، وتجرى فيها أحداث مماثلة. وذلك أن بلنسية كان يحكمها منذ سنة 620 هـ، واليها السيد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، وهو أخو السيد أبو محمد عبد الله البياسى، الذي أتينا على أخباره فيما تقدم. ولما قام ابن هود بمرسية، خرج السيد أبو زيد بقواته لمحاربته، ولكن ابن هود تغلب عليه فارتد منهزماً إلى بلنسية. وسرعان ما ظهر صدى هذه التطورات في بلنسية ذاتها. وذلك أن أهل بلنسية، حينما رأوا تطور الحوادث في مرسية، وهزيمة القوات الموحدية في منطقة الشرق، سرت إليهم روح الانتقاض والثورة، وقديماً كانت بلنسية حصن الثورة ضد الموحدين. وقد لبثت مملكة الشرق أيام الأمير محمد بن سعد بن مردنيش، زهاء ربع قرن تتحدى الدولة الموحدية، وهي في إبان قوتها. والآن فإنا نعود فنشهد صفحة جديدة من ثورة بلنسية، ضد الموحدين، وإن كانت هذه المرة تضطرم في ظروف عصيبة، تواجه فيها بلنسية وقواعد الشرق خطر العدوان الداهم، من جانب عدوها الخالد اسبانيا النصرانية. وكان زعيم الثورة في هذه المرة، أيضاً ينتمى إلى زعمائها السابقين من آل مردنيش. وهو أبو جميل زيّان بن أبي الحملات مدافع بن يوسف بن سعد ابن مردنيش الجذامى، وجده أبو الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش هو كما نذكر، أخو أمير الشرق محمد بن سعد بن مردنيش. وكان الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، حينما استسلم إليه آل مردنيش، عقب وفاة عميدهم
الأمير محمد بن سعد في سنة 567 هـ (1171 م)، واستولى على مرسية وبقية مملكة الشرق، قد شملهم برعايته، وأسند إليهم جليل المناصب، فقدّم الأمير أبا الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش، أخا الأمير محمد المتوفى، على بلنسية وجهاتها، كما كان أيام أخيه، واستمر أبو الحجاج يوسف، وكان يعرف بالرئيس، والياً لبلنسية حتى توفي في سنة 582 هـ، فخلفه في ولايتها السيد أبو عبد الله محمد حفيد الخليفة عبد المؤمن، ثم خلفه بعد وفاته ولده السيد أبو زيد. وترك الرثيس أبو الحجاج يوسف عدة من الأولاد، منهم أبو الحملات مدافع، وأبو الظفر غالب، وأبو الحارث سبع، وأبو سلطان عزيز، وأبو ساكن عامر، وأبو محمد طلحة، وقد تولوا جميعاً في ظل حكومة الموحدين، مناصب هامة في مختلف قواعد الشرق، من قيادة وولاية، واشتهروا في أواخر أيام الدولة الموحدية بالأندلس، وكانوا مثل أبيهم يعرفون بالرؤساء. فلما اضطربت الأحوال وسرت الفتنة إلى مختلف النواحي، عقب وفاة الخليفة يوسف المستنصر، خاضوا الفتنة مع الخائضين، وكان عميدهم يومئذ الرئيس أبو جميل زيان بن أبي الحملات مدافع بن الرئيس يوسف أبي الحجاج، وكان أبوه مدافع، قد استشهد شابا في حياة أخيه أبي سلطان عزيز والي جزيرة شقر، وكان إلى جانبه ببلنسية وأحوازها، عشرة من رؤساء بيته من الإخوة أو أبناء العمومة. وكان أبو جميل زيان وقتئذ وزير السيد أبي زيد والي بلنسية، وكبير بطانته ومدبر أمره (1)، وفي رواية أخرى أنه كان قائد الأعنة المتولى أمر الدفاع عن بلنسية (2). فلما ارتد السيد أبو زيد منهزماً أمام ابن هود كما تقدم، اضطرمت الثورة في بلنسية، والتف البلنسيون حول عميد بيت إماراتهم القديم، أبي جميل زيّان، ونادوا برياسته، فوقعت الوحشة بينه وبين السيد أبي زيد، فغادر بلنسية إلى حصن أُندة القريب وامتنع به، واشتد الهياج وتفاقم الأمر في المدينة، فخشى السيد سوء العاقبة، وغادر بلنسية بدوره في أهله وولده وأمواله، وذلك في أوائل شهر صفر سنة 626 هـ، واعتصم ببعض الحصون القريبة. وعندئذ بادر الرئيس أبو جميل زيان بالقدوم إلى بلنسية من مقره بحصن أندة، فدخلها في اليوم السادس والعشرين من شهر صفر سنة 626 هـ (يناير 1229 م) ونزل بالقصر، وعقد البيعة لنفسه، وذلك
(1) ابن خلدون ج 4 ص 167.
(2)
المقري في نفح الطيب ج 2 ص 578.
في أول شهر ربيع الأول، ودعا للخليفة المستنصر العباسي، وفي الحال دخلت في طاعته دانية وجنجالة، وعدة من الحصون، وذاع أمره واشتد ساعده. ولكن خرج عليه أبو سلطان عزيز بن يوسف والي جزيرة شقر، ودعا لابن هود، وكذلك فعلت شاطبة وواليها أحد أبناء عمومة زيان، واضطرمت الفتنة بين زيان وابن هود وزحف ابن هود على بلنسية، فخرج زيان للقائه، فكانت عليه الهزيمة، وتبعه ابن هود إلى بلنسية فامتنعت عليه، وشغل ابن هود عندئد، بحوادث ومشاريع أخرى (1). وهكذا عمت الثورة أو الفتنة، شرقي الأندلس، وسرى الاضطراب إلى سائر أنحائه، وفي ذلك يقول شاعر معاصر من أبنائه، هو أبو عبد الله محمد ابن إدريس بن علي المعروف بمرج الكحل:
ولاسيما في فتنة مدلهمة
…
فلا أحد فيها أخاه يشمت
وكان قضا صمتنا عنه واجب
…
وسلم الأحداث من كان يصمت
ولم يكن يخفى على ذوى النظر البعيد، ما يترتب على تلك الفتنة من عواقب خطيرة، وكان بعضهم يسعى إلى تداركها بجمع الكلمة. وقد وقفنا في ذلك على رسالة، وجهها العلامة الفقيه أبو بكر عزيز بن خطاب، عميد علماء مرسية والمنتزى فيها فيما بعد، إلى الخطيب أبي عبد الله بن قاسم ببلنسية، يشير عليه فيها، أن يحض الرئيس أبا جميل زيان على الدخول في طاعة " أمير المسلمين " ابن هود وذلك قبل أن يتحرك ابن هود لمحاربة زيان في بلنسية. وفيها ينوه بوجوب اتحاد المدن المختلفة التي تدين بدين واحد لمقاومة أعداء الدين، وأن القوة في الاتحاد وهو ما يحض عليه الله والرسول. وأنه يجب على علماء الدين أن يسعوا في ذلك يالنصح، وأن مآل الخلاف انقطاع الرياسة، واستيلاء عدو الدين على البلاد، ثم يطلب إليه أن يهيب بالأمير أبي جميل أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون، فذلك مما يكسبه محبة أهل الأندلس، ومحبة المسلمين (2).
وأما السيد أبو زيد، فقد لبث مذ غادر بلنسية، وامتنع بأهله وأمواله، في
(1) راجع تفاصيل هذه الحوادث في أعمال الأعلام لابن الخطيب ص 172، والبيان المغرب ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167، وكذلك: M. Gaspar Remiro: Historia de Murcia
Musulmana (Zaragoza 1905) p. 275 & 276
(2)
وردت هذه الرسالة في كتاب " زواهر الفكر وجواهر الفكر " لمحمد بن علي بن عبد الرحمن المكنى بابن المرابط، وهو مخطوط الإسكوريال، رقم 518 الغزيرى (ديرنبور رقم 520).
بعض الحصون القريبة، حيناً يرقب سير الحوادث، فلما رأى تطور الموقف على هذا النحو، ورأى سلطان الموحدين ينهار في سائر النواحي، وأن الظروف كلها تدعو إلى اليأس، لم يجد أمامه سبيلا إلا أن يلتجىء إلى النصارى. فغادر مقره في أهله وولده، وقصد إلى ملك أراجون خايمى الأول، مستجيراً به وملتجئاً إلى حمايته. وكان بصحبة السيد أبي زيد كاتبه، وكاتب أبيه من قبل، الفقيه الكاتب الشاعر والمؤرخ المبدع، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعى الشهير بابن الأبار، وقد وصف لنا ابن الأبار موقفه يومئذ، في بيتين من الشعر، بعث بهما إلى بعض أصحابه على أثر مغادرته لبلنسية وهما:
الحمد لله لا أهل ولا ولد
…
ولا قرار ولا صبر ولا جلد
كان الزمان لنا سلما إلى أمد
…
فعاد حربا لنا لما انقضى الأمد (1).
ويضع ابن الخطيب تاريخ مغادرة السيد أبي زيد بلنسية، ولحاقه بالنصارى في السادس والعشرين من صفر سنة 626 هـ، أعني في نفس اليوم الذي دخل فيه الرئيس أبو جميل زيان بلنسية (2). ولكنا ذكرنا فيما تقدم اعتماداً على ابن الخطيب نفسه أن السيد أبا زيد غادر بلنسية قبل ذلك بمدة وجيزة، والتجأ إلى بعض حصونها القريبة. وتكتفى الرواية الإسلامية بأن تذكر لنا أن السيد أبا زيد لحق بالنصارى، ودخل في دينهم (3). ولكن لهذا السيد الموحدي، قصة مفصلة متعددة النواحي، تقدم إلينا تفاصيلها، الرواية والوثائق النصرانية المعاصرة، ويجدر بنا أن نلخصها هنا. سار السيد أبو زيد وصحبه إلى قلعة أيوب، حيث كان خايمى الأول، ملك أراجون (4) يعقد بلاطه يومئذ. وفي اليوم العشرين من شهر أبريل سنة 1229 م
(1) وقفنا على هذين البيتين في مخطوط الإسكوريال " زواهر الفكر، وجواهر الفكر " السابق ذكره لوحة 87 أ. وراجع في مصاحبة ابن الأبار لمخدومه، أزهار الرياض (المطبوع) ج 3 ص 205.
(2)
الإحاطة في مخطوط الإسكوريال (674 أالغزيرى) لوحة 138 أ.
(3)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167 و 168، وابن الخطيب في الإحاطة في مخطوط الإسكوريال المشار إليه.
(4)
تسمى الرواية الإسلامية Jaime خايمى: " جاقمة ملك أرغون "(الروض المعطار ص 48)، وأعمال الأعلام ص 273) وتسميه أحياناً دون جايمش (أعمال الأعلام ص 337). وخايمي هو الرسم الإسباني ليعقوب.
الموافق الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 626 هـ، اجتمع السيد أبو زيد وولده أبو محمد مع ملك أراجون وولده ألفونسو، وكان يومئذ يقوم بأهبته لافتتاح ميورقة، وعقدت بين الفريقين معاهدة، نص فيها على أن يعطى السيد أبو زيد من سائر الأراضي والأماكن والحصون التي يغنمها سواء بالقوة أو الرضى، مقدار الربع إلى الملك خايمى، وعلى أن يحتفظ الملك خايمى لنفسه بكل ما يقوم هو بافتتاحه، أو ما يقع تسليمه إليه، وأن يقدم السيد كفالة بتنفيذ هذا ْالاتفاق، حصون بنشكلة، ومرلّة، وقله، وألبونت، وشارقه، وشبرب (1) بصفة رهينة، وأن يقوم الملك خايمى تأكيداً لعهوده، بحماية السيد والدفاع عنه وعن ولده ضد أعدائه، بتسليم حصنى الديموس، وقشتيل الحبيب (2) اللذين افتتحهما أبوه الملك بيدرو.
وكان من الواضح أن السيد أبا زيد، حينما عقد هذا الاتفاق مع ملك أراجون، كانت له أسوة بما فعله من قبل أخوه السيد عبد الله البياسى، حينما انضوى تحت لواء فرناندو الثالث ملك قشتالة، وتعهد بتسليم الحصون والأراضي الإسلامية، بل وبما فعله ابن عمه الخليفة المأمون نفسه، من تعهده لملك قشتالة بتسليمه الحصون التي يرغبها في الأراضي الإسلامية، وغير ذلك مما قطعه على نفسه من العهود، إزاء قيام هذا الملك النصراني بمعاونته على انتزاع العرش من خصمه.
وتنفيذاً لهذا الاتفاق خرج السيد أبو زيد، ومعه الفارس بيدرو دي أساجرا صاحب شنتمرية الشرق، وبلاسكو دي ألاجون، وهو زعيم أرجونى كان قبل عامين قد لجأ إلى بلنسية وخدم الموحدين، ثم عاد إلى أراجون وعفا عنه الملك، في قوات طرويل وبعض الفرسان الأرجونيين، واخترقت الحملة الأراضي التي كان ما يزال السيد أبو زيد يتمتع فيها بشىء من التأييد. وبالرغم من أن السيد استطاع فيما بعد أن يبسط سلطانه على بعض النواحي والضياع القريبة من بلنسية، فإنه أدرك في النهاية أنه لن يستطيع تنفيذ العهود التي قطعها على نفسه لملك أراجون، ومن ثم فإنه عاد في يناير سنة 1232، وتنازل للملك خايمى عن سائر الحقوق الإقليمية التي احتفظ بها لنفسه بمقتضى المعاهدة، وذلك سواء في مدينة بلنسية
(1) وهي بالإسبانية على التوالى Segorbe، Jerica، Alpuente، Culla، Morella، Penoscola
(2)
وهما بالإسبانية Castielfabit، Ademuz
ذاتها، أو في أراضيها، واستبقى لنفسه ولأهله ما سوى ذلك من الحقوق (1).
وفي خلال ذلك سقط السيد أبو زيد سقطته المؤسية. ذلك أنه لم يكتف بهذا الانضواء المطلق تحت نير الملك النصراني، ولكنه هوى إلى الدرك الأسفل، فاعتنق دين النصرانية، وهو سليل بني عبد المؤمن أئمة التوحيد وأقطابه، ونبذ اسمه المسلم، واختار اسما نصرانياً هو بثنتى Vicente أو بالعربية " بجنت " وتزوج فيما بعد من سيدة نصرانية من أهل سرقسطة، وكان يسمى في الوثائق النصرانية " بثنتى "، ملك بلنسية وحفيد أمير المؤمنين "، ولم تقدم إلينا الرواية النصرانية تاريخ تنصر السيد أبي زيد، ولكنها تقدم إلينا ما يفيد أنه كان يضمر هذه النية منذ عهد بعيد، أعني منذ أيام أن كان في بلنسية والياً عليها، وتقول لنا إن السيد طرد من بلنسية، لما علم من أنه يبعث رسله السريين إلى البابا وإلى ملك أراجون، يعرض اعتناقه للنصرانية، ولما كان يبدو من إمارات استحسانه لهذا الدين (2).
وتجمع الرواية الإسلامية على صحة ارتداد هذا السيد الموحدي عن دين الإسلام، وتعرب عن أسفها وسخطها لانحداره إلى هذا الدرك المؤسى (3). ومن جهة أخرى فإنه مما لا شك فيه أن كاتبه ابن الأبار، الذي صحبه في رحلته إلى بلاط ملك أراجون، قد تركه لمصيره غير بعيد، لما رأى من استسلامه للنصارى، ونيته في اعتناق دينهم، وعاد إلى بلنسية، والتحق بخدمة أميرها الجديد أبو جميل زيان (4). وسوف يكون ابن الأبار منذ الآن من أبرز شهود المأساة التي اقترنت بمصير بلنسية، وسوف يأخذ قلمه في تدوين محنتها بأوفى نصيب.
- 3 -
في تلك الآونة التي أخذت فيها نيران الفتنة، تندلع إلى ربوع الأندلس، ويسرى دبيب التفكك إلى هيكلها المتداعى، كانت اسبانيا النصرانية تتطلع في ثقة وأمل إلى اجتناء التراث المنهار، وانتزاع الأشلاء المتساقطة، وكان كل شىء يمهد إلى تحقيق هذا الأمل، فإن حركة الاسترداد Reconquista، لم تحظ
(1) Andres Piles Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) . p. 622، 625 626 & 629
(2)
A. P. Ibars: ibid ; p. 617، 618 & 622، cit. Zurita، Nota
(3)
يراجع بالأخص ابن عذارى في البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167، و 168.
(4)
أزهار الرياض ج 3 ص 205.
من قبل قط، بما كانت تحظى به يومئذ من سهولة الانقضاض، وانهيار الجبهة الدفاعية الخصيمة، بانهيار القوي العسكرية الموحدية في شبه الجزيرة، وانشغال البلاط الموحدي بالمغرب، بخلافاته وحروبه الأهلية. وكانت قوي الأندلس ومواردها الخاصة، قد تضاءلت تحت ضغط الحكم الموحدي المرهق، واستئثار الموحدين بشئون الدفاع، ثم أخذت على ضعفها وضآلتها، تنتثر هنا وهنالك، وبين أولئك المتغلبين، أولئك " الطوائف " الجدد، وكان ملوك اسبانيا الثلاثة، خايمى الأول ملك أراجون، وفرناندو الثالث ملك قشتالة، وألفونسو التاسع ملك ليون، يسيطر كل منهم، على مصاير منطقة من شبه الجزيرة، فملك أراجون يسيطر على مصايرها من ناحية الشرق، وملك قشتالة يسيطر على مصايرها من ناحية الوسط، وملك ليون يسيطر على مصايرها من ناحية الغرب، وكل منهم يرقب الفرص المواتية للانقضاض على الفريسة، على تلك الأندلس، التي مزقتها الفتنة، وفقدت وسائل الدفاع الحقيقية، وأضحت معظم قواعدها تحت رحمة العدو القوي المتحفز.
ووقعت الضربات الأولى في الغرب، من جانب ملك ليون، وهو أقل الملوك الثلاثة شأناً، ثم تلتها في الحال ضربات قشتالة وأراجون القوية، ووجهت قشتالة اهتمامها إلى القواعد الأندلسية الوسطى، واتجهت أراجون أولا إلى افتتاح الجزائر الشرقية، لكي تتفرغ بعد ذلك إلى انتزاع القواعد الشرقية، وفي مقدمتها ثغر بلنسية العظيم.
وكان ملك ليون، ألفونسو التاسع (وهو والد فرناندو الثالث)، منذ استولى على مدينة قاصرش المنيعة في سنة 622 هـ (1227 م) حسبما تقدم ذكره، يرقب الفرصة لإنزال ضربته التالية، في منطقة الغرب الأندلسية. وكانت ماردة، وبطليوس، وهما جنوبي قاصرش هما أقرب القواعد الأندلسية العظيمة إلى حدود ليون. فلما عمت الفتنة أرجاء الأندلس، ولاح لملك ليون، أن منطقة الغرب أضحت دون مدافع، وأن قيام ابن هود في شرقي الأندلس، لا يمكن أن يحول دون مشاريعه، خرج من ليون في قواته، وذلك في أواخر سنة 1229 م (أوائل سنة 627 هـ)، وسار جنوبا في اتجاه نهر وادي يانه، واستولى أولا على حصن منتانجش (1). الواقع على مقربة من شمال ماردة، ثم سار إلى ماردة،
(1) وهو بالإسبانية Montanchez.
وهي تقع شرقي بطليوس، على ضفة نهر وادي يانه، وضرب حولها الحصار. ووقف ابن هود على حركة ملك ليون، فحشد ما استطاع من قواته، وسار نحو الغرب لإنقاذ المدينة المحصورة، وكانت من القواعد التي دخلت في طاعته، فلما وصل على مقربة من ماردة، ترك ألفونسو التاسع الحصار، وتقدم للقاء جيش ابن هود، ونشبت بين الفريقين عند حصن الحنش (1) معركة عنيفة، هزم فيها ابن هود، وارتد في قواته دون نظام، وفي الحال، احتل الليونيون مدينة ماردة، ثم احتلوا بعد ذلك بقليل، مدينة بطليوس العظيمة، وذلك في مايو سنة 1230 م (أواسط سنة 627 هـ). وينحى ابن عذارى بهذه المناسبة باللائمة على ابن هود، لأنه انهزم بساقته في بداية الموقعة، فولى الناس منهزمين من أجل ذلك. ويقول لنا إنه كان بطبعه ملولا عجولا، وكانت هذه الغزوة أول غزواته وأضخمها (2).
وعرج ابن هود في مسيره بعد هزيمته على إشبيلية. وكان مما حدث عند حلوله بها، أن ثارت العامة بعبد الله بن وزير حاكم ثغر القصر السابق، وكان قد لجأ إليها، وقبضت عليه، فأمر ابن هود بإعدامه هو وأخوه عبد الرحمن ابن وزير، ويقول لنا ابن الأبار إن ما حدث من العامة نحو الأخوين قد وقع بتحريض ابن هود نفسه (3).
وفي هذا الوقت نفسه، كان فرناندو الثالث، ملك قشتالة يحاول أن يقوم بضرباته في الأندلس الوسطى. وكان فرناندو يرقب الدعوة الهودية، واتساع نطاق سلطان ابن هود، وتوالى طاعة القواعد الأندلسية له، بمنتهى الاهتمام والتوجس. وكان يخشى أن تجتمع كلمة الأندلس كلها حول هذا الزعيم الجديد، وأن تغدو مرة أخرى، كتلة قوية متماسكة يصعب تحطيمها. وكان يرى وجوب المبادرة إلى العمل، قبل أن يصبح ابن هود وهو في نظره زعيم الأندلس الحقيقي، قوة لا تقهر، ومن ثم فإنا نراه في أوائل سنة 1230 م (أوائل سنة 627 هـ) يخرج في قواته من قشتالة متجهاً نحو أندوجر، ثم يعبر نهر الوادي الكبير، وهو أينما
(1) وهو بالإسبانية Alanje
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 169، والمقري في نفح الطيب ج 2 ص 582.
(3)
الحلة السيراء ص 242.
حل ينسف الزروع، ويخرب القرى، ويسبى الذرية، واستمر في سيره نحو الجنوب حتى فحص غرناطة، ثم عاد إلى الشمال ثانية. والظاهر أن هذه الغارة الأولى كانت عملا استكشافياً، لمعرفة ما قد يلقى الغزاة من مقاومة. ولما اخترق ابن هود عندئذ بقواته تلك المنطقة في طريقه إلى الغرب، ظن القشتاليون أنه قدم لمحاربتهم، ولكن ابن هود كان يقصد إلى إنجاد ماردة، وألفى ملك قشتالة نفسه حراًّ في خططه وتحركاته، وعندئذ اتجه فرناندو الثالث بقواته صوب مدينة جيّان الحصينة، وهي أكبر قواعد تلك المنطقة، وضرب حولها الحصار، وذلك في أواخر يونيه سنة 1230 م، وقذفها بالمجانيق بشدة، وحاول القشتاليون، اقتحامها بكل الوسائل، ولكن المدينة لبثت صامدة كالصخرة، أولا لمنعتها الفائقة، وثانياً لوفرة المدافعين عنها، وبعد حصار دام ثلاثة أشهر اضطر فرناندو أن يترك جيّان، وأن يعود أدراجه. وما كاد يصل إلى قشتالة حتى علم بوفاة أبيه ألفونسو التاسع ملك ليون، عقب عودته من افتتاح ماردة وبطليوس، فاتجه مسرعاً إلى ليون ليجلس على عرشها مكان أبيه، وبذا اتحدت قشتالة، وليون مرة أخرى (1).
وهكذا نجت القاعدة الإسلامية - جيان - من السقوط إلى حين. ولكن ملك قشتالة، عاد فبعث في العام التالي حملة غازية إلى الأندلس، بقيادة أخيه الإنفانت ألفونسو، فسارت من أندوجر، وعاثت في أنحاء قرطبة، واستمرت في سيرها غرباً حتى أحواز إشبيلية، ثم ارتدت بعد ذلك إلى شريش، وهي تعيث أينما حلت قتلا وتخريباً. وهنا تحرك ابن هود مرة أخرى ليرد الغزاة، فسار في قوات كثيفة، والتقى بالقشتاليين في فحص شريش، ولكنه هزم مرة أخرى، بالرغم من تفوقه في العدد، وذلك في أواخر سنة 630 هـ (1233 م). والظاهر أن القشتاليين كانوا يقصدون بهذه الغزوة، أن يقطعوا صلة ابن هود بالثغور الجنوبية. وكان ابن هود قد افتتح الجزيرة الخضراء في سنة 629 هـ، ثم افتتح جبل طارق، وفي نفس هذا العام دخلت سبتة في طاعته حسبما قدمنا، ولكن ابن هود لبث بالرغم من هزيمته، محتفظاً بسلطانه في القواعد والثغور الجنوبية. وما كاد فرناندو الثالث ينتهي من تنظيم الشئون الداخلية التي ترتبت على وفاة أبيه حتى تأهب لاستئناف الغزو. وكان بعد أن أخفق في الاستيلاء على جيان،
(1) J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia p. 62 & 68
يعتزم افتتاح مدينة أبّدة، وكانت أيضاً من أمنع مدن هذه المنطقة وأوفرها سكانا وأقواها حامية، ولكن فرناندو صمم على أن يمضى في حصارها حتى ترغم على التسليم. واستمر حصار أبدة من يناير حتى يوليه سنة 1233 م (أواخر سنة 630 هـ) فلما عدمت الأقوات ولم ترد أية نجدة من أي جهة، اضطرت أبّدة إلى التسليم بالأمان، على أن يؤمن سكانها في أنفسهم، وأن يسمح لهم بأن ينقلوا من أموالهم ما يستطيعون حمله معهم، وأن تضمن سلامتهم حتى يصلوا إلى الأراضي الإسلامية (1). وفي نفس هذا العام 630 هـ، عقدت الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة، نظير ألف دينار يؤديها إليه ابن هود في كل يوم (2). وكان ابن هود، قد تكاثر عليه الخصوم، بقيام منافسه ابن الأحمر في قطاع جيان، وخروج بعض المدن، ولاسيما إشبيلية عن طاعته وذلك حسبما نفصل في موضعه، فرأى أن يتفرغ لمحاربتهم بعقد الهدنة مع النصارى.
- 4 -
بينما كان ملك قشتالة ينزل ضرباته المتوالية بالأندلس الوسطى، كان ملك أراجون خايمى الأول، يقوم بأول غزواته الكبرى في الناحية الشرقية لشبه الجزيرة، ونعنى غزو الجزائر الشرقية.
كانت الجزائر الشرقية أو جزر البليار، وهي ميورقة ومنورقة ويابسة، وعدة جزائر صغيرة أخرى، منذ افتتحها الموحدون من أيدي بني غانية في سنة 600 هـ، يتعاقب في حكمها الولاة الموحدون، وكانت تتبع ولاية بلنسية من الناحية الإدارية. ولما اضطرمت الأندلس بالثورة على الموحدين، كان على الجزائر واليها أبو يحيى ابن يحيى بن أبي عمران التينمللى. وكان رابع الولاة الموحدين، مذ قام الموحدون بافتتاحها من أيدي بني غانية في سنة 600 هـ (1203 م)، ووليها منذ سنة 606 هـ. وفي رواية أخرى هي رواية ابن عميرة المخزومي، في كتابه " تاريخ ميورقة "، أن أمير الجزائر كان عندئذ هو محمد بن علي بن موسى، وأنه هو الذي وليها في سنة 606 هـ (3) ولكننا نرجح الرواية الأولى، لأن الرواية النصرانية المعاصرة
(1) البيان المغرب ص 288، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 29 y nota (64)
(2)
البيان المغرب ص 288، وروض القرطاس ص 183.
(3)
المقري في نفح الطيب ج 2 ص 584 نقلا عن تاريخ ميورقة للمخزومي، وهو كتاب لم يصل إلينا. ويقول لنا ابن الخطيب في ترجمته للمخزومى إنه ألف كتابا في "كائنة ميورقة " وتغلب الروم عليها. (الإحاطة 1956 - ج 1 ص 184).
ومنها تاريخ الملك خايمى نفسه، تردد اسم أبي يحيى كأمير للجزيرة (1). ويقص علينا المخزومي سبب غزو النصارى لميورقة، أو مقدمات هذا الغزو في قوله، إن والي ميورقة بعث طريدة بحرية ومعها سفينة حربية إلى جزيرة يابسة، لتأتى إليه، بالأخشاب التي يحتاج إليها، فعلم بأمرها والي طرطوشة النصراني، فبعث إليها قوة بحرية استولت عليها، فاستشاط الوالي لذلك غضباً، واعتزم أن يغزو مياه بلاد الروم. وفي أواخر سنة 623 هـ (أوائل يناير سنة 1225 م) ظهرت في مياه يابسة سفينة من برشلونة، وأخرى من طرطوشة، فبعث الوالي ولده في عدة قطع بحرية، فرسى في مياه يابسة، وألفى بها مركباً جنوية كبيرة فاستولى عليها، ثم استولى على المركب البرشلونية. فلما وقف الروم على ذلك، اضطرموا سخطاً، وأهابوا بملكهم أن يقوم بغزو الجزيرة، وعرضوا عليه أن يتطوعوا بأنفسهم، وأموالهم، فأخذ عليهم العهد بذلك، وحشد من أهل البلاد عشرين ألفاً، وجهز في البحر ستة عشر ألفاً آخرين، وكان ذلك في أوائل سنة 626 هـ (2).
هذا ما يقوله المخزومي عن مقدمات غزو ميورقة. ولكن هذه المقدمات ترجع في الواقع إلى أسباب أقدم وأبعد مدى. وقد كان أمراء قطلونية ومعهم جمهوريتا بيزة وجنوة يتوقون دائماً إلى افتتاح هذه الجزائر، ووضع حد لغزوات ولاتها المسلمين، في مياه الشواطىء النصرانية، وكان الكرسى الرسولى يشجع ويبارك كل مشروع لافتتاحها. وقد افتتحها النصارى بالفعل قبل ذلك بنحو قرن في سنة 508 هـ (1116 م) في أوائل العهد المرابطي، واستعادها المرابطون على أثر ذلك. ولما استقل بنو غانية بالجزائر وقوى أمرهم، كانت غزواتهم المتكررة، لشواطىء الدول النصرانية القريبة، تزعج هذه الدول، وتحملها على مهادنة أصحاب الجزائر، وعقد معاهدات السلم معهم. فلما افتتح الموحدون الجزائر من أيدي بني غانية، تجددت رغبة الدول النصرانية، في انتزاع هذه الجزائر من أيدي المسلمين، وكان أشدهم رغبة في ذلك مملكة أراجون، التي كانت ترى من حقها الطبيعي، أن تستولى على تلك الجزائر التي تواجه شواطئها، وذلك تأميناً لمواصلاتها وتجارتها، وكان بيدرو الثاني ملك أراجون قد فكر في افتتاح الجزائر بصفة جدية، ولكن لم يتح له تحقيق أمنيته. فكان على ولده الملك الفتى
(1) M. Lafuente: Historia General de Espana، T. IV. p. 77، Nota 2
(2)
نفح الطيب ج 2 ص 584.
خايمى الأول أن يحقق تلك الأمنية. وكان انهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة
واضطرام أنحاء الأندلس بالفتنة، وانتثار وحدتها وتفرق كلمتها مما يمهد لاسبانيا
النصرانية السبيل إلى تحقيق غايات الاسترداد La Reconquista بأيسر أمر، وانتزاع
أشلاء الأندلس المهيضة الممزقة، وكان على أراجون وهي تسيطر على شرقي شبه
الجزيرة، أن تجتنى تراث شرقي الأندلس، وكان الملك خايمي حينما وفد عليه
السيد أبو زيد الموحدي مطروداً من بلنسية في أوائل سنة 626 هـ، يستعد بالفعل
لافتتاح الجزائر، وكان قد استدعى الكورتيس القطلونية في برشلونة في شهر
ديسمبر سنة 1228 م، واقترح عليه أن يقوم بحملة عسكرية ضد ميورقة بغية
افتتاحها، وذلك لتأمين تجارة قطلونية في البحر المتوسط، فوافق الكورتيس
على هذا الاقتراح، ووافق على أن يقوم الملك بتحصيل ضريبة الماشية القرنية
للمعاونة في نفقات الحملة. وعرض أكابر الأحبار والرهبان، أن يشتركوا في
الحملة بأنفسهم وبمن يحشدونه من الفرسان والجند، كل وفق طاقته. وعرض
أكابر الأشراف القطلان، وفي مقدمتهم نونيو سانشيز كونت روسيون، وهوجو
دي أمبرياس، والأخان رامون وجلين دي مونكادا وغيرهم من الأكابر،
أن يشتركوا في الحملة، بحشود كبيرة من الفرسان والرماة والجند، فقبل الملك
هذه العروض، وتعهد من جانبه بأن يقدم مائتي فارس من أهل أراجون بخيلهم
وسلاحهم، كما تعهد بتقسيم الأراضي المفتوحة، والغنائم المكتسبة بالعدل،
والقسطاس، بين المشتركين في الحملة، كل وفق ما تكبده من النفقات، محتفظاً
لنفسه بالقصور والسيادة العليا على الحصون والقلاع. وأقسم الجميع على ذلك،
واتفقوا على الاجتماع في طرطوشة بعد اتمام العدة، في شهر أغسطس من
العام التالي (1).
وتم كل شىء وفق ما اتفق عليه. وفي اليوم الخامس من سبتمبر سنة 1229 م
(14 شوال سنة 626 هـ) خرج الأسطول الأرجونى يحمل قوات ضخمة من
ثغور سالو وطركونة وكامبريلس، وكان مؤلفاً من مائة وخمس وخمسين سفينة حربية
وعدد من القطع الخفيفة، التي يقودها بحارة مغامرون من الجنويين وغيرهم.
وبلغ عدد المقاتلين ألفاً وخمسمائة من الفرسان وخمسة عشر ألفاً من المشاة، هذا عدا
حشود من المتطوعين من أهل جنوة وبروفانس وغيرهم. ودفعت الرياح العنيفة
(1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 75
السفن إلى وجهة غير التي كانت تقصدها، ولكنها وصلت بعد جهد إلى خليج بالما، وهو الخليج الذي تقع عليه مدينة ميورقة عاصمة الجزيرة، وكان والي الجزيرة أبو يحيى بن أبي عمران، قد علم بأمر هذه الأهبة الضخمة التي اتخذها النصارى لفتح الجزيرة، فاستعد من جانبه للدفاع، واستطاع أته يحشد قوة مختارة من نحو ألف فارس، ومن فرسان الرعية والحضر ألفا أخرى، ومن الرجالة ثمانية عشر ألفاً، بيد أنه اكتشف فيما يبدو، مؤامرة لخلعه، فقبض على أربعة من أكابر الأعيان، وأمر بإعدامهم، وكان منهم اثنان هما ابنا أخت أبي حفص بن سيرى وهو من ذوى المكانة والوجاهة، فاجتمع الناس حوله، وأبدوا سخطهم وتوجسهم مما حدث به، وأمر الوالي بعد ذلك بالقبض على خمسين آخرين من الأشخاص البارزين، وكان ذلك في منتصف شهر شوال، وقد اضطرب الناس، وكثر الإرجاف، ولم يمض على ذلك يومان أو ثلاثة حتى أقبلت سفن النصارى وظهرت، فبادر أبو يحيى بالصفح عن خصومه، وتأهبت الحشود لدفع النصارى (1). ولكن السفن النصرانية استطاعت أن تدخل مياه الخليج ليلا، وبمنتهى السرعة، حتى أن القوات المسلمة التي أرسلت لردها، وهي مكونة من مائتي فارس وخمسة آلاف راجل لم تستطع شيئاً لمنعها.
وكان أول من نزل إلى البر قوة من سبعمائة من النصارى بقيادة برناردو دي ارخنتونا، تحصنت بإحدى التلال، وتبعتها فرقة من فرسان رامون دي مونكادا هاجمت المحلة الإسلامية المقابلة، ففرقتها، ثم نزل الفرسان القطلان وبعض طوائف الأرجونيين. وهنا وقعت أول معركة بين المسلمين والنصارى، وكان المسلمون قد استجمعوا سائر قواتهم المرابطة على الشاطىء وانقضوا على الأرجونيين، وحلفائهم بشدة، فهزموهم هزيمة شديدة، وقتل منهم عدد من الأشراف، والفرسان القطلان، وفي مقدمتهم جلين دي مونكادا، وأخوه رامون، وهرعت أمداد من النصارى لإنجاد المهزومين.
وعندئذ ضرب النصارى الحصار حول مدينة ميورقة، وأخذوا يضربونها بمختلف اللآلات بشدة، ورد المسلمون على ذلك، بأن دفعوا قوة منهم حاولت أن تقطع مورد المياه الذي يمد المحلة النصرانية من الجبل. فهاجمها النصارى وقتلوا عدداً منها، وألقوا ببعض رؤوسهم إلى داخل المدينة، على أن الدفاع عن المدينة،
(1) المقري في نفح الطيب نقلا عن المخزومي ج 2 ص 584.
لم يكن لسوء الطالع محكماً، وكان الخلاف يسود بين المدافعين. وكان كثير من الجند الساخطين يتسربون إلى المعسكر النصراني. وأخيراً استطاع النصارى أن يقتربوا من الأسوار، وأن يحطموا أربعة من الأبراج. ورأى الوالي أبو يحيى أن الوقت قد حان للمفاوضة في تسليم المدينة، فبعث إلى الملك خايمى على يد دون نونيو سانشيز، أحد أقطاب الحملة، يعاونه يهودى من سرقسطة يسمى باشول كان يعرف العربية، يعرض أن يدفع ثمناً لانسحاب ملك أراجون، وذلك بأن يؤدي إليه سائر نفقات الحملة، مذ خرجت من ثغر طركونة إلى يوم انسحابها، على أن لا تترك في الجزيرة حامية نصرانية، ولكنه لما علم أن ملك أراجون يصر كل الإصرار على أخذ المدينة، بعث إليه يعرض تسليم المدينة على أن يسمح له بالخروج إلى المغرب مع أهله وحشمه وأمواله، وأن يترك له السفن التي تحمله إلى شاطىء افريقية، وأن يبقى في الجزيرة من شاء من أهلها المسلمين. ولكن الملك خايمى رفض هذا العرض أيضاً، تحت ضغط الزعماء القطلان. لأنهم كانوا يريدون الانتقام لآل مونكادا، والاستيلاء على غنائم المدينة وثرواتها.
وعندئذ عول أبو يحيى على أن يدافع دفاع اليأس، وعول النصارى من جانبهم على مهاجمة المدينة واقتحامها. وفي يوم 30 ديسمبر سنة 1229 م، استعد الجيش النصراني للهجوم، واستمع الجند للقداس، وعند الفجر بدأوا الهجوم وأحدثوا ثلمة في السور، وانثالوا إلى المدينة في طوائف متعاقبة من ناحية باب الكحل، فلقيهم المسلمون في داخلها، واضطرم بين الفريقين في الميادين والشوارع قتال عنيف، وكان الوالي أبو يحيى على رأس جنده ممتطياً صهوة جواده الأبيض، وهو يحثهم على الثبات، ودخل الملك خايمى أمام جنده المدينة، وهو شاهر سيفه. ولم يمض سوى قليل حتى ظهر التفكك في صفوف المسلمين، وأخذوا يفرون من باب بورتبين، وباب برتوليت، وفي سائر النواحي، والنصارى في أثرهم يمعنون فيهم قتلا، وتقدر الرواية الإسلامية من قتل من المسلمين خلال هذه المعركة الدموية بأربعة وعشرين ألفاً (1). وفر منهم إلى الجبال نحو ثلاثين ألفاً، وأسر الوالي أبو يحيى وولده، واستولى النصارى على ميورقة في مناظر مروعة من السفك. وكان استيلاؤهم عليها في يوم الاثنين 31 ديسمبر سنة 1229،
(1) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 585.
وهو يوافق بالهجرية الثالث عشر من شهر صفر سنة 627 هـ (1).
وتتفق التواريخ النصرانية على روعة المذبحة التي وقعت عند دخول النصارى ميورقة، ويقدر بعضهم من هلك فيها من المسلمين بثلاثين ألفاً، والبعض الآخر بخمسين ألفاً. بيد أنه يبدو أن ذلك مبالغ فيه (2).
ودخل الملك خايمى الأول، قصر المُدَينة، وهو قصر الولاة المسلمين، وأتى بالوالى أبي يحيى، وأمر بتعذيبه، واستمر تحت العذاب خمسة وأربعين يوما حتى توفي. وأما ابنه وكان صبياً في الثالثة عشرة، فتقول لنا الرواية النصرانية إنه نُصر وسمى بدون خايمي (3).
على أن المعركة لم تكن قد انتهت بعد، فإن أبا حفص بن سيرى، وهو الزعيم الذي أشير إليه فيما تقدم، لما رأى هزيمة المسلمين، وسقوط المدينة في أيدي النصارى، خرج إلى الجبل، وتبعته طوائف كبيرة من الفارين، واجتمع له منهم عدة آلاف مقاتل، واعتزم المقاومة إلى النهاية، فم تمض سوى أيام قلائل حتى خرج إليه الملك خايمى في بعض قواته، ومعه فرسان من القطلان، واستمرت هذه القوة في مطاردة المسلمين، والاشتباك معهم في معارك متوالية، حتى قضت في النهاية على حشودهم، وقتل قائدهم ابن سيرى وذلك في اليوم العاشر من ربيع الآخر سنة 628 هـ (13 فبراير 1231 م) أي لأكثر من عام من سقوط المدينة، وتم كذلك استيلاء النصارى على ما تخلف من المعاقل والحصون وذلك في شهر رجب من نفس العام (4).
وهكذا فقد المسلمون جزيرة ميورقة الغنية الزاهرة كبرى الجزائر الشرقية، بعد أن حكموها أكثر من خمسة قرون، وكانا لافتتاحها وقع عميق في الأمم البحرية النصرانية، في غربي البحر المتوسط، واستقبل فيها بمنتهى الغبطة والرضى. بيد أنه لم يحدث كبير صدى في الأندلس، حيث كانت المعارك الأهلية الصغيرة
(1) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) الترجمة 400 و 631، وهو يجعل يوم الاثنين يوافق 14 صفر، وابن خلدون ج 4 ص 171، والروض المعطار ص 191، وكذلك؛ Campaner
y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamita en las Islas Baleares
(Palma 1888) . p. 179-186
(2)
Campaner y Fuertes: ibid ; p. 188
(3)
M. Lafuente:ibid ; T. IV. p. 79، Nota I
(4)
نفح الطيب ج 2 ص 585.
تستغرق كل اهتمام. وعاد الملك خايمى إلى أراجون مكللا بغار الظفر، بعد أن قضى في غزوته زهاء خمسة عشر شهرا، ولقب من ذلك التاريخ " بالفاتح ".
وعاد خايمى بعد ذلك إلى ميورقة أولا في أواخر سنة 1231 م، حينما نمى إليه أن أمير إفريقية الحفصى ينوى أن يبعث بحملة لاسترداد الجزيرة، وقام عندئذ بإخضاع عدد من المعاقل الجبلية، التي كانت ما زالت قائمة بالمقاومة، وعقد مع بعض الزعماء المسلمين الأقوياء في الأنحاء الجبلية بعض عهود واتفاقات، ثم عاد إلى الجزيرة مرة أخرى في صيف سنة 1232 م، واستطاع عندئذ أن يقوم بالقضاء على أعمال العصيان والمقاومة الأخيرة. على أن أهم ما قام به خايمى يومئذ، هو تقسيم أراضي الجزيرة وأحياء ميورقة ودورها بين الزعماء الفاتحين، وفقاً للعهد الذي قطعه على نفسه بذلك، وتم ذلك على يد هيئة من الأحبار والأكابر. وكتب بهذا التقسيم كتاب باللغات اللاتينية، والقطلانية، والعربية، اشتهر " بكتاب التقسيم " El Libro del Repartimiento وقام بتحريره في أول يوليه سنة 1232 الكاتب الموثق بيدرو روملينو. وما زال هذا الكتاب يحفظ حتى اليوم في دار المحفوظات ببلدية ميورقة، وقد اطلعنا عليه خلال زيارتنا لميورقة (1).
وكان من الواضح أن مصير باقي الجزائر بعد سقوط ميورقة، قد بت فيه وأضحى رهن مشيئة الفاتحين. فأما جزيرة يابسة Ibiza وهي صغرى الجزائر الثلاثة الكبيرة، وهي تقع جنوب غربي ميورقة، فقد نزل بها الأرجونيون في سنة 632 هـ (1235 م)، فقاومهم أهلها المسلمون، واستمر الصراع بين الفريقين نحو خمسة أشهر، وانتهى بتسليم المسلمين واستيلاء الأرجونيين على الجزيرة (2). واستولى النصارى في نفس الوقت على جزيرة فرمنتيرا الصغيرة الواقعة على مقربة من جنوبي يابسة وكانت خالية ليس بها أحد من المسلمين.
هذا فيما يختص بميورقة كبرى الجزائر الشرقية وزميلتها يابسة. وأما جزيرة منورقة أو منرقة الواقعة في شرقي ميورقة، وهي ثانى الجزائر من حيث الحجم، فقد استمرت حقبة أخرى تحت الحكم الإسلامي. ذلك أن واليها الرئيس أبا عثمان
(1) حصلنا على نسخة مصورة من هذا المخطوط الذي يتكون من كراسة كبيرة مستطيلة، تضم تسع ورقات حجمها نحو 30 في 15 سنتى. وأمام كل صفحة من صفحاته العربية مقابلها باللاتينية، والقطلانية. راجع وصف الكتاب وبعض نصوصه في كتابنا " الآثار الأندلسية الباقية "(الطبعة الثانية ص 133 - 136).
(2)
روض القرطاس ص 183.
سعيد بن حكم الأموى، وهو من أهل طبيرة من غربي الأندلس، كان رجلا طموحاً وتجول في شبابه في أنحاء الأندلس وإفريقية، ثم دخل منرقة في سنة 624 هـ، واشتغل بها مشرفاً على شئون الجباية والأجناد، ثم ظفر برياستها لما اضطربت الأحوال، وتقلص سلطان الموحدين، فوليها من قبل أبي يحيى، وضبط شئونها بهمة وبراعة وذلك منذ سنة 631 هـ، وكان عالماً محدثاً، ونحوياً أديبا يجيد النثر وينظم الشعر مع مشاركة طيبة في علم الطب، يجتذب إليه العلماء من كل صوب، ويفتدى منهم من يقع في أسر العدو، وكان ورعاً حريصاً على تنفيذ أحكام الشريعة، وكان يلقب بالرئيس، فصلحت أحوال الجزيرة في عهده، وعمها الرخاء والأمن. ولما استولى الملك خايمى على جزيرة ميورقة، رأى أبو عثمان أن يبادر بالتفاهم مع النصارى، فاعترف بطاعة الملك خايمى، على أن يؤدي له جزية سنوية، وأن يسلم إليه حصن تيوداديلا وذلك على أن لا يدخل الجزيرة أحد من النصارى. وهكذا ترك أبو عثمان وشأنه، فلبث على رياسته للجزيرة زهاء نصف قرن آخر، وضبط شئونها بحزم، وسار في الناس أعدل سيرة، واستقام أمر الجزيرة على يديه، وهابه جيرانه من النصارى، وكان يقصده الناس والعلماء والطلاب من سائر أنحاء الأندلس والمغرب، ويتردد عليه التجار، فيشمل الجميع ببره، ورفقه وأنسه. وكان شغوفاً بجمع الكتب، حتى اجتمع له منها ما لا نظير له كثرة وجودة وندرة، ومن شعره قوله في الحض على الجود:
لا تمنع المعروف يوما معرضا ومعرضا
…
كلاهما من حقه فيه له أن يعرضا
هذا تنزه فاستحق على نزاهته الرضا
…
والآخر استحيا من التصريح فيه فعرضا
وتوفي سعيد بن حكم في رمضان سنة 680 هـ (1281 م)، فخلفه في حكم الجزيرة ولده أبو عمر حكم بن سعيد، وكان مثل أبيه أديباً وعالما، ولكن أمد حكمه لم يطل، لأن النصارى رأوا أخيراً أن ينتزعوا منورقة من أيدي المسلمين، فقام الأرجونيين بافتتاحها في سنة 686 هـ (1287 م) وأجلى عنها المسلمون، وانتهى بذلك أمر الإسلام بالجزائر الشرقية، وغادر أبو عمر الجزيرة ومعه أهله ورفات أبيه، وسار أولا إلى سبتة، ثم قصد إلى تونس، فغرق في البحر هو وآله (1).
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 255، والروض المعطار ص 185، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 275 - 277. وقد أورد ابن عبد الملك في الذيل والتكملة ترجمة ضافية لسعيد بن حكم (مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيرى لوحة 9 أ - 10 ب).