المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٤

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌القسْم الثانىعصْر الموحِّدينوانهيار الأندلسْ الكبرى

- ‌تصدير

- ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

- ‌الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة

- ‌الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

- ‌الفصل الخامس غزوة شنترين

- ‌الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

- ‌الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية

- ‌الفصل الثالث موقعة الأرك

- ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

- ‌الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر

- ‌الفصل السادس موقعة العقاب

- ‌الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

- ‌الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمونإلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

- ‌الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

- ‌الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

- ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

- ‌الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

- ‌الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

- ‌الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد

- ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

- ‌الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

- ‌الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

- ‌الفصل الأول قشتالة وليون

- ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

- ‌الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

- ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

- ‌الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

الفصل: ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

منذ أواخر القرن الثاني عشر إلى أواخر القرن الثالث عشر

قيام مملكة أراجون الكبرى. ألفونسو الثاني ملك أراجون. سياسة قشتالة وأراجون الموحدة نحو فتوح الإسترداد. غزوة ألفونسو لأراضي بلنسية. شنتمرية الشرق تحول دون تقدمه. خروجه للغزو ثانية وإنشاؤه لقلعة طرويل. غزوته لأحواز بلنسية ورده. اتفاقه مع ملك قشتالة بشأن شنتمرية الشرق. اتفاق الملكين بشأن مناطق الفتح في شرقي الأندلس. تحالفهما ضد نافارا. فشل أراجون في غزو نافارا وتحالفها مع ليون والبرتغال. وفاة ألفونسو الثاني وجلوس ولده بيدرو مكانه. عقده لمجلس الكورتيس. اتفاقه مع ألفونسو الثامن على مسائل الحدود. تحالفهما في موقعة العقاب. مشروعه في زيارة رومة والتماسه لحماية البابا. البابا يقوم بتتويجه في رومة. اعترافه بطاعة أراجون للكرسى الرسولى. غضب الشعب الأرجونى لمسلكه. إتحاد الشعب والأشراف ضده. سحبه للاعتراف بالطاعة. سيطرة الأشراف الإقطاعيين على المملكة. سعى بيدرو في تخفيف هذا النظام. التنظيم القضائى. غزو بيدرو لأراضي بلنسية. تدخله في الحرب القائمة ضد الألبيين ومصرعه. ولده الطفل خايمى يخلفه. اجتماع الكورتيس واختياره للوصى. ثورة عميه ضده. الحرب بين الفريقين. انتصار خايمى على منافسيه. عقد السلم بين الخصوم. عناية خايمى بأمر الفتح. افتتاحه للجزائر الشرقية. غزواته لأراضي بلنسية. استيلاؤه على بلنسية وقواعد الشرق. تدخله في حوادث مرسية. افتتاحه إياها بالاتفاق مع صهره ألفونسو العاشر. مشروعه في إعداد حملة صليبية إلى المشرق. فشل هذا المشروع. صراع خايمى مع النبلاء. وفاته وخلاله. مصير مملكة نافارا. تربص جارتيها أراجون وقشتالة بها. سانشو السادس وإصلاحاته. ولده شانشو السابع الملقب بالقوى. خوضه لنفس المعارك القديمة ضد قشتالة وأراجون. التهادن والسلم بين الملوك النصارى. سانشو ووراثة العرش. اتفاقه مع خايمى ملك أراجون على أن يكون وارثه. تنحى خايمى وقيام الكونت تيوبالدو ابن أخت سانشو في العرش. تطور مصاير نافارا. عهد كونتات شمبانا. تيوبالدو الثاني وأمه الملكة مرجريتا. التجاؤها إلى حماية خايمى الثاني. مهاجمة قشتالة لنافارا ثم عقد الصلح بين الفريقين. تزوج تيوبالدو من ابنة لويس التاسع. مسيره معه إلى الحرب الصليبية في الشرق. وفاته وقيام أخيه إنريكى مكانه. وقوع نافارا تحت حماية فرنسا. مملكة البرتغال. ألفونسو هنريكيز وإصلاحاته. غزواته للأراضي الإسلامية. وفاته وقيام ولده سانشو الأول مكانه. غزوات سانشو للأراضي الإسلامية. استيلاؤه على شلب واستعادة المنصور إياها. الخلاف بينه وبين البابوية ورجال الدين. وفاته وجلوس ولده ألفونسو الثاني مكانه. الخلاف بينه وبين أخواته الأميرات. استيلاؤه على حصن القصر. النزاع بينه وبين البابوية. وفاته وقيام ولده سانشو الثاني مكانه. عقده الصلح مع رجال الدين ومع الأميرات. غزوه للأراضي الإسلامية. إستيلاؤه على إلفاس وشربه وجلمانية

ص: 600

استيلاؤه على شلب وطبيرة. عود النزاع بينه وبين رجال الدين والأشراف. بواعث هذا النزاع. أخواه ألفونسو وفرناندو وعمه بيدرو يؤيدون الثورة ضده. إصدار البابوية قراراً بعزله وتنصيب أخيه ألفونسو مكانه. فراره والتجاؤه إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث. محاولة فرناندو معاونته وفشل هذه المحاولة. استيلاء ألفونسو على شنتمرية الغرب وقضاؤه على سلطان المسلمين

في أراضي البرتغال.

1 -

مملكة أراجون

قامت مملكة أراجون الكبرى باتحاد أراجون وقطلونية في سنة 1137 م، على يد الكونت رامون برنجير الرابع أمير برشلونة، ولما توفي هذا الأمير في سنة 1162 م، خلفه على العرش ولده ألفونسو الثاني. وبقيام هذا الأمير على رياسة أراجون، يعود إليها ثبت الملوك الأقوياء الذي انقطع بوفاة ألفونسو المحارب في سنة 1134 م. وكانت علائق قشتالة وأراجون على أتم وفاق وصفاء منذ عهد القيصر ألفونسو ريمونديس، وهكذا استمرت العلائق بينهما في عهد ألفونسو الثاني، وزميله الفتى ألفونسو الثامن ملك قشتالة. وكانت تجمع بينهما بالأخص سياسة موحدة نحو فتوح الإسترداد La Reconquista في أراضي الأندلس، وذلك وفق برنامج مشترك تحددت معالمه فيما بعد بين الملكين بمعاهدة كاسولا (سنة 1179 م) التي سبقت الإشارة إليها.

وبدأ ألفونسو الثاني غزواته في الأراضي الإسلامية مبكراً، ففي سنة 1170 م سار جنوبا نحو بداية الوادي الأبيض Guadalaviar، قاصداً أن يخترق مملكة بلنسية، ولكن حال دون تقدمه من تلك الناحية، أن شنتمرية الشرق (1)، وما حولها من المواقع والحصون كانت يومئذ تحت حكم الفارس بيدرو دي أساجرا، وهو من أشراف نبرّة، وكان الأمير محمد بن سعد بن مردنيش قد أقطعه هذه المدينة المسلمة وحصونها، لمعاونات قدمها إليه، ولم يعترف هذا الفارس بطاعة أراجون ولا قشتالة، ولكنه أعلن نفسه حاكماً مستقلا باسم " صاحب شنتمرية الشرق "، واستطاع أن يحصل على موافقة مطران طليطلة، على أن ينشىء بها أسقفية خاصة.

وفي العام التالي (1171 م) خرج ألفونسو الثاني في قواته إلى الوادي الأبيض

(1) وتسمى بالإسبانية Albaracin نسبة إلى بني رزين، الذين حكموها أيام الطوائف، ومن ثم فإنها تسمى كذلك شنتمرية ابن رزين

ص: 601

مرة أخرى، وأنشأ في تلك المرة عند منابع هذا النهر، قلعة سميت " طرويل " ومنح من يؤمها هي وأرضها من السكان النصارى، بعض المزايا المغرية، وتقوم اليوم مكانها مدينة طرويل الحديثة.

وفي سنة 1172 م، خرج ألفونسو الثاني في غزوة إلى أراضي بلنسية، منتهزاً فرصة ضغط الموحدين على ابن مردنيش أمير مملكة الشرق أو الملك لوبى كما تسميه الرواية الإسبانية. وفي بعض الروايات النصرانية أن ملك أراجون وصل في زحفه حتى شاطبة وحاصرها، وأن أمير بلنسية عرض أن يدفع إليه الجزية، وأن يساعده في فتح مملكة بلنسية. والحقيقة أن القوات الأندلسية استطاعت أن ترد القوات الغازية سواء في البر أو البحر، ولم تنل القوات الأرجونية من أراضي بلنسية مأربا (1).

وعقد ألفونسو الثاني مع زميله ملك قشتالة اتفاقا بشأن مقاطعة شنتمرية الشرق، نص فيه على أن تغدو مدينة شنتمرية الشرق ذاتها (البراثين) ملكاً لأراجون، وأن تكون حصونها ملكاً لقشتالة. وفي رواية أخرى أن الفارس بيدرو دي أساجرا صاحب شنتمرية الشرق، اعترف بطاعة ألفونسو الثامن.

وفي سنة 1179 م، غزا ألفونسو أراضي بلنسية بجيش ضخم، وحاصر ثغر مربيطر. وكانت هذه الغزوات الأرجونية المتكررة لأراضي شرقي الأندلس مثار التوجس والقلق لدى قشتالة، ومن ثم فقد استدعى ألفونسو الثامن زميله ملك أراجون إلى بلدة كسولا، وعقد الملكان اتفاقهما الذي سبقت الإشارة إليه، بتقسيم مناطق الفتح في شرقي الأندلس، كما عقدا معاً حلفاً لمتابعة الحرب ضد نافارا. ولكن الأمور ما لبثت أن تطورت، وبينما نجح القشتاليون في غزو نافارا من ناحية الغرب، إذ فشل الأرجونيون وردوا إلى أراضيهم بخسارة. وقد أحدث ذلك صدى سيئاً في نفس ألفونسو الثاني، وحقد على زميله الظافر ألفونسو الثامن. ثم ذهب إلى أبعد من ذلك فعقد حلفا مع سانشو ملك نافارا لمحاربة قشتالة (1190 م) وقد انضم إلى هذا التحالف ملكا ليون والبرتغال (1191 م)، ورأى ملك قشتالة في ذلك نذيراً خطراً، إذ كانت الأنباء تترامى إليه في تلك الآونة بالذات بما يقوم به الموحدون من استعدادات عظيمة للعبور إلى شبه الجزيرة، وقد رأينا ما انتهى إليه ألفونسو الثامن من اضطراره إلى لقاء الجيوش الموحدية في الأرك في القوات

(1) راجع ص 52 من هذا الكتاب، وكذلك: A. P. Ibars: Valencia Arabe، p. 532

ص: 602

القشتالية وحدها، وما أصيبت به يومئذ من هزيمة فادحة (18 يوليه 1195 م)، وتوفي ألفونسو الثاني في 25 أبريل سنة 1196 م، فخلفه في مملكة أراجون وإمارة قطلونية، ولده الصبي بيدرو، وخلفه في باقي الإمارات الفرنجية، وهي روسيون وبليارش ومونبلييه وغيرها ولده ألفونسو.

وبدأ الملك بيدرو حكمه تحت وصاية أمه دونيا سانشا. وكان أول ما عمله أن دعا إلى اجتماع ممثلى الأحبار والأشراف والفرسان وممثلى الولايات والمدن، بمدينة دروقة في هيئة "كورتيس ". وفي هذا الاجتماع وافق الملك على سائر الحقوق والامتيازات، التي منحها أسلافه لمختلف الهيئات والطبقات. بيد أنه سرعان ما دب الخلاف بين الملك وأمه، ثم سوى بينهما على أن تحتفظ الملكة بملكية البلاد والحصون الواقعة في قطلونية، والتي أوصى زوجها بتركها لها.

وكان ثمة بين أراجون وقشتالة خلاف على بعض مواقع الحدود، فاجتمع بيدرو الثاني وألفونسو الثامن ملك قشتالة على مقربة من طرسونة (1204 م) واتفقا على التحكيم في مسائل الحدود، وقام المحكمون بالمهمة، وسوى الخلاف بين المملكتين.

وقد رأينا فيما تقدم، أن الوئام كان سائداً بين أراجون وقشتالة، منذ عهد القيصر ألفونسو ريمونديس، وأن أواصر هذا الوئام قد توثقت بنوع خاص في عهد الملك بيدرو الثاني، وظهر ذلك في تحالف المملكتين على محاربة نافارا وليون، ثم ظهر في تحالفهما الوثيق ضد الموحدين في معركة العقاب (1212 م). وقد سبق أن أشرنا إلى الدور الذي اضطلع به الملك بيدرو في تلك الموقعة.

وشغل بيدرو الثاني وقتا بشئون أملاكه فيما وراء البرنيه، وهي ولاية بروفانص وبعض الإمارات الفرنجية الأخرى. ولكنه ما كاد يفرغ من هذه الشئون حتى اعتزم أن يزور رومة، وكانت له في مصانعة البابوية والانضواء تحت لوائها، فكرة لم ترق لشعبه. وذلك أنه سار إلى رومة، في عدة من السفن وعرج في طريقه على جنوة وبيزة، ويقال إنه كان يرمى إلى التفاهم مع هاتين الجمهوريتين البحريتين القويتين، على الاتفاق والتحالف على غزو الجزائر الشرقية، وانتزاعها من المسلمين. أما في رومة فقد كانت له أمنية أخطر وأبعد أثراً، وذلك أنه التمس إلى البابا إنوصان الثالث أن يقوم بتتويجه، وقد استجاب البابا لرغبته ومنحه الشارات الملكية، وأسبغ عليه درع الفروسية، وقام بتتويجه في كنيسة

ص: 603

القديس بطرس (سنة 1204 م)، ومنحه هو وأعقابه من ملوك أراجون حق التتويج في سرقسطة عاصمة المملكة، وتعهد بيدرو نظير ذلك بأن يحمى الدين الكاثوليكى، وأن يحترم حريات الكنائس وامتيازاتها، وأن يطارد الكفرة، وأن يقيم العدل في سائر بلاده، واعترف ملك أراجون فوق ذلك بأنه تابع للبابا، وأنه يحكم أراجون وقطلونية بمثابة إقطاع من البابوية، وتعهد بأداء الجزية السنوية. وتعهد الكرسى الرسولى من جانبه بأن يدافع البابوات عن أراجون عن طريق سلطانهم الرسولى. وقد كان لذلك أسوأ وقع بين الأرجونيين والقطلان، وأنكروا على الملك أن يقوم بمثل هذا العمل دون موافقتهم، واتحد الأشراف والشعب ضد الملك، وأرغموه على أن يسحب اعترافه بالتبعية للبابوية، ومع ذلك فإن أراجون اضطرت أن تدفع إلى البابوية الجزية التي تعهدت بها. ومن جهة أخرى فقد بدأت معارضة السادة والفرسان فيما بعد لكثير من التشريعات التي حاول بيدرو سنها في شئون الضرائب وغيرها (1).

وكان السادة والنبلاء في أراجون يبسطون سيادتهم على سائر المدن والبلاد الهامة، ويستولون على دخولها، لكي ينفقوا منها على الفرسان التابعين لهم، والذين يقودونهم في الحرب، فكان الأشراف بذلك يسيطرون على قوي المملكة العسكرية، ولا يستطيع الملك أن يفعل بذلك شيئاً لا في السلم ولا في الحرب دون مشاورتهم وموافقتهم، وكانت هذه السيادة الإقطاعية تؤول إلى عقب أصحابها. وقد بذل بيدرو جهوداً شاقة في العمل على تخفيف أوضاع هذا النظام المرهق، ونجح في أن يعدل توزيع هذه السلطات بين الأشراف بصورة أقرب إلى العدالة مع السماح لهم بتوريثها لأعقابهم، ولكنه احتفظ للعرش بالسلطات القضائية، وكان الاختصاص القضائى يمنح للأشراف والفرسان، ولا يسترد منهم إلا لسبب جوهرى، ويُزاول القضاء بالنيابة عن الملك على يد الأساقفة والأشراف. وللمحكوم عليه حق الاستئناف إلى العرش. وكان الحق الوحيد الذي يحتفظ به الأشراف لممارسة القضاء هو أن يكونوا أعضاء في مجلس الملك، أو يعينهم الملك قضاة في المدن والبلاد التي تخضع لسيادتهم.

ولم يغفل بيدرو الثاني العناية بغزو الأراضي الإسلامية، وهي مهمة من مهام السياسة الأرجونية الأساسية، فخرج في حشوده سنة 1210 هـ، وسار جنوبا

(1) R. Altamira: Historia de Espana، T. I. p. 345 & 346

ص: 604

صوب أراضي بلنسية، واستولى بمساعدة فرسان الداوية على حصن الديموس، وعدة حصون أخرى من حصون منطقة شنتمرية الشرق.

واضطر بيدرو أن يتدخل في الحرب الصليبية التي شهرها سيمون دي مونفور وزملاؤه السادة الفرنسيون على الملاحدة الألبيين (1)، وذلك لحماية أملاكه فيما وراء البرنيه، وقد كانت مسرحا لهذه الحرب وخربت فيها عدة مدن. وكان من سوء حظه أن سقط في إحدى المواقع التي خاضها ضد سيمون دي مونفور، وذلك في 13 سبتمبر سنة 1213 م.

وترك بيدرو الثاني ولداً وحيداً هو دون خايمى، وكان عند وفاته طفلا حدثاً، وكان محجوزاً لدى سيمون دي مونفور، إذ كان ثمة قبل اضطرام الخصومة بين الفريقين، مشروع لتزويج خايمى بإبنة لسيمون، ولم يفرج سيمون عن خايمى إلا بتدخل شديد من البابوية، فأفرج عنه في العام التالي (1214 م)، واستقبل الأرجونيون والقطلان ملكهم الطفل بابتهاج وحماسة.

واجتمع نواب المملكة في (الكورتيس) في لاردة، واختاروا للوصاية على خايمى أستاذ فرسان الداوية جليم دي مونرادو. ولكن الأمور ما لبثت أن تعقدت إذ ثار عماه دون فرناندو ودون سانشو في محاولة لانتزاع العرش منه، ومن جهة أخرى فقد أعلن كثير من الأشراف استقلالهم، وأخذوا يحاربون بعضهم بعضاً، وعمت الفوضى في المملكة. واستطاع أنصار الملك خايمى أن ينتزعوه من وصيه أستاذ الداوية، وكان يعتقله بقلعة مونتشون، وكان قد بلغ التاسعة من عمره. واضطرم الصراع عندئذ بين حزب خايمى وبين خصومه، وكان يؤازره بالأخص الأشراف القطلان، ونواب الكورتيس، واستطاع خايمى أن يتغلب على منافسيه في العرش، بيد أنه استمر أعواما أخرى يكافح ضد الأشراف الخوارج، وانتهى الأمر بأن عقد بينهما سلم عام، وذلك في شهر مارس سنة 1227 م (2).

وكان الملك خايمي قد بلغ عندئذ نحو العشرين من عمره. وكان يشعر عندئذ أنه بعد أن فرغ من المشاغل الداخلية، يستطيع أن يوجه عنايته إلى تحقيق أطماع الفتح، واقتطاع ما يمكن اقتطاعه من الأراضي الإسلامية في قطاع بلنسية. بيد أنه كان يتوق إلى أن يحقق قبل ذلك أمنيته في افتتاح الجزائر الشرقية. ولقد

(1) راجع الهامش في ص 289 من هذا الكتاب.

(2)

A. Altamira: ibid ; T. I. p. 377 & 378

ص: 605

تحدثنا فيما تقدم تفصيلا عما قام به خايمى من الاستعداد لافتتاح الجزائر، وما وفق إليه من افتتاحها بين سنتى 1229 و 1232 م. أما عن قطاع بلنسية فلم يكن بخاف على خايمى، ما تجوزه بلنسية، وسائر ثغور هذه المنطقة وقواعدها، من الضعف والفوضى، وافتراق الكلمة، وتوالى المعارك الأهلية الانتحارية. ولقد تحدثنا فيما تقدم كذلك تفصيلا عن حملات خايمى المتوالية على أراضي بلنسية، وافتتاحه تباعا لثغور الشرق وقواعده، وفوزه أخيراً بالاستيلاء على ثغر بلنسية العظيم وذلك في صفر سنة 636 هـ (أكتوبر سنة 1238 م)، ثم استيلائه بعد ذلك على دانية، ثم شاطبة، وجزيرة شقر، وغيرها من قواعد هذه المنطقة، مما كان يدخل في نطاق الفتوحات الأرجونية، وفقاً للاتفاقات التي عقدت لتقسيم مناطق الفتح، في شرقي الأندلس، بين أراجون وقشتالة، وهو ما سبقت الإشارة إليه في موضعه.

وأما مرسية وأحوازها، فقد كان من المتفق عليه أن يكون ضمن حظيرة الفتوح القشتالية. وقد أعلنت مرسية خضوعها بالفعل لملك قشتالة فرناندو الثالث منذ سنة 1241 م، واستقرت فيها حامية قشتالية صغيرة، ولكنها لبثت حينا تستقل بشئونها الداخلية، ويحكمها أعقاب بني هود وغيرهم من الزعماء المسلمين، حسبما سبق أن فصلناه. ولكن تطور الحوادث في مملكة بلنسية واضطراب الأحوال فيها، وثورة المدجَّنين بها، حملت ملك أراجون دون خايمى إلى أن يسعى إلى افتتاح مرسية، وذلك بالاتفاق مع صهره، زوج ابنته ألفونسو العاشر ملك قشتالة، وكانت ظروفه غير مسعفة له على القيام بهذا الفتح، وكان الملك خايمى يخشى من أن مرسية إن بقيت تحت حكم زعمائها المسلمين، تغدو مصدر خطر على سلامة بلنسية، ومن ثم فقد زحف خايمى في قواته على أراضي مرسية واحتل لقنت وألش وغيرهما من قواعدها الأمامية، ثم استولى على مرسية ذاتها، وذلك في سنة 1266 م (665 هـ) وانتهى بذلك حكم المسلمين في شرقي الأندلس.

وحاول خايمى بعد ذلك أن يسير إلى المشرق في حملة صليبية، وجهز بالفعل جيشاً وأسطولاً لتلك الغاية، وخرج في قواته البرية والبحرية متجهاً إلى الشرق في سنة 1269 م، ولكن العواصف الجامحة حطمت معظم السفن الأرجونية، ودفعت بباقيها إلى الشاطىء الفرنسى، فعدل الملك خايمى عن مشروعه وسارت بضع سفن فقط، بها قوة صغيرة من القطلان والأرجونيين وفرسان شنت ياقب،

ص: 606

ووصلت إلى ثغر حيفا بالشام، وانضمت إلى من كان هناك من القوات الصليبية في محاربة المسلمين.

وكان الملك خايمي، طوال حكمه، يعانى من عنت النبلاء، ومعارضتهم لكثير من تصرفاته ومشاريعه، وقد لبث معهم في صراع مستمر، لكي يتغلب على عنتهم، ويحطم سلطانهم الإقطاعى القوي، ولكنهم قاوموه، ووقعت الحرب الأهلية بين الفريقين، ولم يهدأ ذلك الصراع إلا حينما تفاقمت الأحوال في مملكة بلنسية، واشتدت بها ثورات المدجنين، وخشى أن يؤدي ذلك إلى ضياع الفتوحات الأرجونية.

وتوفي الملك خايمي في 27 يوليه سنة 1276 م، بعد حكم طويل استطاع فيه أن يضاعف رقعة مملكته أراجون، وأن يقضى على دولة الإسلام في الجزائر وشرقى الأندلس، وهو ما لقب من أجله " بالفاتح ". ويعتبر خايمى الأول مؤسس مملكة أراجون الحقيقي، وموطد استقلالها، وقد قاوم في هذا السبيل مطامع البابوية، ورفض أن يعترف لها بأي نوع من التبعية كما فعل أبوه. وقد عمل كثيراً لإصلاح القوانين، وتنظيم الإدارة والشئون المالية بالمملكة، بيد أنه يوصف بالقسوة وغلبة الشهوات عليه، ومما يؤثر عنه أن كتب تاريخا لحكمه (1).

ولما توفي خايمي قسمت مملكته بين ولديه، فتولى حكم أراجون وقطلونية وبلنسية ولده الأكبر بيدرو، وتولى حكم الجزائر والإمارات الفرنجية فيما وراء البرنيه، ولده الأصغر خايمى، على أن هذا التقسيم لم يدم طويلا.

2 -

مملكة نافارا (نبرَّة)

لبث الصراع قائماً دون انقطاع بين نافارا وبين جارتيها من الجانبين، أراجون وقشتالة. وقد تتبعنا فيما تقدم مصاير نافارا، منذ اتحادها مع أراجون تحت حكم ألفونسو المحارب، ثم انفصالها بعد ذلك عند وفاته في سنة 1134 م واستئنافها لحياتها المستقلة، تحت حكم ملكها غرسية راميريس حفيد سانشو الكبير. ولما توفي غرسية في سنة 1150 م، خلفه ولده سانشو السادس الملقب بالعالم. وقد خاض سانشو ضد قشتالة وأراجون بعض الأحداث المماثلة، إذ كان التربص بنافارا سياسة مرسومة تنفذ بالاعتداء عليها كلما سنحت الفرص. وعقد السلم حيناً بين قشتالة ونافارا، نتيجة لتدخل هنري الثاني ملك انجلترا، وتسوية

(1) ويسمى تاريخ الملك خايمي Historia del Rey don Jaime

ص: 607

المشاكل الإقليمية بينهما بصورة ارتضتها كل من البلدين (1). واستطاع سانشو بعد ذلك أن يتفرغ حينا لمعالجة الشئون الداخلية لمملكته، فأصدر لمختلف المدن طائفة من القوانين البلدية، وعنى بتنظيم التجارة وتوطيد الرخاء والأمن. ولما توفي سانشو السادس خلفه على العرش ولده سانشو السابع الملقب بالقوى El Fuerte. وقد خاض سانشو السابع نفس المعارك القديمة ضد أراجون وقشتالة وذلك حسبما فصلنا فيما تقدم. وقد أشرنا كذلك إلى ما سعى إليه سانشو من محالفة الموحدين والاستنصار بهم ضد ملكى قشتالة وأراجون، بعد أن تكرر ائتمارهما بنافارا واعتداءاتهم عليها، واقتطاع أراضيها من الجانبين، وإلى ما حدث بعد ذلك من تقارب بين ملوك اسبانيا النصرانية، ومن عقد الوئام والتحالف بين ملك قشتالة ألفونسو الثامن، وسانشو السابع وذلك في اجتماع وادي الحجارة في سنة 1207 م، ثم عقد السلم والتحالف كذلك بين ملكى نافارا وأراجون، وما كان لذلك من أثر في اجتماع كلمة الملوك النصارى، على لقاء الموحدين في جبهة موحدة في معركة العقاب (1212 م)، وهي التي خرجت منها الجبهة النصرانية مكللة بغار الظفر الباهر.

وقد شاء القدر أن تتطور مصاير نافارا على يد سانشو السابع. ذلك أنه لبث قائماً على عرشها بعد موقعة العقاب زهاء عشرين عاما أخرى. وكانت تزعجه مسألة وراثة العرش، لأنه لم يعقب بالرغم من زواجه. وكان يبغض مرشح العرش الوحيد وهو تيوبالدو ابن أخته الأميرة بلانكا وتيوبالدو الرابع كونت شامبانيا. وفي أواخر أيامه ارتد مريضاً إلى تطيلة، وبعث إلى ملك أراجون خايمى الأول يعرب له عن رغبته في تبنيه، وترشيحه لخلافته على العرش، فوافاه ملك أراجون، وعقدت بينهما في تطيلة معاهدة لتحقيق هذا الغرض (فبراير 1231). ثم توفي سانشو بعد ذلك بثلاثة أعوام (1234 م). على أن خايمى لم يحاول أن ينفذ معاهدة تطيلة، ولا أن يسعى للجلوس على عرش نافارا. ذلك أنه كان مشغولا بافتتاح مملكة بلنسية، وبمسائل داخلية كثيرة أخرى، وكان يخشى أن يعرضه الطموح إلى عرش نافارا لمشاكل كثيرة لا قبل له بها، ومن ثم فقد آل عرش نافارا إلى الكونت تيوبالدو دي شمبانيا، ابن أخت سانشو، وكان هذا التحول أول خطوة في انسلاخ نافارا عن حظيرة الممالك الإسبانية النصرانية، ووقوعها تحت نفوذ فرنسا، وابتعادها عن الاندماج في مشاكل شبه الجزيرة الإسبانية. واستمر

(1) راجع ص 585 و 586 من هذا الكتاب

ص: 608

حكم تيوبالدو حتى وفاته في سنة 1253 م. وكانت وفاته بالمشرق في الحرب الصليبية السادسة. وكانت أيام حكمه مليئة بالاضطرابات، والخلاف مع شعبه، لأنه لم يتبع في الحكم قواعده المأثورة، ولم يفهم روح الشعب النافارى. وترك تيوبالدو، ولده تيوبالدو وارث العرش طفلا في الخامسة من عمره تحت وصاية أمه الملكة مرجريتا. وعندئذ رأت مرجريتا، اتقاءا لمطامع قشتالة القديمة، أن تضع المملكة تحت حماية خايمى الثاني ملك أراجون، وقطع خايمى على نفسه العهد بحماية نافارا من كل أعدائها، وأن يزوج ابنته كونستنزا لتيوبالدو، فإذا توفي، تزوجت من أخيه الأصغر إنريكى. وتعهدت الملكة مرجريتا من جانبها أن تقف نافارا إلى جانب أراجون ضد سائر أعدائها خلا ملك فرنسا وامبراطور ألمانيا. ووقع ما توقعته الملكة مرجريتا، وقام ملك قشتالة بمهاجمة نافارا، وهرع خايمى في قواته لحمايتها وفقاً لعهوده، وكادت الحرب تنشب بين الملكين بالرغم مما كان يربطهما من رباط المصاهرة الوثيق، ولكن تدخل الأحبار، وعقدت الهدنة بين الفريقين، وهكذا استطاع الملك تيوبالدو الثاني أن يحكم مملكته في سلام (1). ولم يتزوج تيوبالدو إبنة الملك خايمى، ولكنه تزوج إبنة لويس التاسع ملك فرنسا (القديس لويس)، وصحبه إلى المشرق، وخاض معه الحرب الصليبية السابعة، ثم صحبه إلى تونس وتوفي هنالك سنة (1270 م). وحل محله في الحكم أخوه إنريكي

الأول خلال غيابه، فلما توفي أعلن ملكاً لنافارا، واستمر في الحكم أربعة أعوام أخرى ثم توفي سنة 1274 م. واستمرت نافارا بعد ذلك عصراً تحت حماية فرنسا.

3 -

مملكة البرتغال

تحدثنا فيما تقدم من تاريخ الممالك النصرانية، عن نشوء مملكة البرتغال، ثم اشتداد ساعدها وتوطد أمرها، في ظل ملكها ألفونسو هنريكيز، وكيف استطاع هذا الملك أن يوطد استقلال مملكته، وأن يحميه ضد دعاوى قيصر قشتالة في السيادة. وقد كان للبابوية، فضل معاونته على اتخاذ صفة الملك المستقل، ومن ثم فقد كان للبابوية نفوذها على العرش البرتغالي. وقد أبدى ألفونسو هنريكيز فوق ذلك، غيرة ملحوظة في إنشاء جماعات الفرسان الدينية، للاستعانة بها في محاربة المسلمين وقام بتنظيم وراثة العرش، ووضع القوانين المدنية والجنائية التي تكفل تحقيق العدل.

(1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 120 & 121 - Altamira: ibid ; T. I. p. 390 & 391

ص: 609

وكرس ألفونسو هنريكيز معظم نشاطه لغزو الأراضي الإسلامية، وبدأ بمحاصرة أشبونة وافتتاحها (1147 م)، ثم استولى في نفس الوقت على مدينة شنترين حصنها الشمالي، واستولى على ثغر قصر الفتح أو قصر أبي دانس في سنة 1160 م، ولبث في أيدي البرتغاليين، حتى قام الخليفة يعقوب المنصور باسترداده في سنة 1191 م، ثم غزا بطليوس في سنة 1169 م، واستولى عليها بالفعل، ولكن الموحدين استردوها في الحال بمعاونة حليفهم فرناندو الثاني ملك ليون، واستولى أخيراً على مدينة باجة في سنة 1177 م. وقد أتينا على تفاصيل هذه الغزوات كلها في مواضعها من الكتاب.

ولما توفي ألفونسو هنريكيز في شهر ديسمبر 1185 م، خلفه ولده سانشو الأول. وكان سانشو كأبيه يضطرم حماسة لغزو الأراضي الإسلامية، والقضاء على بقايا الحكم الإسلامي في البرتغال، فقضى أعوام حكمه الأولى في إصلاح البلاد والحصون التي خربتها الحرب، ثم زحف نحو الجنوب، وقام بمحاصرة مدينة شلب أهم القواعد الإسلامية الباقية وافتتاحها، وذلك بمعاونة القوات الصليبية المسافرة إلى المشرق (سنة 1189 م) ولكنه لم يستطع الاحتفاظ بها أكثر من عامين، إذ قام الخليفة المنصور باستردادها من أيدي البرتغاليين في سنة 1191 م، وكان قد غزا أراضي البرتغال قبل ذلك، وقام بزحفه المظفر نحو الشمال (1).

ولم تقع خلال حكم سانشو حوادث خارجية ذات شأن، وهدأ الصراع حيناً بين البرتغاليين والمسلمين. ولبث المسلمون عصراً آخر يحتلون الرقعة الجنوبية من البرتغال، تتوسطها مدينة شلب، والرقعة المتصلة بولاية الغرب، وبها ميرتلة وعدة قواعد أخرى، وشغل سانشو معظم أعوام حكمه بما نشب بينه وبين البابوية من خلاف، أولا يسبب رفضه لأداء الجزية، التي تعهد والده ألفونسو هنريكيز بأدائها للكرسى الرسولى، نظير حمايته ضد دعاوى قشتالة، وثانيا بسبب النزاع المستمر بينه وبين الأحبار، ولاسيما أسقف بورتو، وأسقف قلمرية. وقد أصدر الأساقفة ضده أكثر من قرار بالحرمان الكنسى، وتوفي في مارس سنة 1211 م، ولم يرفع عنه قرار الحرمان إلا بعد موته. فخلفه ولده ألفونسو الثاني وهو الملقب بالبادن لبدانته المفرطة. وفي بداية حكمه نشب الخلاف بينه وبين أخواته. وكان والدهن قد أوصى لهن ببعض القلاع والأراضي، وأبين

(1) راجع ص 170 - 174، وص 187 و 188 من هذا الكتاب

ص: 610

أن يعترفن بسيادة أخيهن عليها، وقصدن إلى البابا لحمايتهن، ثم نشبت الحرب بعد ذلك بين الملك والأميرات، وتدخلت البابوية في الأمر، وأصدر مندوبو البابا قراراً بالحرمان ضد الملك، وكاد النزاع يتفاقم. وأخيراً تدخل البابا، وألغى قرار الحرمان، وقضى بأن يُعهد بالأماكن المتنازع عليها إلى فرسان الداوية على أن تكون خاضعة لسيادة الملك، وأن يعطى دخلها للأميرات، فارتضى الطرفان هذا الحل وعاد السلام إلى المملكة.

وكان أهم حدث حربي وقع في عصر ألفونسو الثاني، هو استيلاؤه بمعاونة القوات الصليبية المتجهة إلى المشرق، على ثغر قصر أبي دانس، وذلك في سنة 1217 م (614 هـ) وذلك حسبما فصلناه في موضعه.

وفي الأعوام الأخيرة من حكم ألفونسو، عاد النزاع بينه وبين البابوية بسبب مطاردته لمطران براجا، واعتدائه على امتيازات رجال الدين، وتدخل البابا مرة أخرى وهدد الملك بالحرمان، ولكنه لم يذعن للوعيد، وما لبث أن مرض وتوفي في مارس سنة 1223 م.

فخلفه ولده سانشو الثاني، وبدأ حكمه بأن عقد مجلساً نيابياً في قلمرية عنى بتسوية النزاع بين العرش ورجال الدين، وكذلك عقد الصلح بين الملك وعماته الأميرات وقرر أن يمنحهن مخصصات مجزية، على أن يعترفن بطاعته، وأن تؤول الأراضي والحصون التي لهن بعد وفاتهن إلى العرش. ثم تأهب سانشو بعد ذلك لمنازلة المسلمين، وانتزاع ما بقى بأيديهم من أراضي البرتغال. فاستولى على إلفاس (1226 م)، وافتتح حصني شربة وجلمانية وغيرهما من حصون الحدود الواقعة على ضفة وادي يانه. ثم استولى على ميرتلة، وسلمها لفرسان شنت ياقب، واستولى على شلب (1242 م) ثم استولى أخيراً على ثغر طبيرة (1243 م) في الجنوب، وكان سانشو يستعين في معظم فتوحه بالصليبيين الوافدين، وكانت البابوية، تمده بعونها الأدبى، وتسبغ الصفة الصليبية على حروبه ضد المسلمين. على أن سانشو لم يوفق إلى تدعيم السلام في مملكته. ذلك أن النزاع عاد يضطرم بينه وبين رجال الدين، لأسباب عديدة تلخص في محاولة العرش أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية والقضائية، ومحاولة رجال الدين أن يحافظوا على سلطانهم وامتيازاتهم، واختصاصاتهم القضائية. وكانت مبالغة الأحبار في توسيع امتيازاتهم، ينعكس أثرها على امتيازات الأشراف، فيضطر العرش إلى إرهاقهم

ص: 611

بمطالبه المالية والعسكرية، فكانت منهم كذلك طائفة كبيرة تنقم على العرش هذا الإرهاق، وكان سانشو يشعر بقصوره عن إخماد هذه النزعات الثورية ضد العرش، خصوصاً وأن البابوية كانت دائماً تصغى إلى شكوى الأحبار وتحريضهم. ومن جهة أخرى فإن سانشو كان دون ولد، وكان أخواه ألفونسو وفرناندو وعمه بيدرو، جميعاً يمالئون الحركة الثورية، سعياً إلى انتزاع العرش من سانشو، وكان أكثر هؤلاء حظاً من التأييد الإنفانت ألفونسو، وكان قد تزوج من الأميرة ماتيلدة صاحبة بولونيا بإيطاليا، وغدا بزواجه أميراً لهذه الولاية، وكان الأحبار، والأشراف الثوار يرون فيه أداة صالحة لتنفيذ خطتهم، خصوصاً وأنه كان يتمتع بعطف البابوية. وانتهى الأمر بأن نجح هؤلاء في سعيهم لدى البابوية، وأصدر البابا إنوصان الرابع في يوليه سنة 1245 م، قرارا بإقالة سانشو الثاني وتنصيب أخيه ألفونسو مكانه في العرش. فقطع ألفونسو على نفسه عهداً باحترام امتيازات رجال الدين، وركب البحر مع طائفة من الأحبار والأشراف البرتغاليين إلى ثغر أشبونة، وفي الحال أعلن ملكاً، واضطر سانشو إلى الفرار، والالتجاء إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث، فوعده بتأييده، وبعث معه ولده ألفونسو في جيش جهزه لمقارعة خصومه، ولكن هذه المحاولة انتهت بالفشل، حيث استطاع ألفونسو ملك البرتغال الجديد، أن يقنع الأمير القشتالي، بأنه ارتقى العرش بأمر الكرسى الرسولى، وأن معظم الأحبار والأشراف والشعب إلى جانبه، فارتد القشتاليون أدراجهم دون قتال، وارتد سانشو معهم ليقضى أعوامه الأخيرة، في طليطلة، وهناك توفي في يناير سنة 1248 م.

وتأهب ألفونسو الثالث، بعد أن اطمأن إلى توطيد عرشه، إلى إتمام فتوح ما تبقى بأيدى المسلمين من أراضي البرتغال، وبدأ بحصار قلعة فارو أو شنتمرية الغرب، واستولى عليها في سنة 1249 م، ولم يكن بهذه القواعد الإسلامية الأخيرة سوى حاميات ضئيلة من الموحدين وغيرهم، ثم استولى ألفونسو تباعا على سائر ما كان باقيا بأيدى المسلمين من القواعد، والحصون بهذه المنطقة وبذلك تم القضاء على سلطان المسلمين نهائيا من الأراضي البرتغالية، ولم يكتف ألفونسو الثالث بذلك بل عبر في قواته نهر وادي يانه، ومضى في فتوحه في أراضي ولاية الغرب الأندلسية، ولكنه اضطر فيما بعد أن ينزل عما فتحه من الأماكن في تلك المنطقة لملك قشتالة، إذ كانت داخلة في نطاق الفتوح القشتالية

ص: 612