المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٤

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌القسْم الثانىعصْر الموحِّدينوانهيار الأندلسْ الكبرى

- ‌تصدير

- ‌الفصل الأولعصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

- ‌الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة

- ‌الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

- ‌الفصل الخامس غزوة شنترين

- ‌الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

- ‌الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية

- ‌الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية

- ‌الفصل الثالث موقعة الأرك

- ‌الفصل الرابع ما بعد الأرك

- ‌الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر

- ‌الفصل السادس موقعة العقاب

- ‌الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

- ‌الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمونإلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

- ‌الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

- ‌الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

- ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

- ‌الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

- ‌الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

- ‌الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

- ‌الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد

- ‌الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد

- ‌الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

- ‌الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

- ‌الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

- ‌الفصل الأول قشتالة وليون

- ‌الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال

- ‌الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

- ‌الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

- ‌الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

- ‌الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي

الفصل: ‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

‌الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

تقدم دعوة ابن هود. صراعه ضد القشتاليين. رفعه لشعار الأسود ومطالبته بمرسوم الخليفة العباسي. وصول المرسوم وقراءته وهو بغرناطة. محتويات هذا المرسوم. ابن هود أمير الأندلس الشرعى. مدى امتداد سلطانه. اختياره لولده أبي بكر لولاية العهد. رسالته إلى أهل شاطبة بذلك. توجس ابن هود من حركة ابن الأحمر. قيام محمد بن يوسف بن الأحمر في أواسط الأندلس. نشأته وقومه بنو نصر. قيام دعوته في أرجونة وجيان وبسطة ووداى آش. دعوته لأبي زكريا الحفصى ثم للخليفة العباسي. تأهب ابن هود لمقاومته. تحالف ابن الأحمر مع الباجى زعيم إشبيلية. القتال بين ابن هود وابن الأحمر. انتصار ابن الأحمر ودخوله إشبيلية. مصرع الباجى وثورة أهل إشبيلية بابن الأحمر. عودهم لطاعة ابن هود. عقد السلم بين الزعيمين. اعتراف ابن الأحمر بطاعة ابن هود. قيام ابن شعيب بلبلة. فشل ابن هود في محاصرته. غزو ملك قشتالة لمنطقة جيان. تجديد الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة. شروط هذه الهدنة. افتتاح القشتاليين لحصن الأطراف وعدة حصون أخرى. طموح ملك قشتالة إلى افتتاح قرطبة. قرطبة واضطراب أحوالها عندئذ. غزو الفرسان القشتاليين لشرقى قرطبة. اقتحامهم للمنطقة الشرقية. اختلاف الرواية في ظروف هذا الحادث. احتلال النصارى لبعض الأبراج. ما تقوله الرواية الإسلامية في ذلك. إسراع قوات الحدود لإنجاد النصارى. اهتمام فرناندو الثالث بالحادث. مسيره في الحال إلى قرطبة. تضخم الحشود النصرانية تحت أسوار قرطبة. موقف القرطبيين الحرج. إسراع ابن هود بقواته نحو قرطبة. إحجامه عن إنجاد المدينة. اختلاف الرواية في أسباب هذا الإحجام. رواية نصرانية عن ذلك. رواية إسلامية عن تجدد الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة. اشتداد فرناندو الثالث في محاصرة المدينة. اضطرار أهل المدينة إلى المفاوضة في التسليم. شروط هذا التسليم وظروفه. قبول فرناندو الثالث. إيجاز الرواية الإسلامية في ذلك. ما تقوله الرواية النصرانية عن مغادرة المسلمين لمدينتهم. دخول القشتاليين قرطبة. رفع الصليب على صومعة جامعها. دخول فرناندو الثالث المدينة ومثوله في الجامع. إقامة قداس الشكر. نزع رؤوس الثريات القديمة وردها إلى شنت ياقب. تأملات عن سقوط قرطبة. كتاب ابن هود إلى عماله. مسيره إلى ثغر ألمرية. واليها أبو يحيى الرميمى ودعوته لابن هود. بواعث مقدم ابن هود إلى ألمرية. رواية إسلامية عن ذلك. غدر الرميمى بابن هود ومصرعه. تأملات عن ثورة ابن هود وحركته. سياسته وخلاله. مبايعة ولده أبي بكر بمرسية. صدى وفاته في إشبيلية. عودها إلى طاعة الموحدين. سبتة تحذو حذوها. استيلاء ابن الأحمر على غرناطة. مسيره إلى ألمرية ومحاصرتها. فرار الرميمى والتجاؤه إلى إفريقية. دخول ألمرية في طاعة ابن الأحمر. دخول مالقة في طاعته. اجتماع بقايا الأندلس في مملكة غرناطة. تغدو مستودعا لتراث الأندلس. دعاء ابن الأحمر للخلافة الموحدية، ثم لأمير إفريقية الحفصى. غزو القشتاليين لمنطقة جيان. استيلاؤهم

ص: 410

على أرجونة وغيرها. فشلهم في محاصرة جيان. ابن الأحمر يعقد الصلح مع ملك قشتالة. شروط هذا الصلح. ما خسرت الأندلس من جرائه. اعتراف ابن الأحمر بطاعة قشتالة. استيلاء ملك قشتالة على إشبيلية. ابن الأحمر يختار ولى عهده. النزاع بين ابن الأحمر وبين صاحب سبتة. مسير ابن الأحمر إلى إشبيلية لتجديد الصلح مع ملك قشتالة. شعوره بنية الغدر والخيانة ومغادرته للمدينة. عود ملك قشتالة لغزو الأندلس. صدى محنة الأندلس في الغرب. النجدة الأولى من عسكر بني مرين. إغارة القشتاليين على غرناطة. اضطرار ابن الأحمر إلى تجديد الهدنة مع ألفونسو العاشر. خسائر جديدة للأندلس. رثاء أبي الطيب الرندي للقواعد الذاهبة. وفاة ابن الأحمر. بعض صفاته وخلاله.

تركنا محمد بن يوسف بن هود، المتوكل على الله، وقد اعترفت بطاعته، عدا مرسية، مطلع ثورته، ومهد حركته، شاطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقه، وألمرية، ثم إشبيلية قاعدة الحكم الموحدي. وشعر ابن هود بحق أنه بانهيار الحكم الموحدي، واجتماع معظم قواعد الأندلس تحت طاعته، قد غدا زعيم الأندلس الحقيقي، وقائد حركتها التحريرية، والمسئول عن حمايتها والذود عنها ضد النصارى. وفي ظل هذا الشعار سار ابن هود لإنجاد ماردة، حينما دهمها الليونيون، ولكنه هزم في المعركة التي نشبت بينه وبينهم، وسقطت ماردة وبطليوس، في أيدي النصارى (627 هـ). واستولى ابن هود على الجزيرة الخضراء، وجبل الفتح، من أيدي الموحدين في سنة 629 هـ، وكان استيلاؤه عليهما بمعاونة السيد أبي عمران موسى والي سبتة، وأخى الخليفة المأمون عندما ثار على أخيه، ودعا بالخلافة لنفسه، ونزل السيد أبو عمران في نفس الوقت لابن هود عن سبتة، وحكمها نائبه الغشتى حينا حسبما تقدم ذكره، ثم خاض ابن هود وهو عائد إلى الشمال، في أواخر هذا العام، مع القشتاليين وعلى مقربة من وادي آش، معركة هزم فيها القشتاليون وقتل معظمهم (1)، ولكنه عاد فاشتبك مع القشتاليين في العام التالي، على مقربة من شريش، في معركة هزم فيها، ورأى على أثر ذلك أن يعقد الهدنة مع القشتاليين، وذلك في أواخر سنة 630 هـ (1233 م) وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه.

وكان ابن هود قد رأى منذ البداية، أن يستظل بلواء الدولة العباسية، فرفع الشعار الأسود، ودعا للخليفة المستنصر بالله العباسي، وبعث إليه ببغداد يطلب المرسوم والخلع الخلافية، فبعث إليه المستنصر بالمرسوم والخلع والرايات،

(1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 280.

ص: 411

وحملها من بغداد إلى الأندلس، مبعوث الخليفة أبو علي حسن بن علي بن حسن الكردى اللقب بالكمال، وتلقاها ابن هود في سنة 630 هـ، وهو يومئذ بغرناطة، فقرئ المرسوم على الناس بمصلى العيد، وقد اجتمعوا لطلب الغيث والاستسقاء وابن هود يرتدى السواد، والراية السوداء بين يديه (1)، ومن حسن التوفيق أن نزل المطر على أثر ذلك، فاستبشر الناس، وكان يوماً مشهوداً.

وقد نقل إلينا ابن الخطيب نص هذا المرسوم الخلافي، وفيه يسبغ الخليفة على ابن هود، لقب المتوكل على الله، الذي اختاره لنفسه، ومما جاء فيه بعد الديباجة، وبعد الإشادة بالخليفة المستنصر وعهده: " ولما انتهى إلى علومه الشريفه (أي المستنصر) زادها الله شرفاً وقدساً، ما عليه مجاهد الدين، محمد بن يوسف بن هود، من سلوك سنن الطاعة المؤسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان، والتزام شروط الولاء، الذي هو علامة متانة الدين وكمال الإيمان، والتصدى لمقارعة الناكثين عن محجة الحق والهدى، والتجرد لمرابطة من حاد عن السنة والإجماع، اللذين بهما يسترشد ويهتدى، اقتضت آراؤه الشريفة، المقدسة النبوية الإمامية الظاهرة، الزكية الممجدة، المعظمة المكرمة، المستنصرية، زادها الله جلالا متألق الأنوار، وشرفاً رفيع المنار، واقتدارا تجوب جياده جنوب الآفاق والأقطار، أن يقلده أمر جزيرة الأندلس وما يجرى معها من الولايات والبلاد، ويسوغه ما يفتتحه من ممالك أهل الشرك والعناد، تقليداً صحيحاً شرعياً، وتسويغاً صريحاً إمامياً، وإنعاماً يضفو عليه لباس فخاره الفضفاض، وتصفو لديه موارد مواهبه النميرة الحياض.

وقد أمره - صلوات الله عليه - بأوامر تهديه إلى سبيل الرشاد، وتحظيه برضي الله الذي هو أنفع الذخائر في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل وإليه ينيب ".

ويلى ذلك ما يسديه الخليفة إلى ابن هود من نصائح، تتلخص في وجوب تمسكه بتقوى الله، وبأن يجعل كتاب الله مناراً يرجع إليه في حل المشكلات، وأن يعمل بسنة نبيه، وأن يكثر من مجالسة الفقهاء والعلماء، ومشاورة العقلاء

(1) ابن خلدون ج 4 ص 169، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 280. ويقول ابن عذارى إن وصول مرسوم الخليفة كان في سنة 629 هـ (البيان المغرب ص 276)، ولكنا نرجح الرواية الأولى.

ص: 412

الألباء، وأن يحسن السيرة في رعيته، وأن يعنى بمجاهدة الكفار، وفقاً لما أمر الله في كتابه. ثم يختتم الكتاب بتلقيب ابن هود بالألقاب الآتية:" الأمير، الأصفهصلار الكبير، الأجل، المرابط، المثاغر، الغازى، مجاهد الدين، مجد الإسلام، جمال الأنام، نجم الدولة، عز الملة، معين الأمة، فخر الملوك، قامع المشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، زعيم الجيوش، شرف الأمراء، تاج الخواص، أطال الله بقاءه، وأدام علوه ونعمته "(1).

وهكذا غدا ابن هود أمير الأندلس الشرعي، وتوجت زعامته بشعار الخلافة العباسية، حسبما كان عليه المرابطون أيام دولتهم وحكمهم للأندلس. وكان سلطان ابن هود يمتد يومئذ في شرقي الاندلس من الجزيرة وشاطبة حتى ألمرية جنوباً، وفيما بين ألمرية، والجزيرة الخضراء، وفي وسط الأندلس، فيما بين قرطبة وغرناطة، ولم يخرج عن سلطانه من القواعد الكبرى، سوى بلنسية في شرقي الأندلس، وجيّان في وسطها، وإشبيلية في غربها. وكانت إشبيلية قد دانت بطاعته، وولي عليها أخاه عماد الدولة حسبما تقدم، ولكن لم يمض طويل على ذلك، حتى نكث أهل إشبيلية ببيعتهم، وأخرجوا منها عماد الدولة، والتفوا حول زعيم جديد هو القاضي أبو مروان أحمد بن محمد الباجى، فاعتذر عن قبول الولاية أولا، ولبث حيناً على قاعدة الشورى، ثم تقلد الولاية، وبسط سلطانه على إشبيلية وقرمونة. وكان ذلك في سنة 629 هـ (2).

وعمد ابن هود على أثر تلقيه المرسوم الخلافى بالولاية. إلى اختيار ولده أبي بكر محمد لولاية عهده، ولقبه بالواثق بالله، المعتصم به. وقد وقفنا على رسالة في ذلك مدبجة بقلم أبي عبد الله بن الجنان، عن لسان ابن هود وموجهة منه إلى أهل شاطبة يبلغهم فيها ذلك الاختيار، وفيها ينعت نفسه " بمجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكل عليه، أمير المسلمين محمد بن يوسف بن هود " ويخاطب الفقهاء والوزراء والقواد والأعيان والوجوه والنبهاء والكافة " بشاطبة وجهاتها، وما انضاف إليها من جهة بيران ودانية، وذلك من حضرتنا بمرسية ". ثم يعرب فيها، بعد الدعاء للنبى وللخليفة المستنصر بالله، عن محبته لهم، ويعلن

(1) يراجع نص المرسوم في أعمال الأعلام ص 280 - 286، ونشر البيان المغرب بعض فقراته ص 277 و 278.

(2)

البيان المغرب - القسم الثالث ص 278 و 279، وابن خلدون ج 4 ص 169.

ص: 413

إليهم أنه اختار: " ولى عهدنا، المتولى لأمور المسلمين من بعدنا، ابننا الأمير الموفق المبارك الميمون السعيد الرشيد، الواثق بالله، المعتصم به، أبا بكر محمداً، أدام الله توفيقه، ومنحه إنجاده وعضده وإسعاده، وتملكه جميع أمورها، وكافة حواضرها وثغورها، وتقدمه فيها في بلاد هي منشأه ومشيئته ومبدأه "، وأنه يوليه " جميع أقطار المشرق، وبلاده، وأغواره وأنجاده، تولية عامة في حياتنا، مع أنه المتولى بحكم العهد الذي ارتضينا له لكل ممالكنا وطاعاتنا، وخصصنا هذه البلاد الشرقية، حاطها الله تعالى بتقديمه فيها "(1).

وكان مما يوطد مركز ابن هود، ويدعم زعامته وهيبته، هو تجرده لمحاربة النصارى، وما يخوضه معهم من معارك متوالية، وإذا كان ابن هود قد انتهى بأن عقد الهدنة، مع ملك قشتالة، نظير إتاوة يؤديها إليه، فإن ذلك لم يكن إلا نزولا منه على حكم الظروف، لكي يتفرغ لمقارعة خصومه ومنافسيه.

- 1 -

على أن ابن هود لم يكن منفرداً برياسة الأندلس، ولو أتيح له هذا الانفراد بالرياسة، لكان من المرجح أن يكون له في قيادة الأندلس شأن آخر، وقد رأينا فيما تقدم، أنه في الوقت الذي قام فيه بمرسية، كان له في شرقي الأندلس، منافس آخر، هو أبو جميل زيان بن مردنيش القائم في بلنسية. بيد أن هذه المنافسة المحلية في الشرق، لم تكن مما يضايق ابن هود أو يهدد زعامته، وإنما كان يتوجس ويخشى من قيام زعيم آخر، أخذ نجمه يبزغ في أواسط الأندلس، وجنوبها بسرعة، ويظفر بطاعة قاعدة بعد أخرى، ولم يكن هذا الزعيم الأندلسي الجديد، سوى محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس النصري المعروف بابن الأحمر. وكان بنو نصر هؤلاء، وهم يرجعون نسبتهم إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، في الأصل سادة حصن أرجونة، الواقع على مقربة من نهر الوادي الكبير، ومن أعمال ولاية جيان. وكان لبني نصر في تلك المنطقة عصبية ووجاهة مؤثلة، فلما اضطربت الأمور، وانهار سلطان الموحدين بالأندلس، وظهر ابن هود في الشرق، وأخذ سلطانه يمتد نحو الجنوب، لاحت لمحمد بن يوسف فرصة للظهور والعمل، وكان هذا الزعيم المتواضع الموهوب معاً،

(1) وردت هذه الرسالة في كتاب " زواهر الفكر " الذي سبقت الإشارة إليه (مخطوط الإسكوريال رقم 520 الغزيرى، و 518 ديرنبور).

ص: 414

يضطرم بكثير من الشجاعة والإقدام والعزم، فدعا لنفسه وبويع أولا في أرجونة موطن أسرته ومثوى عصبيته وأنصاره، وفي الجهات المجاورة لها، وذلك في سنة 629 هـ. وفي العام التالي، دخل مدينة جيان وبويع بها، ثم أطاعته بسطة، ووادي آش، وهكذا قوي أمره وامتد سلطانه بسرعة إلى أنحاء الأندلس الوسطى وأخذ يتطلع إلى الاستيلاء على القواعد الجنوبية. وكان ابن الأحمر، يرى منذ البداية، أن يستظل بلواء سلطة إسلامية مرموقة. فدعا أولا للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية وتلقى منه بعض العون، ولكنه عاد، فدعا على نمط ابن هود للخليفة العباسي، المستنصر بالله (1).

ولم يلبث ابن هود أن شعر بخطورة هذه الحركة، التي يضطلع بها منافسه الجديد، في المناطق الوسطى والجنوبية، ومن ثم فقد اعتزم أن يتأهب لمقارعته والقضاء على حركته، ولم يكن بخاف أيضاً على ابن الأحمر خطورة المعركة التي يجب عليه أن يخوضها مع ابن هود، لكي تخلص له رياسة الأندلس، ومن ثم فقد أخذ من جانبه يتأهب لخوضها، وكان عقد ابن هود للهدنة، مع القشتاليين، يرجع قبل كل شىء إلى رغبته في التفرغ لهذه المعركة الداخلية. ومن جهة أخرى فقد اتجه ابن الأحمر إلى العمل على تقوية جانبه، بالتفاهم مع أبي مروان أحمد ابن محمد الباجى المتغلب على إشبيلية، وذلك بأن عقد معه حلفاً، وصاهره على ابنته، واتفق الاثنان على مقاومة ابن هود ومحاربته.

وتأهب الفريقان للحرب، وحشد كل منهما ما استطاع من قواته، والتقيا على مقربة من إشبيلية، ووقعت بينهما معركة، كانت الهزيمة فيها على ابن هود، وكان النصر لابن الأحمر وحليفه الباجى، وكان وقوعها في أوائل سنة 631 هـ (1233 م)(2). ودخل ابن الأحمر إشبيلية بعد ذلك بقليل، وهو يضمر الغدر بحليفه وصهره الباجى، ولم يلبث أن دس عليه أحد أصهاره من بني أشقيلولة فقتله وذلك في جمادى الأولى من نفس العام، وبادر ابن الأحمر فاحتل القصبة، وحاول أن يبسط سلطانه على المدينة، ولكنه لم يلبث فيها سوى شهر، وثار به أهل إشبيلية، وأخرجوه من القصبة ومن المدينة، عنوة، ثم عادوا فدعوا

(1) البيان المغرب ص 279، وابن خلدون ج 4 ص 170. وراجع كتابى " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين " الطبعة الثانية ص 31 و 32.

(2)

روض القرطاس ص 183.

ص: 415

لابن هود، وبعث إليهم ابن هود أخاه سالما عماد الدولة ليضطلع بولاية إشبيلية مرة أخرى، والظاهر مما يقوله ابن عذارى أنه قد وقع لابن الأحمر بقرطبة، مثلما وقع بإشبيلية، وأن أهل قرطبة، كانوا قد بايعوه في بداية أمره، فلما رأوا فعلته بالباجى، وما ترتب عليها من إخراجه من إشبيلية، نكثوا ببيعته وخلعوا طاعته وعادوا إلى طاعة ابن هود (1).

وحدث عندئذ حادث لم يكن متوقعاً، هو عقد الهدنة والصلح بين ابن هود وابن الأحمر. وذلك أن كلا الزعيمين، أدرك فيما يبدو، خطر الحرب الأهلية الانتحارية، التي يخوضها كل منهما ضد صاحبه، وأنه لن يستفيد من هذا الصراع الأخوى المؤلم، سوى ملك قشتالة، المتربص بهما معا، فتفاهما، وعقد الصلح بينهما، وذلك في شوال سنة 631 هـ (يونيه 1234 م)، وذلك على أن يعترف ابن الأحمر بطاعة ابن هود، وعلى أن يقره ابن هود في ولاية جيان وأرجونة، وبركونة وأحوازها. ويقول لنا ابن خلدون من جهة أخرى، ان اعتراف ابن الأحمر بطاعة ابن هود، وقع على أثر وصول العهد الخلافى من بغداد لابن هود وذلك في سنة 631 هـ (2).

ولم يمض قليل على ذلك حتى ثار بمدينة لبلة في سنة 632 هـ، وهي من أعمال إشبيلية، قاضيها شعيب بن محمد بن محفوظ ودعا لنفسه، وتسمى بالمعتصم، فسار ابن هود لقتاله، فامتنع بمدينته، وهي ذات موقع طبيعى حصين وأسوار عالية، فحاصرها ابن هود واستمر على محاصرتها حينا، وهي صامدة ممتنعة عليه (3).

وقد كان سير الحوادث في الواقع يدعو إلى عقد مثل هذا التهادن بين الزعيمين المتنافسين. ذلك أن ابن هود، علم وهو على حصار لبلة، بأن ملك قشتالة قد خرج في قواته صوب الأندلس، يريد محاربته، ولكن فرناندو الثالث، انحرف بقواته نحو منطقة جيان التي يسيطر عليها ابن الأحمر، وأخذ يعيث في أحواز أرجونة، وجيان، وترك ابن هود حصار لبلة، دون أن ينال منها مأرباً، ليعود إلى أراضيه، وهنالك فيما بين إشبيلية وقرطبة وفد إليه سفير فرناندو،

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 279 و 322، وابن خلدون ج 4 ص 170.

(2)

روض القرطاس ص 183، وابن خلدون ج 4 ص 170.

(3)

روض القرطاس ص 183، والبيان المغرب ص 322.

ص: 416

ألبار بيرث، وجرت بينهما مفاوضات، انتهت بالاتفاق على تجديد الهدنة، بين ابن هود وملك قشتالة لمدة ثلاثة أعوام، وذلك على أن يدفع ابن هود لملك قشتالة إتاوة قدرها مائة ألف وثلاثون ألف دينار، دفع منها في الحال خمسين ألفا، وقسط الباقى على الأعوام الثلاثة، وعلى أن ينزل ابن هود عن بعض الحصون الواقعة في منطقة جبل الشارات (سيرّا مورينا)، وهي حصون نائية، منقطعة لم يكن من السهل أن يدافع عنها أو ينجدها المسلمون (1). ويقول لنا ابن خلدون إن هذه الحصون كانت ثلاثين، وأن ملك قشتالة تعهد بأن يتخلى عن معاونة ابن الأحمر، وأن يعاون ابن هود على تملك قرطبة (2). على أن هذا القول بالنسبة لابن الأحمر لم يكن يتفق مع ما تم من عقده للسلم مع ابن هود ومبايعته له، وهو ما يقرره لنا ابن خلدون نفسه حسبما سبقت الإشارة إليه. وكان عقد هذه الهدنة، بين ملك قشتالة وابن هود في أواخر سنة 632 هـ (صيف سنة 1235 م).

وعلى أثر ذلك ارتد ملك قشتالة في قواته عائداً إلى بلاده، وفي خلال هذا العود، قام بمحاصرة " حصن الأطراف " Iznataraf، فاستسلم إليه في الحال على أن يمنح الأمان لمن كان به من المسلمين، وأن يغادروه حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم. ثم حاصر من بعده حصن شنت إشتيبن، وهو من الحصون الواقعة في طريق بياسة وأبدة، فسلمه المسلمون إليه بنفس الشروط، واستولى فرناندو في طريقه أيضاً على عدة حصون أخرى في منطقة جيان، وكانت هذه الحصون كلها من الحصون التي نص على تسليمها في الهدنة التي عقدت مع ابن هود.

- 2 -

والواقع أن هذه الحوادث كلها: غزوات فرناندو الثالث المتوالية لأراضي الأندلس، وتهدئته لابن هود بعقد السلم معه، واستيلاؤه، واستيلاء الجماعات الدينية العاملة باسمه، تباعا على حصون منطقة جيان، لم تكن سوى مقدمات لغاية أخطر وأبعد مدى، كان يضمرها ويعمل لها ملك قشتالة، أو بعبارة أخرى لم يكن سوى تمهيد لضربة مؤلمة جديدة، يزمع إنزالها بالأندلس، تلك هي استيلاؤه على مدينة قرطبة العظيمة.

كانت عاصمة الخلافة القديمة، منذ انهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة،

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 322، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 71 y notas

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 171.

ص: 417

ومذ ثار شعبها المتوثب، بواليها الموحدي السيد أبي الربيع وقتله، حيرى في أمرها، لا زعيم لها ولا قائد، وتتردد في الطاعة بين مبايعة ابن الأحمر ومبايعة ابن هود، ولكنها أميل إلى الانضواء تحت لواء ابن هود. ومن الأسف أن الرواية الإسلامية التي تعنى دائماً أشد عناية بأحوال قرطبة وأخبارها، لا تمدنا عن هذه الفترة الأخيرة من حياة المدينة الأندلسية العظيمة، أو عن مأساة سقوطها، بأية تفاصيل شافية. ومن ثم فإنه لابد لنا أن نعتمد في ذلك بالأخص على أقوال الرواية النصرانية المعاصرة، إذ هي أكثر عناية وتفصيلا.

ولقد عرفنا من قبل في مواطن وظروف كثيرة، ما كان عليه أهل قرطبة من خلق متمرد مضطرم، لا يلين ولا تصقله عبر الحوادث، ومن ثم فإنا نراهم في تلك الآونة العصيبة، التي كان مصيرهم فيها يهتز في كفة القدر، على خلاف في الرأي، لا يجمعهم شعار الخطر المشترك، ونرى الأحقاد والخصومات، تدفع فريقاً منهم إلى المغامرة بسلامة مدينتهم، فيما يمكن أن يوصم بعمل من أعمال الخيانة، التي لا يمكن أن يغتفرها التاريخ.

ففي أوائل سنة 1236 م (أواخر ربيع الثاني سنة 633 هـ) خرجت جماعة من الفرسان القشتاليين، وهم من أهل الحدود المغاورين المحترفين، ومعظمهم من منطقة أندوجر الواقعة شرقي قرطبة، وساروا صوب قرطبة، فأشرفوا عليها حينما دخل الليل. وكانت مدينة قرطبة في ذلك الوقت تنقسم إلى خمس مناطق أو أحياء متعاقبة، وبين كل منطقة وأخرى، سور فاصل (1)، وكانت المنطقة الأولى الواقعة شرقي قرطبة، تعرف بالربض الشرقي أو " الشرقية " وتجتمع باقي المناطق فيما يسمى " بالمدينة "، وهي تقع غربي " الشرقية " وكلتاهما الشرقية والمدينة، تقع على الضفة الشمالية لنهر الوادي الكبير. فلما وصل الفرسان القشتاليون وهم فئة قليلة، لا تحدد لنا الرواية عددها، وربما كانت تضم بضع عشرات - إلى مشارف " الشرقية " وضعوا في الحال خطة اقتحامها. وهنا تختلف الرواية في شأن الخطة التي تم بها هذا الاقتحام. ففي رواية ألفونسو الحكيم أن الفرسان القشتاليين أسروا بعض المسلمين من الساخطين على زعمائهم، وعلموا منهم أن المدينة محروسة بشدة، وتفاهموا معهم على إحداث ثلمة في سور الشرقية، واستطاعوا بهذه الطريقة أن يقتحموا السور، وأن يستولوا على الأبراج في ليلة حالكة عاتية

(1) الروض المعطار ص 153.

ص: 418

خريطة:

خطط قرطبة الإسلاميّة عن خريطة العلامة الأثرى القرطبي رافائيل كستيخون

ص: 419

الريح (1). وفي رواية أخرى أن بعض المسلمين، ومنهم بالأخص واحد كان قد تنصر، ساعدوا القشتاليين على تحقيق خطتهم، وبينوا لهم أن الشرقية، ليس بها سوى قليل من السكان، وأن أسوارها الخارجية ضعيفة الحراسة، ومن ثم فقد استطاع القشتاليون، بإرشاد هذا المسلم المتنصر، أن يتسلقوا السور، وأن يستولوا على الشرقية بطريق المباغتة، وكان هذا السور، هو أول الأسوار الخارجية، وليس هو السور الذي يفصل الشرقية عن باقي أحياء المدينة، وقتل من أهل الشرقية عدد كبير، وهرب الباقون إلى داخل المدينة. واحتل النصارى بعض الأبراج المنيعة في السور. وفي الحال وقع الهرج بالمدينة، وتقدم المدافعون لمهاجمة النصارى، وقتل عدد من الجانبين، ولكن النصارى لبثوا صامدين في الأبراج، وأرسلوا في الحال يطلبون الإمداد (2).

وتجمل الرواية الإسلامية، ذلك العدوان المفاجىء في قولها:" وفيها (أي في سنة 633 هـ) غدر النصارى شرقية قرطبة، وذلك في ثالث شوال، غبشاً في غفلة السحار، وسلم الله عز وجل النساء والذرارى حتى لحقوا بالغربية، وبقى الناس معهم في قتال شديد "(3).

ووصل نداء القشتاليين إلى إخوانهم على الحدود بسرعة، وفي الحال هرع اثنان من قادة الحدود، هما أردونيو ألباريث، وألبار بيرث، الذي عرفناه من قبل، كل في قواته، وتبعهما أسقف بياسة مع رجاله، ثم أسقف قونقة في قواته، وسار في أثرهم آخرون. وما كادت هذه الأنباء تصل إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، وهو في بنفنتى على مقربة من ليون، حتى اهتم لها أيما اهتمام، وكان ثمة من وزرائه ومستشاريه من يرى في الأمر كثيراً من الخطورة والتعقيد، فهو يرتبط أولا مع ابن هود باتفاق الهدنة، وقرطبة تدين بطاعة ابن هود، وقرطبة مدينة عظيمة، تزخر بالسكان والمدافعين، ولا يتأتى افتتاحها إلا بقوات ضخمة، ومن جهة أخرى فإن ابن هود قد يضطر إلى إنجادها بقواته، خصوصاً وأن قرطبة تعتبر في نظر المسلمين كبرى قواعد الأندلس، ولها في نفوسهم مكانة خاصة.

(1) Cronica General (Ed. M. Pidal) No. 1044.

(2)

J. Gonzalez: ibid ; cit. Cronica Latina y Jimenez de Rada ; p. 74-76 y notas.

(3)

هذه رواية روض القرطاس (ص 183).

ص: 420

ْوهذا كله إلى ظروف الجو وقسوة الشتاء وفيضان الأنهار. ولكن ملك قشتالة لم يلق بالا إلى شىء من هذه الاعتراضات، ولم يكن يرى بالأخص في مهاجمة قرطبة نقضا لعهوده مع ابن هود، إذ كان فريق من أهل المدينة هم الذين استدعوا النصارى. ومن ثم فقد بادر فرناندو الثالث من فوره بالمسير إلى الجنوب، ومعه قوة من مائة فارس فقط، وقصد من فوره إلى قرطبة، فوصل إليها في اليوم السابع من فبراير، واضطرمت الحشود النصرانية المرابطة تحت أسوار المدينة حماسة لمقدمه، وكانت تتضخم كل يوم بمن يفد إليها من حشود قشتالة وليون، ومن فرسان الجماعات الدينية المختلفة. ونصب ملك قشتالة محلته قبالة قنطرة قرطبة التي تؤدى إلى طريق إستجة. وأخذ في الحال في وضع خطة للاستيلاء على المدينة (1).

وهنا يحق لنا أن نتساءل، ماذا كان موقف القرطبيين إزاء هذا الخطر الداهم، وماذا كان بالأخص موقف ابن هود. أما عن القرطبيين، فليس ثمة شك في أنهم اعتزموا منذ اللحظة الأولى الدفاع عن مدينتهم وحاضرتهم، ولكن كان من الواضح أنه كانت تنقصهم القيادة الحازمة، وكان ينقصهم بالأخص اجتماع الكلمة. وعلى أي حال فإن الرواية الإسلامية تذكر لنا أن أهل قرطبة لبثوا مع النصارى في قتال شديد (2)، وهي لا تذكر لنا اسم الزعيم أو القائد الذي اجتمع حوله أهل قرطبة في تلك الآونة العصيبة، وإن كانت الرواية النصرانية تذكر لنا أنه كان يسمى أبا الحسن. وأما عن ابن هود، وهو صاحب الولاية الشرعية على قرطبة، فقد كان من الطبيعي أن يتجه إليه القرطبيون لإنجادهم والدفاع عن مدينتهم. وكان ابن هود في الواقع قد هرع في قواته من قطاع مرسية، حينما علم بالخطر الذي يحدق بعاصمة الخلافة القديمة. وكان في جيش قوي يبلغ نحو خمسة وثلاثين ألف مقاتل، ومعه نحو مائتي فارس من المرتزقة النصارى، فسار في قواته مسرعاً صوب قرطبة، وانحرف عن العاصمة قليلا نحو الجنوب الشرقي، وعسكر على مقربة من إستجة. وكان أهل قرطبة ينتظرون بفارغ الصبر مقدم ابن هود، واشتباكه مع النصارى في معركة فاصلة، ولم يكن ثمة ريب أن ابن هود لو اشتبك بجيشه مع القشتاليين، لحقت عليهم الهزيمة، ولتركوا

(1) J. Gonzalez: ibid ; p. 76-78 ; M. Lafuente: Historia General de Espana ; T. IV. p. 43

(2)

روض القرطاس ص 183.

ص: 421

المدينة المحصورة وشأنها. ذلك أن القشتاليين كانوا في قلة من العدد، ولم يكن مع ملك قشتالة سوى نحو مائتي فارس من الأشراف، ولم تكن الحشود الواردة من مختلف أنحاء قشتالة، تؤلف قوة ذات شأن. ولكن الذي حدث هو أن ابن هود لبث جامداً في قواته. وهنا تختلف الرواية في إيضاح سبب هذا الجمود. فيقال لنا إن قسوة الطقس، وهطل الأمطار بشدة، ونقص المؤن، حملت ابن هود على التريث والإحجام. ووردت في تاريخ ألفونسو الحكيم قصة أخرى، خلاصتها أنه كان يوجد في جيش ابن هود فارس قشتالى منفى بأمر مليكه يدعى لورنسو خواريز، ومعه مائتان من المرتزقة النصارى، وكان ابن هود يقربه ويثق به ويعمل بنصحه. فلما نزل ابن هود وجيشه في إستجة، وهو يعتزم مقاتلة القشتاليين، فكر هذا الفارس في أن يسترد رضى مليكه بخدمة عظيمة يؤديها إليه، وهو أن يعمل على خدعة ابن هود ورده عن مقاتلة القشتاليين، وإنجاد أهل قرطبة، فتظاهر بأنه سوف يتسلل إلى المعسكر النصراني تحت جنح الليل، ويقف على مبلغ عدده وعدته. وسار لورنسو بالفعل ليلا مع أصحابه إلى المعسكر النصراني، وترك أصحابه على مقربة من المعسكر، وتقدم بنفسه إلى خيمة الملك، وطلب مقابلته لأمر خطير، فاقتيد إليه، وكان الملك غاضباً عليه، فلما شرح إليه مهمته، وأنه يريد أن يعمل على خدعة ابن هود، وتخويفه من قوة الجيش القشتالي وعدده، ورده عن مقاتلته، عفا عنه الملك، ووعده برعايته، وتفاهم الإثنان على ما يجب عمله. وعاد لورنسو إلى ابن هود، وحذره بشدة من الاشتباك مع القشتاليين، لأنهم في جيش قوي، حسن الأهبة والعدد، ولا يؤمن الدخول معه في معركة، فاستمع ابن هود إلى نصحه، وقرر أن يتخلى عن مشروعه في إنجاد أهل قرطبة والاشتباك مع القشتاليين (1).

هذا ما تقرره الرواية النصرانية عن السبب في إحجام ابن هود عن إنجاد أهل قرطبة. وتزيد الرواية النصرانية على ذلك، أن ابن هود تلقى في اليوم التالي رسالة من صاحب بلنسية أبي جميل زيان، ينبئه فيها، بأن خايمى ملك أراجون يشتد في مضايقته وإرهاقه، ويطلب إليه الإنجاد والغوث، وأن ابن هود عملا بنصح مستشاره لورنسو خواريز، قرر أن يسير إلى بلنسية، وقد كان يطمح إلى

(1) Cronica General (Ed. Pidal) T. II. p. 782، وكذلك J. Gonzalez: ibid ; cit. Cronica Latina ; p. 78 y notas

ص: 422

امتلاكها، وأنه ترك قرطبة إلى مصيرها، مؤملا أن يصمد أهلها للدفاع عنها، إلى أن يستطيع هو انقاذها فيما بعد (1). على أن هذه الروايات النصرانية لا تلقى في نظرنا أي ضوء مقنع على تصرف ابن هود. ومن جهة أخرى فإن الرواية الإسلامية تكاد تلزم الصمت المطبق في هذا الموطن. وكل ما هنالك أن صاحب روض القرطاس، يقدم إلينا خلال حديثه عن حوادث سنة 633 هـ وبعد ذكره لسقوط قرطبة، نصاً موجزاً يقول فيه:" وفيها (أي في سنة 633 هـ) انعقد الصلح بين ملك قشتالة، وابن هود لأربعة أعوام بأربع مائة آلاف دينار في السنة "(2). ويبدو من هذا النص أن الهدنة، بين ابن هود وبين فرناندو الثالث، كانت قد انتهت أو انقطع سريانها، لتخلف ابن هود عن أداء الإتاوة المشروطة أو غير ذلك من الأسباب، وأن التخلى عن إنجاد قرطبة ربما كان ضمن شروط الهدنة الجديدة، التي يشير إليها صاحب روض القرطاس، وهذا ما يمكن أن يستدل كذلك من سير الحوادث تحت أسوار المدينة المحصورة.

ذلك أن فرناندو الثالث شدد في حصار قرطبة، وقطع كل علائقها من جهة البر، ومن جهة الوادي الكبير، حتى لا تستطيع أن تتلقى أية مؤن أو أمداد من الخارج، وحتى لا يستطيع أن يدخلها أو يخرج منها أحد. واستمر هذا الحصار المرهق دون هوادة، حتى نضبت موارد المدينة وأقواتها أو كادت، وعندئذ اضطر أهل المدينة إلى مفاوضة ملك قشتالة في التسليم على أن يؤمنوا في أنفسهم، وفيما يستطيعون حمله من أموالهم، ووافق ملك قشتالة على هذا الشرط، ولكن أهل قرطبة علموا عندئذ أن الجيش القشتالي تنقصه المؤن، وأنه يعانى أيضاً من قلة الأقوات، فنكلوا عن توقيع عهد التسليم أملا في أن يضطر القشتاليون إلى رفع الحصار، وتنجو المدينة من السقوط. وعندئذ شعر ملك قشتالة أن لابن هود يداً في هذا التحول، فبعث في الحال إلى محمد بن الأحمر أمير جيان، وعقد معه عهداً جديداً بالتحالف، وقد كان ابن الأحمر بالرغم من عقد الهدنة مع ابن هود ما يزال هو خصمه، ومنافسه في رياسة الأندلس، وكان فوق ذلك خصيما لأهل قرطبة لأنهم طردوه من مدينتهم. وعندئذ شعر أهل قرطبة بخسران قضيتهم، وانهيار آمالهم، وعادوا إلى المفاوضة في التسليم، على شروطهم السابقة. وكان قد مضى على الحصار

(1) Cronica General ; T. II. p. 783

(2)

روض القرطاس ص 183.

ص: 423

بضعة أشهر، وأضحى الموقف مستحيلا، خصوصاً بعد أن نكل ابن هود عن إنجاد المدينة المحصورة، وأحجم عن كل اشتباك مع القشتاليين. وكان بعض الغلاة من صحب ملك قشتالة من الأحبار والأشراف، يرون رفض التسليم واقتحام المدينة، وقتل كل أهلها المسلمين، ولكن ملك قشتالة ومعه فريق آخر من مستشاريه، كان يرى أن هذا الإجراء قد يدفع أهل المدينة إلى اليأس، وتخريب المدينة، ومسجدها الجامع، وتحطيم سائر ذخائرها وثرواتها. والظاهر أيضاً أن ابن الأحمر، حليف ملك قشتالة أو تابعه، كان له يد في إقناعه بقبول التسليم، وتأمين أهل المدينة. وفي نفس الوقت عقدت بين ملك قشتالة، وابن هود هدنة جديدة، لمدة ستة أعوام يلتزم فيها ابن هود بأن يدفع إتاوة قدرها اثنين وخمسين ألف مرافيدى على ثلاثة أقساط سنوية (1).

وهنا أيضاً، لا تقدم إلينا الرواية الإسلامية، أية تفاصيل شافية عن تسليم قرطبة ودخول النصارى إياها، وذلك حسبما فعلت بالنسبة لسقوط بلنسية، وكل ما تذكره في هذا الشأن كلمات موجزة، مثل " وتغلب عليها النصارى " أو " كان دخول النصارى مدينة قرطبة " أو " ملكها النصارى " أو ما شابه هذه العبارات من كلمات مقتضبة (2). وهنا أيضاً يجب أن نعتمد في ذكر هذه التفاصيل على الرواية النصرانية. فإنه ما كاد عهد التسليم يعقد بين أهل المدينة، وبين ملك قشتالة حتى ترك أهل قرطبة دورهم، وأوطانهم، وغادروا مدينتهم العزيزة التالدة، حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم، وقد برح بهم الجوع والحزن، وتفرقوا في أنحاء الأندلس الأخرى. وفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شهر شوال سنة 633 هـ، الموافق 29 يونيه سنة 1236 م (3)، دخل الجند القشتاليون مدينة قرطبة، وفي الحال رفع الصليب على قمة صومعة جامعها الأعظم، ودخل أسقف أوسمة إلى الجامع، وحُول في الحال إلى كنيسة. وفي اليوم التالي، يوم الاثنين 30 يونيه دخل فرناندو الثالث ومن معه من الأشراف والكافة، قرطبة، ثم دخل الجامع، وهنالك استقبله أساقفة أوسمة، وبياسة، وقونقة، وسائر رجال الدين، وأقيم

(1) J. Gonzalez: ibid ; p. 79 & 80 y notas

(2)

ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة 302، والبيان المغرب ص 322، وابن خلدون ج 4 ص 171، وروض القرطاس ص 183، والروض المعطار ص 158، ونفح الطيب ج 2 ص 585.

(3)

ابن الأبار في التكملة (القاهرة) ص 202.

ص: 424

في الحال قداس شكر بورك فيه الملك. ومما تذكره الرواية النصرانية في هذا الموطن، أن الملك فرناندو أمر بأن تنزع النواقيس التي كان الحاجب المنصور قد أخذها من كنيسة شنت ياقب (سنتياجو) حين غزوه لمدينة شنت ياقب في سنة 387 هـ (997 م) وحملها الأسرى النصارى على كواهلهم حتى قرطبة، وهنالك جعلت رؤوسا للثريات الكبرى بالجامع - أمر بأن تنزع هذه النواقيس، وأن يحملها الأسرى المسلمون على كواهلهم، إلى شنت ياقب، لترد هنالك إلى أمكنتها بالكنيسة الكبرى (1). ثم سار الملك بعد ذلك إلى قصر قرطبة، القريب، وهو قصر الأمراء والخلفاء الأمويين القدماء، ونزل فيه، وندب لحكم المدينة المفتوحة الدون تليو ألفونسو، وحشدت لحراسة المدينة حامية كافية من الفرسان، وأخذ النصارى يفدون إليها من سائر الأنحاء لسكناها وتعميرها، وفق الخطة التي وضعها الملك لذلك، وانصرف ملك قشتالة، عائداً إلى بلاده (2).

وهكذا سقطت قرطبة، عاصمة الخلافة القديمة، وكبرى قواعد الأندلس، ومثوى العلوم والآداب الأندلسية، وذلك بعد أن حكمها المسلمون، منذ افتتاحها في سنة 92 هـ (711 م) خمسمائة وخمسة وعشرين عاماً، وبعد أن لبثت قرونا منارة ساطعة، تبث أضواء علومها وفنونها، في سائر أنحاء شبه الجزيرة، وفيما وراء جبال البرنيه. ومن الغريب المحزن، أن الرواية الإسلامية لا تكاد ترثى قرطبة إلا بمقتضب الكلم، وأن الشعر الأندلسي وكذلك النثر، لا يخصانها بشىء من تلك القصائد الرنانة المؤسية، وتلك الرسائل البليغة المبكية، التي يخصان بها قواعد مثل طليطلة، وبلنسية، وإشبيلية. وربما كان سبب ذلك أنه لم يكن ثمة بقرطبة، عند سقوطها، كتاب وشعراء مثل ابن الأبار، وأبي المطرِّف بن عميرة المخزومي، وإبراهيم بن سهل الإشبيلي.

ومن الواضح أن سقوط قرطبة، كان نذيراً بخضوع معظم البلاد والحصون القريبة، لسلطان النصارى. ومع أن ملك قشتالة لم يضع يده نهائياً على تلك البلاد والحصون، إلا أنها خضعت جميعاً لطاعته، وتعهدت بأداء الجزية، والسماح بإقامة حاميات نصرانية بها. وكان من هذه البلاد والحصون، إستجة، والمدور، وإشتبة، وبيانة، وأجيلار (بلاى) ومرشانة وقبرة وأشونة، واللسانة، ومورور وغيرها.

(1) Cronica General (Ed. Pidal) ; p. 734

(2)

J. Gonzalez: ibid ; p. 80 & 81 y notas

ص: 425

- 3 -

لما جددت الهدنة بين ملك قشتالة، وابن هود، وانتهت المأساة بتخلى ابن هود عن إنجاد قرطبة، لتسقط بعد ذلك بقليل في أيدي النصارى، غادر ابن هود في قواته مدينة إستجة. وليس في الرواية ما يبين لنا اتجاهه، وخط سيره في تلك الآونة. بيد أنه وجّه بعد ذلك بقليل، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 634 هـ، إلى نوابه وعماله في مختلف القواعد التي تدين بطاعته، كتابا يحثهم فيه على تقوى الله، ومراعاة أحكامه وحدوده، والاقتداء بالسلف الصالح، والحرص على صون الدماء، وحقنها، وعدم إراقتها إلا بمسوغ شرعى، واختيار المشرفين على الأموال من ذوى العفة والنزاهة والدين، لأن حرمة الأموال مشبهة بحرمة الدماء، وأن تكون معاملة الناس في الحق سواء، دون محاباة ولا مفاضلة، ولا مجاوزة في تغليب قوي على ضعيف، ولا يؤخذ أحد بجريمة غيره، وأن يجرى العمل باتباع أحكام كتاب الله، وأن يتلى كتابه هذا على الناس جملة وتفصيلا (1).

ولسنا نعرف شيئاً عن حركات ابن هود وأعماله في الأشهر التالية، ولكنا ْنراه يتجه في قواته نحو ثغر ألمرية في أوائل سنة 635 هـ. وكانت ألمرية في مقدمة البلاد التي نادت بطاعته، ودعا له بها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي يحيى الرميمى، وهو حفيد واليها السابق أبي يحيى الذي افتتحها النصارى من يده، في سنة 542 هـ، واستردها الموحدون بعد ذلك أيام الخليفة عبد المؤمن بن علي في سنة 552 هـ. ولما دعا أبو عبد الله لابن هود بألمرية، قصد إليه بمرسية، فولاه ابن هود وزارته، وصرف إليه أموره، فأبدى غيرة في خدمته، وأقنعه بأن يحصن ألمرية، وأن يجعل منها مثوى له، يلجأ إليه عند الحاجة، ثم تولى الرميمى شئون ألمرية، واستبد بها، ولبث أثيراً عند ابن هود وموضع ثقته، وكان يدعى بذى الوزارتين. وتختلف الرواية في أمر البواعث التي حدت بابن هود إلى أن يقصد إلى ألمرية بعد أن ترك قرطبة لمصيرها، فهناك قول بأنه كان يقصد السير بقواته إلى بلنسية لإنجاد صاحبها أبي جميل زيان، وأنه كان يزمع أن ينقل جنده بالسفن من ألمرية إلى بلنسية، وهذا قول الرواية النصرانية، متمشياً مع ما سبق ذكره من قولها، إن أبا جميل زيان بعث إلى ابن هود يستغيث به وهو في

(1) أورد لنا صاحب البيان المغرب نبذة طويلة من هذا الكتاب (ص 332 - 335).

ص: 426

إستجة، وأن ابن هود قرّر أن يستجيب إلى هذا الصريخ، لأنه كان يطمح إلى امتلاك بلنسية. بيد أنه يبدو من الأرجح أن ابن هود كان يقصد إلى العمل، على توطيد سلطانه في المنطقة الجنوبية، خصوصاً وقد كانت غرناطة تضطرم يومئذ بالثورة عليه وتنادى بخلع طاعته، حسبما نبين بعد، وأنه سار إلى ألمرية أولا لينظم خطة العمل. ثم إن الرواية الإسلامية تقدم إلينا تعليلا آخر، هو أن ابن هود كانت له جارية إسبانية رائعة الحسن. من بنات الأشراف، وكان قد أودعها لدى الرميمى بألمرية خشية أن يتسرب خبرها إلى زوجته، فشغف بها الرميمى، واستأثر بها، فنمى ذلك إلى ابن هود، فسار إلى ألمرية، وهو يضمر معاقبة الرميمى، فلما وصل إلى ظاهر ألمرية، استقبله الرميمى بمنتهى الحفاوة ودعاه إلى قصره، ليقوم بحقه، وليجتمع هنالك بجاريته الحسناء، فقبل ابن هود دعوته، ولما حل بالقصر على مأدبة حافلة، كان ابن الرميمى قد دبر أمره للقضاء عليه متى جن الليل، فقيل إنه دس عليه بالحمام أربعة من رجاله قضوا عليه، وقيل إنه قتله خنقاً بمخدتين أقعدهما على نفسه وفيه. وهكذا لجأ الرميمى إلى الجريمة احتفاظا بسلامته وسلطانه. وفي صباح اليوم التالي أعلن وفاة ابن هود، وأنه توفي فجأة من صرع أصابه، ووضعت جثته في تابوت أرسل بحراً إلى مرسية، وكان مصرع ابن هود على هذا النحو في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 635 هـ (21 يناير 1238 م)(1).

واستمر الرميمي على رياسته لألمرية فترة أخرى حتى انتزعها منه ابن الأحمر. وهكذا توفي محمد بن يوسف بن هود المتوكل، وهو في ذروة سلطانه، ومشاريعه، وانهارت بوفاته دولته التي لم يطل أمدها سوى تسع سنين وبضعة أشهر، والتي كانت تبشر حين قيامها، بعهد جديد من الإحياء والاستقرار يالنسبة للأندلس. وكانت ثورة ابن هود وحركته، رمزاً لتلك الأمنية القديمة، التي اتخذت من قبل شعاراً لمختلف الثورات التي قامت ضد المرابطين في نهاية عهدهم، والتي اضطلع بها محمد بن سعد بن مردنيش، في أوائل عهد الموحدين وهي العمل على تحرير الأندلس من نير حكامها الأجانب، وكان ابن هود في الوقت الذي يعمل فيه لتدعيم سلطانه، وزعامته، مخلصاً لدعوته، وغايته في

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 335 و 336، والمقرى في نفح الطيب ج 2 ص 581 و 582. ويقول ابن الأبار إن مصرع ابن هود وقع في السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 635 هـ (الحلة السيراء ص 249).

ص: 427

جمع كلمة الأندلس تحت لواء قومي جديد، والذود عما بقى من أراضيها وقواعدها ضد تيار الفتح النصراني، وكان الانحلال المؤلم الذي انتهت إليه الأندلس في أواخر عهد الموحدين، وتراخى الموحدين في الدفاع عنها، واهتمامهم بشئونهم الخاصة، واتخاذهم من الأندلس أداة للتطاحن والمساومة مع النصارى، تحقيقاً لمطامعهم الخاصة - كان ذلك كله مما يسبغ على حركة ابن هود ودعوته قوة، ورجحانا، ولكن ابن هود لم يكن بصفاته وموارده كفؤا للمهمة العظيمة، التي اضطلع بها، وكانت تعتور جهوده نفس المثالب القديمة، التي كانت تصدع دائماً من جهاد الزعماء الأندلسيين، والتي كانت تجتمع في مصانعة النصارى، ومساومتهم على حساب المصالح القومية. ولم يكن ابن هود أيضاً بالرغم من إخلاصه لقضية الأندلس، يتمتع بمثل تلك المواهب اللامعة التي كان يتمتع بها زميله ومنافسه محمد بن الأحمر، من الروية والدهاء وحسن السياسة، بل كان بالعكس حسبما يخبرنا ابن عذارى، بطبعه ملولا عجولا. وكان شجاعاً كريماً وفياً، متوكلا على الله، ولكنه كان قليل المبالاة بالأمور محدود الأفق، غير موفق في آرائه وخططه لتسرعه وغلبة الخفة عليه، ولقائه أعداءه دون روية واستعداد، فكان ذلك مما يعوق نجاحه في أحيان كثيرة (1).

وإذا كانت الرسائل السلطانية، تلقى من جهة أخرى ضوءاً خاصاً على أخلاق ابن هود وسياسته، فإنا نستطيع أن نقول إنه كان يتجه في حكمه إلى توطيد العدل وقمع الظلم، والرفق بالرعية، وذلك بالاستناد إلى رسالته التي وجهها في سنة 634 هـ، إلى الولاة، يوصيهم فيها بالمحافظة على أحكام الشريعة، وتوخى الحق، والعمل على صون الدماء، والتحوط ضد قتل المسلم، وعزل العمال الظلمة غير الأمناء، وأن تطبق المساواة في الحق على الجميع (2)، وكذلك بالاستناد إلى رسالة أخرى كتبها عنه أبو عبد الله بن الجنان، إلى أحد ولاة المدن، يقول فيها إنه وقف على كتابه في طلب تحصين هذه المدينة وتأمينها، وأنه مع موافقته على ذلك، يهيب به أن برفع ما يقع بالناس من الحيف وضرر الخدمة، وأنه لابد من اتباع الرفق مع الناس، وإيثار العدل في معاملتهم (3).

(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 278.

(2)

تراجع هذه الرسالة في البيان المغرب ص 332 - 335.

(3)

تراجع هذه الرسالة في صبح الأعشى ج 7 ص 34 و 35.

ص: 428

وكان لوفاة ابن هود وقع عميق في الأندلس، ولاسيما في الشرق مركز دعوته ومثوى رياسته. ولما وصل نبأ وفاته إلى مرسية، اجتمع أهلها على مبايعة ولده وولي عهده أبي بكر بن محمد بن يوسف بن هود، وكان أبوه قد اختاره حسبما تقدم لولاية عهده منذ سنة 629 هـ، ولقبه بالواثق، وأطاعته بلاد الشرق التي كانت تحت طاعة أبيه (1).

ويقول لنا ابن الأبار من جهة أخرى، إنه لما توفي ابن هود، كان على رياسة مرسية أخوه علي بن يوسف الملقب بعضد الدولة (2). وعلى أي حال فإن رياسة بني هود لمرسية، لم يطل أمدها، حسبما نفصل بعد في موضعه.

وأما في غربي الأندلس فقد كان لاختفاء ابن هود من الميدان صدى كبير في إشبيلية وكان من أثره أن وقع بالمدينة تحول جديد خطير، بعودها إلى طاعة الموحدين. ففي شوال سنة 635 هـ، أعلن أهل إشبيلية، بزعامة أبي عمرو بن الجد طاعتهم للخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد، وقدموا للولاية عليهم أبا عبد الله بن السيد أبي عمران، وكان قد لجأ مع أخويه أبي زيد وأبي موسى إلى إشبيلية، بعد أن قتل والدهم السيد أبو عمران في إفريقية، وأقاموا بها في ظل ابن هود. وسار إلى مراكش وفد من أهل إشبيلية ليقدم بيعتها إلى الخليفة، وأقر الخليفة السيد أبا عبد الله على ولايتها. وحدث مثل هذا التحول في ثغر سبتة، وكانت قد خلعت طاعة الموحدين منذ سنة 630 هـ، فلما مر وفد أهل إشبيلية في سفنه بها في طريقه إلى مراكش، قام أهلها أيضاً بإعلان طاعتهم للخليفة الرشيد، وبعثوا إلى مراكش وفداً لتقديم بيعتهم. وكان لهذا التحول الذي وقع بعود إشبيلية وسبتة، إلى طاعة الدولة الموحدية، رنة فرح واستبشار في مراكش، وأحيط مقدم الوفدين الإشبيلي والسبتى إلى الحاضرة بأعظم مظاهر الترحاب والتكريم، ومما زاد في ارتياح البلاط الموحدي، ما قام به أهل إشبيلية من القبض على عمر بن وقاريط زعيم هسكورة السابق، الثائر على الدولة الموحدية، وإرساله إلى المغرب، وكان بعد هزيمته، قد لجأ إلى إشبيلية، في ظل ابن هود (3). وسوف نعود إلى تفصيل ذلك في موضعه المناسب.

(1) البيان المغرب ص 377.

(2)

الحلة السيراء ص 250.

(3)

البيان المغرب - ص 337 و 339.

ص: 429

- 4 -

وكان محمد بن يوسف بن الأحمر، خلال ذلك، يرقب الحوادث، فلما توفي ابن هود، أدرك أن الفرصة قد سنحت للعمل على اجتناء تراثه في الأندلس الوسطى، وهي التي كان ابن الأحمر يسيطر منها على المنطقة الشمالية، وكان مقصده الأول، مدينة غرناطة قاعدة المنطقة الجنوبية. وكان ابن هود قد ولّى عليها عتبة بن يحيى المغيلى، وكان عتبة رجلا فظا ظلوما جائراً، يبغض ابن الأحمر ويأمر بسبه على المنابر، فلما اشتدت وطأته على أهل المدينة، ثار عليه جماعة من أشرافها، بزعامة ابن خالد، واقتحموا القصبة والقصر في عصبتهم، وقتلوا عتبة، وأعلنوا طاعتهم لابن الأحمر، وبعثوا إليه يستدعونه، لتولى الرياسة عليهم، فكانت فرصة مواتية لابن الأحمر. فبادر بالسير إلى غرناطة في جمع من صحبه، ونزل بخارجها في البداية مبالغة في التحوط والطمأنينة. ثم دخلها من الغد عند مغيب الشمس، في يوم من أواخر رمضان سنة 635 هـ (أبريل سنة 1238 م) وهو يرتدى ثيابا خشنة وحلة مرقعة، وقصد إلى مسجد القصبة، وأم الناس لصلاة المغرب. ثم غادر المسجد إلى قصر باديس، والشموع بين يديه، ونزل فيه مع خاصته. وغدت غرناطة من ذلك اليوم حاضرته، ومقر حكمه، بدلا من جيّان، التي كان يهددها النصارى باستمرار (1).

وما كاد ابن الأحمر يستقر في غرناطة، حتى اعتزم أن يسير إلى ألمرية لافتتاحها، وسحق ابن الرميمى وزير ابن هود وقاتله، فسار إليها في بعض قواته، وحاصرها من ناحية البر بشدة، ولبث على حصارها حينا، فلما رأى ابن الرميمى أنه لا أمل له في النجاة من مصيره، غادر ألمرية من جهة البحر، في مركب شحنه بأهله وأمواله، وسار إلى تونس، حيث لجأ إلى أميرها أبي زكريا الحفصى، واستقر بها تحت كنفه ورعايته (2).

وكان استيلاء ابن الأحمر على ألمرية في أواخر سنة 635 هـ، وكانت قد أطاعته من قبل من القواعد الجنوبية شريش ووادي آش، ثم نادت بطاعته مالقة، في العام التالي (636 هـ)، وقدم إلى غرناطة وفد من أعيانها يقدم إليه بيعتها، وكانت من إنشاء أديبها الكبير ابن عسكر، فولاه ابن الأحمر قضاءها (3).

(1) البيان المغرب ص 336 و 337، واللمحة البدرية لابن الخطيب ص 35، وابن خلدون ج 4 ص 170، والذخيرة السنية ص 60.

(2)

البيان المغرب ص 337.

(3)

البيان المغرب ص 345.

ص: 430

وهكذا كانت ترتسم باستيلاء ابن الأحمر على غرناطة وألمرية ومالقة، حدود المملكة الإسلامية الجديدة، التي شاء القدر أن يكون هو منشؤها في شبه الجزيرة الأندلسية، والتي غدت غرناطة، مذ نزل بها، قاعدتها وحاضرتها. وكانت هذه الدولة الإسلامية الجديدة، وهي التي اجتمعت في ظلالها، أشلاء الأندلس المنهارة، والتي انكمشت أطرافها فيما وراء نهر الوادي الكبير جنوبا وشرقا، تحتل رقعة متواضعة، تمتد من جيّان وبياسة، وإستجة، جنوبا حتى البحر، وشرقا حتى ألمرية وبيرة، وغربا حتى مصب الوادي الكبير، ويخترقها من الوسط نهر شَنيل، ثم جبال سييرّا نفادا وهضبات البشرّات. على أن هذه المملكة الصغيرة وهي الدولة النصرية أو مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، كانت بالرغم من صغر رقعتها، وبالرغم من مواردها المحدودة، جديرة بأن ترث تراث الأندلس الكبرى، وقد شاء القدر أن تبقى في شبه الجزيرة الإسبانية، زهاء مائتين وخمسين عاما أخرى، مستودعا لعبقرية الأمة الأندلسية، وعلومها وفنونها، تحمل مشعل حضارتها وضّاء، في تلك الأوطان الأندلسية القديمة، وتضطلع في نفس الوقت، بذلك الكفاح القديم الخالد، ضد إسبانيا النصرانية، إلى أن تلقى مصرعها في النهاية أبية كريمة شهيدة.

وبالرغم من توطد أمر ابن الأحمر، وتمكن سلطانه في الأقاليم الوسطى والجنوبية، فإنه لبث مدى حين يشعر بأنه مازالت تنقصه صفة الرياسة الشرعية. وقد رأينا فيما تقدم كيف عقد الصلح مع المتوكل ابن هود، واعترف بطاعته (631 هـ). فلما توفي ابن هود، اتجهت أنظاره إلى الانضواء تحت لواء الدولة الموحدية، وذلك بالرغم من انهيار سلطانها بالأندلس، وأعلن بيعته للخليفة الرشيد، وأخذ له البيعة على أهل غرناطة ومالقة وجيان وسائر البلاد التي كانت تحت طاعته، وبعت إلى الرشيد ببيعته، وذلك في سنة 637 هـ (1239 م). فتقبلها الرشيد بالشكر والرضى (1). واستمر على طاعته للخلافة الموحدية طوال خلافة الرشيد، وقنع الرشيد منه بالدعاء في الخطبة. ولكنه لما توفي الرشيد سنة 640 هـ، قطع دعوة الخلافة الموحدية، واتجه إلى الدولة الحفصية بإفريقية، وأعلن طاعته للأمير أبي زكريا الحفصى، وبعث ببيعته إلى تونس مع أبي بكر بن عياش شيخ مالقة، وأبي جعفر التنزولى، فبعث

(1) البيان المغرب ص 355.

ص: 431

إليه الأمير أبو زكريا قدراً كبيراً من المال برسم المعاونة على الجهاد (1). واستمر ابن الأحمر على طاعته للدولة الحفصية ردحا طويلا من الزمن، وجدد بيعته بعد ذلك للأمير المستنصر ولد الأمير أبي زكريا، وذلك في سنة 664 هـ، وبعث إليه المستنصر بطريق البحر هدية وأموالاً (2).

ولبث محمد بن الأحمر يعمل بهمة وإقدام، على توسيع مملكته وتوطيد سلطانه، ولكنه كان يشعر دائما بخطر النصارى، ويرقب حركات فرناندو الثالث ملك قشتالة في توجس وحذر. والواقع أن سائر القواعد الوسطى، ولاسيما جيان وأحوازها، قد أضحت منذ سقوط قرطبة، تحت رحمة القشتاليين. وكان فرناندو الثالث قد بعث بالفعل جيشاً بقيادة ولده ألفونسو، فعاث في منطقة جيان، واستولى على حصن أرجونة، موطن ابن الأحمر وقومه (بني نصر)، وعدة حصون ومواضع أخرى من أملاك ابن الأحمر، ثم زحف القشتاليون جنوبا صوب غرناطة ذاتها، وضربوا حولها الحصار، ولكنهم ردوا عن أسوارها بخسارة فادحة، وذلك في سنة 642 هـ (1244 م). وفي العام التالي عاد القشتاليون فزحفوا على مدينة جيان وحاصروها، ولكنها صمدت ضدهم مرة أخرى.

فلما رأى ابن الأحمر تفاقم عدوان القشتاليين، وخطورة اندفاعهم نحو أراضيه، وأيقن أنه من العبث أن يبدد موارده وقواه في صراع لا تؤمن عواقبه، عول على أن يسلك سبيل المصانعة والتقرب من ملك قشتالة، وأن يشترى سلامه وسلام مملكته، بمهادنته والخضوع له. وقد لخصت لنا الرواية الإسلامية مجمل هذا الصلح، الذي عقد بين ابن الأحمر وبين ملك قشتالة، وذلك في أواخر سنة 643 هـ (فبراير 1246 م)، وخلاصته أن يعقد الصلح بينهما لمدة عشرين سنة، وأن يسلم ابن الأحمر لملك قشتالة مدينة جيان، وما يلحق بها من الحصون والمعاقل، وأن ينزل له عن أرجونة وبيغ والحجار وقلعة جابر وأرض الفرنتيرة، ولم تدخل في هذا الصلح مدينة إشبيلية، ولا مدينة شريش (3). وتزيد الرواية النصرانية على ذلك إن ابن الأحمر اعترف بمقتضى هذه المعاهدة بالطاعة لملك قشتالة على سائر ما يحكمه من الأراضي، وتعهد بأن يؤدي إليه جزية سنوية قدرها مائة وخمسون ألف

(1) البيان المغرب ص 356.

(2)

الذخيرة السنية ص 125.

(3)

البيان المغرب ص 367، والذخيرة السنية ص 72 و 73، وابن خلدون ج 7 ص 190.

ص: 432

مرافيدي، وأن يعاونه في حروبه ضد أعدائه، وأن يشهد اجتماع الكورتيس (مجلس قشتالة النيابى) كل عام باعتباره من الأمراء التابعين للعرش (1).

وهكذا استطاع ابن الأحمر أن يعقد السم مع ملك قشتالة القوي بهذا الثمن الفادح. بيد أنه استطاع في ظل هذا السلم، المشوب بكدر الخضوع والمهانة، أن ينصرف إلى العمل على توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتنمية مواردها.

واستطاع ملك قشتالة من جانبه، أن ينصرف إلى فتوحاته في أراضي الأندلس التي لم يشملها هذا الصلح، وهي الواقعة في غربي مملكة غرناطة، وكانت أعظمها حاضرة إشبيلية قاعدة غربي الأندلس كله، وقد استولى عليها فرناندو الثالث في 27 رمضان سنة 646 هـ (23 نوفمبر 1248 م) بعد حصار طويل وذلك حسبما نفصل بعد في موضعه، وكان أشد ما في حوادث هذا الحصار إيلاما للنفس، هو أن ابن الأحمر اضطر أن يشترك فيه مع القشتاليين بقوة من فرسانه، تنفيذاً للعهد الذي قطعه على نفسه في معاهدة الصلح مع ملك قشتالة. وفي الرواية الإسلامية ما يدل على أنه كان في كل عام يسعى إلى الاجتماع بملك قشتالة، وفقاً لنصوص هذه المعاهدة، باعتباره من الأمراء الخاضعين لطاعته (2).

وكان ابن الأحمر حينما شعر بتوطد سلطانه، واستقرار الأمور في مملكته، قد اختار لولاية عهده ولده الأمير أبا سعيد فرج بن محمداً بن يوسف بن نصر. ولكن هذا الأمير توفي في سنة 652 هـ (1254 م)(3) فلبثت ولاية العهد شاغرة نحو ثلاثة أعوام. ثم اختار ابن الاحمر لولاية عهده ولده محمداً الملقب بالفقيه، وذلك في سنة 655 هـ (1257 م)، وهو الذي خلفه بعد وفاته على عرش غرناطة (4).

وفي سنة 659 هـ ساءت العلاقات بين ابن الأحمر وبين الفقيه أبي القاسم العزفى صاحب سبتة، لأسباب لم تذكرها الرواية، فسير ابن الأحمر سفنه لغزو سبتة. فخرجت من الجزيرة الخضراء بقيادة أمير البحر ظافر، ونفذت إلى مياه سبتة،

(1) Cronica General (Ed. Pidal) Vol. 1 p. 746. وكذلك J. Gonzalez: ibid ; p. 95

(2)

البيان المغرب ص 410.

(3)

الذخيرة السنية ص 88.

(4)

البيان المغرب ص 415.

ص: 433

وأخذت في مهاجمتها والتضييق عليها، فأمر العزفى قائد أسطوله أبا العباس الرنداحي أن يخرج في سفنه لردها. ووقعت بين الفريقين معركة بحرية، هزمت فيها السفن الأندلسية وقتل قائدها ظافر، وحملت رأسه إلى سبتة، وطيف بها، وسمى هذا العام في سبتة بعام ظافر (1). ثم هدأت الأحوال بعد ذلك، ولم يفكر ابن الأحمر في استئناف محاولته ضد سبتة.

ولما اقترب أجل انتهاء معاهدة التهادن والسلم المعقودة بين ابن الأحمر ومملكة قشتالة، وقد عقدت حسبما تقدم في سنة 643 لمدة عشرين عاما، سار ابن الأحمر في أوائل سنة 662 هـ (1264 م) لمقابلة ملك قشتالة في إشبيلية، وهو يومئذ ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم، وكان قد خلف أباه فرناندو الثالث في الملك عقب وفاته في مايو سنة 1252 م، ليسعى لديه في تجديد المعاهدة. وكان معه صهراه الزعيمان أبو محمد وأبو اسحق ابنا أشقيلولة، وقوة من خمسمائة فارس. فخرج إليه ألفونسو ودعاه لزيارته داخل المدينة، فاستجاب ابن الأحمر، ودخل إشبيلية مع صهريه وثلة من فرسانه، ونزل بالعبادية من أحيائها. ولكنه سرعان ما نمى إليه أن النصارى، قد سدوا الدروب الموصلة إلى مكانه ليلا بالخشب المسمرة، وذلك لكي تعيق سير الخيل، فخشى البادرة على نفسه، وخرج في الحال مع صحبه، واقتحموا تلك الدروب، وغادر ابن الأحمر إشبيلية مغضباً، وقد شعر بنية الغدر والخيانة، ولم يقنع بما أبداه له ألفونسو من أعذار وإيضاحات. ومر في طريقه إلى غرناطة بشذونة (مدينة ابن السليم)(2)، وغيرها، وهو يوصى أهلها بالأهبة والتحرز من غدر النصارى، وكان هذا الحادث سبباً في فساد العلائق بين غرناطة وقشتالة (3).

والواقع أن ابن الأحمر كان يعتزم في قرارة نفسه، أن ينتهز أول فرصة للتحرر من ذلك الغل المهين، الذي صفدته به معاهدته مع قشتالة، بيد أنه كان يرى من جهة أخرى أنه لا يستطيع بمفرده أن يناهض قوة قشتالة الضخمة المتزايدة. وقد كشف ألفونسو العاشر نفسه عن نيات قشتالة العدائية، بزحفه في نفس العام (662 هـ) على غرناطة ومضايقتها أياما (4). وبالرغم من أنه لم ينل منها مأربا،

(1) البيان المغرب ص 431.

(2)

شذونة أو مدينة ابن السليم هي بالإسبانية Medina Sedonia

(3)

البيان المغرب ص 437 و 438.

(4)

الذخيرة السنية ص 111.

ص: 434

فإن ابن الأحمر قد أخذ على ضوء هذه الحركة، يدرس وسائل المقاومة والصمود في وجه العدوان القشتالي. وكان تطور الحوادث في الأندلس شرقيها وغربيها، وتفاقم محنتها، وتوالى سقوط قواعدها في أيدي العدو، قد أخذ يحدث صداه قويا في الضفة الأخرى من البحر، في المغرب، حيث أخذ نجم الدولة المرينية يتألق، وتبدو ضخامة حشودها وقواتها ومواردها، مشجعة على الالتجاء إليها، وطلب إنجادها وغوثها. وكانت النجدات الأولى من متطوعي بني مرين قد أخذت تعبر إلى شبه الجزيرة، وفي مقدمتها جملة يقودها عامر بن إدريس بن عبد الحق، نزلت مدينة شريش وأخرجت النصارى من قصبتها (أواخر 662 هـ). وقامت في داخل المغرب حركة قوية للحث على إنجاد الأندلس وتداركها، قبل أن يفوت الوقت ويتم العدو القوي الإجهاز عليها، واشترك في هذه الحركة شعراء نظموا القصائد المبكية مثل أبي الحكم مالك بن المرحل، وعلماء أدباء توجهوا برسائلهم البليغة، مثل أبي القاسم العزفي صاحب سبتة (1). بيد أنه كان لابد أن تمضي بضع سنوات أخرى حتى تؤتى هذه الحركة ثمارها العملية، ويعبر بنو مرين بقواتهم الجرارة إلى شبه الجزيرة.

وفي تلك الأثناء كان ابن الأحمر يعانى من عدوان القشتاليين وغاراتهم المتوالية. فلما تفاقم أمر هذه الغزوات، وزحف القشتاليون على غرناطة للمرة الثانية (664 هـ) ورأى ابن الأحمر أنه عاجز عن رد هذا البلاء، اضطر أن يتقدم خطوة أخرى، في سبيل طلب المهادنة والسلم، وأن يبذل لتحقيق هذه الغاية مزيداً من التضحية، فعقد مع ألفونسو العاشر ملك قشتالة في أواخر سنة 665 هـ (1267 م) معاهدة صداقة وسلم جديدة، نزل له بمقتضاها عن عدد كبير من البلاد والحصون، منها شريش والمدينة (مدينة شذونة) والقلعة وغيرها، وقيل إن ما أعطاه ابن الأحمر بمقتضى هذا الصلح لملك قشتالة من البلاد والحصون الإسلامية المسورة، بلغ مائة وخمس من بلاد غرب الأندلس (2).

وقد أذكى هذا الانهيار الفادح لصرح الوطن الأندلسي، وما أصابه من فقد معظم قواعده التالدة، في نحو ثلاثين عاما فقط، لوعة الشعر والأدب، ونظم شاعر العصر، أبو الطيب صالح بن شريف الرندي، مرثيتة الشهيرة في رثاء الأندلس، وبكاء قواعدها الذاهبة، وهي قصيدة ماتزال إلى يومنا تهز أوتار القلوب أسى، وهذا مطلعها:

(1) راجع كتابى " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، الطبعة الثانية ص 40 و 41.

(2)

الذخيرة السنية ص 125 و 127.

ص: 435

لكل شىء إذا ما تم نقصان

فلا يُغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان (1)

وقضى محمد بن الأحمر الأعوام الستة الباقية من حكمه، في توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتوفي في التاسع والعشرين من جمادى الثانية سنة 671 هـ (ديسمبر 1272 م) عقب جرح أصابه في معركة خاضها ضد جماعة من الخوارج عليه، وقد قارب الثمانين من عمره.

وكان هذا الرجل العبقري، مؤسس مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، يتمتع بخلال باهرة، من الشجاعة والإقدام، والمقدرة، وشغف الجهاد، هذا إلى جم البساطة والتواضع. ويقدم إلينا ابن الخطيب مؤرخ الدولة النصرية عنه وعن خلاله هذه الصورة المؤثرة:" كان هذا الرجل آية من آيات الله في السذاجة، والسلامة والجمهورية، جنديا، شهماً، ثغريا أيداً، عظيم التجلد، رافضاً للدعة والراحة، مؤثراً للتقشف، والاجتزاء باليسير، متبلغاً بالقليل، بعيداً عن التصنع، جافى السلاح، شديد العزم، موهوب الإقدام، عظيم التشمير، محتقراً للعظمة، مصطنعاً لأهل بيته، فضاً في طلب حظه، حاميا لقرابته وأقرانه وجيرانه، مباشراً للحروب بنفسه، تتغالى الحكايات في سلاحه وزينة ديابوزه، يخصف النعل، ويلبس الخشن، ويؤثر البداوة، ويستشعر الجد في أموره "(2).

وقد رأينا أن نكتفى هنا بما تقدم من الشذور الموجزة عن قيام مملكة غرناطة، وعن حياة منشئها العبقري محمد بن الأحمر. ذلك أننا قد سبق أن تناولنا قصة مملكة غرناطة، وقصة بنائها كاملة، في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، وكان جل غايتنا في كتابنا الحالى أن نصل بتاريخ الأندلس إلى حيث بدأنا بتاريخ مملكة غرناطة.

(1) راجع هذه القصيدة بأكملها في الذخيرة السنية ص 127 - 129، وفي نفح الطيب ج 2 ص 594 و 595، وفي أزهار الرياض ج 1 ص 47 - 50. وراجع كتابى " نهاية الأندلس " ص 53 هامش. وفي ترجمة الرندي ص 438 و 439.

(2)

كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة (المطبوع) ج 2 ص 61.

ص: 436