المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٤

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌القسْم الثانىعصْر الموحِّدينوانهيار الأندلسْ الكبرى

- ‌تصدير

- ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

- ‌الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة

- ‌الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

- ‌الفصل الخامس غزوة شنترين

- ‌الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

- ‌الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية

- ‌الفصل الثالث موقعة الأرك

- ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

- ‌الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر

- ‌الفصل السادس موقعة العقاب

- ‌الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

- ‌الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمونإلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

- ‌الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

- ‌الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

- ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

- ‌الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

- ‌الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

- ‌الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد

- ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

- ‌الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

- ‌الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

- ‌الفصل الأول قشتالة وليون

- ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

- ‌الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

- ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

- ‌الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

الفصل: ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

اختيار الخليفة الجديد. مبايعة السيد أبي حفص عمر المرتضى لأمر الله. تصرفاته الأولى. عصره نذير انهيار الدولة الموحدية. أثر مصرع السعيد في تحرك بني مرين. استيلاء الأمير أبي يحيى على رباط تازا. زحف أبي يحيى على فاس ومحاصرتها. تسليمها إليه صلحا. مبايعة أشياخها له. دخول أبي يحيى فاس. استتباب الأمن والسكينة. مغادرة أبي يحيى لفاس وخروجه إلى بلاد فازاز. مؤامرة الموحدين لخلع أبي يحيى. مؤازرة الجند الروم لهم. وثوبهم بالوالى المرينى وقتله. إعلانهم بالعودة لطاعة الخليفة الموحدي. عودة أبي يحيى إلى الزحف على فاس. تحرك يغمراسن لأخذ رباط تازا. مسير أبي يحيى لقتاله. هزيمة يغمراسن. عودة أبي يحيى إلى فاس وتشديد الحصار عليها. طلب أهل المدينة العفو والتسليم. موافقة أبي يحيى ودخوله المدينة. القبض على زعماء المؤامرة وإعدمهم. إلزام أهل المدينة برد المال المنهوب. وفاة أبي زكريا الحفصى خلال مسيره للغزو. صفاته وخلاله. صدى وفاته في موقف الأقلية المسلمة بصقلية. أحوال هذه الطائفة وتلاشيها. الثورة في سبتة والبطش بالولاة الحفصيين. خلع طاعة بني حفص وقيام القاضي العزفى في الرياسة. علاقة الخلافة الموحدية بالكرسى الرسولى. بدء نفوذ النصارى منذ أيام المأمون. قيام الكنيسة بمراكش. تضخم الجالية النصرانية بها. البابا يرسل أسقفاً إلى مراكش وخطابا إلى الخليفة السعيد. حثه الخليفة على اعتناق النصرانية وتخصيص حصون لحماية النصارى. عدم اكتراث السعيد برسالة البابا. الخليفة المرتضى يرسل رده إلى البابا مع الأسقف لوبى. إشارة الخليفة بوحدانية الله وحملته على التثليث. إشارته إلى كتب البابا، وما يوجبه الخليفة لمنصبه من الإجلال. تنويهه بتكريم البشب رسول البابا. رجاؤه أن يكون خلفه من ذوى العقل والخلق الراجح. مغزى كتاب الخليفة الموحدي ودلالاته. وفود بعض زعماء بني مرين المنشقين على المرتضى. تأهبه بتحريضهم لقتال بني مرين. خروجه في قوات الموحدين والعرب إلى سلا. الأمير أبو يحيى يكتب إلى المرتضى في طلب السلم. ضغط الوزراء على المرتضى وجنوحه إلى الحرب. مسيره إلى محلات بني مرين ونزوله بأميلولين. نشوب المعركة بين الفريقين. خدعة شيخ سفيان بإذاعة الصلح. أمر المرتضى بالعودة. هجوم المرينيين على مؤخرة الجيش الموحدي وانتهاب عتاده وأمواله. عود المرتضى إلى الحضرة. ثورة والي السوس علي بن يدر. عجز القوات الموحدية عن إخضاعه. محاولته الاستيلاء على تارودانت. ارتياب المرتضى في ابن يونس وأمره بإعدامه. توطيد بني مرين لحكومتهم في فاس. ما خسرته الدولة الموحدية من أراضيها. إخضاع أبي يحيى لبلاد فازاز. مسيره صوب سلا. المرتضى يدبر مصرع زعماء الخلط. ثورة زعيم بني جابر والقبض عليه. خروج المرتضى لمحاربة بني مرين. اللقاء بين الفريقين عند جبل بهلولة. هزيمة الموحدين وفرار المرتضى. الهدوء المؤقت. نية بني مرين في القضاء على الدولة الموحدية. افتتاحهم لسجلماسة ودرعة. اشتداد ثورة السوس. فشل الموحدين في إخمادها. وفاة الأمير أبي يحيى. الانقلاب في سجلماسة. عود زعيمها القطرانى إلى طاعة الموحدين. موافقة المرتضى ثم تدبيره لمصرعه. الخلاف على وراثة عرش بني مرين

ص: 528

خلوص الأمر للأمير أبي يعقوب. افتتاح بني مرين لثغر سلا ورباط الفتح. مختلف الروايات في ذلك. خلع يعقوب بن عبد الله للطاعة واستقلاله بسلا. مخاطبته لألفونسو العاشر. ألفونسو يدبر مشروعا لغزو سلا. مقدم السفن القشتالية واعتداؤها الغادر على سلا. اهتمام السلطان أبي يوسف ومسيره إلى سلا. مقاتلته للنصارى وإجلاؤهم. استيلاؤه على سلا ورباط الفتح. انهيار مشروع ألفونسو العاشر. افتداء أسرى سلا. ما كان ينذر به هذا العدوان. سعى المرتضى إلى الصلح مع بني مرين. خروج أبناء إدريس المرينى بغمارة. استنزالهم واسترضاؤهم. أبو يوسف يرسل حملة لإنجاد الأندلس بقيادة عامر ابن إدريس. احتلالها لمدينة شريش. بداية عون بني مرين للأندلس. الخلاف بين ابن الأحمر والعزفى. أحوال عرب سفيان والخلط. ترددهم بين طاعة الموحدين وبنى مرين. موقف المرتضى. تدبيره لمصرع الزعماء الناكثين. عود المرتضى إلى التأهب لمحاربة بني مرين. مسير الموحدين لقتالهم. موقعة أم الرجلين. هزيمة الموحدين وتمزيق صفوفهم. محاولة جديدة لإخماد ثورة السوس وفشلها. حوادث طنجة وسبتة. مسير السلطان أبي يوسف لمحاصرة سبتة ثم عوده. مسير السلطان أبي يوسف إلى مراكش. القتال بينه وبين الموحدين. مصرع ولد السلطان. توقف القتال وتعهد المرتضى بدفع إتاوة سنوية. السيد أبو العلاء إدريس الملقب بأبي دبوس. الوحشة بينه وبين المرتضى. اختلاف الرواية في تعليل ذلك. فرار أبي دبوس والتجاؤه إلى السلطان أبي يوسف. موافقة أبي يوسف على مشروعه لفتح مراكش. إمداده بعسكر من بني مرين. مسير أبي دبوس ونزوله بهسكورة. التفاف القبائل حوله. توجس المرتضى ومطاردته لزعيم سفيان وقائد الروم. إنضمام العرب والروم إلى أبي دبوس. مسير أبي دبوس إلى أغمات ثم إلى مراكش. الاضطراب في المدينة وخلوها من القوات المدافعة. اقتحام رجال هسكورة للسور وفتحهم لباب الصالحة. دخول أبي دبوس المدينة وفرار المرتضى. مسيره إلى أزمور وغدر واليها صهره. مبايعة أبي دبوس بالخلافة وتلقبه بالواثق بالله. خلاله وصفته. وزراؤه. إجراءاته الأولى. نضوب الأموال. كتابه في ذلك ورد المرتضى. تأثره لمحنة المرتضى. نصح وزيره بالقضاء على المرتضى. إعدام المرتضى. المرتضى وتمام تفكك الدولة في عهده. صفاته. وزراؤه وكتابه. أدبه وشعره. ابن القطان يؤلف له تاريخه. شخصه. إعتقال أولاده. إطلاقهم والتجاؤهم إلى حماية ملك قشتالة. انتقالهم إلى غرناطة. ولده أبو حمارة. السيد أبو زيد أخو أبي دبوس. التجاؤه إلى ملك قشتالة وتنصره. تأملات عن هذه الظاهرة.

- 1 -

لما لقى الخليفة أبو الحسن السعيد مصرعه في شعب جبل تلمسان، في نهاية شهر صفر سنة 646 هـ، ووصل نبأ مصرعه ونكبة جيشه، إلى مراكش، كان لذلك أعمق وقع في البلاط الموحدي، وبادر السيد أبو زيد، أخو الخليفة القتيل ووالى مراكش، فاستدعى أشياخ الموحدين الموجودين بالحضرة، لبحث الموقف، واختيار الخليفة الجديد، فاتجه الرأي أولا إلى اختيار السيد أبي زيد نفسه، ولكنه امتنع واعتذر، فاقترح البعض أن يولى السيد أبو حفص عمر والي سلا، وذلك لعقله وورعه وصيانته، فوافق الموحدون على ذلك، وبايعوا السيد أبا حفص في غيبته، وتلقى الدعوة نيابة عنه، أخوه السيد أبو زيد. والسيد أبو حفص عمر هذا، هو ولد السيد أبي ابراهيم بن الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

ص: 529

أو بعبارة أخرى هو ابن أخ للخليفة يعقوب المنصور، وعم للمأمون والد السعيد. وكان من قبل والياً لأغمات، ثم عينه السعيد لولاية سلا ورباط الفتح. وعقدت له البيعة بجامع المنصور، في أوائل شهر ربيع الأول، وحمل كتابها إليه الحاكم ابن أصلماط، وكان مقبلا من سلا إلى تامسنا، في طريقه إلى الحضرة، مع بعض أشياخ الموحدين والعرب، فتلقى البيعة، وضربت له في الطريق قبة، قرئت فيها البيعة، وبايعه فيها من حضر، وذاع الأمر بين الناس. ثم نظم لركوبه موكب خلافى، سار فيه بعض السادة والوزراء والقرابة، وبعض حشود العرب والخدم، واستمر الموكب في سيره حتى قرب من العاصمة، فخرج إليه عندئذ أشياخ الموحدين، ومعهم الخيل والأجهزة والكسى، والطبل والبنود، فنزل الخليفة أولا بالبحيرة، ثم دخل الحضرة في موكبه الفخم، واجتمعت الناس على طاعته (1).

وتلقب الخليفة الجديد بالمرتضى لأمر الله. وكان كهلا في نحو الخمسين من عمره، هادئ الطبع، شديد الورع، قليل الأطماع. وكان أول ما قام به أن قدم أبا محمد ابن يونس للوزارة، ثم قدم لها أخاه السيد أبا اسحق، عندما وفد إليه من سجلماسة، وعين يعقوب بن كانون شيخاً لعرب بني جابر، وعمه يعقوب بن جرمون شيخاً لعرب سفيان، وأقر كلا منهما على بلاده. وكان في مقدمة أعماله أيضاً أن قبض على حاشية السعيد وخدمه، ولاسيما صاحبه ابن المسك، وسجن الحرّة عزونة أخت السعيد، واقتضى منها أموالا فادحة (2).

وكانت خلافة المرتضى، التي استطالت نحو تسعة عشر عاما، هي الفترة القاتمة التي تم فيها تفكك الإمبراطورية الموحدية، الذي مهدت إليه حوادث الحقبة السابقة، منذ انسلاخ إفريقية، وانهيار الأندلس، واستقلال تلمسان. ثم عجل بوقوعه، استمرار الحروب الأهلية بين الموحدين من جهة، واشتداد ساعد بني مرين من جهة أخرى. وسوف نشهد منذ الآن فصاعداً، كيف تتساقط أشلاء الإمبراطورية الموحدية الباقية، واحداً بعد الآخر، والخلافة الموحدية عاجزة عن أن تتدارك أية ضربة، من الضربات القاصمة الموجهة إليها. وقد ترتب على مصرع الخليفة السعيد، في الناحية الأخرى، أعني ناحية بني مرين، نتائج هامة. ذلك أن الأمير أبا يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين،

(1) البيان المغرب 389 و 390، وروض القرطاس ص 173.

(2)

البيان المغرب 391، وابن خلدون ج 6 ص 258

ص: 530

ما كاد يقف على مصرع السعيد وتبدد جيشه، حتى نهض للعمل. وكان قد عقد الصلح مع السعيد وأمده بشطر من فرسانه، ضد بني عبد الواد أصحاب تلمسان، وأعطاه رهائن من قومه، أودعها السعيد برباط تازا. فلما انتهى السعيد وجيشه الجرار، سار أبو يحيى في قواته فوراً صوب تازا، وكان واليها هو السيد أبو علي، أخو السيد أبي العلا إدريس المسمى بأبي دبوس وهو الخليفة المستقبل، فبعث إلى أبي يحيى يطلب الاجتماع به، ولما اجتمعا تعهد أبو يحيى بأن يعمل على صون أهل تازا، وحمايتهم من كل أذى. وعندئذ غادر السيد أبو علي تازا بأهله وولده ومتاعه، ودخلها أبو يحيى وبنو مرين، وبايع أهل تازا وسائر أحوازها للأمير المرينى، وكانت تازا أول مدينة مغربية استولى عليها بنو مرين من أيدي الموحدين وذلك في أوائل شهر ربيع الأول سنة 646 هـ (يوليه 1248 م)(1).

ولم تمض على ذلك أسابيع قلائل، حتى وقعت الخطوة الثانية، في تقدم بني مرين داخل الإمبراطورية الموحدية، وكانت أخطر وأبعد مدى. ذلك أن الأمير أبا يحيى، ما كاد يرتب شئونه برباط تازا، ويرتب بها رسوم الإمارة، حتى سلمها لأخيه الأمير أبي يوسف، ثم غادرها وسار في قواته غربا صوب مدينة فاس، وهي العاصمة الثانية للإمبراطورية الموحدية، وافتتح في طريقه مدينة أجرسيف، وسائر حصون وادي ملوية (2). ثم نزل قبالة فاس معتزماً فتحها، وضرب حولها الحصار وقطع علائقها مع الخارج، فاشتد بأهلها الضيق، وطلبوا إلى أشياخهم مفاوضة الأمير أبي يحيى، وكان واليها الموحدي يومئذ هو السيد أبو العباس بن أبي حفص، وكان عاجزاً عن أي دفاع ولم يتلق أية نجدة، ولم يكن لديه سوى مائتي جندى من الروم، وفدوا إلى المدينة عقب مصرع السعيد، مع قائدهم شديد. ويقول لنا ابن عذارى إن هذه الفرقة من الروم دافعت وقت الحصار ضد بني مرين دفاعا شديداً، واضطر أشياخ المدينة نزولا على ضغط أهلها، أن يتقدموا إلى أبي يحيى بطلب الصلح، فتلطف أبو يحيى بهم، وتعهد لهم بحسن النظر، وإقامة العدل وحمايتهم، وكف الأذى عنهم، فتقبلوا عهده، وبايعوه على الطاعة، بالرابطة الواقعة خارج باب الشريعة، وكان في مقدمة من بايعه كبير فقهاء مراكش، الشيخ الورع أبو محمد الفشتالي، وسائر

(1) البيان المغرب ص 392، وابن خلدون ج 6 ص 252، وروض القرطاس ص 195.

(2)

الذخيرة السنية ص 79، وروض القرطاس ص 195

ص: 531

الفقهاء والأشياخ، وأخلى القصبة، والي الخليفة الموحدي، السيد أبو العباس، وغادرها في أهله وولده، وأمنه أبو يحيى، وأعطاه خمسين فارساً يحرسونه حتى وادي أم الربيع، ثم دخل أبو يحيى مدينة فاس في اليوم السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة 646 هـ، وذلك بعد وفاة الخليفة السعيد بنحو شهرين (1).

ولبث الأمير أبو يحيى بفاس أكثر من عام، وهو ينظم الشئون، ويضع القواعد والرسوم، لحكم مملكة بني مرين، التي أخذ طالعها يتألق في الأفق. وكانت الوفود تترى عليه من كل صوب، متقدمة لبيعته، والانضواء تحت رايته، وقد عم في سائر المنطقة جو من الهدوء، والاستبشار بالدعة والخير، بعد أن طال عهد الاضطراب والفوضى، فأمنت السبل، ونشط التعامل، وأخذ الناس في الحرث والعمارة والاستقرار. وكان استيلاء بني مرين على تلك المدينة العظيمة - حاضرة المغرب العلمية التالدة - وهي التي غدت فيما بعد، عاصمة لمملكتهم الزاهرة، بداية النهاية في خاتمة الدولة الموحدية. وفي شهر رجب سنة 647 هـ، غادر الأمير أبو يحيى فاس، بعد أن استخلف عليها مولاه المسعود ابن خرباش الحشمى، وخرج إلى بلاد فازاز وما يليها، يعمل على إخضاع قبائلها وتحصيل الجباية منهم، ولكنه ما كاد يبتعد عن فاس حتى أخذ بعض زعماء المدينة من الموحدين، وغيرهم من المعارضين، يحاول قلب الأوضاع الجديدة، والعود إلى طاعة الخلافة الموحدية، وخاطب أولئك المعارضون قاضي المدينة أبا عبد الرحمن المغيلى، في خلع أبي يحيى وقتل نائبه المسعود، وطرد أنصاره من المدينة، وعبثا حاول القاضي أن يردهم عن مشروعهم، فنظموا مؤامرتهم على ما رتبوه، من خلع أبي يحيى وقتل نائبه، وإعادة البيعة للخليفة المرتضى، وتفاهموا مع قائدى جند الروم الذين بالقصبة، وهما شديد وزنار، وكان أبو يحيى قد تركهم على ما كانوا عليه (2). وفي رواية أخرى أنه كان قد حبسهم عند دخول فاس (3). وعلى أي حال فقد كان قواد الجند الروم مع المتآمرين، وكانوا بطبيعتهم من أولياء

(1) الذخيرة السنية ص 79، وروض القرطاس ص 195، وابن خلدون ج 7 ص 174. ويضع ابن عذارى دخول أبي يحيى فاس في 18 ربيع الآخر سنة 646 هـ (البيان المغرب ص 393).

(2)

الذخيرة السنية ص 82.

(3)

البيان المغرب ص 399

ص: 532

الدولة الموحدية، المخلصين لها. وقصد أشياخ المدينة، وعلى رأسهم المشرف ابن جشّار وأخوه ابن أبي طاهر إلى القصبة، ومع قواد الروم، وبعد مشادة قصيرة مع المسعود بن خرباش، انقض عليه الروم وقتلوه مع عدة من أصحابه، واستولى الأشياخ على القصبة، وعلى ما فيها من المال والذخيرة، ورُفع رأس المسعود على رمح وطيف به، وأغلقت المدينة أبوابها، وتولى قائد الروم ضبطها، ونادى الأشياخ بطاعة الخليفة الموحدي، وبعثوا بها إليه، وطلبوا عونه ونصرته، فبعث المرتضى إليهم، يعدهم بالعون والقدوم. ووقع هذا الانقلاب بمدينة فاس في شهر شوال وقيل في العشرين من شعبان سنة 647 هـ (1).

ولكن المرتضى لم يسر إلى فاس، ولم يبعث إليها بمدد من جنده، وبقيت المدينة الثائرة مغلقة، تترقب مصيرها. ولما علم الأمير أبو يحيى بما حدث، وكان يغزو بلاد فازاز، تركها وارتد لمعاقبة أهل فاس على نكثهم، وضرب الحصار حول المدينة. وكان المرتضى حينما شعر بعجزه، عن تدارك فاس بعونه، قد بعث إلى يغمراسن بن زيان، يغريه على انتهاز الفرصة في بني مرين. فلما سار أبو يحيى إلى فاس، نهض يغمراسن في قواته إلى رباط تازا، يحاول الاستيلاء عليها، فاضطر أبو يحيى عندئذ، أن يترك بعض قواته لمتابعة حصار فاس، وأن يسير بنفسه لمحاربة يغمراسن. ولما وصل أبو يحيى إلى تازا، ارتد عنها يغمراسن، فسار أبو يحيى في أثره، ونشبت بين الفريقين في وادي إبسلى، على مقربة من وجدة، عدة معارك شديدة، انتهت بهزيمة يغمراسن، وسقوط محلته وأسلابه في أيدي العدو، فارتد في فلوله صوب تلمسان، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 647 هـ (2).

ثم سار أبو يحيى في قواته إلى فاس، وشدد في محاصرتها ومنازلتها، فلما رأى أهل المدينة أنه لا مناص من التسليم، بعثوا إلى أبي يحيى بطلب العفو والأمان، فأجاب ملتمسهم، ودخل فاس وذلك للمرة الثانية، في العشرين من جمادى الآخرة سنة 648 هـ (أكتوبر سنة 1250 م)، ونزل بالقصر، وألزم أشياخ المدينة، أن يردوا إليه ما سلب من الأموال والذخائر، وقدر ذلك بمائة ألف دينار، أو ثلاثمائة ألف وفقاً لابن عذارى، فماطل الأشياخ أو عجزوا، فقبض على زعمائهم

(1) ابن خلدون ج 7 ص 174 و 175، والذخيرة السنية ص 81 و 82، والبيان المغرب ص 399، وروض القرطاس ص 196.

(2)

ابن خلدون ج 7 ص 175، والذخيرة السنية ص 83

ص: 533

وفي مقدمتهم القاضي أبو عبد الرحمن المغيلى، وابن جشار وأخوه ابن أبي طاهر وغيرهم، وأمر بقتلهم، وعلقت رؤوسهم على أبواب المدينة (رجب 648 هـ)، وألزم أهل المدينة، ومن بقى من شيوخهم، برد المال المنهوب، وساد على المدينة حكم إرهاب، خشعت له القلوب، وأخمدت كل نزعة إلى الفتنة والخروج (1).

- 2 -

وفي تلك الأثناء توفي عاهل إفريقية، الأمير أبو زكريا يحيى ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد الحفصى، وكان حينما وقع مصرع الخليفة السعيد، قد أخذ في الأهبة، لتحقيق ما كان يجيش به من أطماع، نحو الأقاليم المغربية، وخرج في جيشه من تونس، في أوائل سنة 647 هـ. فلما وصل إلى بلدة العناب على مقربة من بونة أصابه مرض مفاجىء، واشتد به حتى توفي، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 647 هـ (1249 م)، وكان في التاسعة والأربعين من عمره. وكان أميراً عظيماً وافر الشجاعة والمقدرة والعزم، وهو الذي أنشأ الدولة الحفصية المستقلة بإفريقية، حسبما ذكرنا من قبل في موضعه، وكان فوق ذلك عالما أديبا، مجيداً للنثر والنظم، محباً للعلماء، مؤثراً لهم، وقد وفد عليه كثير من علماء الأندلس وأدبائها النازحين منها، حينما تغلب النصارى على قواعد الأندلس، وكان في مقدمة هؤلاء الفقيه الكاتب المؤرخ والشاعر الكبير ابن الأبار القضاعي.

ولما توفي أبو زكريا بويع ولده أبو عبد الله محمد بتونس، وتلقب بالمستنصر بالله، وهو الذي لقى ابن الأبار مصرعه على يديه، حسبما نفصل ذلك في ترجمته.

وكان لوفاة عاهل إفريقية، صدى فيما أصاب البقية الباقية من مسلمي صقلية، من اضطهاد وتشريد. وكانت الأقلية المسلمة، قد لبثت عصراً، بعد افتتاح النورمانيين للجزيرة، عنصراً من أهم عناصر سكانها، وأوفرهم تقدما وحضارة، يتمتعون في ظل الملك رجّار فاتح الجزيرة، وخلفائه الأوائل، بقسط كبير من الرعاية والحرية، ولكنهم غدوا بعد ذلك موضع الاضطهاد والمطاردة. وقد سبق أن أشرنا فيما تقدم، إلى ما كانت عليه أحوالهم، وأوردنا طرفا مما ذكره عنها الرحالة ابن جبير، وأشرنا إلى ما كان من وفود بعض أعيانهم على الشيخ أبي محمد الحفصى والي إفريقية، في نحو سنة 605 هـ، سعياً إلى الاستنصار بعون

(1) ابن خلدون ج 7 ص 175، والذخيرة السنية ص 84، والبيان المغرب ص 395، وروض القرطاس ص 197

ص: 534

الخليفة الموحدي محمد الناصر. بيد أن مسعاهم لم يسفر يومئذ عن أية نتيجة عملية، ْفلما استقلت إفريقية، وغدت في عهد أول أمرائها من بني حفص أبي زكريا يحيى، دولة قوية زاهرة، اتجه نظر مسلمي صقلية إلى غوث هذه الجارة المسلمة القوية، والظاهر مما تذكره لنا الرواية الإسلامية، أنه وقعت بين الأمير أبي زكريا، وبين ملك الجزيرة، وكان يومئذ الإمبراطور فردريك الثاني، مفاوضات بشأن مسلمي صقلية، أسفرت عن استردادهم لامتيازاتهم القديمة، من سكنى بلرم وضواحيها وبعض أماكن أخرى. بيد أنه لما توفي الأمير أبو زكريا عاد ملك صقلية إلى إضطهاد المسلمين ومطاردتهم. فاضطروا إلى مغادرة السهول، ولجأوا حسبما كانوا يفعلون من قبل، إلى الجبال والأوعار، ونصبوا عليهم أميراً من بني عباس. بيد أن هذه الثورة الأخيرة لمسلمى صقلية، لم تغنهم شيئاً، لأن ملك صقلية حاصرهم، واشتد في إرهاقهم حتى استنزلهم من الجبال، ثم أرغمهم على السكنى في منطقة لوجارا، ثم سار إلى جزيرة مالطة، وأخرج منها المسلمين، وألحقهم بإخوانهم، وكانت هذه الضربة الأخيرة لمسلمى صقلية، هي بداية انحلالهم وتلاشيهم النهائي، وغاضت آثار الإسلام من صقلية شيئاً فشيئاً، حتى انتهى أمره، من تلك الربوع، التي ازدهرت فيها حضارته زهاء أربعة قرون (1).

وكان من أصداء وفاة الأمير أبي زكريا أيضاً، ما وقع بثغر سبتة، من انقلاب جديد، وقيام دولة جديدة. وذلك أن سبتة، كانت قد قامت بالدعوة للأمير أبي زكريا، حسبما ذكر في موضعه، وأوفد إليها الأمير أبو زكريا، رجلين من قبله، للإشراف على شئونها، هما ابن أبي خالد وابن الشهيد، فلم يحسنا السيرة، وبرم بهما أهل المدينة. فلما توفي أبو زكريا تهيأت الفرصة لانقلاب جديد، في رياسة هذا الثغر، الذي لبث عصوراً من أهم الثغور الموحدية الشمالية، كما لبث عصوراً قاعدة رئيسية، لعبور الجيوش الموحدية إلى الأندلس. وذلك أن أهل سبتة، اضطرموا بالثورة، واتفق قاضي المدينة وكبير علمائها، أبو القاسم العزفى مع أمير البحر أبي العباس الرنداحى، وكان راسيا بسفنه في مياه سبتة، على تدبير الانقلاب المنشود. وكان ممن يخشى بأسهم بسبتة، غير رجال الأمير الحفصى، جماعة من فرسان الأندلس النازحين، وعلى رأسهم القائد شقّاف بطل إشبيلية السابق. فتم التفاهم على التخلص من الجميع. ودبر الرنداحي الأمر بإقامة وليمة

(1) ابن خلدون ج 6 ص 280

ص: 535

كبيرة بمنزله، دعا إليها معظم القادة والجند، وبعث رجاله بالليل، فقاموا بقتل القائد شقاف وزملائه، ثم نفذوا إلى القصبة، فقتلوا ابن أبي خالد، وأخرجوا ابن الشهيد في زورق سيروه إلى الأندلس. وهكذا تم تدبير الانقلاب المنشود، وخلعت طاعة بني حفص، وتولى القاضي أبو القاسم العزفى زمام السلطة (647 هـ)، وكان أبو القاسم، وهو ولد العلامة الكبير الورع الزاهد أبي العباس العزفى، عالما جليلا، ورئيساً حازما، ورعا كأبيه، فضبط أمر سبتة بقوة وكفاية، وكان ذلك بداية رياسة هذه الأسرة العريقة، للثغر الموحدي القديم، واستمر العزفى في حكم سبتة، زهاء ثلاثين عاما، حتى توفي في سنة 677 هـ (1).

- 3 -

ولابد لنا أن نشير هنا، إلى حادث ذي مغزى عميق، من الناحيتين الدينية والأدبية، وإن لم يكن له نتائج مادية أو سياسية هامة، ذلك هو ما وقع من مكاتبة بين الخليفة الموحدي المرتضى لأمر الله، وبين البابا إنوسان الرابع، وقد انتهى إلينا لحسن الطالع، كتاب الخليفة الموحدي، إلى عميد النصرانية، وهو مايزال محفوظاً بأصله في مكتبة الفاتيكان الرسولية. بيد أنه يجدر بنا قبل أن نعرض إلى محتويات الكتاب المذكور، أن نشير إلى ما تقدم، من علاقات، بين الخلافة الموحدية، والكرسي الرسولي.

وقد بدأت هذه العلاقات منذ عصر الخليفة المأمون، وهو المسئول عن تشجيع الكرسى الرسولى، على محاولة بث نفوذه، داخل الإمبراطورية الموحدية. وذلك أن المأمون حينما دعا لنفسه بالخلافة، وهو بالأندلس، واعتزم العبور إلى المغرب، رأى أن يستنصر بفرناندو الثالث ملك قشتالة، لكي يمده بقوة من المرتزقة النصارى، يستعين بها على قتال خصومه. وقد رأينا فيما تقدم كيف أن فرناندو الثالث، اشترط على المأمون لمحالفته وإمداده، غير ما رغب في امتلاكه من الحصون الأندلسية، شروطاً أخرى منها أن يبنى للنصارى في مراكش كنيسة يقيمون فيها شعائرهم، وأنه إذا أسلم أحد من النصارى فلا يقبل إسلامه، بل يرد إلى إخوانه يقضون في أمره وفق ما يرون، وإن تنصر بالعكس أحد من المسلمين فليس لأحد عليه سبيل (2). ولما استطاع المأمون أن

(1) البيان المغرب ص 402، وابن خلدون ج 7 ص 186.

(2)

روض القرطاس ص 167. وراجع ص 368 من هذا الكتاب

ص: 536

يتغلب على خصومه، بمعاونة أولئك الجند النصارى، أو الروم حسبما تنعتهم الرواية الإسلامية، كان في مقدمة ما عمله، أن ابتنى للنصارى في داخل مراكش كنيسة كبرى. وقد كانت أول كنيسة أقيمت بالعاصمة الموحدية، وكانت فيما يبدو أكثر من محل للعبادة، إذ كانت في أحيان كثيرة ملاذا للقادة والجند الروم، حسبما يستدل على ذلك من إشارات عديدة، وتكاثر أولئك الجند النصارى بما كان يفد إليهم من إخوانهم المرتزقة، من وراء البحر، ولبثوا أعمدة الخليفة الموحدي في مقارعة خصومه، وكانوا قوة يحسب حسابها، في سائر المنازعات والانقلابات السياسية والعسكرية.

وقد لفت قيام هذه الجالية النصرانية القوية، في العاصمة الموحدية، منذ البداية، نظر الكرسى الرسولى، ورأى فيها سنداً لتدخله، ومحاولة بث نفوذه. وكان أول ما وقع من ذلك أن بعث البابا إنوسان الرابع، بالقس لوبى فرنانديث إلى مراكش في سنة 1246 م، في عهد الخليفة السعيد، ليكون أسقفا بها، وكان السعيد كأبيه المأمون، يغمر الجند النصارى بعطفه وصلاته، ويعتبرهم ملاذ العرش الموحدي، وسنده القوي. وبعث البابا إلى الخليفة مع الأسقف كتابا يهنئه فيه، بانتصاراته على خصومه، في سجلماسة، وبلاد الغرب، ويشيد بالدور الذي قام به الجند النصارى في هذه الانتصارات، بل وينصح الخليفة، لما كان يعلمه من استعداده، لاستقبال طوائف جديدة من أولئك الجند، ولما كان يحبوهم به من عطف - ينصحه بأن يعتنق النصرانية لكي يغنم حماية الله والكرسى الرسولى، ثم يرجوه لضمان حماية النصارى، ولكى لا يتعرضوا إلى مثل ما حدث لهم أيام يحيى المنتصر، من القتل ومن حرق كنيستهم، أن يخصص لهم بعض الحصون المنيعة، الواقعة تحت سلطانه، لكي يلجأوا إليها عند الضرورة، وكتب البابا في نفس الوقت إلى أمراء تونس وبجاية وسبتة، يرجوهم أن يسهلوا لنصارى مراكش الاتصال بإخوانهم في تلك الثغور.

على أن رسانة البابا المتقدمة إلى الخليفة السعيد، لم يكن لها أي صدى. ذلك أن السعيد، بالرغم من حرصه على إرضاء جنده، لم يكن على استعداد، لكي يمنح للكرسى الرسولى ذاته، أية امتيازات أو حقوق من أي نوع. ومن المحقق أنه لم يلق أي التفاتة، لما دعاه إليه البابا، من اعتناق النصرانية، بل سوف نرى بالعكس، ما ورد في شأن ذلك من الاستنكار، في خطاب خلفه، الخليفة المرتضى إلى البابا

ص: 537

وقد بعث الخليفة المرتضى كتابه، إلى البابا، مع الأسقف لوبى المتقدم ذكره وهو كتاب طويل، ومؤرخ في ختامه، في الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة 648 هـ، وفيه يوصف البابا بعد الديباجة " بمطاع ملوك النصرانية، ومعظم عظماء الأمة الرومية، وقيم الملة المسيحية، ووارث رياستها الدينية، البابا إينه سانس، أنار الله بصيرته، بتوفيقه وإرشاده، وجعل التقوى التي أمر عز وجل بها، عدته لمحياه ومعاده ".

ويفتتح الكتاب بالإشارة إلى المسألة الدينية الجوهرية، التي تفرق بين الإسلام والنصرانية، ويعرضها الكتاب بقوة وحسم، ردا على ما أشار به البابا إلى الخليفة الموحدي، من اعتناق النصرانية، فيقول ما يأتي:

" أما بعد فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، حمد من علم أنه الرب الواحد، الذي دلت على وحدانيته البراهين القاطعة والشواهد، ونزهته العقول الراجحة، عن أن يكون له ولد، أو يدعى أنه الوالد، تعالى الملك الرحمن عما يقول المثلث والمشبه والجاحد ".

ويلي ذلك الصلاة على النبي، ثم طلب الرضى عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، وعن الخلفاء الراشدين، ثم عن الخليفة المرتضى ذاته، موجه هذا الكتاب.

ويعرض الكتاب بعد الدعاء، والشكر لله تعالى، إلى موضوع المراسلة، ويشير إلى أنه كانت قد تبودلت كتب بين البابا والخليفة الموحدي، وذلك حينما يقول " فإنه سبقت منا إليكم مراجعات، عن كتبكم المؤثرة الواصلة إلينا " ثم يؤكد الخليفة للبابا، أنه يوجب لمنصبه " الذي أبر في ملتكم على المناصب حقه "، وأنه لذلك عند الخليفة " بالتكرمة الحفيلة ملحوظون، وبالعناية الجميلة محظوظون " على " ما توالى علينا من حسن إيثاركم لجانبنا وتردد ".

ثم يشير الكتاب بعد ذلك إلى أنه " قد انصرف عن حضرة الموحدين البِشُب، الذي كان قد وصل بكتابكم إلينا، انصرافا لم يعزه منّا فيه بر وإكرام، ولم يغبه فيه اعتناء به واهتمام " وأنه لبث طوال إقامته بالحضرة معززاً مكرماً، في حله وترحاله، وأنه رحل مختاراً، وهو يحمل كتاب الخليفة، تعريفاً بذلك. ويرجو الخليفة إلى البابا، أن يراعى في اختيار خلفه للإشراف على النصارى " المستخدمين ببلاد الموحدين " أن يكون من أهل العقل الراجح،

ص: 538

صورة:

صورة فتوغرافية لخطاب الخليفة المرتضى إلى البابا إنوسان الرابع المحفوظ بمكتبة الفاتيكان الرسولية

ص: 539

والسمت الحسن والنزاهة، وذوى الخلال المشكورة. ويختتم الكتاب بتوجيه الشكر إلى البابا " لما تذهبون إليه من تمشية الأغراض والمذاهب، والمساعدة الصادرة منكم عن كرم الضرائب "(1).

هذا هو ملخص كتاب الخليفة الموحدي إلى البابا، وهو كما تقدم مؤرخ في الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة 648 هـ الموافق العاشر من يونيه سنة 1250 م. ومن الأسف أننا لم نعثر في التواريخ العربية بأية إشارة، إلى هذه المكاتبات الهامة، بين الخلافة الموحدية، وبين الكرسي الرسولي (1).

وإذا كان لنا أن نعلق بشىء على هذا الكتاب، فهو أن ما يكشفه لنا من نقاش حول العقيدة الدينية، بين البابوية والخليفة الموحدي، وما جنح إليه الخليفة الموحدي في كتابه، من دحض نظريات ألوهية المسيح والتثليث، بقوة وعنف، يدل على ما حدث من أصداء عميقة، لدى الخلافة الموحدية، في أواخر عهدها من جراء ازدياد نفوذ الجالية النصرانية، ومحاولة استغلال البابوية لهذا النفوذ، بصورة انتهت إلى الاجتراء، على دعوة الخليفة الموحدي إلى نبذ دينه وعقيدته الإسلامية.

- 4 -

وفي نفس هذا العام أعني في سنة 648 هـ، وفد على الخليفة المرتضى، زعيمان من زعماء بني مرين، المنشقين على الأمير أبي يحيى، هما أبو عمران موسى ابن زيان المونكاسى، وأخوه علي بن زيان، فأكرم وفادتهما، ورتب لهما أموالا سخية، وشجعاه على النهوض لقتال بني مرين. فأخذ المرتضى في الأهبة، وبعث بعض رسله إلى الأندلس، ليحشدوا له فرقة جديدة من المرتزقة النصارى، فجمعوا له عدداً منهم. وفي سنة 649 هـ (1251 م) غادر المرتضى مراكش، في قوات الموحدين والعرب، ومعه علي بن زيان وأخوه، قاصداً محاربة بني مرين، ومنعهم من عبور وادي أبي رقراق، إلى أرض تامسنا. وكان خروجه في رمضان

(1) نقلنا نص الكتاب الموحدي المشار إليه من محفوظات مكتبة الفاتيكان الرسولية وهو محفوظ بها تحت رقم A.A.L.XVIII. وقد قامت بنشر هذا الكتاب مجلة Bulletin de l'Institut de Hautes Etudes Marocaines - Hespéris في عددها الصادر سنة 1926 ونشرت صورة فوتوغرافية للكتاب المذكور وترجمة فرنسية، وعلق عليه الكردينال تسيران والأستاذ فييت في بحث طويل (ص 27 - 53) وقد نشرنا نصه الكامل في باب الوثائق كما نشرنا هنا صورته الفتوغرافية. ولم نجد بمحفوظات الفاتيكان أية وثيقة مغربية أو أندلسية أخرى من وثائق ذلك العصر

ص: 540

من هذه السنة. فسار أولا إلى تينملّل حيث قام بزيارة قبر المهدي، وقبور أجداده، ثم عاد إلى طريق مراكش، واتجه صوب سلا. وكان واليها ابن أبي يعلى، قد استعد في حشوده للانضمام إليه. وأقام المرتضى أياما في سلا، يتعرف أخبار بني مرين، ثم خرج من سلا في حشود وافرة، قاصداً إلى مكان بني مرين. وكان الأمير أبو يحيى، حينما علم بخروج المرتضى إلى قتاله، قد جمع أشياخ بني مرين وحلفاءهم، وبحث الأمر معهم، فرأوا أن يجنحوا إلى المسالمة، فكتب أبو يحيى إلى المرتضى، يطلب إليه السلم والمهادنة، وكان المرتضى يميل إلى عقد السلم، ولكن وزراءه عارضوا في ذلك، وبينوا له خطورة مهادنة بني مرين، وإغفال أمرهم، فجنح المرتضى إلى الحرب، وسار في حشوده الزاخرة، إلى لقاء خصومه، ومعه أحمال كثيرة من المال برسم النفقة، حتى صار على مقربة من محلات بني مرين، ونزل بمكان يسمى أمن ملولنين (أو أميلولين) من أحواز مكناسة. وكان الأمير أبو يحيى وبنو مرين، قد استعدوا للقتال، وبدأ الموحدون المعركة، وهجم الموحدون وعلي بن زيان وجنوده، كل من ناحية، فتظاهر بنو مرين بالانسحاب، وكانوا قد رتبوا كمائنهم، في أماكن قريبة مستورة، ولكن الموحدين فطنوا إلى الخدعة، فلم يتبعوهم، وعندئذ أشاع حليف المرتضى، يعقوب بن جرمون، شيخ سفيان، بناء على خطاب تلقاه من أبي يحيى، في المحلة الموحدية، أن الصلح قد عقد بين الفريقين، فاقتنع المرتضى بورود هذا الخطاب على يعقوب، وإن لم يعقد صلح في الواقع، وأمر بالرحيل، وتحركت الجيوش الموحدية، عائدة صوب مراكش، فعندئذ تبع بنو مرين الجيوش المرتدة، وانتزعوا كثيراً من عتادها وأحمالها، واستولوا بالأخص على أحمال الخليفة وأمواله، واستمر انسحاب القوات الموحدية، في غير نظام، حتى ثغر أزمور، فاستراح بها المرتضى أياما، ثم غادرها إلى الحضرة. وكانت هزيمة دون قتال، وكانت دليلا جديداً على ما أصاب قوي الموحدين المعنوية من التخاذل والانهيار (1).

ولما عاد المرتضى إلى الحضرة عزل وزيره ابن يونس، وكان حاقداً عليه، لمعارضته في بيعته، وما يزال يسرها له (650 هـ).

وفي العام التالي - 651 هـ - ثار والي السوس علي بن يدِّر، وجاهر بالعصيان فبعث المرتضى حمله موحدية إلى السوس لإخضاعه، ولكنها عجزت عن ذلك،

(1) ابن خلدون ج 6 ص 258 وج 7 ص 176، والبيان المغرب ص 402 - 405

ص: 541

فارتدت خائبة إلى مراكش، واستمر الأمر على ذلك حتى العام التالي، حيث تفاقم أمر الثورة في السوس، واشتد ساعد علي بن يدر، بمن انضم إليه من طوائف العرب، من عرب الشبانات وبنى حسان وغيرهم، ثم سار إلى حصار تارودانت عاصمة السوس، يبغى الاستيلاء عليها، فسارت من مراكش، حملة موحدية جديدة لقتاله، فترك تارودانت، وامتنع بالداخل، ولم يستطع الموحدون إليه سبيلا، فارتدوا عائدين إلى الحضرة، وعاد ابن يدر إلى مضايقة تارودانت والعيث في أحوازها (652 هـ). وحدث بعد ذلك أن وقف المرتضى، على بعض كتب صادرة من ابن يدر، إلى قريبه الوزير ابن يونس، تدل على أنه كان يمده بالمال والسلاح، فقبض على ابن يونس وأولاده، ثم أمر به المرتضى فقتل، وأفرج عن أولاده فيما بعد (653 هـ)(1).

وفي خلال ذلك، كان الأمير أبو يحيى وبنو مرين، يعملون على توطيد سلطانهم، وتنظيم حكومتهم بمدينة فاس، وهي التي سوف تغدو منذ الآن فصاعدا، حاضرة ملكهم الفتى، والواقع أن الإمبراطورية الموحدية، كانت قد فقدت بانسلاخ إفريقية عنها، ثم استقلال بني عبد الواد بمملكة تلمسان، سائر أقاليم المغرب الأوسط، ثم جاء بنو مرين فانتزعوا النصف الشمالي، من المغرب الأقصى، واستولوا من قواعده على تازة ووجدة وفاس ومكناسة، وأخضعوا سائر أقاليم تلك المنطقة، من جبال غمارة حتى وادي أبي رقراق، ولم يبق بيد الدولة الموحدية، سوى ما وراء ذلك جنوبا من الأقاليم القليلة الباقية، حتى بلاد السوس، تتوسطها مراكش. ولم يكن خافيا على ذوى النظر البعيد، من أشياخ الموحدين وغيرهم، أن مصير الدولة الموحدية أضحى يهتز في كفة القدر، وأنها وصلت، بما انتهت إليه من الضعف والتفكك، إلى مرحلة الاحتضار.

ولما انتهى أبو يحيى، من تنظيم الشئون بفاس، ارتد في بعض قواته إلى بلاد فازاز، ليتم إخضاعها، فافتتحها، وأخضع بطون زناتة النازلة في تلك المنطقة، وفرض الجباية عليهم جميعاً، وأخمد كل نزعة إلى الخروج والعصيان (2). ثم سار في قواته غرباً، في المنطقة الممتدة ما بين وادي أبي رقراق، ووادي أم الربيع، وكان من الواضح أنه يقصد الزحف إلى سلا ورباط الفتح، وقد

(1) ابن خلدون ج 6 ص 259، والبيان المغرب ص 408.

(2)

الذخيرة السنية ص 87، وابن خلدون ج 7 ص 175

ص: 542

أثارت هذه الحركة جزع البلاط الموحدي، فأخذ يستعد لمقاومتها بكل ما وسع. وكان المرتضى، وهو الشيخ الورع الهادئ يعكف خلال ذلك، على تدبير ضرباته، والانتقام من خصومه، وكان الدور بعد مصرع ابن يونس، على أشياخ الخلط، وكانت الريبة قد اتجهت عقب مصرع الخليفة السعيد، في شعب جبل تلمسان في سنة 646 هـ، إلى عرب الخلط، وقوى الظن بأنهم اشتركوا في مؤامرة قتله، وذلك لأنهم تخاذلوا في القتال أولا، ثم لما قتل السعيد، كانوا أول من بادر إلى نهب محلته، واستلاب ما فيها، وسلبوا فوق ذلك أموال أهله وأقاربه، وذلك قبل أن يصل بنو عبد الواد، إلى محلة الخليفة القتيل، وكان المرتضى يتوق إلى معاقبة زعمائهم، على ما ارتكبوه من الخيانة والغدر، فدبر كمينا لإهلاكهم، واحتال في دعوتهم إلى مراكش، بمختلف المعاذير، فلما وصل معظمهم، أذن لهم بالدخول إلى القصر، وكان قد كمن لإهلاكهم، عدد كبير من عبيد المخزن والجند، فلما تقدموا إلى داخل الدار، وأحيط بهم، قتلوا أشنع قتل، وقيل بل قتلوا بالسم، في الطعام الذي قدم لهم، وكان عدد من قتل من زعماء الخلط سبعون شيخاً، ووقع ذلك الحادث الدموى في سنة 652 هـ (1).

وفي نفس هذا العام، ثار يعقوب بن محمد بن قيطون، زعيم بني جابر، وخلع الطاعة، وكان المرتضى قد أكرمه، ومنحه إقطاعات واسعة، فبعث المرتضى إلى تامسنا، عسكراً بقيادة أبي الحسن بن يعلى، ليتفقد أحوالها، وليدبر مع يعقوب بن جرمون شيخ سفيان، طريقة القبض على ابن قيطون. ودعا أبو الحسن ومعه ابن جرمون، ابن قيطون للتفاهم معه، فلما حضر، أبرز ظهيرا بتقديم يعقوب بن جرمون، على سائر عرب المنطقة، فثار لذلك ابن قيطون، وحاول الانسحاب، ولكن قبض عليه وعلى وزيره ابن مسلم، وعاد أبو الحسن بهما مكبولين إلى مراكش (2).

وكان المرتضى، قد استطاع في تلك الأثناء، أن يتم أهباته لمحاربة بني مرين. وكان بنو مرين، وعلى رأسهم الأمير أبو يحيى من جهة أخرى، قد توطد أمرهم بفاس وأحوازها، وأطاعتهم سائر القبائل المجاورة، وعمد أبو يحيى إلى حشد الحشود، والاستكثار من العدة والسلاح، وكان من الواضح أن وقف تقدم

(1) ابن خلدرن ج 6 ص 259، والبيان المغرب ص 409.

(2)

البيان المغرب ص 410

ص: 543

بني مرين، في قلب المغرب، أضحى بالنسبة للموحدين مسألة حياة أو موت. ومن ثم فإن المرتضى، عول على أن يسير بنفسه لقتال بني مرين، فقام بأداء الزيارة المأثورة إلى تينملل، ثم خرج من مراكش في حشود ضخمة، من الموحدين والمصامدة والعرب، وسار أولا إلى سلا، ثم غادرها في حشوده شرقاً صوب فاس، وكان أبو يحيى قد استعد كذلك في قواته للقاء الموحدين، وكان المرتضى يزمع من وراء ذلك الصراع، أن يسترد فاس وأحوازها، إذ كان بقاؤها في أيدي بني مرين، يمثل أعظم خطر على كيان الدولة الموحدية. ولما اقتربت القوات الموحدية من فاس، وقعت بين المرتضى وأبي يحيى، بعض مراسلات ومراجعات في سبيل الصلح، ولكنها لم تفض إلى أية نتيجة. ثم وقع اللقاء بين الفريقين، عند جبل بهلولة أو بني بهلول، على مقربة من فاس، وكانت معركة عنيفة، انتهت بهزيمة الموحدين، وتمزيق صفوفهم، فقتلت منهم جموع عظيمة، واستولى بنو مرين على محلتهم وعتادهم، ومؤنهم ودوابهم، واستولوا بالأخص على أحمال الأموال، وكانت مقادير طائلة، وكان أكبر عامل في تلك الهزيمة الشنيعة، خيانة العرب، وتراجعهم عند بدء المعركة. وفر المرتضى في بعض فلوله، إلى أزمّور، وهو في حالة سيئة، ولبث بها، حتى بعث إليه والي مراكش، أبي سعيد ابن تيجا، بما يلزم من ضروب الإسعاف، وكان وقوع تلك النكبة بالموحدين في سنة 653 هـ (1255 م)(1).

وكانت هذه ضربة قاصمة، لقوى الموحدين المادية والمعنوية، وجنح المرتضى بعد ذلك إلى الدعة والراحة، وعكف على تشييد القصور لأبنائه، وأنفق في ذلك أموالا طائلة، وقام بإصلاح جامع علي بن يوسف، وكان إصلاحه من قبل يعتبر عملا مكروها، في نظر الموحدين. ويقول لنا ابن عذارى فوق ذلك، إنه عقد الهدنة والسلم، مع الأمير أبي يحيى، وكانت تربطه بالفقيه أبي القاسم العزفى، صاحب سبتة، صلات ودية، بالرغم من خروجه على الموحدين، ودعوته لأمير إفريقية الحفصى، وكذلك بأبي الحجاج يوسف بن الأمين صاحب طنجة، وكان قد انضوى تحت لواء العزفى أولا، ثم استبد بحكم طنجة (2).

(1) البيان المغرب ص 411، و 412 ص، وروض القرطاس ص 197، وابن خلدون ج 6 ص 259 وج 7 ص 176.

(2)

البيان المغرب ص 414، و 415، وابن خلدون ج 7 ص 186

ص: 544

على أن هذا الهدوء النسبى، الذي بسط ظلاله، على ما بقى من أقطار الدولة الموحدية، لم يستمر طويلا، لأن بني مرين، لم يكن في نيتهم، أن يقفوا عند حدود الرقعة الواسعة، التي انتزعوها من الموحدين، والتي أضحت تكون وحدها مملكة ضخمة، داخل المغرب الأقصى، وإنما كانت تحدوهم رغبة قوية في انتزاع ما بقى من أراضي المغرب، والقضاء على الدولة الموحدية بصورة نهائية، وإقامة مملكتهم الفتية على أنقاضها، مستقلة دون منازع.

ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، على موقعة جبل بهلولة، حتى نهض بنو مرين لافتتاح قطر جديد، من أقطار الدولة الموحدية، ووجهت الضربة في هذه المرة، إلى سجلماسة ودرعة. وهنا تختلف الرواية في تاريخ هذا الفتح المرينى، ففي رواية أنه وقع في أواخر سنة 653 هـ (1)، وفي أخرى أنه كان في سنة 655 هـ (2). وتفصيل ذلك أن والي سجلماسة الموحدي أبا محمد عبد الحق الجنفيسي، كان يرابط مع جنده في قصبة سجلماسة، فدبر رجل من زعماء المدينة يسمى أبو يحيى محمد القطراني، مؤامرة للغدر بهم، وتسليم المدينة إلى بني مرين، واتصل القطرانى بأبي يحيى وأغراه بفتح سجلماسة، فبعث إليه أبو يحيى جملة من جنده، فتحيل القطرانى إدخالهم إلى المدينة، وهاجم القصبة وقبض على واليها الموحدي، وبعث به معتقلا إلى الأمير أبي يحيى، ثم وفد أبو يحيى بنفسه إلى سجلماسة، ودخلها، واستولى على ما كان بالقصبة من المال، وعين إلى جانب القطراني، واليا مرينيا للمدينة، ثم استولى على درعة في جنوب سجلماسة، وعاد إلى فاس. وثار الخليفة المرتضى لما وقع، وأبي أن يفتدى واليه أبا محمد عبد الحق من الأسر، لاتهامه إياه بالتقصير والتفريط (3).

وفي نفس الوقت تفاقم الأمر في بلاد السوس، واشتد أمر علي بن يدر، المتغلب عليها حسبما تقدم، فرأى المرتضى أن يبذل محاولة جديدة، لإخماد هذه الحركة، فبعث إلى السوس حملة موحدية جديدة، بقيادة أبي محمد بن أصناج، فسار إلى تارودانت ونزل بها، وكان علي بن يدر قد غادرها عندئذ، إلى حصن تيونوين، واعتصم به، فسار ابن أصناج لقتاله، فخرج إليه ابن يدر

(1) هذه رواية صاحب الذخيرة السنية ص 89، وابن خلدون ج 7 ص 176.

(2)

هذه رواية ابن عذارى في البيان المغرب ص 416، وروض القرطاس ص 197.

(3)

البيان المغرب ص 417، وابن خلدون ج 7 ص 176، وروض القرطاس ص 197

ص: 545

ْوهزمه، وقتل معظم عسكره، فارتد ابن أصناج في فلوله، منهزماً إلى مراكش، وبقى ابن يدر على سلطانه وطغيانه (1).

وأما في سجلماسة، فإن الأمر لم يقف في شأنها عند ما تقدم. ذلك أن الأمير أبا يحيى مرض، وتوفي بفاس في رجب من العام التالي (656 هـ)، ووقع الخلاف على ارتقاء العرش، بين ولده عمر وأخيه أبي يوسف يعقوب، فانتهز القطرانى هذه الفرصة، واستولى على حكم سجلماسة، واستطاع الوالي المرينى أن يغادر القصبة، في أهله وأصحابه، وبعث القطرانى إلى المرتضى، يعتذر عما حدث، وأنه سوف يقوم بالدعوة الموحدية، ولكن بشرط أن يبقى عاملا بسجلماسة، مستقلا بأمرها، فوافق المرتضى على ذلك، وبعث إليه بالفقيه أبي عمرو بن حجاج، ليكون قاضياً للمدينة، وبسرية من الجند الروم مع قائدهم، وزود القاضي والقائد بأوامر سرية معينة. واستمر القطرانى في رياسة المدينة حيناً، وفي ذات يوم وثب قائد الروم بالقطرانى فقتله، وكان هذا تنفيذا لأوامر المرتضى، فوقع الهرج بالمدينة، وبادر القاضي فأعلن للناس أن ما وقع إنما كان تنفيذا لأمر الخليفة، وعهد المرتضى إلى القاضي أبي عمرو بشئون المدينة، وكان هذا الحادث دليلا جديداً على ما كانت تتسم به وسائل المرتضى من شيم النكث والغدر (2).

ولما توفي عاهل بني مرين الأمير أبو يحيى، تولى ولده عمر بن أبي يحيى العرش مكانه، ولكن معظم أشياخ بني مرين، لم يكونوا راضين عن ولايته، وكانوا يؤيدون بالعكس ولاية عمه الأمير أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخي أبي يحيى، وكان عند وفاة أخيه غائباً برباط تازا، فأسرع إلى حضرة فاس، والتف حوله أكابر المشيخة، ووقع الخلاف بين عمر وعمه، واعتصم عمر بالقصبة، وكان أبو يوسف يميل إلى حسم الأمر، بالبقاء في رباط تازا، ولكن ألح عليه أشياخ بني مرين، والتف حوله جمع كبير من الأنصار، وخرج عمر للقائه في أنصاره، في ظاهر فاس، فخذل عمر وهزمه أنصاره، وارتد إلى فاس مفلولا، وانتهى الأمر بالصلح بين عمر وعمه، على أن يرقى أبو يوسف العرش، وأن يتولى عمر أمر مكناسة وما إليها، ودخل أبو يوسف يعقوب ظافراً، وتولى الملك، وذلك في شهر شوال سنة 656 هـ (أواخر 1258 م)(3).

(1) البيان المغرب ص 415.

(2)

البيان المغرب ص 419.

(3)

الذخيرة السنية ص 92 و 97، وابن خلدون ج 7 ص 177، والبيان المغرب ص 420 و 421

ص: 546

لم يبق عندئذ، تحت سلطان الخلافة الموحدية، من إمبراطوريتها الشاسعة القديمة، بعد العاصمة وأحوازها، سوى المنطقة الواقعة بين وادي أبي رقراق ووادي أم الربيع، وفيها سهل تامسنا وثغرا سلا ورباط الفتح، فإلى هذه المنطقة، وإلى هذين الثغرين، اتجهت أنظار بني مرين. ففي سنة 657 هـ، سار كبير بني مرين يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق، وهو ابن أخي السلطان أبي يوسف، متجهاً صوب تامسنا، مع قوة من الجنود المرينية، وذلك بحجة ممارسة الصيد والكلأ ونزل بعين عبولة، على مقربة من سلا. ويقول لنا صاحب الذخيرة السنية، إنه قام بهذه الرحلة، بإيعاز عمه السلطان أبي يوسف (1)، ولكن ابن خلدون بالعكس، يقدم إلينا رواية أخرى، خلاصتها أن الأمير أبا يحيى، كان قد افتتح سلا، من أيدي الموحدين، في سنة 649 هـ، واستعمل عليها ابن أخيه، يعقوبا المتقدم ذكره، ولكن الموحدين عادوا فاستردوا سلا، فأقام يعقوب مع صحبه، في بعض أحوازها، يترقب الفرص، ولما تولى عمه أبو يوسف الملك، غضب منه لبعض الأمور، وأخذ يدبر الحيلة في الاستيلاء على سلا (2). وعلى أي حال فقد دبر يعقوب خطة لافتتاح هذا الثغر الموحدي الهام. وكان والي سلا من قبل المرتضى يومئذ هو أبو عبد الله محمد بن أبي يعلى الكومي، وكان حينما اقترب يعقوب برجاله من سلا، قد اتخذ كل أهبة، ورتب الحراس على أبواب المدينة، ليلا ونهاراً، بيد أن الدفاع عن المدينة كان بالرغم من ذلك ضعيفاً، ولم يكن الاستيلاء عليها أمراً صعباً. وكان يعقوب بن عبد الله يعرف هذه الحقيقية، ويقول صاحب الذخيرة السنية، ويتابعه ابن خلدون، إن يعقوبا استطاع أن يدخل إلى قصبة رباط الفتح بالحيلة، وأن يخرج منها ابن أبي يعلى، فسار فارا بنفسه إلى أزمّور، واستولى يعقوب بذلك على سلا دون قتال (3). ولكن ابن عذارى يقول لنا بالعكس، إن يعقوبا طرق سلا مع رجاله بالليل، وركبوا السلالم على السور، أمام الباب، وقتل الحراس أو أسقطوا من عل، ثم كُسر الباب، ودخل يعقوب وصحبه إلى المدينة، ونهبوا دورها، ووقع الاضطراب، وفر الناس هنا وهنالك، وفر ابن أبي يعلى من القصبة في سفينة، إلى ثغر أزمور، وملك يعقوب سلا

(1) الذخيرة السنية ص 102.

(2)

ابن خلدون ج 7 ص 174 و 178.

(3)

الذخيرة السنية ص 102، وابن خلدون ج 7 ص 178

ص: 547

ورباط الفتح، وكان ذلك في أوائل سنة 658 (1).

وما كاد يعقوب بن عبد الله يستقر بسلا، حتى جاهر بخلع طاعة عمه السلطان أبي يوسف، والاستقلال بأمره، وأخذ في الأهبة والاستعداد، واقتناء السلاح والعدد، واستدرج شيوخ سلا إلى القصبة، ونزع سلاحهم، اتقاء لشرهم، وكتب إلى ألفونسو العاشر ملك قشتالة، يرجوه أن يمده بمائتين من المرتزقة النصارى، ليستعين بهم على مقاتلة أعدائه.

وعلى أن هذه المخاطبة لملك قشتالة، قد أسفرت عن مفاجأة مروعة، لم يكن يتوقعها أحد. وذلك أن ألفونسو العاشر، كان منذ بداية حكمه، يفكر في نقل الحرب الصليبية، التي اضطرمت عصوراً، في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى إفريقية، وكان يشجعه في مشروعه، البابا إنوسان الرابع، ومن بعده خلفه البابا اسكندر الرابع، وكان ألفونسو قد أنشأ في إشبيلية أحواضاً كبيرة لبناء السفن، لتكون نواة لأسطول الغزو المنشود. فلما وردت عليه مكاتبة الأمير المرينى صاحب سلا، رأى أن ينتهز هذه الفرصة، وأن يرسل حملة بحرية صغيرة لافتتاح سلا، وجهزت سفن هذه الحملة في مياه إشبيلية، ووقف الفقيه العزفى صاحب سبتة، من عيونه، على هذه الأهبة، فبعث النذير إلى سائر ثغور المغرب، على المحيط، ينصحهم بالحذر والاستعداد. وسارت السفن القشتالية مشحونة بالمقاتلة، حتى رست في مياه سلا، فاعتقد أهل المدينة أنهم قدموا للمتاجرة، واعتقد يعقوب بن عبد الله، أنهم الجند الذين طلب إلى ملك قشتالة إرسالهم لإنجاده، ولم يخالج أحد شك، في حقيقة المشروع الغادر، الذي قدمت من أجله هذه السفن النصرانية. وجمع القشتاليون سفنهم تدريجيا، في خليج المدينة، ثم فاجأوها بالهجوم، ودخلوها بعنف، وقتلوا كثيراً من أهلها، وهم دون دفاع، وسبوا النساء والأطفال، في مناظر مروعة، واحتشد جماعة من أهل المدينة لمدافعة النصارى، وقاتلوا بكل ما وصل إلى أيديهم، من صنوف السلاح، فلم يغن ذلك شيئاً، وهلك معظمهم، وهرع الناس إلى مغادرة المدينة، في جموع متراصة، وهلك في الزحام كثير منهم. كل ذلك ويعقوب بن عبد الله ممتنع بالقصبة، لا يستطيع شيئاً، وهو يرى عاقبة تصرفه الشنيع، وجمع النصارى السبايا من النساء والأطفال بالجامع، واغتصبوا النساء والأبكار، وقتلوا الشيوخ، وخربوا المساجد، ولم تقف فظائعهم عند

(1) البيان المغرب ص 422

ص: 548

حد. وكان وقوع هذا الاعتداء المروع على ثغر سلا، في اليوم الثاني من شهر شوال سنة 658 هـ (10 سبتمبر 1260 م)(1).

وترامت هذه الأنباء المؤلمة، إلى السلطان أبي يوسف، وهو بفاس، فأهمته وأزعجته، فهرع في بعض قواته إلى سلا، وحاصر النصارى بها، واجتمعت من الأنحاء القريبة، طوائف كبيرة من المتطوعة، وقاتل النصارى من فوق الأسوار، وتبادل الفريقان الرمى بالنبال والأحجار، واستمر القتال على هذا النحو بضعة أيام، حتى اليوم الثالث عشر من شوال، وقتل عدد من النصارى، وأيقنوا أنهم لا يستطيعون الصمود، واضطروا أخيراً إلى مغادرة المدينة، ومعهم جملة كبيرة من أسرى المسلمين، وما نهبوه من المال والمتاع، واستقلوا سفنهم المرتبطة إلى الشاطىء، وأقلعوا بها على عجل، وذلك في اليوم الرابع عشر من شوال. وفي الحال استولى أبو يوسف على سلا ورباط الفتح، وأمر بإصلاح ما تهدم من سورها الغربي، وإصلاح جامعها ومساجدها، وكان يشترك مع كبراء قومه، في رفع الأحجار، ابتغاء الأجر.

وأما يعقوب بن عبد الله، فقد فر من القصبة، ولحق بحصن علودان من جبال غمارة، وامتنع به، فبعث أبو يوسف في أثره ولده الأمير أبا مالك، في قوة من الجند لمنازلته. وسار النصارى بسفنهم حذاء الشاطىء، دون أن يتزودوا، وهم يحاولون الحصول على الماء والطعام، والمسلمون يردونهم أينما حلوا، واستنقذ أهل العرائش منهم ثلاثة وخمسين أسيراً، نظير الماء، وانفصل بعض النصارى عن جماعتهم، وحصلوا على الأمان، والتحقوا بخدمة أبي يوسف، ودلت أنباء الطلائع المسلمة، على أن ملك قشتالة، كان قد جهز حشوداً أخرى، لإنجاد رجاله، ومعاونتهم على الاحتفاظ بسلا، فلما علم بانسحابهم، قرر معاقبة قائدهم خوان غرسية، ولكن خوان استطاع الفرار مع نفر من صحبه، إلى مياه أشبونة، ولم يعد إلى قاعدته في قادس (2).

وأما أسرى سلا، الذين حملهم النصارى معهم، في سفنهم، فقد بالغت الرواية في تقدير عددهم. وقيل إن ما أنزل منهم في إشبيلية، بلغ نحو ثلاثة آلاف من الجنسين كباراً وصغاراً، فافتدى أهل شريش المدجنون، منهم ثلاثمائة وثمانين،

(1) الذخيرة السنية ص 103، والبيان المغرب ص 424.

(2)

البيان المغرب ص 426 - 428، وابن خلدون ج 7 ص 178

ص: 549

وبعث السلطان أبو يوسف، في أواسط شهر ذي الحجة من نفس العام، رسولا خاصا إلى الأندلس، هو أبو بكر بن يعلى، ليعمل على افتداء الأسرى، فافتدى معظمهم، ومنهم قاضي سلا. بيد أنه بقى منهم عدد لم يعرف مصيرهم (1).

وبعث الخليفة المرتضى بهذه المناسبة، إلى الفقيه العزفى صاحب سبتة، رسالة مؤرخة في الثالث من ذي القعدة سنة 658 هـ، يزجى إليه الشكر فيها، على ما قام به من تحذير أهل السواحل، ويشيد بخلاله وإخلاصه، ويرجوه أن يستمر، على التعريف بكل ما يقف عليه، من خطط العدو تجاه المغرب، وقد أورد لنا ابن عذارى نص على هذه الرسالة (2).

وقد كشف عدوان النصارى على سلا، عن وجود خطر جديد، يهدد سلامة المغرب، لم يكن متوقعا، ولم يحسب حسابه. ونستطيع القول بأن هذه المحاولة، من جانب إسبانيا النصرانية، كانت هي البداية الأولى، لتلك السلسلة المتوالية من حملات العدوان المنظم، التي اضطلعت بها إسبانيا النصرانية، والبرتغال فيما بعد، ضد شواطىء المغرب الشمالية والغربية، والتي بدأها البرتغاليون بالاستيلاء على ثغر سبتة في سنة 818 هـ (1415 م) ثم طنجة في سنة 869 هـ (1464 م).

ولبث السلطان أبو يوسف حينا بثغر سلا، ينظم أمورها ويصلح ما خرب منها، وكان النصارى قد أحرقوا وخربوا وأتلفوا معظمها، وقدّم على ولايتها أبا عبد الله بن أحمد الفنزارى، ثم غادرها، واستولى على بلاد تامسنا، وخضعت له سائر القبائل المجاورة (3).

ولما رأى الخليفة الموحدي - المرتضى بالله -، أنه لم يبق ثمة أمل في المقاومة، والكفاح ضد بني مرين، بعث إلى السلطان أبي يوسف هدية سنية، ومعها رسالة من أشياخ الموحدين، وسائر الفقهاء والصلحاء، يلتمسون إليه الصلح والموادعة، فاستجاب السلطان لرغبتهم في عقد السلم، وجعل وادي أم الربيع، حدا بينه وبين ما تبقى من مملكة الموحدين (4).

وكان من ذيول ثورة يعقوب بن عبد الله بسلا، أن حذا حذوه أبناء عمه أولاد إدريس، وهم أبناء أخي السلطان، فثاروا بقصر كتامة، تضامنا مع يعقوب، واجتمعوا تحت راية كبيرهم محمد بن إدريس، والتف حولهم جمع

(1) البيان المغرب ص 428.

(2)

البيان المغرب ص 425.

(3)

الذخيرة السنية ص 104.

(4)

الذخيرة السنية ص 104

ص: 550

كبير من القرابة والصحب، واعتصموا بجبال غمارة، فبعث السلطان حملة، لقتالهم، ثم استنزلهم واسترضاهم، وعقد لأخيهم عامر بن إدريس، على جيش من نحو ثلاثة آلاف مقاتل، من بني مرين ومن المطوعة. وكانت رسائل ابن الأحمر صاحب غرناطة، تترى منذ حين على أبي يوسف، طلبا للعون والنصرة، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، فبعث أبو يوسف ذلك الجيش الصغير، إلى الجهاد بالأندلس، فعبروا إلى شبه الجزيرة، واستقبلهم ابن الأحمر بالضيافات والكرامات، وساروا أولا إلى مالقة، فاستقروا بها بقية سنة ستين. وفي العام التالي سنة 661 هـ، سار أولئك المجاهدون إلى أرض الفرنتيرة، وقصدوا إلى مدينة شَريش، وكانت قد دعت بطاعة ابن الأحمر، ولكن النصارى احتلوها، فانتزعها المرينيون من أيدي النصارى واحتلوها، ولكن لمدى قصير فقط. بيد أن عبور هذه الكتائب المرينية القليلة، إلى شبه الجزيرة، كان فاتحة لهذا التعاون القوي المثمر، الذي انعقد بين بني الأحمر ملوك غرناطة، وبين بني مرين، ضد إسبانيا النصرانية، واستمر عصراً يشد من أزر مملكة غرناطة، ويمكنها من الصمود ضد أعدائها (1).

أما يعقوب بن عبد الله، فقد استمر على ثورته وعصيانه، معتصما بمختلف النواحي، إلى أن قتله قائد المرينيين طلحة بن علي، بناحية أرض عبولة، على مقربة من ثغر سلا، في سنة 668 هـ، فلقى بذلك جزاءه وانتهى أمره (2).

وكان من حوادث هذا العام أيضاً - 659 هـ - أن بعث ابن الأحمر صاحب غرناطة سفنه لغزو سبتة، لسوء تفاهم وقع بينه وبين صاحبها العزفى، فلقيتها سفن سبتة، بقيادة الرنداحى، وهزم أسطول الأندلس وقتل قائده ظافر، وسمى هذا العام بعام ظافر (3).

- 6 -

في خلال هذه الفترة المليئة بالحوادث، من تاريخ بني مرين، والتي انتزعوا فيها رقاعاً وثغوراً جديدة هامة، من أشلاء الدولة الموحدية، وأخذ نجمهم يتألق في قلب المغرب الأقصى، كان الخليفة الموحدي المرتضى لأمر الله، عاكفاً في

(1) الذخيرة السنية ص 112، والبيان المغرب ص 439، وابن خلدون ج 7 ص 179.

(2)

ابن خلدون ج 7 ص 179.

(3)

البيان المغرب ص 431

ص: 551

حاضرته، التي قصت أطرافها، على معالجة الصغائر من الأمور، ومساجلة طوائف العرب ومصانعتها، وكان قد قدّم يعقوب بن جرمون على عرب سفيان حسبما ذكرنا من قبل، فأمر يعقوب لأمرٍ ما بقتل ابن أخيه كانون. فثار عليه إخوة القتيل، وتربصوا به وقتلوه، ورحلوا إلى بلاد بني مرين، ودخلوا في طاعتهم، فلما وقف المرتضى على ذلك، قدم على سفيان عبد الرحمن بن يعقوب، ولكنه لم يكن عاقلاً حريصاً كأبيه، ففي ذات يوم قام بنهب قوافل التجار المارة في وادي تانسيفت، على مقربة من مراكش، ولما خشى عواقب فعلته، جاهر بخلع طاعة الموحدين، وفر إلى أرض بني مرين، والتجأ إلى حمايتهم، فقدم المرتضى عندئذ على سفيان، مسعود بن كانون، وكان حازماً عاقلاً فاستقامت على يده الأمور.

ووفد عندئذ على مراكش عواج بن هلال، من زعماء الخلط، ناكثا لطاعة بني مرين، وكان معه عسكر كبير من قومه، فأكرم المرتضى وفادتهم، وأجزل صلاتهم، ولما علم بذلك عبد الرحمن بن يعقوب، بعث إلى الخليفة في طلب الصفح والأمان، فأجيب إلى طلبه، ووفد هو أيضاً إلى مراكش، في جمع كبير من قومه، فاستقبله الخليفة بالترحاب، ثم دبر الحيلة في التخلص منه، جريا على طريقته المأثورة، في إزهاق من يخرج على طاعته، فاستُدرج ذات يوم مع وزرائه، وقتلوا جميعا، وعلقت رؤوسهم على باب دُكاله، وبقى مسعود بن كانون أميراً على سفيان. وقدم اسماعيل بن يعقوب بن قيطون، أميراً علي بني جابر، وعلي بن أبي على، أميراً على عرب الخلط. أما عواج بن هلال فقد وشى به وأعدم (1).

على أن اشتغال المرتضى، بأمر أولئك الأعراب، لم ينسه المسألة الرئيسية، وهي الكفاح ضد بني مرين. ولم يكن ذلك الصلح الذي عقد بينه وبين أبي يوسف، عقب سقوط سلا ورباط الفتح، سوى هدنة مؤقتة، وسلام زائف، ولم يكن أبو يوسف من جانبه، ينوى التوقف عن مطاردة الموحدين، حتى يظفر بالقضاء على دولتهم بصورة نهائية. ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، حتى خرج أبو يوسف من حضرته فاس، إلى أرض تامسنا، بقصد الرعى والكلأ، وتوطيد نفوذه بين القبائل الضاربة في تلك الأنحاء، مثل برغواطة وغيرها. وكان المرتضى من جانبه يتأهب لمحاولة جديدة لقتال بني مرين وصد تقدمهم. فحشد جيشاً مختاراً

(1) البيان المغرب ص 432 و 433

ص: 552

من الموحدين والعرب والأغزاز والروم (النصارى المرتزقة)، وعهد بقيادته إلى أبي زكريا يحيى بن وانودين. فسار هذا الجيش إلى وادي أم الربيع شمالي مراكش، وكان السلطان أبو يوسف قد استعد هنالك للقاء الموحدين أتم استعداد. ووقع اللقاء بين الجيشين، عند مكان من الوادي (النهر) تبدو فيه كدى، أو جزائر صغيرة، ينحسر عنها الماء وكأنها أرجل، ومن ثم فقد سميت الواقعة، التي نشبت هنالك بين الجيشين، موقعة " أم الرجلين ". وكانت موقعة عنيفة انتهت بوقوع الهزيمة على الموحدين، وتمزيق صفوفهم، ومقتل العدد الجم منهم. فولوا الأدبار واستولى بنو مرين على محلتهم وسائر عتادهم ومتاعهم. وكان ذلك في سنة 660 هـ (1262 م). وارتد ابن وانودين في فلوله إلى مراكش، واعتذر للخليفة بأن الهزيمة، ترجع إلى تخاذل عرب بني جابر وغدرهم. وكان للهزيمة أعمق وقع في العاصمة الموحدية وخشى الناس أن يزحف المرينيون إليها، فأغلقت بعض أبوابها، ثم ساد الهدوء بعد ذلك، بعد أن جاءت الأخبار بانصراف بني مرين إلى بلادهم (1).

وفي نفس هذا العام، خرجت عقب موقعة " أم الرجلين "، حملة موحدية جديدة، إلى بلاد السوس، بقيادة محمد بن علي بن آصلماط، وذلك لإخماد ثورة علي بن يدر، ولكنها ما كادت تشتبك مع قوات الثائر، حتى هزم الموحدون، وقتل قائدهم ابن آصلماط، فكان لتلك الكسرة الجديدة، أسوأ صدى. وعندئذ قدّم المرتضى على بلاد السوس أبا زيد بن يخيت أحد وزرائه، وبعث معه قائد الروم (النصارى المرتزقة) المسمى ذا اللب (دون لوبى) في قوة من جنده، واضطرمت الحرب بين الموحدين وبين علي بن يدر مرة أخرى، فصمد على ابن يدر، وافترق الجيشان دون حسم، وأبدى دون لوبى تهاونا وتخاذلا، وكان على غير تفاهم مع ابن يخيت، فكتب ابن يخيت بذلك إلى الخليفة، فاستدعاه وأمر سراً بقتله وزملائه، فقتلوا في طريق العودة على يد أبي زيد بن زكريا الجدميوى (2). وكان السلطان أبو يوسف يعتزم بعد موقعة (أم الرجلين)، أن يسير أخيراً إلى مراكش، لافتتاحها والقضاء على الدولة الموحدية المحتضرة،

(1) الذخيرة السنية ص 105، وهو يضع تاريخ الموقعة في سنة 659 هـ، والبيان المغرب ص 431، وابن خلدون ج 6 ص 259 وج 7 ص 179، وكلاهما يضع تاريخها في سنة 660 هـ.

(2)

ابن خلدون ج 6 ص 260، والبيان المغرب ص 436

ص: 553

ولكن أخّره عن ذلك حادث لم يكن في الحسبان. وذلك أن أبناء أخيه الأمير أبي يحيى وهم أبو مظهر وأبو سالم وأبو حديد، ساروا إلى طنجة في ثلاثمائة فارس من بني مرين وغيرهم، ونزلوا بها، فأكرم صاحبها ابن الأمين وفادتهم، ولكنهم غدروا به وقتلوه، فثار لذلك رجال ابن الأمين، وقتلوا من بالقصر من بني مرين واستدرجوا من كان منهم بالمدينة إلى القصبة، وقتلوهم تباعا، ووقع الهرج بالمدينة، وخشى أهلها من انتقام بني مرين، فخاطبوا الفقيه العزفى صاحب سبتة، فبعث إليهم بسفنه وعلى رأسها القائد الرنداحى، فاستولى على طنجة، وقبض على أولاد ابن الأمين وصحبه، واستاقهم إلى سبتة، وولي العزفى على طنجة واليا من قبله هو ابن حمدان. ولما وقف الأمير أبو يوسف على ما حدث من مقتل قرابته وفرسانه، وحماية العزفى لأهل طنجة، سار في بعض قواته إلى سبتة، فحاصرها وقتا، وقاتله أهلها من فوق السور، ولم يستطع أن ينال منها مأربا (662 هـ)(1).

- 7 -

وهنا أزفت الخطوة الحاسمة، واعتزم أبو يوسف أن يقوم بضربته الأخيرة، بالسير إلى مراكش، فسار في قواته وعبر وادي أم الربيع، واستمر في تقدمه، حتى نزل بجبل إيجليز، على مقربة من العاصمة الموحدية، وتقدمت عساكر الموحدين لصده، ونشبت عدة معارك محلية، كانت سجالا بين الفريقين، وقتل ولد أبي يوسف الأمير عبد الله، في إحدى هذه المعارك، وكانوا يسمونه برطانهتم " العجوب " أو" العجب "، وذلك لفائق جماله، وفروسته وشجاعته، وعلو همته. فوقف القتال، وساد الحزن والوجوم في المحلة المرينية، وبعث المرتضى رسولا خاصاً إلى أبي يوسف، يعزيه في فقد ولده، فتأثر أبو يوسف لذلك أيما تأثر، ووافق رسل المرتضى على الارتحال، على مال معلوم، يدفع إليه كل عام. وتضع الرواية تاريخ هذه الحملة في سنة إحدى وستين أو اثنتين وستين وهو الأرجح (2).

بيد أنه وقع حادث جديد، أذكى من عزم أبي يوسف، ومهد له السبيل

لتنفيذ مشروعه. وذلك أن السيد أبا العلاء إدريس بن السيد عبد الله بن السيد

(1) البيان المغرب ص 439 و 440.

(2)

البيان المغرب ص 440، والذخيرة السنية ص 108، وابن خلدون ج 7 ص 179

ص: 554

أبي حفص بن الخليفة عبد المؤمن، وهو كما يبدو من نسبه، من أبناء عمومة المرتضى، ويعرف بالأخص بأبي دبوس لأنه كان وقت وجوده بالأندلس، يحمل الدبوس باستمرار فشهر به (1)، كان السيد أبو العلاء هذا أو أبو دبوس، ناقما على المرتضى، لأمور تختلف في شأنها الرواية، فمن ذلك ما يقوله روض القرطاس من أنه كان يخشى أن يقتله المرتضى، لوشاية رفعت إليه في حقه (2)، وما يقوله لنا ابن خلدون من أن أبا دبوس، كان من قادة الجيش الموحدي، في موقعة " أم الرجلين "، فلما وقعت الهزيمة على الموحدين، سعى بعض خصومه، في حقه لدى الخليفة، فشعر بهذه السعاية، وخشى سطوة المرتضى. ويزيد الأمر إيضاحا ما يقوله صاحب الذخيرة السنية، من أن السعاية في حق أبي دبوس للمرتضى، كانت تتلخص في أنه يكاتب بني مرين ويصانعهم، وأنه يفكر في القيام ضد المرتضى، ويعتمد في ذلك على محبة الناس له لشجاعته (3). وأخيراً يقول لنا ابن عذارى، إن نقمة أبي دبوس على المرتضى، كانت ترجع إلى " اهتضام جانبه في أحواله ". وهكذا اضطرب الجو بين الخليفة، وبين ابن عمه، وشعر أبو دبوس، أن حياته أصبحت في خطر، ففر من القصبة، مع ابن عمه السيد أبي موسى، وذلك في المحرم سنة 663 هـ، وقصد توا إلى فاس، ملتجئاً إلى السلطان أبي يوسف. فلما وقف المرتضى على ما حدث أمر بالقبض على أولاد السيدين الفارين، والتحوط على دورهما، ومطاردة كل من يشتبه في اتصاله بهما. وسأل أبو دبوس أبا يوسف العون والنصرة، وعرض عليه مشروعه، في أن يعينه بقوة من بني مرين، وما يلزم من النفقة، لافتتاح مراكش وأحوازها، وأنه يتمتع في ذلك بتأييد معظم الموحدين والكافة، وأن يكون هذا الفتح مشتركا، ومناصفة بينهما، فوافق أبو يوسف على مشروعه، وأمده بجيش من بني مرين، قوامه ألف فارس أو ثلاثة أو خمسة آلاف وفقاً لأقوال أخرى، وزوده بالخيل والعتاد والسلاح والمال، وبالكتب اللازمة، لحث زعماء العرب والقبائل، الذين في طريقه، للنهوض إلى معاونته. وخرج أبو دبوس في حشوده من فاس، في شهر ذي القعدة سنة 663 هـ (أغسطس 1265 م)، وسار أولا إلى مكناسة،

(1) الحلل الموشية ص 127، والبيان المغرب ص 454.

(2)

روض القرطاس ص 174.

(3)

ابن خلدون ج 7 ص 179، والذخيرة السنية ص 123

ص: 555

ثم إلى المعدن ثم إلى تادلا، ثم سار إلى هسكورة، في جنوب شرقي مراكش، فنزل بها، على زعيمها مسعود بن جلداسن، ولبث هنالك مدى حين (1).

وتوافد على أبي دبوس، خلال إقامته بجبال هسكورة، كثير من الأنصار من كل صوب، وأطاعته قبائل هزرجة، وسائر بطون هسكورة، ووفد عليه كثير من الموحدين، والجند الراغبين في خدمته، فقوى أمره بالجبل، وتوجس المرتضى لما بلغه من ذلك، وقبض على مسعود بن كانون شيخ سفيان، وزجه إلى السجن، وقبض كذلك على شيخ بني جابر، وقائد الروم غرسية، وذلك لشبهة تواطئهم مع أبي العلاء. على أنه لم يفعل شيئاً، للتحوط ضد الهجوم المنتظر، بل لقد بعث بعسكره في تلك الآونة الدقيقة، لقتال حاحة ورجراجة، والظاهر أن ذلك كان بتحريض الوزراء، الضالعين مع أبي دبوس، وذلك لكي تخلو العاصمة، من أسباب الدفاع. وكان من جراء مطاردة المرتضى للزعماء، والقبض عليهم، أن هرع كثير من جند سفيان وبنى جابر، وكذلك فر كثير من الجند الروم، مع قائدهم زنار، وانضموا إلى قوات أبي دبوس.

ولما وقف أبو دبوس، من أنصاره في مراكش على مجرى الحوادث، وعلم أن العاصمة أضحت بلا دفاع، وأنه من جهة أخرى قد استكمل أهباته، وكثرت حشوده وعساكره، عول على تحقيق مشروعه، في انتزاع العاصمة الموحدية، والاتشاح بثوب الخلافة. فسار في قواته صوب أغمات، فخرج إليه واليها أبو زيد ابن يخيت، في جند الموحدين، لصده عن أغمات، فهاجمتهم فرسان أبي دبوس، فهزموا شر هزيمة، وقتل ابن يخيت وجنده، وسار أبو دبوس بعد ذلك إلى مراكش، بعد أن تحقق من أخبار أنصاره وعيونه في العاصمة، أن الفرصة قد أضحت مؤاتية، وتقدمه عرب سفيان الموالين له، حتى وصلوا إلى باب الشريعة، فسرى الاضطراب إلى المدينة، كل ذلك والمرتضى صامت جامد، إلى أن قرر أخيراً مواجهة الموقف، وبعث رجاله فتفقدوا الأسوار فلم يجدوا بها حراسة ولا حراسا، وكان الوقت قد فات لاتخاذ أي إجراء مجدى، وصعد بعض رجال هسكورة إلى السور، وهبطوا إلى الداخل، وفتحوا باب الصالحة، الواقع في جنوبي المدينة، وكان أبو دبوس قد وصل إليها في حشوده، ووقف المرتضى

(1) الذخيرة السنية ص 123 و 124، وروض القرطاس ص 174، ابن خلدون ج 7 ص 179، والبيان المغرب ص 441

ص: 556

على ما تقدم، وشهد بنفسه اجتماع الجند القادمين بين الأبواب، وسمع قرع الطبول، وأدرك أنه لم يبق أمل في المقاومة، فقرر الفرار، وأخذ في الأهبة له. وقرر أبو دبوس من جانبه دخول المدينة، فدخلها من باب الصالحة أو باب الكحل، وذلك في ضحى يوم السبت الثاني والعشرين من المحرم سنة 665 هـ (أكتوبر سنة 1266 م)، ولكنه لم يستطع دخول القصبة حتى العصر، حينما أيقن بفرار المرتضى، وخلو القصر من عاهله، ودخل رجال هسكورة إلى المدينة، وانقضوا على القيسارية، ونهبوها وأحرقوها، ونهبوا الدور وعاثوا فيها (1).

أما المرتضى فإنه فر من القصر في عصر ذلك اليوم، وخرج من باب النحل، ومعه اثنان من وزرائه وبعض أولاده، وقصد إلى الجبل، صوب منازل كيك. ولكنه لم يجد بينهم نصيراً يلتجىء إليه، وألفى معظمهم بالعكس، قد انضم إلى جانب خصمه، فسار مع أولاده إلى مدينة أزمور، وكان واليها عبد العزيز ابن عطوش صهره، وكان قد افتداه من أسر بني مرين بمال كثير، ولكنه لم يستطع دخول المدينة، لأن واليها الغادر، كان قد بعث ببيعته إلى أبي دبوس، ولجأ المرتضى وأولاده، إلى غار على شاطىء البحر، حتى يظفر بمثوى أمين. وكان أبو دبوس مذ دخل القصر، قد أرسل في أثره جماعة من الخيل والرجال، فطاردوه حتى أزمور، وظفروا به، وكبله الوالي هو وأولاده، في انتظار إرسالهم إلى أبي دبوس (2).

وهكذا استولى أبو العلاء إدريس، أبو دبوس، على العاصمة الموحدية، وبويع بالخلافة بجامع المنصور، وبايعه كافة الموحدين، والأشياخ والوزراء والقضاة، وذلك في اليوم التالي لدخوله المدينة، يوم الأحد الثالث والعشرين من المحرم سنة 665 هـ، وتلقب بالواثق بالله. وكان هذا الأمير الموحدي، الذي شاء القدر، أن تنتهي على يديه الدولة الموحدية، حسبما تصفه الرواية، داهية شجاعا، وافر الفروسة، حازما مقداما في الأمور، وكانت أمه أم ولد رومية اسمها شمس الضحى. وكان أبيض اللون أشقر الشعر واللحية، أزرق العينين، طويل القامة، كبير اللحية، مهيب الطلعة (3).

(1) البيان المغرب ص 444 - 446، والذخيرة السنية ص 125، وروض القرطاس ص 175، وابن خلدون ج 7 ص 180.

(2)

البيان المغرب ص 448 و 449.

(3)

روض القرطاس ص 174 والبيان المغرب ص 454

ص: 557

ووزر للخليفة الجديد، السيد أبو زيد عبد الرحمن بن السيد أبي عمران، وأخوه السيد أبو موسى عمران بن أبي عمران، وكتب له أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله التلمسانى، وهما من كتاب سلفه.

وما كاد الواثق بالله يستقر بالحضرة، حتى أجمع الناس على طاعته، وتوافدوا على الحضرة، من كل مكان، ورأى اجتذابا لعطف الشعب وتأييده، أن يرفع المغارم والكلف عن الناس، سواء في الحواضر أو البوادى، وأن يقتصر على الفروض الشرعية، التي جرى عليها العمل في بداية الدولة، وأمر بالعفو عن المجرمين. ولكن كانت تنقصه الموارد والأموال، ولم يجد شيئاً منها بالقصر أو بيت المال، فكتب وزيره السيد أبو موسى عمران عن لسانه، إلى الخليفة المعتقل - المرتضى - كتابا، يسأله عن مصير الأموال التي كانت بيده، وأن يعرفه بمكان إيداعها، إذ هي أموال المسلمين، وأنه إن فعل " شمله عفو أمير المؤمنين " فكتب إليه المرتضى بخطه، يؤكد أنه لا يعرف أي مستودع للمال، وأنه لم يودع ولم يدفن شيئاً، وأن المال كان كثيراً، وقت وصول المرينى، ولكنه نفد بعد ذلك، ثم يقسم له على صحة كلامه ويناشده أن يحقن دمه، ويبقى على حياته، ويسترحمه ويدعو له، في عبارات مؤثرة (1). فلما وقف الواثق بالله على كتابه، تأثر لمحنته، وبعث السيد أبا موسى عمران، مع أبي سرحان بن كانون، وجماعة من سفيان، للقيام باستقدام المرتضى، واستحضاره إليه. ولكن حدث بعد مسيرهم، أن نصح السيد أبو زيد إلى الواثق، بعدم الإبقاء على المرتضى، وحذره مما قد يترتب على مقدمه، من التأثير في موقف الجند والرعية، فبعث الواثق براءة بخطه، إلى السيد أبي موسى، وحملها إليه عمر بن آصلماط، تتضمن وجوب قتل المرتضى، في أول مكان يلتقى به فيه. فالتقى به في موضع يسمى " فرزغون " من أرض دكاله، وكان السيد أبو موسى، قد وصل إلى هذا المكان، ومعه المرتضى وأولاده، وهم في الأصفاد على الدواب، فلما وقف على أمر الخليفة الواثق، أخذ المرتضى جانبا، وأنزله عن دابته، وأعدم قتلا بالسيف، ودفن حيث قتل، وكان مصرعه في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من صفر سنة 665 هـ (22 نوفمبر سنة 1266 م)(2)

(1) نقل إلينا صاحب البيان المغرب نص كتاب أبي موسى إلى المرتضى، ونص رد المرتضى عليه ص 449 و 450.

(2)

البيان المغرب ص 450 و 451

ص: 558

وهكذا هلك الخليفة المرتضى بالله، بعد أن تولى الخلافة، زهاء تسعة عشر عاما، وهي فترة طويلة، لم تتح لخليفة موحدى آخر، من بعد عبد المؤمن وولده أبي يعقوب يوسف، وكانت فترة حاسمة في تاريخ الدولة الموحدية. ففي خلالها تم تفكك الإمبراطورية الموحدية الشاسعة، وأخذت أشلاؤها المقتطعة، تسقط تباعا في أيدي خصومها، فانفصلت سبتة وطنجة، وقامت في كل منهما حكومة مستقلة، ثم توالى استيلاء بني مرين، بعد انتزاعهم لرباط تازا، على حضرة فاس، ثم سجلماسة ودرعة، ثم على سلا ورباط الفتح، وقامت ببلاد السوس ثورة وحكومة مستقلة. وهكذا فقدت الإمبراطورية الموحدية، في عصر المرتضى سائر أقطارها وحواضرها الهامة، ولم يبق منها بيد الخلافة الموحدية، سوى حضرة مراكش، ورقعة تمتد بين وادي أم الربيع ووادي تانسيفت، حتى ثغر أزمور، ولقد حاول المرتضى غير مرة، أن يكافح وأن يصد بني مرين، وقد خاض أكثر من موقعة، ولكنه لم يبد في أية مرة، من صدق العزم والجلد، ما كان يبديه أسلافه، في الدفاع عن تراثهم وعن أراضيهم، وكان أكثر اهتماما بالدعة والاستقرار، وحياكة الدسائس، والبطش بخصومه بأساليبه الغادرة، التي جرى عليها طوال حكمه، ولم يكن للمرتضى خلال أو مناقب بارزة، يمكن أن يشيد بها المؤرخ، ولم يكن ما تذكره الرواية عن علمه وورعه وزهده، سوى ستار، يحجب ما يضطرم داخل نفسه، من مشاعر الحقد والضغن، وشهوة البطش والغدر.

ووزر المرتضى رجال غير لامعين، مثل أبي محمد بن يونس، وأبي عبد الله محمد الجنفيسى، وأبي زيد بن عزوز، وأخيه السيد أبي اسحق، وأبي محمد بن أصناج، وأبي يوسف بن تيجا الجدميوى، وأبي موسى بن عزوز الهنتاتى، وغيرهم، وقد صاهر المرتضى هذين الوزيرين الأخيرين، وزوج كل منهما ابنة من بناته. وكتب للمرتضى أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله التلمسانى، وكلاهما من كتاب العصر البلغاء (1).

وكان الخليفة المرتضى فقيها عالما، وأديباً شاعراً. ويقول لنا ابن عذارى إنه قد وقف على مجلد من شعره ونثره، بيد أن شعره كان ضعيفاً، ثم يورد لنا شيئاً من نظمه. فمن ذلك قوله من قصيدة نظمها في شهر ربيع:

(1) البيان المغرب ص 389

ص: 559

وافى ربيع قد تعطر نفحه

أذكى من المسك العتيق نسيما

بولادة المختار أحمد قد بدا

يزهو به فخرا وحاز عظيما

وقوله في معنى الزهد:

ولما مضى العمر إلا الأقل

وحان لروحى فراق الجسد

دعوت إلآهى مستعطفا

ليصلح منى ما قد فسد

وكان شغوفا بالكتب والتصانيف، وكان ممن يتمتع بعطفه ورعايته، من علماء عصره، الفقيه أبو محمد ابن القطان، وقد ألف له جملة من الكتب، منها كتاب " نظم الجمان وواضح البيان فيما سلف من أخبار الزمان " وهو الذي انتفعنا به، وأشرنا إليه فيما تقدم. في غير موطن. وكتاب " شفاء الغلل في أخبار الأنبياء والرسل " ركتاب " الأحكام لبيان آياته عليه السلام " وكتاب " المناجاة " وكتاب " المسموعات " وفيه قصائد مختارة في فضائل المولد النبوى، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وغير ذلك (1). وقد أشاد ابن القطان في كتابه " نظم الجمان " بذكر المرتضى ومديحه، مما يدل على أنه كان متمتعاً بسابغ رعايته وجزيل صلاته (2).

وتصف الرواية المرتضى، بأنه كان معتدل القامة، ساطع البياض، عالى الأنف، أسيل الخد، أشيب، لا يخضب بحناء أو غيرها (3).

أما أولاد الخليفة المرتضى، فقد زجهم أبو دبوس إلى السجن، فلبثوا معتقلين فيه طوال مدته، حتى أطلق سراحهم الأمير أبو يوسف المرينى، حينما دخل مراكش في أوائل سنة 668 هـ، إلاّ كبيرهم محمد، فكان قد قتل في سجنه بأمر أبي دبوس. ولما أطلق سراحهم، غادروا المغرب وعبروا إلى الأندلس، والتجأوا إلى حماية ألفونسو العاشر ملك قشتالة، وعاشوا بإشبيلية تحت كنفه أعواما طويلة، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى غرناطة، وأقاموا بها تحت رعاية ملكها ابن الأحمر، وأطلق لهم ملك غرناطة، ما يكفيهم من الأرزاق الشهرية. ويقول ابن عذارى إنهم كانوا بغرناطة حتى هذا الوقت الذي كتب فيه قصتهم. ويزيد على ذلك أن أخاهم أبا زيد، غادر الأندلس في سنة 684 هـ، وعبر إلى المغرب وسار إلى السوس راكبا على حمارة، وسمته العامة من أجل ذلك بأبي حمارة،

(1) البيان المغرب ص 452 و 453.

(2)

كتاب " نظم الجمان " المخطوط السابق ذكره لوحة 67.

(3)

البيان المغرب ص 389

ص: 560

وأنه نزل بجبل سكسا وعاش هنالك، وهو يرتزق من النسخ، وأنه كان مايزال بقيد الحياة، هو وأخوه محمد المقيم بغرناطة، حتى الوقت الذي كتب فيه ابن عذارى هذه السطور، وهو عام اثنى عشر وسبعمائة (1).

هذا، وتقدم إلينا الرواية الإسلامية، قصة أخرى عن أخ لأبي دبوس، آخر الخلفاء الموحدين، هو السيد أبو زيد بن السيد عبد الله، حفيد الخليفة عبد المؤمن، خلاصتها أن هذا السيد، أو السويد حسبما تنعته الرواية، كان مقيما بالأندلس، وكان قد لجأ إلى ملك قشتالة ألفونسو العاشر، وعاش تحت رعايته بمدينة إشبيلية. وفي أواخر سنة 659 هـ (1261 م)، أعلن هذا السويد اعتناقه لدين النصرانية، في حفل عام أقيم لهذا الغرض، فقام ملك قشتالة بحلق لحيته بيده، وكساه حلة ملوكية، وعندئذ صعد السويد الموحدي، إلى كرسى عال يشرف منه على الناس، ثم قال:" أشهدكم يا من حضر من المسلمين والنصارى واليهود، أننى قدمت على دين النصرانية منذ أربعين سنة، وكنت أكتمه، وأنا الآن قد أبحته وأظهرته، وأن دين المسيح بن مريم، هو الدين القديم الأزلى "، ثم تحدث ملك قشتالة، فأثنى على السويد وهنأه باعتناق النصرانية. على أن هذا السويد المتنصر لم يعش طويلا بعد تنصره، فقد توفي بإشبيلية بعد ذلك بأربعة أشهر فقط، وذلك في أوائل سنة 660 هـ (1262 م)(2).

وإنا لنقف قليلا، عند هذه الظاهرة الأليمة، التي تكررت بين بعض السادة من بني عبد المؤمن، وهي إقبالهم على اعتناق النصرانية، وخروجهم بهذه الطريقة المثيرة، على دين آبائهم وأجدادهم العريق، الذين جاهدوا في سبيل إعزازه أيما جهاد، وعلى إمامتهم الموحدية، ومقام خلافتهم العظيمة. وليس من شك في أن هذه الرِّدة، التي تكررت على يد أبي محمد عبد الله البياسى، وأخيه السيد أبي زيد والي بلنسية، ثم على يد هذا السويد أبي زيد، لم تكن ترجع إلى بواعث تتعلق بالإيمان أو العقيدة، وإنما كانت ترجع إلى بواعث مادية ودنيوية، وذلك حسبما تدلى به بالأخص حالة البياسى وأخيه السيد أبي زيد. ولا ريب أن في هذه الصفحة المؤلمة ما يصدع من هيبة الخلافة الموحدية، ومن عظمة تاريخها.

(1) البيان المغرب ص 454. وهذه السطور تكشف لنا لأول مرة، عن جانب من حياة المؤرخ ابن عذارى، والعصر الذي عاش فيه، وقد امتد حسبما ينبئنا بنفسه، إلى ما بعد سنة 712 هـ، ومن ثم فقد عاصر المرحلة الأخيرة من حياة الدولة الموحدية، وشطراً كبيراً من حياة الدولة المرينية في مراحلها الأولى.

(2)

الذخيرة السنية ص 106

ص: 561