الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة
مرض الخليفة أبي يعقوب يوسف. عنايته باستدعاء العرب وحشدهم لمؤازرته. قصيدة ابن طفيل في حثهم على الجهاد. قصيدة ابن عياض في ذلك. استجابة العرب للنداء. مسير بعض طوائفهم إلى مراكش. شفاء الخليفة وجلوسه لاستقبال الوفود. خروج الخليفة وجيشه لاستقبال حشود العرب. المباريات الرياضية بين الفريقين. مبايعة العرب للخليفة. مآدب الطعام. تمييز عسكر العرب والتوسعة في أجورهم. تمييز الموحدين. توزيع الخيل والسلاح على الفريقين. الإنعام والبركة. خروج الخليفة في قواته من مراكش. وصف الموكب الخلافي. رباط الفتح. اتخاذها مركزاً لتجمع الجيوش الموحدية. تجديد منشآتها. تمييز جديد للجيش. استئناف السير إلى قصر مصمودة. العبور إلى الأندلس. المسير إلى إشبيلية ثم قرطبة. جلوس الخليفة للسلام والتهنئة. مسير الخليفة إلى إشبيلية. عزل ابن المعلم ومحاسبته. إنشاء قنطرة طريانة. إمداد بطليوس بالمؤن. إنشاء قصور البحيرة. إنشاء البستان. إجراء الماء إلى المدينة. إنشاء الجامع الأعظم. وصف ابن صاحب الصلاة لمراحل بناء الجامع وصنع منبره. تطور طراز المنشآت الموحدية. اقتراح أكابر الشرق غزو مدينة وبذة. موافقة الخليفة. خروجه في قواته من إشبيلية إلى قرطبة. مسيره صوب القصر فأندوجر. استيلاؤه على حصن بلج. تسليم حصن الكرس. المسير إلى وادي شقر. مسير السيد أبي سعيد في جيش إلى وبذة. معركة بين الموحدين والنصارى. وصول الخليفة في قواته إلى وبذة. هجوم الجيش الموحدي على وبذة. التفافه بالمدينة. انسحاب القشتاليين إلى الداخل وامتناعهم بالقصبة. فشل الهجوم الموحدي. محاصرة الموحدين للمدينة. عصف الرياح والأمطار. مقدم جنود الشرق. استئناف الموحدين للهجوم. فشلهم للمرة الثانية. حث الشيخ أبي محمد للناس على الجهاد. محاولة الموحدين إقناع القشتاليين بالتسليم. فشل هذا المسعى. قرار الخليفة بالرحيل. مهاجمة القشتاليين للجيش المنسحب. ارتداد الموحدين نحو قونقة. عطاء الخليفة لأهل قونقة. مسير الموحدين صوب نهر شقر. ظهور طلائع القشتاليين. إحجام الموحدين عن القتال. استئناف السير نحو أراضي بلنسية. الوصول إلى ركانة. اختلال الجيش وقلة الأقوات. تسريح جنود الشرق. الوصول إلى بلنسية ثم شاطبة فأوريولة فمرسية. نظر الخليفة في شئون مرسية. المسير إلى إشبيلية. نزول آل مردنيش بها. تكوين قوة من أهل الثغور للغزو. تأملات عن فشل الموحدين في حملة وبذة. عجز القيادة الموحدية. تفكك الجيش الموحدي. تقلب العرب وتخاذلهم. حوادث الغرب. الأحوال في مدينة باجة. تربص النصارى بها. مسير ألفونسو هنريكيز وجيرالدو لافتتاحها. مداهمة النصارى لها واستيلاؤهم عليها. تخريبهم لها ثم مغادرتها. عدم اكتراث الموحدين بسقوطها. اشتغال الخليفة في إشبيلية بإتمام الجامع والقصور. غزو القومس الأحدب لأحواز قرطبة. مسير الموحدين لرد النصارى. إدراكهم عند قلعة رباح. القتال بين الفريقين. هزيمة القشتاليين ومصرع
القومس. الاحتفال بالنصر في إشبيلية. غزو الموحدين لأراضى قشتالة. وصولهم إلى طلبيرة وتخريب بسائطها. سعى النصارى إلى عقد المهادنة. عقد الهدنة بين الموحدين وبين صاحب طليطلة وملك قشتالة وملك البرتغال. دخول جيرالدو سمبافور وجنده في خدمة الخليفة. بقية أخباره ومصرعه. تعمير قواعد الغرب. تعمير مدينة باجة. نكث فرناندو ملك ليون وغزوه لأراضي الأندلس. مسير الموحدين إلى مدينة ردريجو. زواج الخليفة بابنة أمير الشرق محمد بن سعد. نكبة الخليفة لابن عيسى. تعيينه لأخيه أبي على والياً لإشبيلية وأخيه أبي الحسن والياً لقرطبة. مغادرة الخليفة لإشبيلية وعبوره إلى المغرب.
نرجع الآن قليلا إلى الوراء، لنتتبع مراحل الغزوة الأندلسية التي وعد بها الخليفة أبو يعقوب يوسف من بدايتها. وقد سبق أن أشرنا إلى مضمون الرسالة التي بعث بها الخليفة إلى الموحدين بالأندلس في شهر ربيع الآخر سنة 564 هـ، يؤكد فيها حرصه على إغاثة الأندلس والعمل على نصرتها، ونياته في استئناف الجهاد، وإلى ما قام به من إرسال جيش موحدي إلى الأندلس، تحت إمرة الشيخ أبي حفص عمر، ليكون تقدمة لهذا الجهاد. بيد أنه لم تأت أوائل سنة 565 هـ، حتى مرض الخليفة، واستطال مرضه زهاء أربعة عشر شهراً، حتى ربيع الأول سنة 566 هـ. وكان يتولى علاج الخليفة خلال تلك النازلة الخطيرة، طبيباه، أبو مروان بن قاسم وأبو بكر بن طفيل (1). وهذه أول مرة تقدم إلينا الرواية الموحدية فيها، الفيلسوف والطبيب الكبير ابن طفيل، باعتباره طبيب الخليفة الموحدي، وكان يتولى الاتصال به وزيره أبو العلاء إدريس بن جامع، يعرض عليه المخاطبات الواردة في مسائل الوفود، وأخبار الشئون المطمئنة، وتحجب عنه الأمور المكدرة، والقاضي أبو محمد عبد الله المالقي إذ كان يثق بعلمه وأمانته وحسن نصحه وتدبيره، وبعض الثقاة من أشياخ الموحدين. وكان أهم ما عنى به الخليفة أثناء مرضه. هو العمل على استدعاء العرب من إفريقية وترغيبهم للمشاركة في الجهاد. وقد سبق أن أشرنا إلى طوائف أولئك العرب الذين كانوا يحتلون بعض مناطق إفريقية (تونس) الجنوبية، وهم من بني هلال، وسُليم، وزغبة، ورياح، والأثبج، وإلى أسباب نزوحهم إلى إفريقية، وما كان من موقفهم من الخليفة عبد المؤمن، وما قام به عبد المؤمن من محاولة استمالتهم إلى المشاركة في الجهاد بالأندلس. وقد لبثت السياسة الموحدية من ذلك الحين تعمل على استمالتهم وحشدهم في صفوف الجيوش الموحدية، وذلك بالرغم مما جبلوا
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 138 ب.
عليه من التقلب وعدم الولاء. ومن ثم فقد حذا الخليفة أبو يعقوب في ذلك حذو أبيه، وبذل بالرغم من مرضه جهوداً خاصة، في استمالة أولئك العرب إلى مؤازرته فيما ينتويه من الجهاد، والقيام بالغزوة العظمى في جزيرة الأندلس، وكان مما أشار به الخليفة يومئذ، وهو يعلم ما للشعر البليغ في نفس العربي من عميق الأثر، أن توجه إلى العرب قصيدة حماسية، يشاد فيها برفيع أصولهم وأرومتهم، وكونهم هم السيف الماضي في نصرة الدين، وقمع المارقين والكافرين. فنظم طبيبه الفيلسوف ابن طفيل، تحقيقاً لتلك الغاية، قصيدة طويلة تفيض بلاغة، وروعة، وتدل على ما كان للفيلسوف في نفس الوقت، من منزلة عالية في النظم، تضعه في صف أكابر الشعراء. وإليك بعض ما جاء في تلك القصيدة الرائعة التي أوردها لنا بتمامها ابن صاحب الصلاة:
أقيموا صدور الخيل نحو المضارب
…
لغزو الأعادي واقتناء الرغائب
وأذكوا المذاكي العاديات على العدا
…
فقد عرضت للحرب جرد السلاهب
فلا تقتني الآمال إلا من القنى
…
ولا تكتب العليا بغير الكتائب
ولا يبلغ الغايات إلا مصمم
…
على الهول ركّابٌ ظهور المصائب
ومنها في استمالة العرب والإشادة بهم:
ألا فابعثوها همة عربية
…
تحف بأطراف القَنى والقواضب
أفرسان قيس من بني هلال بن عامر
…
وما جمعت من طاعن ومضارب
لكم قبة للمجد شدوا عمادها
…
بطاعة أمر الله من كل جانب
وقوموا لنصر الدين قومة ثائر
…
وفيئوا إلى التحقيق فيئة راغب
دعوناكم نبغي خلاص جميعكم
…
دعاء بريئاً من جميع الشوائب
نريد لكم ما نبغي لنفوسنا
…
ونؤثركم زلفى بأعلى المراتب
لكم نصر الإسلام بدءاً فنصره
…
عليكم وهذا عوده جد واجب
فقوموا بما قامت به أوائلكم
…
ولا تغفلوا إحياء تلك المناقب
وقد جعل الله النبي وآله
…
ومهديّه منكم بلا عيب عائب
ومن ذا الذي يسمع ليبلغ شأوكم
…
إذا كنتم فوق النجوم الثواقب
ومنها في الختام:
وما الحزم إلا طاعة الله إنها
…
هي الحَرَم المنّاع من كل طالب
نعدكم السيف الذي ليس ينثني
…
إذا ما نبا سيف بِرَاحة ضارب
ونجعلكم صدر القناة إذا غدت
…
تأطّرُ ما بين الحشى والترائب
وليس خطيب الصدق من قال فانبرى
…
ولكن فعل الحرِّ أصدق خاطب
وما خلق الأعْراب خلاف موعد
…
ولكن صدق الوعد خلق الأعارب
سنعلم من أوفى ومن خان عهده
…
ومن كان من آت إلينا وذاهب (1).
وأمر الخليفة أن تتبع قصيدة ابن طفيل بشعر آخر يوجه إلى العرب، استعجالا لهم واستنهاضاً لهممهم، فوجهت إليهم قصيدة ثانية من نظم ابن عيّاش هذا مطلعها:
أقيموا إلى العلياء عوج الرواحل
…
وقودوا إلى الهيجاء جرد الصواهل
وقوموا لنصر الدين قومة ثائر
…
وشدوا على الأعداء شدة صايل
ْفما العز إلا ظهر أجرد سابح
…
يفوت الصبي في شده المتواصل
وأبيض مأثور كأن فرنده
…
على الماء منسوج وليس بسائل
وأسروا بني قيس إلى نيل غاية
…
من المجد تجنى عند برد الأصائل
تعالوا فقد شُدت إلى الغزو نية
…
عواقبها مقصورة على الأوائل (2).
وقد كان لهذه الخاطبة الشعرية أثرها فيما يروى ابن صاحب الصلاة، في نفوس العرب في إفريقية، ولاسيما في منطقتي الزاب والقيروان، فاجتمع زعماؤهم، وحزموا أمرهم على المبادرة إلى الاستجابة لنداء الخليفة. وكان شيخ بني رباح وزعيمهم جبارة بن كامل بن أبي العيش، وهو الذي كان قد فر أيام عبد المؤمن من إفريقية، فيمن فر من أشياخ العرب، حين دهمتهم القوات الموحدية في جنوبي القيروان، قد عاد من المشرق في هذه الآونة بالذات بعد أن تجول في ربوعه حيناً، ورأى أن يقتدى بزملائه في الاستجابة إلى " الأمر العزيز ". فجمع قومه، وسار إلى بجاية، وقصد إلى أميرها السيد أبي زكريا يحيى أخي الخليفة، فأكرم وفادته، ولحق به بقية الزعماء والأشياخ، وتحرك الجميع في صحبة السيد
(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة تلك القصيدة في " المن بالإمامة " لوحات 139 أوب، و 140 أ، وهي تحتوي على أربعين بيتاً، ونقل ابن عذارى معظمها في البيان المغرب القسم الثالث ص 88 و 89. ونشرت في العدد الأول من مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (سنة 1953).
(2)
أوردها ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 140 ب. وورد قسم منها في المعجب ص 125.
أبي زكريا إلى حضرة مراكش، ومعهم أموالهم وجملة كبيرة من عتاق الخيل، ولما وصلوا إلى تلمسان سار معهم واليها السيد أبو عمران موسى أخو الخليفة بمن عنده من العمال والأموال والخيل. وكان الخليفة أبو يعقوب قد شفى عندئذ من مرضه الطويل، فلما بلغته أنباء مقدم العرب، واقترابهم من الحضرة، سر بذلك أيما سرور، وخرج إلى المسجد الجامع يوم الجمعة السادس عشر من ربيع الأول سنة 566 هـ، في جو يسوده الحبور والبشر، وبعد ذلك بيومين جلس الخليفة لاستقبال أشياخ الموحدين وطلبة الحضر، والأجناد والخاصة من أهل الوفود والقضاة، وخطب في هذا الحفل الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر، والقاضي أبو يوسف، والفقيه أبو محمد المالقي، وأمر الخليفة بإخراج الصدقات للضعفاء والمساكين والوافدين الغرباء، ثم صدر الأمر بأن يكون وصول العرب الوافدين، ومن معهم إلى حضرة مراكش في ضحى يوم السبت الثاني من شهر ربيع الآخر سنة 566 هـ.
وكانت الأوامر قد صدرت أثناء ذلك إلى جميع الجند الموحدين بالحضرة بالاستعداد واستكمال الزي والهيئة، وفرقت عليهم بهذه المناسبة الدروع، والبيضات والرماح والأسلحة والكسى والأعلام. وفي صبيحة يوم السبت المذكور بكر الحفاظ والطلبة من الموحدين وسائر الجند إلى باب السدّة، وانتظمت صفوفهم جُملا جُملا، تتقدمهم الطبول العديدة. ولما كمل ترتيب الموكب، برز الخليفة أبو يعقوب ممتطياً صهوة فرسه الأشقر، وإلى جانبه وزيره أبو العلا إدريس ابن جامع، سائراً على قدميه لصق ركابه، وهو يراجعه فيما يعن من الأمور، وفي ساقة الخليفة، يسير سائر الإخوة الصغار والبنين، ومن ورائهم حملة البنود، وأكابر الموحدين يحمل كل منهم علماً، وعليه درع سابغة لامعة تسطع تحت أشعة الشمس، وتتبعهم سائر الأجناد من الحشم والروم والعبيد. وتقرر أن يكون اللقاء في الفحص الشاسع القريب من المدينة، فلما وصل الموكب إلى الفحص المذكور، والطبول تقرع بشدة، والجيوش تبدو في أكمل هيئة، ضربت قبة الخليفة، ونزل فيها مع إخوته وبنيه. وأقبلت عساكر العرب وأهل إفريقية، ومعهم السيدان أبو زكريا يحيى، وأبو عمران موسى أخوا الخليفة. ولما التقى الموكبان على هذا النحو، أمر الخليفة أن يحمل الفريقان من العسكر كل على الآخر حملة مبارزة ورياضة ولعب، ففعلا، وتجاوبا وتصاولا حتى العصر، والطبول
تقرع، وقد أبدع كل منهما في حركاته ومناوراته. ثم تقدم أخوا الخليفة وأشياخ الموحدين وأشياخ العرب وجميع الوافدين للسلام على الخليفة، وانصرف الخليفة بعد ذلك في عسكر الموحدين إلى المدينة، وضرب العرب محلتهم في الفحص. وفي اليوم التالي، الثالث من ربيع الأول، أمر الخليفة بدخول أشياخ العرب والوفود لمبايعته، وأخذ العهد عليهم، فأدخلوا واستغرقت بيعتهم أسبوعاً حتى العاشر من ربيع الأول.
وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول، خرج الخليفة عقب الصلاة إلى البحيرة (البستان) خارج الحضرة، ومدت المآدب العظيمة لإطعام العرب والوافدين. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان من شهود هذه الحفلات كلها، هيئة الإطعام، فيقول إن كل طائفة من ثلاثة آلاف رجل كان يقدم لها الطعام، وكلما انتهت طائفة من الأكل، سارت إلى موضع الخليفة وسلمت ودعا لها. واستمر حفل الإطعام أياماً، وقد أربى ما كان يقدم فيه على ما تقدم من الإنعام المماثل. ولم يعكر صفو هذا الحفل سوى مشادة حدثت بين صبيان الموحدين وأتباع العرب، وقعت خلالها بعض الاعتداءات على النفس والمال، وبادر العرب بالاعتذار وطلب العفو من الخليفة لما وقع من أتباعهم، فصفح الخليفة عنهم، وأمر بالاستمرار في إطعامهم وإكرامهم (1).
وكانت آخر خطوة في هذه الأحداث المتعاقبة، إجراء التمييز لعسكر العرب والموحدين، ففي اليوم الثامن من جمادى الأولى أمر الخليفة بتمييز العرب الوافدين ومن وصل معهم، وأن يحضروا بين يديه في رحبة قصره بدار الحجر، ورتب دخولهم كل يوم بعدد معلوم من مختلف القبائل، فاستمر تمييزهم خمسة عشر يوماً، والخليفة جالس في مجلسه مع أشياخ الموحدين وأشياخ طلبة الحضر وأشياخ العرب، يحرض العرب والناس على الجهاد، ويحث على التفاني فيه. ولما انتهى التمييز، دعا الخليفة أشياخهم وكبراءهم، وأحضرت زمامات التمييز الأول، أيام الخليفة عبد المؤمن، فوجدت في التمييز الجديد زيادة كبيرة في الأجور. وكان قصد الخليفة من التوسعة على العرب، أن يمتنعوا عن عاداتهم الذميمة في الاعتداء على الأموال وخطف العمائم والثياب والسروج وغيرها،
(1) يقدم إلينا ابن صاحب الصلاة وصفاً ضافياً لهذه الاستقبالات والحفلات في" المن بالإمامة " لوحات 146 ب إلى 149 ب.
وأن يستميلهم إلى طاعته ومؤازرته، ثم بدىء بتمييز الموحدين من غرة جمادى الآخرة واستمر تمييزهم أيضاً خمسة عشر يوماً، وفق منازلهم وقبائلهم، ووزعت على أثر ذلك على الموحدين والعرب الخيل وعُدد الحرب من الرماح والدروع والبيض والسيوف وغيرها. واختتم التمييز بما يسمى في المراسيم الموحدية " بالإنعام بالبركة " وتوزيع الأعطية. وأقيم لذلك حفل ضخم جلس فيه الخليفة في مجلسه، ومن حوله أشياخ الموحدين وأشياخ العرب، وأحضرت الأموال بين يديه، أكواماً من الذهب والفضة، من دنانير ودراهم، وقُدم الموحدون في تنفيذ البركة، فأصاب الفارس الكامل منهم عشرة دنانير، وغير الكامل ثمانية، والراجل ْالكامل خمسة دنانير وغير الكامل ثلاثة. وحصل العرب على منح مضاعفة، فأصاب الفارس الكامل منهم خمسة وعشرين ديناراً، وغير الكامل خمسة عشر، والراجل سبعة دنانير، ومُنح أشياخ العرب خمسون ديناراً لكل منهم، ومنح كل رئيس قبيلة مائتا دينار، ووزعت على الجميع الكسى من القباطي والنفاير والعمائم، وزودوا بالسيوف المحلاة والدروع السابغات والبيض والقنا، وأمر لهم بثلاثة آلاف فرس وزعت على مختلف القبائل، وحصل الموحدون كذلك على جملة كبيرة من الخيل قسمت عليهم بحسب قبائلهم ومنازلهم. وكان يوماً مشهوداً، سادت فيه الغبطة والحماسة بين الأشياخ والجند، وارتفعت قواهم المعنوية، وأخذوا يتطلعون إلى الغزو المنشود في عزم وثقة (1).
- 1 -
وهكذا تمت أهبة الخليفة أبي يعقوب يوسف للغزوة الأندلسية التي اعتزمها، والتي عاقه المرض حيناً عن إتمامها، وعلى هذا النمط الذي أفاض في وصفه، ابن صاحب الصلاة، ولخصناه فيما تقدم، كانت تُحشد الجيوش الموحدية، ويجرى استعداد الخليفة الموحدي للغزو. وفي اليوم الرابع من شهر رجب سنة 566 هـ الموافق 13 مارس سنة 1171 م غادر أبو يعقوب حضرة مراكش في حشوده من الموحدين والعرب، وكان خروجه من باب دُكّاله، وقد هرعت الجموع الغفيرة لرؤيته، فسار وأمامه العلم الأبيض، ومن ورائه حملة الطبول، وقد قدم أمامه مصحف عثمان محمولا على جمل مرتفع، وعليه قبة صغيرة حمراء، وقد وضع في تابوته الفخم المرصّع بنفائس الجوهر والياقوت والزمرد، وأمام مصحف
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 150 ب و 151 أوب.
عثمان، مصحف الإمام المهدي، وكان يسير إلى جانب حملة الأعلام والطبول، الوزير أبو العلاء إدريس بن جامع، ومعه الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر صاحب المهدي، وأبو محمد عبد الله المالقي شيخ طلبة الحضر، وقاضي الجماعة أبو موسى عيسى بن عمران، وعدة آخرون من أشياخ الموحدين. ونزل الخليفة في وادي تانسيفت على قيد ثلاثة أميال من مراكش، وهو أول منازل الرحلة، وعساكره محدقة به من كل صوب. ثم غادره في اليوم التالي إلى جسر الخطابة إلى توبين، ثم إلى تودجين. واستمر في سيره على هذا النحو حتى وصل إلى وادي أم الربيع، وهو في كل مرحلة ينزل في الدار التي أعدت لنزوله، وجاز العسكر الوادي تباعاً فوق القنطرة التي عملت لذلك، وقد خصص يوم لجواز كل قبيلة. ثم استأنف السير حتى وصل إلى مقربة من المهدية، وهي التي سُمّيت عندئذ برباط الفتح. وكان موضع هذه المدينة التي غدت في عصرنا عاصمة المغرب، سهلا براحاً به مرافق لأهل سلا، وبعض أعيان إشبيلية، فاشتراه الخليفة عبد المؤمن من أصحابه. ولما وفد في قواته على سلا في سنة 545 هـ، لاستطلاع أحوال جزيرة الأندلس واستدعاء شيوخها وطلبتها من الموحدين، أمر حسبما تقدم، بأن ينشأ في ذلك الموضع قصبة حصينة على اللسان الممتد في البحر أمام سلا، وبأن ينشأ سرب لجريان الماء من عين عبولة، القريبة إلى محلته التي أنشأها، فتم ذلك في بضعة أشهر، وجرى الماء ليستقي منه الناس والدواب وتروى الأرض، وغرست الجنات والرياض، وأذن الخليفة للناس بالسكنى وإنشاء الديار والأسواق. وهكذا قامت مدينة رباط الفتح. وكانت الرباط، منذ عهد عبد المؤمن مركز تجمع الجيوش الموحدية الغازية سواء إلى إفريقية أو الأندلس. ولما تم فتح إفريقية غدت بالأخص مجاز الجيوش المسيرة إلى الأندلس. ولما وصل الخليفة أبو يعقوب إلى مقربة من الرّباط نزل في فحصها مع الوزراء والأشياخ والكبراء، وأمر بأن تُغرس في أركان تابوت مصحف عثمان الأربعة، أربع رايات، رفعت على أربع رماح صغار، في أعلى كل منها تفاحة من الذهب يسطع بريقها الوهاج، وللرايات ألوان أربعة، الخلدى والأحمر، والأصفر والأبيض. ثم اقتعد الخليفة غارب فرسه الأشقر، وسار على النظام الذي سبق وصفه، ومن ورائه حشود الموحدين والعرب وقد ملأت البسائط.
فلما أشرف على الرباط، أمر بتقديم الطبول والرايات أمامه مع المصحفين تعظيماً لشأنهما، وتبعه الوزراء والأشياخ والكتاب والطلبة، حتى وصل إلى باب المدينة، فرد وجهه للناس واستقبلهم ودعا لهم، وأمرهم بالنزول في السهل الشاسع، ونزل بالدار المعدة لنزوله، وكان وصول الخليفة إلى رباط الفتح في اليوم العشرين من شهر رجب سنة 566 هـ، وبذا استغرقت رحلته إليها من مراكش، سبعة عشر يوماً (1).
وأمر الخليفة على أثر وصوله أن تجدد السقاية التي أنشأها والده عبد المؤمن، وكانت قد خربت، وأسن ماؤها، فجددت وأعيدت إلى حالتها الأولى، وأنشىء إلى جانبها صهريج عظيم ليمدها بالماء المتجمع فيه، وكذلك أمر بأن ينشأ جسر جديد فيما بين الرباط وسلا على نهر أبي رقراق، إلى جانب الجسر الذي كان قد أنشأه أبوه، ثم خرب بفعل الزمن، فأقيم جسر عظيم فوق القوارب، وغطى بالحجر والجيار الثابت. وأمر أخيراً بالبدء في بناء أسوار المدينة من جهتي الجنوب والغرب، وهي الأسوار التي أكملت فيما بعد في عهد ولده الخليفة يعقوب المنصور. وفي اليوم الثامن من نزوله أمر بتحرك العساكر، وأن يقام لهم تمييز جديد، وأشرف على تمييز العرب السيد أبو زكريا أخو الخليفة، وأبو محمد عبد الله المالقي لمعرفته بهم وبأنسابهم. ثم وزعت الكسى على الأشياخ من كل قبيل، وعلى طلبة الحضر، والعرب، وخُص كثير منهم بأخبية وخيل عتاق، وكذلك وزعت الصدقات على الضعفاء والمساكين، وقضيت حوائج الناس، ثم اتخذت الأهبات الأخيرة لاستئناف السير.
وفي عشية يوم الجمعة التاسع من شهر شعبان سنة 566 هـ، صدرت الأوامر بالحركة، وعبرت الجند البحر إلى سلا فوق الجسر الجديد. وفي صباح اليوم التالي تقدم الشيخ أبو سعيد يخلف بن الحسين بالموحدين حتى تم جوازهم، ثم تلاه السيد أبو زكريا بالعرب، واستغرق جواز العسكر خمسة أيام، وفي الخامس عشر من شعبان غادر الخليفة رباط الفتح، ومعه وزيره ابن جامع، والأشياخ والحفاظ والطلبة والعبيد، بنفس النظام الذي تقدم وصفه، ونزل بالموضع المعروف بالحمام على مقربة من وادي سبُو تجاه ثغر المعمورة، وتلاحق سائر العسكر إلى الوادي، فاجتمع من عسكر الموحدين عشرة آلاف فارس، واجتمع كذلك
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 152 أإلى 154 ب.
من العرب عشرة آلاف فارس، وهذا غير المتطوعة والمجاهدين، فإذا ذكرنا أن الشيخ أبا حفص بن يحيى، كان قد تقدم الخليفة بجيش كبير إلى شبه الجزيرة في أوائل سنة 564 هـ، وأن السيد أبا حفص أخا الخليفة، تلاه في جيش كبير آخر عبر إلى شبه الجزيرة في أوائل سنة 566 هـ، وهو الجيش الذي اضطلع بمحاربة ابن مردنيش والقضاء على مملكة الشرق، أدركنا ضخامة الجيوش الموحدية التي أعدت للغزو بالأندلس.
ووصل الخليفة في قواته الجرارة إلى قصر مصمودة غربي ثغر سبتة (1)، وبدأ عبور الجند إلى شبه الجزيرة، عن طريق ثغر طريف، في مستهل رمضان من سنة 566 هـ (8 مايو سنة 1171 م) واستمر عبورها أكثر من أسبوعين، وفي اليوم السابع والعشرين من رمضان عبر الخليفة في خاصته، واستقبله في طريف زعماء الأندلس وأكابرها من سائر القواعد، ثم تحرك إلى إشبيلية، ودخلها في يوم الجمعة الثاني عشر من شهر شوال (18 يونيه) واستقبله الأشياخ والناس استقبالا حافلا، فاستراح بها عشرة أيام، ثم سار إلى قرطبة في الثاني والعشرين من شوال، فوصل إليها في غرة ذي القعدة (5 يوليه). ونزلت القوات الموحدية في داخل قرطبة وفي خارجها على ضفتي الوادي، مدة إقامة الخليفة بها، وقد استطالت إلى آخر ذي الحجة سنة 566 هـ. وفي يوم عيد الأضحى، خرج الخليفة للصلاة وألقيت الخطبة المعتادة، واحتفل بالنحر، ثم استقبل الأشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، وانصرف إلى دار الإمارة. وفي اليوم التالي جلس بالقصر، مجلس السلام والتهنئة، وأقبل أشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، وطلبة الحضر، والفقهاء والقضاة والكتاب، وأهل الوفود، وأعيان قرطبة، أقبلوا جميعاً للسلام، وأنشد الشعراء كالعادة مدائحهم وتهانيهم، وكان في مقدمتهم أبو بكر بن المُنخّل، وقد أنشد بين يدي الخليفة قصيدة طويلة أوردها لنا ابن صاحب الصلاة، ومما جاء فيها:
شرّف الخلافة أن ملكتَ زمامها
…
يحمي جوانبها فكنتَ حسامها
(1) قال الإدريسي في وصف قصر مصمودة " إنه يقع غرب سبتة على قيد 12 ميلا، وهو حصن كبير على ضفة البحر تنشأ به المراكب والحراريق التي يسافر فيها إلى بلاد الأندلس.
وهي على رأس المجاز الأقرب إلى ديار الأندلس " (وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص 168).
طبع الإله لها حساماً صارماً
…
وغدوت من عقد الإمام إمامها
ورأت عداة الله أن حمامها
…
من قيس عيلان فكنت حمامها
فعلى رماحك أن تشق صوبها
…
وعلى سيوفك أن تفلّق هامها (1).
وفي خلال إقامة الخليفة بقرطبة سُيرت حملة موحدية بقيادة عبد الله بن أبي حفص ابن تفريجين وبعض أشياخ الموحدين نحو أراضي قشتالة، وكان القصد من تسييرها أن تقوم بغارة انتقامية لما ارتكبه القشتاليون بقيادة الكونت نونيو دي لارا من العيث والتقتيل في أراضي المسلمين، قبل ذلك بنحو عامين، فسار الموحدون شمالا، وعبروا نهر التاجُه، وعاثوا في منطقة كبيرة من أراضي قشتالة، وعادوا إلى قرطبة مثقلين بالسبي والغنائم، ونحن نذكر أن الجيوش الموحدية، كانت قبل ذلك ببضعة أشهر، قد سارت بقيادة السيد أبي حفص أخي الخليفة لحصار مرسية ومقاتلة ابن مردنيش في عقر أراضيه، والقضاء على سلطانه في شرقي الأندلس، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه، وكانت الأنباء تتوالى على الخليفة، وهو بقرطبة، بما أنزله الموحدون بابن مردنيش من الضربات والهزائم، وما استولوا عليه من بلاده، وبما يؤذن بإحرازهم النصر النهائي في تلك المعركة الحاسمة.
- 2 -
غادر الخليفة أبو يعقوب يوسف قرطبة، بعد أن أقام بها شهرين، في آخر شهر ذي الحجة سنة 566 هـ، قاصداً إلى إشبيلية، فوصل إليها في الثاني من محرم سنة 567 هـ (5 سبتمبر 1171 م)، ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان شاهد عيان لكل ما تقدم من تنقلات الخليفة، إن الخليفة لم يحتل من دور إشبيلية سوى ستين داراً، وأنه اشترى بها مائة دار من ماله الخاص لتكون منزلا للوافدين إليه، وذلك رفقاً منه بأهل المدينة (2)، وكانت إشبيلية قد غدت عندئذ قاعدة الحكومة الموحدية بالأندلس، وذلك بعد أن ترددت هذه الحكومة حيناً بين قرطبة وغرناطة وإشبيلية. وكانت إشبيلية بموقعها على مقربة من البحر وعلى مقربة من العدوة، أصلح من الناحية الإستراتيجية من قرطبة، لاستقبال
(1) تشغل هذه القصيدة من " المن بالإمامة " لوحة 159 ب و 160 أوب.
(2)
ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 156 ب.
الجيوش الموحدية الوافدة، واستقبال عتادها وذخائرها ومؤنها، ومن جهة أخرى، فقد أثبتت الحوادث، منذ مقدم الموحدين إلى شبه الجزيرة، أن تيار الغزو النصراني للأندلس، قد تحول إلى ناحية الغرب، وأن قيام مملكة البرتغال الجديدة، واشتداد ساعدها، قد نقل الصراع الرئيسي بين إسبانيا المسلمة، وإسبانيا النصرانية إلى هذه الناحية من شبه الجزيرة، وهذا ما أيدته في الأعوام الأخيرة، معارك بطليوس، وغزوات ألفونسو هنريكيز، وهذا ما سوف تؤيده الحوادث فيما بعد، وهو مما يدل على بعد نظر السياسة الموحدية في هذا الشأن. وأخيراً فقد كانت إشبيلية، بعد الذي أصاب قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، من ضروب التخريب والعفاء منذ أيام الفتنة، ومختلف الحروب والثورات، كانت أرقى عمراناً، وأوسع رحاباً، ولاسيما منذ أيام بني عباد، حيث غدت أعظم حواضر الأندلس وأجملها. ولهذا كله اختار الموحدون أن تكون إشبيلية حاضرتهم وقاعدة حكومتهم بالأندلس.
وما كاد الخليفة يصل إلى إشبيلية، حتى أمر بعزل محمد بن سعيد المعروف بابن المعلم، وكان يتولى أعمال المخزن أو إدارة الشئون المالية بإشبيلية والأندلس، وأُمر بالسير إلى قرطبة لمحاسبته، والتحقيق في سير أعماله، وكانت قد علقت به وبتصرفاته في تنفيذ المنشآت والمشاريع العامة ريب كثيرة، وندب لمحاسبته الفقيه أبو محمد المالقي والكاتب أبو الحكم بن عبد العزيز، وانتهى الأمر باستصفاء أمواله، ثم إعدامه فيما بعد. وقدّم الخليفة مكانه على أعمال إشبيلية، أبا داود بلول ابن جلداسن. وقد كان للخليفة عند حلوله بإشبيلية برنامج ضخم من الأعمال الإنشائية، سوف يضطلع بلول، وزير المال الجديد، في تنفيذه بأعظم قسط.
وكان أول ما أشار به الخليفة من تلك الأعمال بناء قنطرة عظيمة على نهر الوادي الكبير، تصل ما بين إشبيلية وطريق طُريانة، ضاحيتها الغربية، وتيسر سبل المواصلات في اتجاه الغرب، فحشد لها العرفاء والصناع، وتم إنشاؤها في نحو شهر، في السابع من صفر سنة 567 هـ، وحضر الخليفة يوم إكمالها وافتتاحها، في حفل ضخم، رفعت فيه البنود وقرعت الطبول. وينوه ابن صاحب الصلاة بما كان لإنشاء هذه القنطرة العظيمة من حسن الأثر، وما حققته للناس من يسر ورخاء، إذ كان المرور بها دون قبالة أو رسوم.
وفي خلال ذلك، حضر السيد أبو حفص أخو الخليفة من حصن مرسية،
وذلك قبل وفاة ابن مردنيش وانقضاء أمره بأشهر قلائل، فاستقبله الخليفة خارج إشبيلية، باحتفال بالغ. واجتمع الأخوان للبحث فيما يجب عمله لحماية الأندلس ورد عدوان النصارى عنها. وكان أول ما تقرر في ذلك أن ترسل حملة ضاربة من الموحدين تحمل الميرة والعتاد والمرافق اللازمة لمدينة بطليوس، فخرجت هذه الحملة في الثامن من شهر صفر، وجازت فوق القنطرة الجديدة إلى طريانة، فكانت أول عسكر يجوز عليها، وسارت إلى بطليوس. فلما اقتربت من المدينة، هاجمت حصن ليون الواقع على مقربة من شرقي بطليوس على ضفة وادي يانه، وكانت تحتله حامية من النصارى من جند جيرالدو سمبافور، واقتحمته عنوة، وأوصلت حمولتها من الميرة والسلاح إلى بطليوس، ثم عادت سالمة إلى إشبيلية.
ولما كللت حملة مرسية بالنجاح، وتوفي ابن مردنيش، وانتهت مملكة الشرق، قَدِم هلال بن مردنيش وأكابر الشرق إلى إشبيلية، في مستهل رمضان سنة 567 هـ، وقدموا خضوعهم وطاعتهم للخليفة، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه.
وقد استطالت إقامة الخليفة أبي يعقوب يوسف بإشبيلية والأندلس زهاء خمسة أعوام، وبالرغم من أنه قام خلال إقامته بغزو أراضي النصارى، وذلك تحقيقاً لمشروعه الرئيسي في العبور إلى الأندلس، فإن أهم ما تميزت به تلك الفترة، هو اضطلاعه بالأعمال الإنشائية العظيمة بمدينة إشبيلية، وهي التي بدأها ببناء القنطرة على الوادي الكبير. والظاهر أن أبا يعقوب، كان يحبو هذه المدينة العظيمة، التي أنفق فيها أعواماً عديدة من شبابه حاكماً لها أيام أبيه عبد المؤمن، بكثير من الحب والإعجاب، ومن ثم فإنا نراه يعمل بهمة عظيمة على تحصينها وتجميلها، وتزويدها بالمنشآت الفخمة، والمياه الجارية. وكان أول ما عنى به بعد إنشاء القنطرة، هو إنشاء القصور الخليفية المعروفة " بالبحيرة ". وكانت إشبيلية تزدان بعدد من القصور الملكية، هي قصور بني عباد السالفة، وكانت ما تزال، في هذا العصر، بعد أكثر من مائة عام، تحتفظ بكثير من روعتها وفخامتها، ولكن الخليفة الموحدي، لم يرق له أن يتخذ من تلك القصور مقامه، واكتفى بتخصيصها لنزول الأمراء والكبراء الوافدين. وكان السيد أبو حفص، أخو الخليفة، قد ابتنى خلال زياراته لإشبيلية بعض الدور في وادي إشبيلية خارج باب الكُحل، فرأى الخليفة أن يقيم قصوره خارج باب جهور، في أرض الجنان المنسوب
لأبي مسلمة القرطبي بعد أن عوض أصحابه جناناً في مكان آخر. وأقيمت في هذا الموضع طائفة من القصور والدور الفخمة للخليفة وحاشيته. وقام على إنشائها العريف أحمد بن باسُه عريف الأندلس، والخبير بشئون القصور، فجاءت على أبدع طراز، وأقيمت حولها من جميع الجهات أسوار من الجيار والرمل والحصى. وعهد الخليفة إلى أبي القاسم أحمد بن محمد الحوفي القاضي، وأبي بكر محمد ابن يحيى الجد، لما عرف عنهما من الأمانة والخبرة الهندسية والزراعية، أن يقوما بإنشاء بستان عظيم حول هذه القصور من أموال المخزن (الأموال العامة) تُجلب إليه الغراس من الزيتون والأعناب والفواكه وسائر الأنواع النادرة الغريبة من الأشجار والغراس، فقاما بتنفيذ أمره، وعُوّض أهل الأراضي التي أدخلت في البستان عن أراضيهم تعويضاً مرضياً. وعهد بأعمال الحفر والغراس إلى أبي داود بلول بن جلداس، متصرف إشبيلية وأعمالها وأمين الخليفة، وجلبت إلى البستان آلاف الغراس والأشجار من مختلف الأنحاء، وغُرست فيه على أجمل نسق. وحملت غراس التفاح والأجاص (الكمثرى) وغيرها من غرناطة ووادي آش، وكان الوزير أبو العلاء بن جامع وابنه يحيى يلازمان الجلوس للإشراف على العمل من الصباح إلى المساء، وكان الخليفة يخرج من قصره بإشبيلية مع أعيان الموحدين لمشاهدة الأعمال الجارية ومدى تقدمها. ويفيض ابن صاحب الصلاة كعادته في وصف هذه القصور وجمالها وفخامتها (1).
وكانت الخطوة التالية بعد إنشاء القصور والبستان، النظر في استجلاب الماء لتوفير السقاية والري. وكان يوجد خارج باب قرمونة، على الطريق المتجه إلى قرمونة، أطلال قنطرة رومانية قديمة، قد درست وعفت، ولم يبق منها سوى حجارتها المتساقطة. فقام المهندس الأندلسي البارع الحاج يعيش المالقي، وهو الذي تولى الإشراف على أعمال جبل طارق، بالحفر حول هذا الأثر، حتى تحقق لديه، أنه كان قنطرة رومانية تحمل الماء من سرب قديم إلى إشبيلية، ثم تتبع السرب بعد ذلك بالحفر حتى انتهى إلى مأخذه القديم من الوادي على مقربة من قلعة جابر (2)، وتم إجراء الماء من ذلك الموضع في سربه القديم إلى البحيرة،
(1) المن بالإمامة لوحات 161 ب و 162 أوب و 163 أ.
(2)
وهي تقع في جنوب شرقي إشبيلية على قيد نحو عشرة كيلومترات منها، ومكانها اليوم البلدة الإسبانية الصغيرة التي تسمى ( Alcala de Guadaira) .
والقصور والرياض الخليفية، وأمر الخليفة بعد ذلك، بإجراء الماء إلى داخل المدينة لسقاية الناس، وتوفير مرافقهم، فقام الحاج يعيش بتنفيذ هذه الرغبة على أكمل صورة، وأنشىء داخل إشبيلية محبس للماء بحارة منور وهو نهاية جريانه، وتم توصيل الماء إلى المدينة على هذا النحو في اليوم الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة 567 هـ، وحضر الخليفة حفل إجرائه في جماعة كبيرة من الجند والأشياخ والفقهاء والطلبة، وضربت الطبول، وساد البشر واليمن بين الناس.
على أن أعظم منشآت الخليفة أبي يعقوب يوسف بإشبيلية، هو الجامع الأعظم، الذي ما زالت تقوم منه حتى اليوم بعض البقايا الدارسة، إلى جانب كنيسة إشبيلية العظمى، التي أقيمت فوق أنقاضه. وكان البدء بإنشائه واختطاط موقعه في شهر رمضان سنة 567 هـ، فهدمت لذلك الغرض ديار كثيرة داخل القصبة تحت إشراف العريف أحمد بن باسُه، واجتمع بإشبيلية للقيام بأعمال الإنشاء، العرفاء، والبناؤون من أهل إشبيلية، ومن سائر قواعد الأندلس، ومن أهل العدوة ولاسيما مراكش وفاس، واجتمع معهم أمهر العمال من سائر الحرف المطلوبة. وكان الموحدون حينما افتتحوا إشبيلية قد أنشأوا لهم بقصبتها جامعاً صغيراً يؤدون فيه شعائرهم، ولكنه أضحى يضيق بهم، بعد أن تكاثروا وكثرت وفودهم، ومن جهة أخرى، فإن المدينة ذاتها كانت في أشد الحاجة إلى مسجد جامع يتفق مع ضخامة عمرانها، وأهميتها كمقر للحكومة الموحدية بالأندلس. وكان مسجد إشبيلية الجامع، المسمى بجامع العدبّس أو ابن عدبّس وهو المنسوب للقاضي عمر ابن عدَبّس، والمشيد في سنة 214 هـ، أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، قد ضاق برواده، نظراً لنمو المدينة وتكاثف سكانها، وكثرة الموحدين الوافدين عليها، ولم يفكر أحد من أمراء بني عبّاد أيام دولتهم، في إنشاء مثل هذا الجامع لانهماكهم في شئون الإمارة، وإنشاء القصور ودور القصف، وإهمالهم لشئون العبادة. يقول ابن صاحب الصلاة وقد كان من سكان إشبيلية، وكان شاهد عيان لإقامة هذه المنشآت كلها، إن أمير المسلمين الخليفة أبا يعقوب " قد حاز الذخر والأجر في بناء هذا المسجد الجامع الكبير توسعة للناس، فأسسه من الماء بالآجر والجيار والحصى والأحجار، على أعظم البناء والاقتدار، وأسس أرجله المعقودة بطاقات بلاطابية تحت الأرض، أطول مما فوق الأرض، وجمع عليه الفعلة بكثرة الرجال والخدام، وإحضار الآلات من الخشب المجلوب من سواحل العدوة
مما لا يقدر عليه ملك من ملوك الأندلس قبله، فأعلى بنيته، وصقل صفحته بالإتقان لتشييده وتوثقه، وأنفذ أمره العالي ببنيانه في رمضان من سنة سبع وستين وخمسمائة المؤرخة، لم يرفع عنه البناء قط في فصل من فصول السنين مدة إقامته بإشبيلية، إلى أن كمل بالتسقيف وجاء في أبهى النظر الشريف، أعجز في بنيانه من تقدمه، وتفنن في ميزابه وخبره ورخمه مقدمه، قارب جامع قرطبة في السعة، وليس في الأندلس جامع على نده، وسعته وعدد بلاطاته ".
وتولى النظر على بناء الجامع وعرفائه العريف أحمد بن باسُه، والنظر على النفقة أبو داود بن جلداسن خاصة أمير المؤمنين، وكان من الحفاظ على البناء من أهل إشبيلية، أبو بكر بن زهر، وأبو بكر الساقي. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة مراحل إتمام الجامع على النحو الآتي: إن سرب المدينة كانت تشق بجريها تحت الأرض على مواضع اختطاط هذا الجامع، فنكبت عنه، وصرفت إلى جهة الجوف على سرب واسع، وعمل على توثيق البناء تحت الأرض، وعنى العرفاء ببناء القبة التي على محرابه وبنجارتها أعظم عناية، وأقاموا عن يسار المحراب، ساباطاً في الحائط، يشقه الخليفة من القصر إلى الجامع، لشهود صلاة الجمعة، وافتن الصناع في عمل المنبر وصياغته من أكرم الخشب، وفي إبداع نقوشه، وترصيعه بالصندل المجزع بالعاج، وأبنوسه يتلألأ بصفائح الذهب والفضة، " وأشكال في عمله من الذهب الإبريز، يتألق نوراً، ويحسبها الناظر لها في الليل البهيم بدوراً ". ثم عملت له مقصورة من الخشب مزينة بالفضة. وكان الخليفة يتفقد بناءه بنفسه في أكثر الأيام ومعه أشياخ دولته، ويشير للمشرفين عليه بالجد في البناء وإتقانه، حتى كملت جهاته الأربع بالبناء وعقد الأقواس، وكمال التسقيف، واستغرق بناؤه ثلاثة أعوام وأحد عشر شهراً، إلى أن حان موعد عودة الخليفة إلى حضرة مراكش في الرابع عشر من شعبان عام 571 هـ، وأمر بتسريح العرفاء والبنائين والصناع إلى مواطنهم. على أن هذا الجامع لم يفتتح للصلاة بصفة رسمية وتقام به الخطبة، إلا بعد ذلك بنحو سبعة أعوام، وأقيمت فيه الخطبة لأول مرة يوم الجمعة 24 ذي الحجة سنة 577 هـ (30 أبريل سنة 1182 م) وذلك على يد السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن الخليفة أبي يعقوب، ووالي إشبيلية عندئذ، وأزيلت الخطبة من جامع ابن عدبّس من ذلك التاريخ (1).
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة "، لوحة 167 أو 168 أوب 169 أ، وروض القرطاس ص 138، والبيان المغرب القسم الثالث ص 96.
ومما تجدر ملاحظته بهذه المناسبة أن الموحدين في بداية أمرهم لم يعنوا بزخرفة المنشآت والصروح، ولاسيما المساجد، معتبرين هذا الزخرف من الأمور المكروهة من الناحية الدينية، وكان كل ما يراعى في هذه الصروح هو البساطة والمتانة.
بيد أنه لما استحالت الخلافة الدينية من بعد عبد المؤمن إلى ملك باذخ، وبلاط يمتاز بالفخامة والروعة، بدأ زخرف الصروح الموحدية وتجميلها بوفرة وسخاء، فكان منبر جامع إشبيلية المرصع بصفائح الذهب والفضة، وكان تزويد صومعته التي أنشئت فيما بعد بتفافيحها الذهبية الثقيلة (1).
وسنرى فيما بعد، كيف أنشئت منارة هذا الجامع، وهي المنارة الشهيرة التي ما زالت قائمة حتى عصرنا في مدينة إشبيلية، بعد أن حول جزؤها الأعلى إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية العظمى.
- 3 -
ذكرنا فيما تقدم أنه لما وفد هلال بن مردنيش وأكابر الشرق وقادته على إشبيلية في مستهل رمضان سنة 567 هـ، ليقدموا خضوعهم وطاعتهم للخليفة أبي يعقوب، اقترح قادة الشرق، وفي مقدمتهم شيخهم أبو عثمان سعيد بن عيسى، على الخليفة أن يقوم بغزو أراضي النصارى من جهة بلادهم، وعينوا له بالذات مدينة وبذة هدفاً لهذا الغزو، وذلك لضعف تحصيناتها وأسوارها، ولأنها حسبما ينقل إلينا ابن صاحب الصلاة " حديثة البنيان قريبة الإسكان "(2) أو بعبارة أخرى لم يتأثل عمرانها، ولا أهباتها الدفاعية، وأن الخليفة وعدهم في نفس هذا المجلس بتحقيق رغبتهم متى انتهى شهر الصوم (3). وإنه ليبدو لنا من ذلك أن الخليفة حينما عبر إلى الأندلس بقصد الغزو والجهاد لم يكن لديه مشروع معين لهذا الغزو، ومن ثم كان قبوله لاقتراح قادة الشرق.
وعلى أي حال، فقد اتخذ الخليفة أهبته لتلك الغزوة، وخرج في قواته من إشبيلية في فجر يوم الاثنين الحادي عشر من شوال سنة 567 هـ (6 يونيه سنة 1172 م)، فوصل إلى قرطبة في السابع عشر منه، وأقام محلته في جبل
(1) وقد أبدى العلامة جولدسيهر مثل هذه الملاحظة في بحثه Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung (Z. der Morgeni. Geselsch. 1887; p. 105)
(2)
المن بالإمامة لوحة 166 أ.
(3)
المن بالإمامة لوحة 166 أ.
فحص السرادق المطل على براح أرض مدينة الزاهرة القديمة، وفي اليوم التالي
دخل قصر قرطبة القديم، وأقام به بضعة أيام. ثم غادر قرطبة في ظهر اليوم الخامس والعشرين من شوال، وسار في قواته صوب مدينة القصر (1)، فأندوجر ثم اتجه نحو الشرق حتى صار على مقربة من بياسة، وهنالك لحق به إبراهيم ابن همشك، وكان على حصار حصن بلج (2) القريب من بياسه، وكان من أعظم وأمنع حصون هذه المنطقة. وكان هذا الحصن من أملاك ابن همشك، فلما وقع الخلاف بينه وبين صهره ابن مردنيش، من جراء انضوائه تحت لواء الموحدين، استولى ابن مردنيش على هذا الحصن، ووضع به حامية من جنده المرتزقة النصارى، وكان ابن همشك يحاصره بقواته حينما قدم الخليفة في جيشه الضخم، فاقترح عليه ابن همشك أن يسير في الحال إلى الحصن لحصاره والاستيلاء عليه، فاستجاب الخليفة إلى دعوته، وسارت القوات الموحدية صوب الحصن، ونزلت في ظاهره، وعاين الموحدون ضخامته ومنعته، وروعت حاميته النصرانية بما شهدت من كثرة الجيوش الموحدية، فاستدعوا ابن همشك ورجوه أن يتوسط لهم لدى الخليفة ليمنحهم الأمان مقابل تسليم الحصن، فقام ابن همشك بتحقيق رغبتهم ووافق الخليفة، ورأى في تسليم الحصن فاتحة النجح والنصر، وتم تسليم الحصن في يوم السبت 30 شوال، وركب الخليفة إلى الحصن، وراقته ضخامته ومنعته، ورتب به حامية موحدية، وصرف أمره إلى ابن همشك. وفي اليوم الثاني من شهر ذي القعدة سار الخليفة في قواته شمالا نحو حصن الكَرَس (3) وكان ابن مردنيش قد فعل به ما فعل بحصن بلج، وسلمه إلى حامية من النصارى. وكان هذا الحصن يقع فوق ربوة عالية يحيط بها الماء والبسائط الخضراء، فلما اقترب منه الموحدون، عرض النصارى تسليمه بالأمان، على نحو ما تم بحصن بلج، فأجيبوا إلى مطلبهم، ونزلوا عن الحصن، وذلك في اليوم السادس من ذي القعدة، وصرف أمره كذلك إلى ابن همشك.
ويصف لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان من مرافقي هذه الحملة الموحدية (4)، سير الحملة وتنقلاتها بإفاضة، ويقول لنا إنه بعد الاستيلاء على هذين الحصنين، سار
(1) وهي بالإسبانية Alcocer.
(2)
وهو بالإسبانية Vilches.
(3)
وهو بالإسبانية Alcaraz.
(4)
وهو يذكر لنا ذلك في أكثر من موطن، " المن بالإمامة " لوحة 177 أ، 178 ب.
الخليفة في قواته إلى الموضع المعروف ببلاط الصوف (1) وهو المتصل بفحص جنجاله، وقد كانت يومئذ مدينة الحدود بين الأندلس وبين قشتالة، ثم تقدم منه إلى الموضع المعروف بالغُدُر قرب منابع نهر وادي يانه، ونزل في سهل بلاط الصوف وقضى فيه يوماً تزود فيه العسكر والناس بالماء. ثم غادره إلى مرج البسيط، وأقام فيه يوماً آخر، وسار منه إلى مقربة من وادي شُقر، حيث ارتوى الناس والدواب من ماء النهر، وقضوا فيه يومهم للراحة. وفي يوم الخميس الثاني عشر من ذي القعدة، أمر الخليفة أخاه السيد أبا سعيد، أن يسير من وادي شُقر في عسكر ضخم من الموحدين والعرب، يبلغ نحو اثنى عشر ألف فارس، ومعهم قوة من الرّجالة والرماة، إلى أراضي قشتالة، صوب مدينة وبذة (2)، فسار السيد أبو سعيد في هذا الجيش ومعه أبو العلاء بن عزون " قاضى الدولة المهدية " في جنده، وإبراهيم بن همشك في جنده، فوصلوا في صباح اليوم التالي إلى أول بلاد قشتالة بموضع يسمى " برج جمل " وفيه حصن يحتله النصارى، فافتتحوه في الحال، وأفنوا حاميته قتلا وسبياً، وهدموه. وفي اليوم التالي - السبت - وصلوا إلى مدينة وبذة، والظاهر أن النصارى كانوا على أهبة لرد المغيرين، فما كاد الموحدون يصلون إلى ظاهر المدينة، حتى خرج إليهم القشتاليون. ونشبت بين الفريقين معركة تمهيدية، ظهر فيها تخاذل من بعض الجند العرب، فقتلوا، وأسفرت المعركة حسبما يقول لنا ابن صاحب الصلاة عن " ظهور الإسلام ". وعلى أثر ذلك نزل السيد أبو سعيد بعسكره فوق التل المطل على المدينة (3).
وفي خلال ذلك وصل الخليفة في قواته إلى وبذة في اليوم السابع عشر من ذي القعدة، وأمر الموحدين والعرب من سائر القبائل بالتأهب للحرب، فانحاز كل عسكر إلى قبيله، واجتمع تحت رايته، وأمر الجميع بالسير، والصعود إلى التل الذي نزل به السيد أبو سعيد بجنده، ليتم اجتماع القوات المحاربة، فصعد الجند على الترتيب المذكور، وصعد بعدهم الخليفة في كتيبته، ومعه أبناء الجماعة، وأبناء أهل خمسين وأهل الدار والعبيد، وخلفه السيد أبو حفص وباقي الإخوة، ومن ورائهم الرايات والطبول وعددها مائة، وفي الحال بدأ الهجوم تحت قرع الطبول وصيحات التكبير، بين الموحدين والقشتاليين، واستولى الموحدون على
(1) وهو بالإسبانية Balazete
(2)
وبذة هي بالإسبانية Huete.
(3)
تراجع مواقع غزوة وبذة في الخريطة المنشورة في ص 49.
ما كان لصق السور من مداخل أرباض المدينة، وأحرقت الدور وهدمت، وارتد القشتاليون إلى الداخل، ونزل الموحدون بخيولهم في الجنات والكروم المتصلة بالمدينة، وقطعوا عنها ماء الوادي. وفي مساء نفس اليوم طاف السيد أبو حفص ومعه الإخوة والأشياخ والزعماء، وقوة كبيرة من الموحدين بجوانب المدينة الأربعة، وقسم جهاتها على الجند، يختص كل عسكر بجهة ويقوده سيد من الإخوة، ويختص العرب بجمعهم منها بجهة. وكان النصارى في أثناء ذلك قد حفروا على عجل خندقاً خارج المدينة، ووضعوا له زرباً من الخشب، وذلك ليعوقوا اقتحام الموحدين للمدينة. وفي صباح اليوم التالي خرج الخليفة راكباً فرسه، ومن حوله الكتائب الجرارة، وقد اتخذت أهبتها للقتال، وقرعت الطبول، وخفقت الرايات، وإلى جانبه أخوه السيد أبو حفص وأشياخ الموحدين، ولما وصل إلى مقربة من الخندق، نزل فوق ربوة تشرف عليه، واستدعى إلى قبته الفقهاء والقضاة المرافقين للحملة، وهم الحافظ أبو بكر بن الجد، والفقيه أبو محمد المالقي، والقاضي أبو موسى عيسى بن عمران، والقاضي أبو الوليد ابن رشد وأقبل الإخوة والأشياخ، وبايعه الجميع على الثبات على الجهاد، وكانت العساكر قد احتل كل فريق مكانه المعين، وقسمت السهام على الرماة، وأعدت سائر الآلات، ثم قرعت الطبول إيذاناً ببدء القتال، فهجم الموحدون على القشتاليين واضطرمت بين الفريقين معركة عنيفة، فارتد القشتاليون حتى لصق السور وإلى داخل البيوت، وامتنع معظمهم بالقصبة، ولم يثبتوا إلا في الجهة الغربية، حيث عجز أبو العلاء بن عزون وقواته عن ردهم. فحاول أن يستنجد بالخليفة ليمده، فأعرض عنه لاشتغاله في قبته بالمناقشة مع الطلبة. وهدم الموحدون كنيسة المدينة، وانتزعوا نواقيسها، وقتل من تصدى من النصارى لاستردادها. ويقول ابن صاحب الصلاة " ودام القتال على انحلال وضعف وملال إلى بعد أذان الظهر، وارتفع، وما نفع الجيش الكثير عديده، ولا الجمع، إذ كان في نحو ماية ألف بين فارس وراجل، وانصرف أمير المؤمنين، وانصرف الناس إلى أخبيتهم، وقد همهم الحال "(1).
وهكذا فشل هجوم الموحدين الأول على وبذة، وبالرغم مما يبدو من مبالغة ابن صاحب الصلاة في تقدير عدد الجيش المهاجم، فإنه كان بلا ريب جيشاً وافر
(1) المن بالإمامة لوحة 178 أ.
العدد، وقد كان من جراء هذا الفشل، أن اتجه الخليفة إلى حصار المدينة. وفي اليوم التالي اجتمع الأشياخ والقواد، وأمر الخليفة أن يخرج ربع الناس من جميع العساكر لزرع الغلات والعلوفات وتحصيل الأقوات، استعداداً لحصار المدينة، فخرج الناس لذلك، وطوق الموحدون المدينة، ومنعوا عنها ماء الوادي، وأمر الخليفة بصنع السلالم والأبراج الخشبية لمقاتلة النصارى في جوانب المدينة. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة إن رسولا من النصارى جاء في ذلك اليوم يعرض تسليم المدينة بالأمان، فلم يلتفت إليه، فكرر مسعاه في مساء نفس اليوم، فصرف بغير طائل.
وفي صبيحة يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة (14 يوليه) هبت ريح صيفية عاصفة، فأوقعت الاضطراب بمعسكر الموحدين، واقتلعت الأخبية، وفاضت الغدور، وقضى الموحدون ليلتهم في التحوط ضد عصف الريح. وفي صباح اليوم التالي قدم الشيخ أبوحفص عمر بن يحيى من مرسية في جند أهل الشرق، ومعه أبو الحجاج يوسف بن مردنيش وأهل بلنسية والثغر، فخرج إليه الخليفة وسائر الإخوة والأشياخ والزعماء والطلبة، واستقبل استقبالا حافلا. ثم نزل جند الشرق بالجبل المجاور لوبذة ليعاونوا في تشديد الحصار، وشهد القشتاليون من مدينتهم مقدم هذا الجيش الجديد في توجس وفزع. وفي مساء نفس اليوم، هبت ريح عاصفة أخرى أشد من السابقة، فاقتلعت خيام الموحدين، ومزقتها، ثم تلاها مطر وابل ورعد قاصف وبرق. وكانت فرصة طيبة للنصارى أن ارتووا من مياه الأمطار. ويلاحظ ابن صاحب الصلاة أن هذه الرياح قد عصفت، والأمطار قد هطلت " في أشد ما يكون من الحر " في شهر يونيه العجمى (وصحته يوليه).
وفي صباح اليوم التالي - الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة - هاجم الموحدون القشتاليين على الأسوار، ولكنهم ما كادوا يبدأون القتال، حتى أظلمت السماء، وقصف الرعد والبرق، وهطل المطر غزيراً كالسيل، فأغرقت ثياب الموحدين وعجزوا عن القتال، وفزع الناس من تكرر هذه الظاهرة، واعتبروها سخطاً من الله، ورغبوا في التوبة إليه، وارتد الخليفة والناس، وقد اكتسحت السيول الهضبة، وعند الظهر أشرقت السماء، وارتفع المطر، فعاد الموحدون إلى القتال وفق ترتيبهم السابق، ودام القتال حتى المساء، ولكن دون جدوى.
وفي ليلة الأربعاء، قام القشتاليون بهجوم مفاجىء من القطاع الذي يحتله جند هسكورة، ففروا منه منهزمين، فلما علم الخليفة في الصباح، أمر بضربهم
بالسباط عقاباً لهم. وفي صباح يوم الخميس، أمرت الفرق المختلفة، أن يخرج من كل ثلثها للبحث عن الأقوات والعلوفات، واجتمع أولئك الجند تحت إمرة الحافظ أبي محمد عبد الله بن أبي تفريجين، وإبراهيم بن همشك، ولكن هذه الحملة فشلت في مهمتها، فلم تجمع شيئاً من المؤن والعلف، فارتفعت الأسعار في المعسكر الموحدي، وكاد أن ينعدم فيه القوت.
هذه الأحداث المكدرة المثبطة للهمم، حملت الشيخ أبا محمد عبد الواحد ابن عمر، أن يدعو الناس، وأن يخطب فيهم، تارة بالعربية، وأخرى بالبربرية، يعظهم، ويستنهض هممهم للجهاد، وكان مما قاله لهم:" قد كنتم بمراكش تقولون لو كنا غزونا النصارى لجاهدنا لله واجتهدنا، فلما حضرتم معهم، قصرتم وجبنتم وحنثتم الله عز وجل، ونكلتم وما نصحتم، ما أنتم بمؤمنين ولا موحدين، أن تسمعوا النواقيس تضرب، وتعاينوا الكفر، ولا تدفعوا المنكر. إن أمير المؤمنين ليس يقدر أن يراكم لتفريطكم في حق الله تعالى من الجهاد على كثرتكم من الأعداء "(1).
وبذلت عندئذ محاولة يائسة لحمل القشتاليين على التسليم بالأمان، فوُجه عبد الرحمن بن أبي مروان بن سعيد الغرناطى، إلى قائد وبذة وهو ولد الكونت مانريكى دى لارا (2)، يقول له إنهم على استعداد لتحقيق رغبته في تسليم المدينة بالأمان، وكرر هذا المسعى مرتين في نفس اليوم، فرفض قائد القشتاليين هذا العرض بجفاء، لما رآه من اختلال أحوال الموحدين، ولما علمه من استعداد ألفونسو الثامن لإنجاده بحشوده. ولما وقف الخليفة على ذلك استدعى سائر الأشياخ من الموحدين والعرب إلى خيمته - القبة الحمراء - للبحث فيما يجب عمله، وفي نفس الليلة - ليلة الأحد التاسع والعشرين من ذي القعدة - أمر بحرق البرج المصنوع لقتال النصارى وسائر الآلات التي صنعت معه، وبأن يقوم مقدم الدواب بشحن النواقيس التي أخذت من الكنيسة من وبذة. وفي الصباح ضرب الطبل الكبير إيذاناً للناس بالرحيل، فساد الاضطراب والهرج في المعسكر الموحدي، فلما رأى القشتاليون ذلك، وأيقنوا أن الموحدين قد بدأوا في الانسحاب، خرجوا في قواتهم من الفرسان والرجالة، ونزلوا إلى الوادي، وهاجموا الموحدين وأشعلوا النار في البيوت والخيام، ووصلوا إلى السوق بقرب المحلة، وقتلوا
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 180 أ.
(2)
ويسميه ابن صاحب الصلاة "ولد مرنو".
الضعفاء والمرضى، ونشب القتال بين الجيش المنسحب وبين النصارى، وأمر الخليفة أن يتوقف سائر الجند حتى ترفع الأخبية، فلما رفعت وقفت قوة ترد المهاجمين حتى يتم الانسحاب، وتحرك الجيش المنسحب على قرع الطبول، يتقدمه الخليفة، والسيد أبو حفص في أهل تينملل، وأشياخ الموحدين مع قبائلهم، وزعماء الأندلس مع أصحابهم، والعرب مع قبائلهم، والنصارى خلال ذلك يهاجمون الجيش المنسحب، وقد احتشدت في المؤخرة قوة كبيرة لردهم بقيادة السادة الإخوة، ومعهم يوسف بن مردنيش وإبراهيم بن همشك وأبو العلاء بن عزون في عسكر الأندلس. وسار الجيش المنسحب متجهاً نحو كونكة (قونقة) ونزل في فحص به الماء على قيد بضعة أميال من وبذة ولحقت به قوة المؤخرة في المساء، بعد أن ردت النصارى وقتلت منهم نحو ستين.
واستمر الجيش المنسحب في سيره، وهو يحصد الزروع، ويجمع الغلات في طريقه، حتى وصل إلى كونكة بعد يومين، في يوم الثلاثاء أول ذي الحجة. وفي عصر ذلك اليوم ركب الخليفة ومعه إخوته السادة، ووزيره ابن جامع، والفقهاء والقضاة، وسائر الأشياخ من الموحدين والعرب، ودخل المدينة، وكان يرافق هذا الموكب عبد الملك بن صاحب الصلاة راوية هذه الحوادث، وهو يصف لنا قصبة كونكة، ومنعتها، وعلوها الشاهق، وكيف يصل إليها الماء من بحيرة عظيمة تقع خارج السور، وعلى قنطرة عظيمة في جانبها، وكان إلى جانب المدينة من جهة الجوف خندق عميق قد حفر في الحجر الصلد، وفيه أدراج حفرت تحت الأرض، ينزل منها إلى الوادي لشرب الماء، وتحريك الرحى التي على الوادي، وقد غطى بستارة منيعة عليها برج عظيم من بناء الأوائل، وفي فحص المدينة تقوم الكروم وأشجار الجوز والمراعي الخضراء.
ولما دخل الخليفة مدينة كونكة، وقصبتها استقبله أهلها كباراً وصغاراً، وكانوا في حالة يرثى لها من الضعف والهزال، وكان النصارى قد حاصروا مدينتهم قبل ذلك ببضعة أشهر، وبرّح بهم الضيق والحرمان، ولم يتركهم النصارى إلا حينما علموا باقتراب الموحدين، فلما سلموا على الخليفة سألهم عن أحوالهم، ووعدهم بجميل رعايته، وأمر بأن تكتب أسماء سائر أهل المدينة من الرجال والنساء والأطفال، فكان عددهم جميعاً سبعمائة، فأمر للفارس منهم باثنى عشر مثقالا، وللراجل ثمانية مثاقيل، وللمرأة أربعة وللطفل أربعة، وأعطاهم سبعين
بقرة لم يكن في محلته سواها، وزودهم بكثير من الرماح والقسي والسهام، والسلاح، وأمر بأن يمدهم سائر الجند بالقمح والشعير صدقة لهم، وتنافس الأكابر والأشياخ في تزويدهم بمختلف الأعطية والصلات.
وفي اليوم التالي أمر الخليفة بحصد الزروع، التي للنصارى في تلك المنطقة وسوقها، ولكنهم التقوا بعدد كبير من النصارى على مقربة من قونقة، وسرت الإشاعة بأنهم طلائع جيش ألفونسو الثامن والكونت نونيو دي لارا، فلما علم الخليفة بذلك، أمر بالإقلاع فوراً من ذلك الموضع، والسير إلى وادي شُقر، وأمر الناس بالرحيل، فكان هرج شديد مقرون بالفزع كذلك الذي حدث يوم الإقلاع من وبذة، وعبر الجيش الموحدي نهر شُقر، ونزل بالجبل المتصل بمدينة قونقة لحصانته، وسرعان ما وصلت قوات النصارى، وعسكرت في في جبل تونيس، في الناحية المقابلة من النهر، وصار كل من الجيشين تجاه الآخر دون أن تتاح لأحدهما فرصة الاشتباك، وقضى الموحدون ليلتهم على حذر، وفي صباح اليوم التالي، عقد الخليفة مؤتمراً من الأشياخ واستقر الرأي على أن يقاتل الموحدون النصارى في الغد. ولكن العرب اعترضوا " وجبنوا عن اللقاء " واحتجوا بضيق ساحة القتال. وانضم أهل الأندلس بقيادة أبي العلاء ابن عزون للموحدين في نية القتال، وفي الغد خرجت قوة منازلة بقيادة أبي العلاء واشتبكت مع النصارى في عدة مناوشات لتختبر قوتهم. وفي اليوم التالي تأهب الموحدون لخوض المعركة، وخرج أبو العلاء في بعض قواته ليستطلع أمر العدو، ولكنه عاد مع جنده، وأعلن أن النصارى أقلعوا عن محلتهم منصرفين إلى بلادهم. فعندئذ أمر الخليفة باستئناف الرحيل، وسار الجيش الموحدي حتى وصل إلى جبل " الصومعة " Alminar على بعد عشرة أميال من قونقة، وقضى به الليل، وفي اليوم التالي استأنف سيره حتى وصل إلى وادي تامطة، وقد ظهر الإعياء على الناس، وقلت الأقوات، وارتفعت الأسعار، ثم وصل إلى وادي برج قُبالة في طريق مدينة بلنسية، وقد نفق كثير من الدواب، وبرح الجوع بالناس، ومات الكثير منهم. وفي اليوم التاسع من ذي الحجة عبر الموحدون الربوة العالية المسماة بعقبة الأبالس، ووصلوا بعد جهد شاق إلى قنطرة " أغربالة "(1) وقد اشتد الإعياء بالناس من الضعف والجوع، ونفق كثير من الخيل والبغال والجمال.
(1) وبالإسبانية Puente del Cabriel
وفي ظهر ذلك اليوم، أمر الخليفة بإخراج البركة لسائر العساكر على قدر تمييزهم، فخص الفارس الكامل خمسة مثاقيل، وخص الراجل الكامل مثقالين، وذلك ابتداء من حركة الغزو لسنة سابقة.
وفي صبيحة اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الأضحى، أمر الخليفة بصلاة العيد في ذلك الموضع، وألقى خطبة العيد أبو زيد بن عبدون قاضي تلمسان، وعقب الصلاة، سلم الإخوة والأشياخ والأكابر على الخليفة، ووزعت عليهم الأضاحى، وعند الظهر استؤنف السير مدى خمسة عشر ميلا، ونزل الموحدون بمرج القبذاق على مقربة من حصن ركّانة، ووصلوا في اليوم التالي إلى ركّانة، وقد اشتدت المجاعة بين الناس. وينوه ابن صاحب الصلاة خلال وصفه المستفيض لتلك الرحلة المضنية، في غير موضع، بما كان يعانيه الجيش المنسحب من نقص في المؤن، وغلاء شديد في أسعار القمح والشعير والدقيق. وعند مغادرة ركّانة أخطأ الأدلاء الطريق، وافترقت العساكر في شعب الجبال، واشتد بالناس الجوع والألم والضعف. وسار الخليفة إلى موضع يعرف " بمجمع الأودية " وهو الذي يلتقى فيه نهر شقر ونهر أغربالة (كبريل) ولحق به سائر الناس إلى هذا الموضع. ثم استؤنف السير في اليوم التالي، ونزل الخليفة قريباً من حصن بيتول، وهو من حصون بلنسية الأمامية. وهنا صدر الأمر بتسريح الحشود من أهل الشرق وجميع بلاد الأندلس إلى أوطانهم وسارت إلى بلنسية منهم جموع كبيرة (1).
ووصلت إلى الخليفة في هذا اليوم دفعة كبيرة من الدقيق والشعير والفواكه بعث بها إليه والي بلنسية يوسف بن مردنيش. هذا بينما هرع الناس إلى حصن بنيول يطلبون القوت والعون. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان منهم، أنهم لم يجدوا شيئاً سوى بعض التين الأخضر، فقصدوا إلى بلنسية. ويصف ابن صاحب الصلاة بهذه المناسبة، مدينة بلنسية وجمالها ونضرة رياضها، بيد أنه يلاحظ أن الضعف كان بادياً عليها، وأن الخوف من الفتنة كان يزداد. وقضى الخليفة في محلته ثلاثة أيام بقرب حصن بنيول، ثم غادره في قواته فوصل إلى مدينة شاطبة في السابع عشر من ذي الحجة، وقضى بقصبتها يومين، وانتهز أشياخ الموحدين هذه الفرصة، فوعظوا أهل المدينة بالجامع عقب صلاة الجمعة، وبشروهم بالخير في ظل العهد الجديد.
(1) تراجع مواقع غزوة وبذة وارتداد الجيش الموحدي في الخريطة المنشورة ص 49.
وغادر الخليفة بعد ذلك شاطبة، ونزل بحصن بليانة (1) على مقربة منها، ثم سار إلى حصن آصف، ثم إلى ألش، ووصل إلى أوريولة في الثالث والعشرين من ذي الحجة، وغادرها في اليوم التالي، قاصداً إلى مرسية، فنزل أولا بحصن أنوط (2) على مقربة منها، ثم سار منه إلى المدينة، فخرج أهل مرسية لاستقباله، ودخل المدينة والأعلام تخفق والطبول تضرب، ونزل بقصرها، وقد احتشد أهل المدينة رجالا ونساء خاصتهم وعامتهم، لتحية الخليفة، والإعراب عن سرورهم بمقدمه، وكان الخليفة قد طلب إلى هلال بن مردنيش أن يعد الدور اللازمة لنزول الموحدين، فقام بتحقيق هذه الرغبة، وأنزل أشياخ الموحدين أكرم منزل، وقدم هلال إلى الخليفة ما وسع من الهدايا السنية، وما كان لدى أبيه من الجواري والسراري البارعات في الحسن، فتقبل الخليفة هديته، وأثابه عنها بالعطايا الجزيلة. ولم تمض أيام قلائل حتى ضاقت مرسية، بمن نزل فيها، ووفد إليها، من الموحدين وغيرهم، وارتفعت الأسعار، وعم الغلاء، ورغب كثير من الموحدين والعسكر المرتزقة في الرجوع إلى أوطانهم، فأذن لهم الخليفة، وارتحل كثير منهم. ولما دخل شهر صفر سنة 568 هـ، صدر الأمر بخروج البركة لجميع الموحدين والعساكر المرتزقة، الذين اشتركوا في هذه الغزوة، فخص الفارس الكامل خمسة مثاقيل، وغيره أربعة مثاقيل، وخص الراجل مثقالين، وغيره مثقال ونصف، وتسلم كل شيخ بركة قبيلته، وافترق معظم الناس.
وانتهز الخليفة هذه الفرصة لينظم شئون مملكة الشرق القديمة، فأمر بإصلاح معاقل مرسية، وتحصيناتها، وندب مختلف الولاة لجهاتها وحصونها، وجمع هلال بن مردنيش وإخوته وعمهم أبا الحجاج يوسف في مجلسه، وأبدى لهم منتهى العطف والرعاية، وأنهم يكونون من جملة الموحدين والأهل، وأمرهم بالنظر في الارتحال معه، وأقر أبا الحجاج يوسف بن مردنيش على ولاية بلنسية وأقطارها، لما ثبت له من حسن إخلاصه وطاعته، وكذلك أبقى ابن عيسى القائد على ما كان بيده من حصن جنجاله وأراضيه، وأبقى غيره من قادة الحصون والثغور ممن ثبت إخلاصهم وصلاحهم.
وفي أول شهر ربيع الأول غادر الخليفة مرسية عائداً إلى إشبيلية، وعرج
(1) هو بالإسبانية Villena.
(2)
هو بالإسبانية Monetagudo، وقد بقيت أطلاله إلى اليوم.
في طريقه على مدينة غرناطة، وترك بها أخاه السيد أبا سعيد والياً لها، ووصل
إلى إشبيلية في الثامن عشر من ربيع الأول سنة 568 هـ (نوفمبر 1172 م). ومعه الإخوة وفي مقدمتهم السيد أبو حفص، وخاصته من أشياخ الموحدين وأكابر الدولة، فاستقبله أهل إشبيلية وعلى رأسهم الحافظ أبو بكر بن الجد، استقبالا حافلا، وقدم معه بنو مردنيش في الأهل والولد، وفقاً لما أمر، وأنزلوا في قصر ابن عباد، والدور المتصلة به، واشترى لهم الخليفة ما لزم لسكناهم وسكنى أتباعهم من الدور، وعين منهم غانم بن مردنيش لرياسة جماعة من الجند الأندلسيين، وأصحاب أبيه وأهل الثغور والأجناد بإشبيلية، لتكون منهم قوة تضطلع بالغزو وحماية الأقطار من العدو وعيث البدو، ونظم هلالا والكبار من إخوته في جملة أشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، يحضرون مجلسه العالي، ويشتركون في مباشرة الأمور، وإبداء الرأي تقريباً لهم وتشريفاً وتأنيساً، وكان غانم يخرج في قواته مع الموحدين إلى غزو أراضي قشتالة، وقد ظهر فيما بعد بشجاعته وكفايته. وكان مثلا طيباً للغزاة من الأجناد والعرب.
…
والآن وقد انتهينا من استعراض مراحل هذه الغزوة الأندلسية الأولى للخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن واستوعبنا تفاصيلها، وفقاً لرواية مؤرخها المرافق لها، والتي سجلها منذ بدايتها إلى نهايتها، يوماً بعد يوم، نحاول أن نستخلص منها ما يمكن أن تدلي به من الحقائق والعبر.
وأول ما تكشف عنه حوادث هذه الغزوة التي لم يطل أمدها أكثر من شهرين ما تجلى تحت أسوار مدينة وبذة من عجز الجيوش الموحدية وتفككها. ويبدو هذا العجز في أسطع صوره متى ذكرنا أن الجيش الموحدي الذي تصدى لحصار وبذة، كان يضم على الأقل عشرين ألفاً من الفرسان النظامية، منهم عشرة آلاف من الموحدين وعشرة آلاف من العرب، الذين عبروا مع الخليفة الموحدي إلى الأندلس حسبما أسلفنا في موضعه. وهذا غير المتطوعة وأجناد الأندلس، وهؤلاء يمكن تقديرهم أيضاً بعدة آلاف. فكيف يعجز هذا الجيش الكبير عن اقتحام مدينة صغيرة غير ممتنعة مثل وبذة، خصوصاً وقد كانت تضطلع بالدفاع عنها حامية محلية صغيرة من القشتاليين؟ إن مثل هذا العجز المطبق يكشف أولا وقبل كل شىء عن عجز القيادة الموحدية، ذلك أنه لم تكن بين أولئك الإخوة والأشياخ
الذين يلتفون حول الخليفة الموحدي، ويديرون دفة الغزوة، هيئة قيادة مقتدرة، بل لم يكن بينهم قادة أكفاء بالمعنى الصحيح، وكان مجلس القيادة يتخذ في معظم الأحيان صورة اجتماع عائلي، تغلب فيه الآراء الفطيرة، والقرارات المرتجلة، وبدلاً من أن نرى الخليفة يخرج من قبته ليقود جنده بنفسه، أو ليحثهم على التفاني في القتال، نراه في اللحظة الحرجة التي هزم فيها أهل الأندلس، وأجلوا عن مواقعهم، يجلس داخل قبته مع الطلبة الموحدين ليناقشهم في بعض المسائل الفقهية. ويجدر بنا ونحن نتحدث في هذا الموطن عن عجز القيادة الموحدية أن نعود قليلا إلى الوراء، لنذكر ما كانت عليه القيادة المرابطية في شبه الجزيرة من المقدرة والكفاية، وما كان يمتاز به القادة المرابطون من البراعة والدربة العسكرية العالية، وهي التي مكنتهم من أن يحرزوا بجيوشهم القليلة العدد، انتصاراتهم الباهرة في مواقع مثل إقليش وإفراغة.
هذا ومن جهة أخرى فقد كشفت غزوة وبذة، عما كان يسود الجيوش الموحدية من التفكك، وانعدام التناسق بين مختلف العناصر التي تتكون منها. وقد كان العرب الذين يرافقون الجيش الموحدي يحملون أكبر قسط من تبعة هذا التفكك، فقد رأيناهم يضنون بتعاونهم، ويحجمون عن القتال في الساعات الحرجة، وكان هذا الإحجام من جانب العرب يشل حركة الجيش الموحدي، وينال من مقدرته وقواه المعنوية. أضف إلى ذلك ما كشفته هذه الحملة من سوء تنظيم تموين الجيش الموحدي، وما ترتب على ذلك من ندرة الأقوات والعلوفات، وما كان يصيب الجند من جراء ذلك من الضيق والحرمان وانهيار القوي المعنوية (1).
- 4 -
في الوقت الذي نزل فيه الخليفة أبو يعقوب يوسف بمرسية، ليستريح من وعثاء حملته المنكودة على وبذة، كانت تحدث في الجانب الآخر من شبه الجزيرة في غربي الأندلس، حوادث هامة، مؤسفة في نفس الوقت. وكان ملك البرتغال مذ فتت في عضده نكبته في معركة بطليوس في شعبان سنة 564 هـ (1169 م) قد لزم السكينة حيناً، وهو يرقب الحوادث والفرص، فلما غادرت الجيوش الموحدية قواعدها في إشبيلية في غزوتها إلى وبذة، شعر بأن الفرصة قد سنحت
(1) تستغرق يوميات ابن صاحب الصلاة عن غزوة وبذة من كتاب " المن بالإمامة " نحو ستة عشرة صفحة كبيرة من لوحة 173 أإلى لوحة 189 ب.
للعمل، وكان يطمح بعد فشله في افتتاح بطليوس، إلى الاستيلاء على مدينة باجة الحصينة، أهم قواعد ولاية الغرب في تلك المنطقة، وكانت باجة، مذ أقيل عن ولايتها سيدراى بن وزير، وبسط الموحدون سيادتهم على قواعد ولاية الغرب، قد أسندت ولايتها إلى بعض الحفاظ الموحدين، فتولاها عمر بن تيمصلت التينمللي مدى حين، ولكنه لم يفلح في تهدئة ما ثار بها من الفتن بين أعيانها وبين الدهماء، فعزل عنها، وولى عليها طالب بربري من الحفاظ يسمى عمر بن سحنون، كان عاجزاً، يغلب عليه الطيش، فاتصل به الدهماء والسفلة، فقربهم وأدناهم، وأذكى بذلك حفيظة الخاصة، واشتد التقاطع بين الناس، واستوزر ابن سحنون أيضاً رجلا بدوياً من سفلة باجة، فاضطهد الناس، واجترأ على سفك الدماء، وأخذ أموال الناس بالباطل، وضربهم بالسياط، وعاونه في طغيانه وعسفه قاضي البلدة عمر بن زرقاج، وكان مغرضاً ظلوماً، واستبد ابن سحنون بأمره، وغلب رأي السفلة والفجار في كل شىء، وقتل بعض الأعيان والفقهاء ظلماً وعدواناً، واشتدت الفتنة بالمدينة، ووصلت أخبارها إلى إشبيلية.
كانت هذه حال مدينة باجة في أواخر سنة 567 هـ (صيف سنة 1172 م) حينما كان الخليفة أبو يعقوب يوسف يسير في جيوشه إلى غزوة وبذة، ولم تكن هذه الأحوال بخافية على النصارى، وهم يحتلون يابرة وقصر أبي دانس القريبتين من باجة. وكان من الواضح أن مدينة هذه حالها لا يمكن أن تثبت أمام العدو المغير. ومن ثم فقد أعد ألفونسو هنريكيز عدته لافتتاح باجة، وسار إليها ومعه قائده ومعاونه جيرالدو سمبافور في قواته. وكان من سوء الطالع أن الحراسة بأبراج المدينة كانت مهملة، وكان بعض هذه الأبراج دون سمار (حراس) يلازمونها بالليل، لأن الوالي ابن سحنون كان يحبس رواتبهم ولا يدفعها، وكان برج القصبة المسمى " برج الحمام " قد ترك على هذا النحو دون سامر. ففي ليلة مستهل المحرم سنة 568 هـ (23 أغسطس سنة 1172 م) نفذ النصارى ضربتهم. وكانت ليلة مظلمة على النحو الذي كان يختاره جيرالدو سمبافور لإنزال ضرباته. فوصل النصارى إلى السور زحفاً على أيديهم وأرجلهم، ووضعوا السلالم على برج القصبة دون أن يشعر بهم أحد من السُّمَّار، ثم صاحوا صيحتهم المأثورة، وما كاد الوالي عمر بن سحنون وأهل المدينة يستيقظون من سباتهم حتى كان النصارى قد ملكوا برج القصبة، ثم احتلوا القصبة في الحال. وساد الذعر في المدينة،
وتدلى الوالي من السور وفر إلى ميرتلة، وما كاد يسفر الصبح حتى احتل النصارى المدينة، وأخذ الناس يفرون من أبوابها، وهم يُقتلون ويأسرون من كل جانب، وقتل وأسر جماعة من أعيانها، واستولى النصارى على مقادير عظيمة من المال والمتاع.
ولكن النصارى لم يمكثوا طويلا بباجة. ذلك أن ملك البرتغال رأى من ضخامة المدينة ما يجعل الدفاع عنها مهمة شاقة، ومن ثم فقد هدم أسوارها، وأحرق ربوعها، ثم غادرها بعد أن احتلها نحو خمسة أشهر، وتركها قاعاً صفصفاً وذلك في أول يناير سنة 1173 م، وقد أخذ معه كثيراً من أهلها الأسرى. وقد أنقذ معظم هؤلاء فيما بعد بالفداء، وهاجر كثير منهم بعد خراب مدينتهم إلى مراكش (1).
ولم يتحرك الموحدون لسقوط باجة على هذا النحو، وشغل الخليفة أبو يعقوب منذ وصوله إلى إشبيلية بالعمل على استكمال بناء المسجد الجامع، وكذلك باستكمال بناء القصور والبساتين التي بدىء بإنشائها خارج باب جهور حسبما تقدم في موضعه.
وكذلك باستقبال وفود أهل إفريقية. بيد أنه لم يمض على ذلك أشهر قلائل، حتى اضطر الموحدون إلى خوض غمار حرب جديدة جاءت تلك المرة من ناحية قشتالة.
ففي أوائل شهر شعبان سنة 568 هـ (مارس 1173 م) خرجت من مدينة آبلة حملة قشتالية بقيادة حاكمها الكونت خمينو، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بالقومس " سان منوس " وأحياناً بشانشوا وتصفه بالأحدب عظيم النصارى بآبلة - وقد كان بالفعل أحدباً - وتسميه أحياناً " بأبي بردعة " إذ كان لعاهته يركب على بردعة وثيرة من الحرير مسرجة بالذهب مرصعة بأصناف الجواهر (2). وكان الكونت خمينو قد قام قبل ذلك بعدة غارات مخربة في ربوع الأندلس، ووصل
(1) نقلنا هذه الرواية المفصلة عن غزو البرتغاليين لباجة عن ابن عذارى (البيان المغرب - القسم الثالث ص 100 - 103). وقد سبق أن أشرنا في موضعه إلى الرواية الموجزة التي يقدمها إلينا ابن صاحب الصلاة عن ذلك الحادث وهو ينسب وقوعه إلى شهر ذي القعدة سنة 557 هـ (ديسمبر سنة 1162 م) أعني إلى ما قبل التاريخ الذي يقدمه إلينا ابن عذارى بعشرة أعوام. (كتاب المن بالإمامة لوحة 118 ب). ولم يذكر لنا صاحب البيان المغرب مصدره. ولكن يبدو من أسلوب روايته أنها ربما نقلت عن ابن صاحب الصلاة من السفر الثالث من كتابه وهو لم يصل إلينا. وفي هذه الحالة تكون رواية ابن صاحب الصلاة الأولى من قبيل اللبس والخلط.
(2)
ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 190 ب، وروض القرطاس ص 139 والبيان المغرب القسم الثالث ص 98.
في بعض غاراته إلى طريف والجزيرة الخضراء، وأصاب المسلمين من عدوانه وعيثه بلاء كثير. فخرج بقواته من آبلة واخترق قلب الأندلس جنوباً، حتى عبر نهر الوادي الكبير، من المخاضة الواقعة بين حصن بلمة وحصن الجرف، وانحدر إلى أحواز إستجّة، ثم اتجه صوب قرطبة، وعاث في واديها، وخرب الزروع واستاق من الماشية نحو خمسين ألفاً ومن البقر نحو مائتين. وأسر من المسلمين نيفاً ومائة وخمسين رجلا، ثم سار بغنائمه وأسراه غرباً صوب مخاضة بليارش على مقربة من بلدة القصر. وكان الخليفة في تلك الأثناء قد أمر بالتأهب لمحاربة القشتاليين، وقمع غارتهم، فخرج من إشبيلية في الثالث عشر من شهر شعبان (568 هـ) جيش موحدي بقيادة السيد أبي زكريا يحيى ابن الخليفة، ومعه أخوه أبو إبراهيم إسماعيل، وعدة من الحفاظ والأشياخ وقوة مختارة من الفرسان والرجالة العرب بقيادة أشياخهم، وعبر هذا الجيش الموحدي نهر الوادي الكبير على عجل، وسار صوب قرطبة، فوصلها في السادس عشر من شعبان، وكان القشتاليون قد وصلوا عندئذ إلى بلدة القصر. واجتمع أقطاب الموحدين بالشيخ أبي حفص عمر، واستقر الرأي على مطاردة القشتاليين وقتالهم أينما كانوا، ولو في أراضي قشتالة ذاتها، وانضم الشيخ أبو حفص بقواته إلى الجيش الموحدي، واستعد بالميرة والعلوفات، وخرج الموحدون في أثر النصارى، تتقدمهم قوة من الطلائع بقيادة الحافظ أبي عمران موسى بن حمّو الصنهاجي صاحب يابرة، لتخبرهم تباعاً عن تحركات النصارى، وكان القشتاليون قد توقفوا في سهل متسع يعرف بفحص " كركوي " على مقربة من قلعة رباح. فأدرك الموحدون أنهم يريدون اللقاء في هذا المكان، فاستعدوا للمعركة في عزم وثقة، ولكنهم ما كادوا يقتربون من السهل، حتى عجل النصارى بالمسير، ولكنهم لما أيقنوا بأنه لا مفر من القتال، لجأوا إلى جبل وعر في نهاية السهل. فاندفع الموحدون وراءهم إلى أعلى الجبل، واشتبكوا معهم في معركة حامية. وكان الكونت خمينو، يراقب المعركة من خيمته في أعلى الجبل، ويحث جنوده على التفاني في القتال، ولكن ما كاد ينتصف النهار، حتى رجحت كفة الموحدين، ومزقت صفوف القشتاليين، وكثر القتل فيهم، ووصل الموحدون إلى خيمة الكونت خمينو، وقتلوه واحتزوا رأسه، ولم يفلت من القتل من النصارى سوى نحو مائتين، فروا في مختلف الأنحاء. وفني في هذه المعركة معظم أهل آبلة، واستولى المسلمون على عتاد
النصارى، وأسلابهم وخيولهم، واستنقذوا الأسرى المسلمين، واستردوا سائر الغنائم والماشية والدواب، وأعيدت بأمر الخليفة إلى أصحابها. وجمعت رؤوس النصارى، وحملت إلى الشيخ أبي حفص وابني الخليفة " وميزت " رأس الكونت خمينو، وأرسلت إلى الخليفة بإشبيلية، عن يد يحيى ابن الوزير أبي العلاء بن جامع فوصل إليها في ظرف يومين بعد رحلة مسرعة شاقة، ووصف للخليفة تفاصيل الموقعة المظفرة، وفي الحال قرعت الطبول إيذاناً بالنصر، وأقبل الناس للتهنئة.
وفي يوم الجمعة الحادي والعشرين من شعبان، وهو ثالث يوم بعد الموقعة، وصل الشيخ أبو حفص وصحبه إلى إشبيلية، واجتمع بالخليفة وأخيه السيد أبي حفص، بقصره بالقصبة، واصطف الموحدون من الأشياخ والطلبة والفقهاء والكتاب والخطباء، وأدخل المهنئون وفق مراتبهم. وخطب الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر أولاً باللغة البربرية، ثم بالعربية، وخطب من بعده الحافظ أبو بكر بن الجد، فالقاضى أبو موسى عيسى بن عمران، فالفقيه أبو محمد المالقي. ثم أنشد الشعراء تهانيهم ومدائحهم، ووزعت عليهم الصلات، وكان يوماً حافلا (1).
وشجع هذا النصر الذي تلا فشل حملة وبذة الموحدين على الاضطلاع بغارات جديدة في أراضي النصارى. فجهزت حملة موحدية قوامها أربعة آلاف فارس، وقوة من أجناد الأندلس والعرب، بقيادة أبي يعقوب يوسف بن أبي عبد الله تيجيت وعبد الله بن إسحق بن جامع، ومعها مقادير عظيمة من الميرة والعتاد برسم مدينة بطليوس تحملها قافلة من ثلاثة آلاف دابة، وغادرت هذه الحملة إشبيلية، إلى بطليوس، وبعد أن سلمت أحمال الميرة إلى واليها أبي غالب بن أبي الحسين، سارت نحو الشمال الشرقي حتى وصلت إلى أحواز مدينة طلبيرة، الواقعة على نهر التاجُه غرب طليطلة، فعاثت في بسائطها، وقتلت وأسرت كثيراً من النصارى، واستولت على أكثر من ثلاثين ألفاً من الغنم والدواب، وعادت سالمة إلى إشبيلية.
ثم خرجت من بعدها حملة أخرى، وسارت إلى أراضي طليطلة، وعاثت فيها واستولت على كثير من الغنائم. وأدرك النصارى أن موجة الغزو الموحدي قد تشتد، وقد تتخذ صورة مزعجة، فجنحوا إلى المسالمة، وطلب المهادنة. وكان أول من سعى منهم إلى الصلح، الكونت نونيو دي لارا حاكم طليطلة، ثم تلاه
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 191 إلى 194 ب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 99.
ألفونسو الثامن ملك قشتالة، فبعث رسله إلى الخليفة، وحذا ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال حذو ملك قشتالة فبعث رسله في طلب المهادنة والصلح. واستمرت المفاوضات نحو شهرين، وانتهت بعقد الهدنة بين الخليفة وبين الملوك النصارى، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 568 هـ (يوليه سنة 1173 م). وكان مما حمل الخليفة على إيثار الصلح والمهادنة رغبته في التفرغ لأعمال الإنشاء، وتعمير البلاد التي خربت أو أقفرت من جراء العدوان والغزو، مثل باجة وغيرها (1).
وكان من أثر عقد المهادنة بين الخليفة وبين ملك البرتغال، أن شعر حليفه وقائده السابق جيرالدو سمبافور أو جراندة الجليقي، أنه فقد مكانته، وأغلقت في وجهه فرص المغامرة، والعمل المثمر ضد الموحدين، ولم يجد أمامه خيراً من الدخول في خدمة الخليفة، فسار في صحبه، وهم ثلاثمائة وخمسون جندياً، إلى إشبيلية (سنة 568 هـ - 1174 م) والتمس قبوله " عبداً وخديماً " للخليفة، فقبل الخليفة التماسه، ووصله بالإحسان والإكرام، واستمر الأمر على ذلك بضعة أشهر، ولكن ألفونسو هنريكيز، الذي لم يرقه تصرف قائده السابق لبث يرسل إليه سراً، أن يتحيل في الارتداد والعود، فضبطت بعض هذه المراسلات وظهر منها موقف جيرالدو المريب، فقبض عليه وعلى أصحابه، وأرسلوا إلى سجلماسة، واعتقلوا هنالك تحت رقابة شديدة. ثم حاول جيرالدو الفرار من معتقله ليجوز إلى البحر، فقبض عليه، وقتل واحتز رأسه، وانتهى بذلك وفي رواية أخرى أن جيرالدو لبث في خدمة الخليفة حتى غادر الخليفة إشبيلية إلى المغرب في شعبان سنة 571 هـ (مارس 1176 م)، فسار في ركابه، وعينه الخليفة للخدمة في " السوس " وهنالك اتصل جيرالدو بالمكاتبة سراً بمليكه السابق، وعرض عليه أن يجهز أسطولا لفتح هذه الناحية، وبذلك تمتلك البرتغال بعض مراكز على ساحل المغرب، فضبط الموحدون بعض هذه الرسائل (2)، وأصدر الخليفة أوامره سراً إلى عامله بدرعة موسى بن عبد الصمد بأن يقسم جيرالدو
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 195 أوب. وهنا ينتهي السفر الثاني من كتاب المن بالإمامة، وهو الذي وصل إلينا من مؤلف ابن صاحب الصلاة، ولم يصلنا شىء من السفر الثالث الذي يبدأ بحوادث سنة 569 هـ.
(2)
أخبار المهدي بن تومرت ص 127، ويقول لنا البيذق إن مصرع جيرالدو كان في سنة 565 هـ، والبيان المغرب القسم الثالث ص 103. وراجع H. Miranda ; Imperio Almohade، T. I. p. 271.
وأصحابه على القبائل، ثم يقتل جيرالدو لما ثبت من خيانته، وبعث بجيرالدو إلى درعة فسار إليها مع أصحابه، وهنالك نفذت فيهم أوامر الخليفة.
وكانت أهم الحوادث في العامين التاليين، قبيل عودة الخليفة إلى المغرب، تتلخص في اهتمام الخليفة بتعمير قواعد الغرب، وفي تجدد الحرب مع ملك ليون. وقد بدأ الخليفة أعمال التعمير، بإصلاح حصن القلعة الواقع على مقربة من جنوب شرقي إشبيلية على النهير المتفرع من الوادي الكبير (1)، وكان قديماً حصنها الشرقي، وقد تهدم منذ أيام الفتنة الكبرى، وبقى خراباً حتى ذلك الوقت، فأمر الخليفة بإصلاحه وبنائه ليعود إلى الاضطلاع بمهمته الدفاعية القديمة، وكان ذلك في صفر سنة 569 هـ.
وفي العام التالي كانت حركة تعمير مدينة باجة، التي خربها وهدمها ألفونسو هنريكيز قبل إخلائها. ففي شهر ربيع الآخر سنة 570 هـ، استقبل الخليفة وفداً من أعيان أهل باجة السابقين، ووعدهم بتعمير مدينتهم لكي يعودوا إلى سكناها، ويسكنها معهم الموحدون، وعين لولايتهم الحافظ أبا بكر بن وزير، ثم سار أهل باجة إلى مدينتهم الخربة، وكانوا يومئذ نحو مائتي شخص من مختلف الأعمار، ونزلوا بقصبتها، وبنوا بابها، وأصلحوا ما تيسر من أطلالها. ثم لحق بهم عمر ابن تيمصلت والي شلب في نحو خمسمائة رجل من الفعلة والبنائين، ومعهم أقواتهم وأدواتهم، وأخذوا في بناء أسوارها فكملت في نحو شهر، وجاءت للعمل والبناء حشود أخرى، واستمر العمل في التعمير بهمة. وحدث خلال ذلك أن استبد والي باجة أبو بكر بن وزير وأساء السيرة، ونشب بينه وبين أهلها خلاف شديد وفتنة، فأمر الخليفة بعزله، وتعيين عمر بن تيمصلت والياً مكانه، فأحسن السيرة، وأقبل الناس على البناء والتعمير، وإنشاء الرباع والحدائق، وراجت الأحوال، وانتظم التعامل، واستعادت باجة سابق عمرانها ورونقها (2).
وفي أثناء ذلك كانت الحرب قد نشبت بين الموحدين وبين فرناندو الثاني ملك ليون المسمى " بالببوج "، وكان فرناندو قد عقد الصلح والتحالف مع الخليفة الموحدي منذ سنة 564 هـ (1169 م)، وعاونه الموحدون في حربه ضد آل لارا زعماء قشتالة، وأبدى هو، حينما حاصر البرتغاليون مدينة بطليوس، وكادوا يستولون
(1) وهو بالإسبانية Alcala de Guadaira ويسمى كذلك قلعة جابر.
(2)
البيان المغرب القسم الثالث ص 107.
عليها، صدق ولائه، فحارب إلى جانب الموحدين، وعاون على صد البرتغاليين وهزيمتهم. وامتنع عن مهاجمة بطليوس مرة أخرى، حينما نبهه الموحدون إلى الحلف المعقود، وأبدى تمسكه بعهوده، وهاداه الخليفة وأثنى عليه، واستمر محافظاً على صداقته وولائه حتى أواخر سنة 569 هـ (1174 م)، وعندئذ، ودون أية أسباب ظاهرة، قام فجأة بغزو أراضي الأندلس وعاث فيها، فاستشاط الخليفة غضباً، وأمر بمهاجمته في عقر داره، فجهزت حملة كبيرة من الموحدين والعرب، وخرجت من إشبيلية بقيادة السيد أبي حفص أخي الخليفة في الثالث من صفر سنة 570 هـ (3 سبتمبر 1174 م)، وسارت تواً إلى مدينة ردريجو قاعدة ملك ليون، وهي التي تسميها الرواية الإسلامية بمدينة " السبطاط "(1)، ومعه الزعيم القشتالي فرناندو ردريجيس صهر ملك ليون حليف الموحدين القديم في صحبه، وهاجم الموحدون مدينة ردريجو، فلم ينالوا منها مأرباً، ولكنهم استولوا على حصني القنطرة وناضوش من أماكن الحدود. ولما عاد السيد أبو حفص إلى إشبيلية، احتفل بهذا النصر الجزئي، وأنشد الشعراء قصائدهم كالعادة (2). ولزم فرناندو ملك ليون السكينة مدى حين. بيد أنها كانت هدنة قصيرة، وكانت كما سنرى مقدمة لسلسلة من الغزوات الجديدة، التي قام بها الملوك النصارى في أراضي المسلمين.
…
وفي أوائل سنة 570 هـ، عقد الخليفة أبو يعقوب زواجه بالحسناء زائدة إبنة زعيم الشرق الراحل محمد بن سعد بن مردنيش، وتم زفافها إليه في اليوم الخامس من ربيع الأول في مهرجان فخم. وكان صداقها الرسمي خمسين ديناراً، ولكن الخليفة وجه إليها ألف دينار من الذهب العين " تأنيساً ". ولما وصلت إليه بإشبيلية مع أهلها وحشمها، وهب لها كل ما كان أهداه إليه إخوتها عند فتح مرسية. وكان زواجاً موفقاً، حظيت فيه العروس الأندلسية، واستأثرت بحب الخليفة وإعجابه، حتى كان يضرب المثل بهذا الحب للحسناء ذات العينين الزرقاويين. وحظى قومها آل مردنيش لدى الخليفة، وأحرزوا في كنفه رفيع
(1) سبق أن أوضحنا أن مدينة السبطاط، هي تحريف لكلمة Cibdad القشتالية ومعناها المدينة.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 104.
المناصب والرتب، حسبما أشرنا إليه في موضعه. وكان من غرائب القدر أن يحظى عقب الثائر الذي شغل الموحدين ودوخ جيوشهم زهاء ربع قرن، على هذا النحو في بلاط عدوه القديم المتغلب عليه (1).
وكانت إقامة الخليفة بالأندلس تدنو عندئذ من نهايتها، وقد استطالت هذه الإقامة زهاء خمسة أعوام، منذ مقدم الخليفة في رمضان سنة 566 هـ. ولم تدون الرواية في الأشهر الأخيرة من إقامته شيئاً من الحوادث، سوى ما أمر به من نكبة محمد بن عيسى المشرف على إشبيلية وذلك في شهر جمادى الآخرة من سنة 571 هـ، وكانت قد لحقت به ريب كثيرة من تبديد الأموال واختلاسها، فقبض عليه، وتولى بلول بن جلداس محاسبته، واستصفاء أمواله، ثم عذب وضرب حتى مات، وألقيت جثته في الوادي الكبير.
ولم يمض على ذلك سوى أسبوعين أو ثلاثة، حتى اتخذت الأهبة لسفر الخليفة، وذلك بعد أن عقد لأخيه أبي على الحسين على ولاية إشبيلية، ولأخيه أبي الحسن على، على ولاية قرطبة. وغادر أبو يعقوب إشبيلية في ركبه في يوم الخميس الرابع عشر من شهر شعبان سنة 571 هـ (28 فراير سنة 1176 م) ومعه الخواص والأشياخ والعمال والكتاب، ومن زعماء الأندلس بنو مردنيش، وإبراهيم بن همشك وغيرهم. وكان خروجه من مرسى طلياطة على نهر الوادي الكبير، فجاز النهر ثم البحر إلى طنجة، وأقام بها أياماً، ثم غادرها إلى مراكش، فوصلها في منتصف شهر رمضان من نفس العام (28 مارس سنة 1176 م).
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 108، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 271، وروض القرطاس ص 139. وكذلك: A. P. Ibars: Valencia Arabe، T. I. p. 552